الصفحات

الثلاثاء، 3 يناير 2012

الثورة العربية والثورة السعودية المضادة*


بقلم: يوئيل جوجانسكي
 ع ق 1100



       مقدمة:
          تميل السعودية على نحو تقليدي الى التهرب من مواجهة مباشرة مع أعداء أقوياء. بدل ذلك تعبر عن "جيوبها العميقة" لزيادة تأثيرها وتحصر عنايتها في محاولات وساطة وعقد جسور في العالم العربي لابطال أخطار. وبرغم مكانتها السياسية والدينية وكونها مصدرة النفط الكبرى في العالم (في ارضها ربع احتياطي النفط المبرهن عليه في العالم) فانها محاطة بدول كايران والعراق واليمن تُعد في نظرها تهديدا لاسباب مختلفة. هذه القابلية للاصابة وضعفها العسكري النسبي – حدودها طويلة مخترقة وجيشها مسلح بوسائل قتالية متقدمة في الحقيقة لكنه صغير وغير مدرب – جعلاها تعتمد حتى الآن على الرعاية الامريكية من اجل الردع والدفاع. لكن الزعزعة في العالم العربي تقوي الشعور بأنها بقيت وحدها لتواجه تهديداتها، ويفضي بها هذا الى ادراك انه يجب عليها ان تتبنى حلولا مختلفة عما كان في الماضي لتجابه التحديات في الداخل والخارج. ومن نتيجة هذا أن تركت المملكة بقدر كبير سلبيتها النسبية التي ميزتها و"نزعت القفاز" في مواجهة ايران بل تبنت سياسة "أكثر استقلالا" مع الولايات المتحدة.

       احراز هدوء في الداخل
          جابهت السعودية الأحداث الى الآن بقمع عنيف للاحتجاج (ولا سيما في المناطق الشيعية)، وبتحويل مبالغ كبيرة من المال في نفس الوقت (نحو من 120 مليار دولار) لاحراز الهدوء في الداخل. يبدو ان الأسرة المالكة تعلمت من دروس الأحداث في شمال افريقيا واستعملت الشبكات الاجتماعية استعمالا واسعا كي تنشيء صلة بالمواطنين من جهة وتحاول اقتراح حلول لمشكلاتهم وكي تُحذر من جهة اخرى من المس بالأسرة المالكة. فعلى سبيل المثال، برغم استعداد جهات معارضة مختلفة داخل المملكة وخارجها لاقامة "يوم غضب" في آذار 2011 أسهم استعداد مسبق لقوات الامن وتحذير من الخروج للتظاهر، في التهدئة. وفي نفس الوقت نشرت أوامر غرضها ان تساعد على حلول سكنية، وتشجع عمل الشباب وتوسع شبكة الامن الاجتماعي. ونشر الملك عبد الله ايضا أمرا ملكيا يرمي الى مواجهة ارتفاع اسعار منتوجات غذائية أساسية، وأجاز ستة قرارات تتعلق بزيادات أجور العمال في الجهاز العام في مجالات الامن والصحة والزراعة. وفي ايلول 2011 قبل انتخابات المجالس المحلية بأيام معدودة، أعلن الملك منح النساء حق ان ينتخبن ويُنتخبن في الانتخابات القادمة التي ستُجرى كما يبدو في 2015 فقط. وقال ان النساء سيستطعن في المستقبل ايضا ان يُعيّن لـ "مجلس الشورى"، وهو جسم جليل الشأن لكنه بلا صلاحيات حقيقية. وخطوة عبد الله هذه، وهو اصلاحي بالمفاهيم السعودية، رمزية في أساسها ولا يمكنها ان تغير حياة النساء في المملكة التي تعوزها حقوق أساسية. هذا الى ان المرشحين لوراثته، سلطان ولي العهد ووزير الدفاع ونايف وزير الداخلية (وهو ذو احتمالات أفضل بسبب مرض الاول) يُعدان أكثر محافظة وأقل التزاما لتطبيقها على كل حال.
          كان أكثر الخطوات التي اتخذتها الأسرة المالكة اقتصادية في أساسها برغم الدعوة التي تعلو الى محاربة الفساد والى فصل السلطات والى الانتقال التدريجي الى ملكية دستورية، لكنها ساعدت بقدر كبير على اخراج حُمة السُم من كل احتجاج ممكن. وتبين مرة اخرى ان غنى النفط يمنح أداة ناجعة لتخفيف التوترات الاجتماعية والسياسية ما بقيت أسعار النفط في مستواها الحالي على الأقل، وأظهر النظام زيادة على "ادخال اليد عميقا في الجيب" تصميما على العمل بالقوة على مجابهة كل مظهر احتجاج ولا سيما مظاهر احتجاج الشيعة في منطقة الأحساء وقطيف. وعزز اتهامهم بأنهم عملاء ايرانيون شرعية النظام في ان يقمعهم بالقوة وردع آخرين عن الخروج الى الشارع. وبرغم هذه الخطوات في تشرين الاول 2011، أمسك الشيعة الذين حظوا كما قال السعوديون بدعم "دولة اجنبية" (وهو اسم شيفري لايران) بالسلاح لاول مرة. ان الاضطرابات التي نشبت غير بعيد عن أكبر مرفأ للنفط في العالم في رأس تنور ربما تفتتح فصلا أكثر عنفا مما كان في الماضي من النضال الشيعي للأسرة المالكة.
          قبل ذلك، هدد وزير خارجية السعودية، سعود الفيصل، بأن السلطات "ستقطع كل إصبع" تعمل على النظام، وأصدر "مجلس العلماء الأعلى" وهو أهم جهة دينية في المملكة فتوى قضى فيها بأن الاحتجاج انحراف عن الاسلام. وكذلك تم توسيع أوامر فظيعة أصلا تراقب الصحافة المطبوعة والانترنت وكُشف عن ان الأسرة المالكة عملت على قانون جديد "مضاد للارهاب" يلقي قيودا اخرى على المواطنين. وهذه القوانين الجديدة تسمح من جملة ما تسمح به باعتقالات طويلة دون محاكمة وباستعمال يزداد للاعدام لكل من يعيب على الأسرة المالكة وعلى سياستها. وهذه الخطوات المخصصة لمحاربة الارهاب في الظاهر موجهة لتقييد حقوق رعايا المملكة أكثر التي هي قليلة أصلا. وهناك نية توسيع تعريف العمل الارهابي ليشمل كل عملية "تضر بسمعة الدولة" أو "تعرض الوحدة الوطنية للخطر". وكذلك عُززت وسائل الامن حول منشآت استراتيجية، وتمت اعتقالات ردعية جماعية، وشُددت الرقابة على فقهاء الشيعة وزيدت الرقابة على دخول مواطنين اجانب ولا سيما عرب الى المملكة لئلا يأتوا معهم بأفكار ثورية.

       أيتها الملكيات إتحدي!
          بعد مواجهة الاحتجاج الداخلي تفرغت السعودية لمحاولة  اعادة بناء الوضع الراهن الاقليمي ولتنافس اذا أمكنها، في قيادة المنطقة السنية. ويتصل أحد الاجراءات المهمة بمبادرة توسيع "مجلس التعاون الخليجي" وتحويله من جهة تحت اقليمية الى اقليمية. وان المبادرة الى ضم الاردن (والمغرب ايضا وإن يكن باحتمال أقل) الى كتلة ملكية جديدة يرمي الى منعهما الاستجابة لمطالب المتظاهرين وتطبيق اصلاحات حقيقية. ان النخبة السعودية التي تخشى ان تصبح اصلاحات الحكم في المنطقة العربية قدوة تحتذى للجهات المعارضة في السعودية تريد ان تحصن النظم الملكية من أخطار محتملة على استقرارها وان تعزز شرعيتها في الداخل والخارج، ولهذا تدفع الى ضم الاردن الى مجلس التعاون الخليجي برغم تحفظ عدد من الاعضاء (تخشى ان تتضرر مكانتها في هذا الجسم وما زالت تتذكر تأييد الملك حسين لصدام حسين)، وبرغم العداوة التاريخية بين السعوديين والعائلة الهاشمية.
          ان ضم الاردن، وهي ملكية سنية موالية للغرب مقاومة لايران، الى "نادٍ مغلق" من منتجات النفط (ليس واضحا الى الآن ماذا ستكون مكانتها) سيمنح الحلف الواهي، الذي أصبح عمره ثلاثين سنة في هذا العام، عمقا سياسيا وأمنيا ويسهم في زيادة الاستثمارات في الاردن ويُمكّن من تزويده بنفط رخيص من دول الخليج. وهذا الامر جوهري للاردن الذي يتعلق 80 في المائة من انتاجه للكهرباء بتزويد مصر له بالغاز. وسيكون أسهل على دول الخليج ان تهضم الاردن الذي اقتصاده أقل من اقتصاد عُمان، من ان تهضم المغرب المنفصل عن الكتلة جغرافيا ايضا، وفي نفس الوقت حولت السعودية الى الاردن نحوا من مليار ونصف مليار دولار جزءا من خطة خمسية ترمي الى مساعدته على مواجهة عجز ميزانيته الذي زاد زيادة ملحوظة على أثر ارتفاع أسعار الطاقة. ولهذه المبادرة ايضا بعد امني لا يستهان به. فانضمام الاردن الى مجلس التعاون الخليجي سيحسن قدرة السعودية على مواجهة تدهور محتمل للوضع الامني. فللوحدات الخاصة واجهزة الاستخبارات في الاردن صيت حسن وهي تدرب منذ سنين قوات الامن في الخليج (أُبلغ في هذا السياق أن قوات اردنية انضمت الى قوات دخلت البحرين في آذار 2011).
          الى جانب المبادرة الى تكبير مجلس التعاون الخليجي، تساعد السعودية دول الخليج التي عانت احتجاجا داخلها بهبات كبيرة (20 مليار دولار للبحرين وعُمان وأكثر المبلغ من اموال السعودية). وأصبح لهذه الاجراءات نتائج. فمجلس التعاون الخليجي يبدو أكثر اتحادا مما كان. واستقامت حتى قطر التي أظهرت في السنين الاخيرة سياسة "مستقلة" فيما يتعلق بالنهج الخليجي (للامتناع عن مجابهة ايران ولتكون موازنة لقوة السعودية ولابراز مكانتها)، استقامت بقدر كبير مع سائر رفيقاتها وهو أمر يبرز في نهج بث محطة "الجزيرة" التي تملكها (كذلك تم الاستبدال بمدير المحطة المشايع للاخوان المسلمين وحل محله واحد من العائلة المالكة). وتبذل السعودية ايضا جهدا ملحوظا لمنع مصر من الاقتراب من ايران. بعد سقوط مبارك سُمعت في القاهرة تصريحات تتعلق بالحاجة الى تجديد العلاقات الدبلوماسية مع طهران. وتقبلت ايران الكلام الذي صدر عن قيادة مصر المتعلق بنية فتح "صفحة جديدة" في العلاقات معها، قبولا حسنا وقال قادتها ان معارضة مصر لاسرائيل تنشيء قاسما مشتركا بينها وبين ايران. في أعقاب ذلك زادت السعودية التنسيق مع مصر وجددت عددا من المشروعات المشتركة ترمي الى تعزيز العلاقات بين الدولتين والتزمت ان تحول 4 مليارات دولار لمساعدة اقتصاد مصر على ان يطفو فوق الماء. وفي المقابل تحول السعودية ودول الخليج مبالغ كبيرة من المال الى الساحة السياسية المصرية استعدادا للانتخابات في مصر بل تم الابلاغ عن اقتراح السعودية على مصر ان تنضم الى بعض مؤسسات مجلس التعاون الخليجي. ويبدو ان هذا الاستثمار آتى أُكله. فقد عبرت مصر عن تأييد سياسة السعودية ومنها سياستها في البحرين وأعلن قادتها ان "أمن الخليج خط احمر بالنسبة لمصر" – وهذه اشارة واضحة الى ايران ان تكف عن تدخلها السلبي في دول الخليج.

       نزع القفاز في مواجهة ايران
          كشفت الزعزعة في العالم العربي عن عمق العداوة الايرانية السعودية بل ربما زادتها قوة. ان تقديرات توازن قوة تقليدي وعداوة طائفية تجتمع معا في النشاط السعودي الذي هو محاولة لصد ايران وتشكيل جبهة سنية تعادلها في تأثيرها. حاولت ايران في المراحل الاولى من الاحتجاج العربي ان تعرضه باعتباره انجازا لها. وبدت أحداث الاحتجاج الى ان وصلت الى حليفتها سوريا على الأقل، بدت في نظرها ساعة مناسبة وفرصة لاضعاف الجبهة السنية "المعتدلة" وأن تنسب لنفسها انجازات الجماهير. وتخشى السعودية حقا ان تكون واحدة من نتائج "الربيع العربي" ترجيح ميزان القوى الاقليمي لمصلحة ايران على أثر تضعضع رفيقاتها في المعسكر "المعتدل" وازدياد التهديدات بأمنها مع انهيار النظام القديم حولها.
          ان الهبة في البحرين ذات المميزات الطائفية الواضحة، بدت لحكام السعودية حدثا تأسيسيا في المواجهة السنية الشيعية وفرصة لتصوغ من جديد قوانين اللعب مع ايران. وأرادت السعودية بتدخلها في البحرين ان تُقر انه حينما يتعرض استقرار المملكة للخطر فانها ستعمل معارضة نصيحة الادارة في واشنطن، هذا أولا. وثانيا، وعند الحاجة ستستعمل قوة ظاهرة تكون تماما للمعركة التي أجرتها في السنتين 2009 – 2010 مع المتمردين الحوثيين على حدودها مع اليمن، والذين يتمتعون كما تقول بتأييد ايران (كانت تلك أكبر معركة عسكرية في شبه الجزيرة العربية منذ كانت حرب الخليج). ويبدو ان الأحداث في البحرين – التي عُرضت باعتبارها مؤامرة ايرانية – قد منحت شعورا بالتعجل الى صد تأثير ايران. وأرسلت السعودية قوات عسكرية الى البحرين المجاورة (15 آذار 2011) كي تتحقق من ألا تصبح دولة آل خليفة ملكية دستورية وألا يُعدي الاحتجاج الشيعي التجمعات السكنية الشيعية في شمال شرق المملكة. واستمر الغليان الشيعي على "نار هادئة" لكن السعوديين نجحوا حتى الآن في احتوائه، وكلفة ذلك توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وايران اللتين لم تستحسنا هذا وإن يكن ذلك لاسباب مختلفة. ان آل خليفة هم من جهات كثيرة جغرافية وتاريخية بل عائلية الأشد قُربا من آل سعود ولذلك لم يكن مفاجئا أن أرسلت المملكة قوات للدفاع عنهم.
          كان ارسال القوات يرمي الى منع الشيعة الذين هم الاكثرية في الأرخبيل الصغير، من تهديد نظام الأسرة المالكة السنية لكنها فعلت ذلك ايضا كي "تخطط في الرمل" ولتشير الى ايران أن البحرين تقع عميقا ضمن تأثيرها. والى الآن لم تغادر القوات السعودية البحرين حتى بعد ان ألغي في حزيران حالة الطواريء بل أُبلغت نية انشاء قاعدة ثابتة فيها للقوة العسكرية المشتركة بين دول الخليج وهي "درع الجزيرة". واشتمل الرد القوي للمعسكر الخليجي برئاسة السعودية على الأحداث في البحرين الى ذلك ايضا على اغلاق عشرات قنوات الاعلام الايرانية والشيعية؛ وطرد دبلوماسيين ايرانيين من الكويت والبحرين، وتصعيد الخطابة المعادية لايران؛ والدعوات الى حرب اقتصادية على ايران بطرد عمال ايرانيين من الخليج؛ وارسال رسالة الى مجلس الامن بشأن ايران؛ ودعوات الى تثوير السكان العرب في خوزستان ردا على نشاط ايران لتحريض الشيعة في دول الخليج العربية. وهناك قضية اخرى تقلق السعودية هي تحول العراق الى أكثر ولاءا لايران. وقد تعزز هذا الخوف في المدة الاخيرة بالتعبير عن دعم رئيس حكومة العراق المالكي لاحتجاج الشيعة في البحرين وتعزيز العلاقات الاقتصادية مع ايران، ودعم العراق لنظام الاسد في سوريا، وتصاعد التوتر بين الكويت والعراق بل في وقوف العراق الى جانب ايران في نضالها في منظمة الاوبيك في مواجهة السعودية ودول الخليج. وسوريا كالعراق ايضا قد تصبح ميدان صدام بين ايران والدول العربية، بقيادة السعودية هذه المرة التي لا تحجم عن معارضة الاسد علنا وتأييد السنيين تأييدا قويا.
          طلبت السعودية الحد من تأثير ايران في ميادين مختلفة، لكن ادراكها ان وقوفها على رأس المعسكر سيفضي بها الى مجابهة معها منعها حتى الآن من الأخذ بسياسة أكثر صرامة. وتريد السعودية الآن أن ترى سقوط الاسد لأن ايران ستخسر بهذا حليفة مركزية وسيتضعضع النظام الراديكالي وتُعطى السعودية فرصة ان تقود معسكرا سنيا كبيرا أكثر تكتلا مما كان في الماضي حتى لو كان مضروبا ضعيفا. وفي هذا السياق، واذا تجاوزنا اعادة السفراء وتصعيد لغة العداء للاسد، أُبلغ ان السعودية ودول الخليج زادت معدل انتاج النفط للتعويض عن اقتطاع نفط سوريا من أسواق اوروبا، وهي تدفع الى طرد سوريا من الجامعة العربية وتساعد المتمردين السنيين بالفعل. وترى السعودية انه ما يزال غير متأخر ايضا ان تستغل ضعف الاسد وان تعرض عليه "صفقة": وهي اجراء اصلاحات والبقاء في الحكم مقابل قطع الصلة مع ايران وحزب الله، وتأمل السعودية ان يعيد سقوط الاسد ايران الى "حجمها الطبيعي". سيكون هذا أفضل شيء بالنسبة اليها لا يعادله سوى سقوط الجمهورية الاسلامية نفسها.
          ان محاولة اغتيال سفيرها الفاشلة في واشنطن والتي تم كشف النقاب عنها في تشرين الاول 2011 هي الشهادة الاخيرة على الصراع الذي يجري خلف ستار في الأكثر، بين ايران والسعودية. وما يزال للطرفين اهتمام بابقاء التنافس بينهما في مستوى خفي، لكن القضية الحالية التي تأتي وبين يديها توتر سابق بين الاثنتين تؤدي بالعلاقات الى حضيض جديد يمكنه ان يجعل المواجهة بينهما معلنة ومباشرة أكثر مما كانت دائما. وقد تدفعها الطاقة الكامنة السلبية في الأحداث السورية، مع النظام الاقليمي الذي دأبت عليه ايران مدة ثلاثين سنة، الى زاوية، وقد "تشعل" ميادين اخرى في الشرق الاوسط وخلفه ردا على ذلك. وفي مقابلها تبدو السعودية الآن أكثر استعدادا مما كانت في الماضي لتجنيد جميع ذخائرها الاقتصادية والسياسية والامنية في جهد لمواجهة مطامح ايران الاقليمية.
          "ان ايران قابلة للاصابة جدا في قطاع النفط وفي هذا المجال الكثير مما يُفعل للضغط على الحكومة الحالية في طهران"، هذا ما تم اقتباسه من كلام رئيس الاستخبارات السعودي السابق والسفير في بريطانيا وفي الولايات المتحدة، تركي الفيصل، في صحيفة "وول ستريت جورنال". وفي تلك الفرصة هدد الفيصل بأن السعودية لن تحجم عن استعمال سلاح النفط وزيادة انتاجه لتعويض اختزال نفط ايران من الأسواق. وقد يكون هذا اشارة الى ان السعودية مستعدة لتتحمل على عاتقها مضاءلة الضرر المتوقع باقتصاد العالم اذا شُددت العقوبات على ايران وفرض عليها حظر تصدير النفط، بل ان تضائل تأثيرات كل هجوم ممكن على منشآت ايران الذرية وعلى رأسها الاضرار بتصدير النفط من الخليج.
          والى جانب الاغراء تعرض السعودية تهديدا ايضا. ففي الشهور الاخيرة تُسمع من قبلها تصريحات تُبين عن أنها ستريد تطوير خيار ذري لنفسها: "اذا فعلت ايران هذا فانه سيضطر السعودية الى اتخاذ سياسة يمكن ان تفضي الى نتائج حاسمة لا يمكن وصفها"، أعلن الفيصل في مباحثة مغلقة لحلف شمال الاطلسي. وينضم هذا الكلام الى كلام مشابه قاله في آذار 2011 في مؤتمر في أبو ظبي، فيه شيء من تغير توجه الأسرة المالكة من الموضوع: فلاول مرة تناول مسؤولوها الكبار علنا وبصورة صريحة الشأن الذري العسكري، وهو ما يعزز تقدير ان احراز ايران للقدرة الذرية قد يفضي الى توسيع الانتشار الذري في المنطقة. وقد يكون هدف هذا الكلام إبعاد الأضواء عما يجري في المملكة في الداخل في سياق "الربيع العربي" وحث الغرب على حل القضية الذرية الايرانية، لكن ينبغي ألا نلغي امكانية انه يوجد من ورائه نية الفحص عن المسار الذري.


       استقلال يزداد إزاء الولايات المتحدة
          أعلن الرئيس اوباما في خطبته الاخيرة للعالم العربي (خطبة القاهرة الثانية، أيار 2011)، أن تقديم اصلاحات في العالم العربي هو الآن هدف أول في نظر الادارة. والانتقاد الذي وجه الى الادارة بسبب المعايير المزدوجة – استعمال القوة العسكرية على نظام القذافي في مقابل دعوة البحرين الضعيفة الى الحفاظ على حرية التعبير – جعلها تغير، علنا على الأقل، ترتيب الأولويات وان تجعل دفع الاصلاحات السياسية الى الأمام في المقدمة. وبرغم ان السعودية لم تُذكر في الخطبة فانهم فهموا الرسالة في الرياض. وهذه الخطبة كما يفهمها حكام السعودية تضاف الى سهولة تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها الواضحين كابن علي في تونس ومبارك في مصر. وقد أصبحت الخشية من ان تتخلى الولايات المتحدة في ظروف ما عن السعودية ايضا – اذا اضطرت الى ان تختار مرة اخرى بين الحرية والاستقرار – أصبحت محسوسة في الرياض.
          عرفت علاقات السعودية مع الولايات المتحدة ارتفاعا وانخفاضا في العقد الاخير ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من ايلول، لكن المملكة ظلت قطب الرحى لما بقي من المعسكر العربي الموالي لامريكا. فلا تستطيع الولايات المتحدة ان تبيح لنفسها ان تخسر السعودية ايضا. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل دخول قوات السعودية الى البحرين لا يحظى بتنديد كبير من قبل الولايات المتحدة.
          برغم ان الادارة في واشنطن غير راضية عن القرارات التي تتخذ في الرياض، فان الولايات المتحدة محتاجة الى السعودية أكثر فأكثر كي تستعمل تأثيرها وتفضي الى استقرار الوضع مع تضاؤل قواتها في افغانستان والعراق، وفي اليمن ولبنان ايضا حيث تأثيرها هناك يعادل في وزنه تدخل ايران. وواشنطن محتاجة الى الرياض ايضا كي تعمل على تعديل أسعار النفط كما حاولت ان تفعل في صيف 2011، إما بواسطة عمل في منظمة الاوبيك وإما باستغلال قدرتها الزائدة على الانتاج. وهناك تقدير آخر. فالولايات المتحدة تنوي ان تبيع السعودية في السنين القريبة سلاحا تزيد قيمته على 60 مليار دولار. وقد أصبحت هذه الصفقة واخرى تنتظر، أصبحت أداة ضغط في يد السعودية لأنه سيكون لالغائها تأثير سلبي في الاقتصاد الامريكي عامة وفي صناعة السلاح خاصة. وما يزال الطرفان برغم التوتر يتعاونان في المجال الامني. فالولايات المتحدة على سبيل المثال ما تزال تدرب القوة السعودية الجديدة التي تبلغ نحوا من 30 ألف شخص على حماية منشآت استراتيجية منها مبان حكومية ومحطات تصدير نفط ومنشآت تكرير نفط. وقد تفضي محاولة الاغتيال الايرانية لسفير السعودية في واشنطن والنهج الذي هو أكثر تشددا الذي تبنته واشنطن في مواجهة ايران الى تحسن العلاقات بين الدولتين والى تنسيق أقوى مما كان في الماضي بشأن السياسة التي ينبغي تبنيها مقابل ايران.
          مع ذلك وجه في الشهور الاخيرة انتقاد لم يسبق له مثيل في شدته على واشنطن من جهة مسؤولين سعوديين كبار بسبب معاملتها للأحداث في العالم العربي. ان "سياسة مخطوءة" للولايات المتحدة، أعلن مسؤولون سعوديون كبار، قد تجعل السعودية تتبنى سياسة خاصة بها حتى لو ناقضت سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. هذا الى ان الولايات المتحدة، في كل ما يتعلق بالتهديد الايراني، ظهرت بمظهر شريك غير ثقة، ويجب على الأسرة المالكة، كما هدد واحد من المستشارين الكبار للأسرة المالكة، ان تزن "انهاء ترتيب النفط مقابل الامن". وأعاد السعوديون مع هذه التهديدات الى المعركة سلاحا جديدا قديما وهو انتقاد علني لم يسبق له مثيل وجه الى ادارة اوباما لأنها لا تضغط على اسرائيل ضغطا كافيا في كل ما يتعلق بمسيرة السلام. ويبدو ان هذا الانتقاد يرمي من جملة ما يرمي اليه الى إبعاد نور المصابيح عن المملكة.
          ستظل مقاربة اقتصاد الخليج ومحاربة الارهاب ومكافحة نشر سلاح الابادة الجماعية ودفع مسيرة السلام الى الأمام في المنطقة، مصالح أساسية للولايات المتحدة. وليس واضحا كيف ستندمج السعودية في هذه المصالح في المستقبل، وليس واضحا ايضا كيف ستؤثر الأحداث في قدرة الامريكيين على ضمان هذه المصالح، وهل سيكون لها تأثير مثلا في موقع القواعد العسكرية – كقاعدة الاسطول الخامس في البحرين – وفي مبنى قواتها في المنطقة. ومن السابق لأوانه أن نُقدر ماذا ستكون تأثيرات كل تغيير في نشر القواعد في المهمات المستقبلية لجيش الولايات المتحدة وبخاصة كل ما يتعلق بالحاجة الى ردع ايران. ان استمرار الغليان في البحرين قد يجعل الادارة الامريكية تزن الاستمرار في إبقاء القاعدة العسكرية هناك. وسيكون اخلاء جزء من القوات بل اشارة الولايات المتحدة الى أنها تزن فعل هذا، انتصارا لايران ويضعف استعداد السعودية ودول الخليج للاعتماد على دعامة أمنية امريكية. يرى السعوديون ان عدم القدرة على "لي ذراع" ايران يُرى ضعفا امريكيا. فاذا زدنا على هذا اخراج قوات الولايات المتحدة من العراق – وهو اجراء تراه الرياض خطأ فظيعا – تكون النتيجة ان الولايات المتحدة تُرى أنها تُبقي الساحة لايران في واقع الامر. ان برودة العلاقات بين الدولتين يُعبر عنها في "الشارع" السعودي ايضا. ففي استطلاع للرأي نشرت نتائجه في تموز 2011 وجد ان 70 في المائة من السعوديين لهم آراء سلبية في الولايات المتحدة قياسا بـ 60 في المائة في 2009 (ربما كان لقتل ابن لادن ايضا تأثير في النتائج). ويخشون في الرياض، كما خشوا بعد الهجوم الارهابي في الحادي عشر من ايلول، من ان أحداث الربيع العربي قد تؤثر تأثيرا سيئا في الصورة عن المملكة في الولايات المتحدة وتضر في الأمد البعيد باستعدادها للخروج في الدفاع عنها. وعلاقاتها بالولايات المتحدة، برغم اسهامها الحاسم في أمن المملكة في مواجهة أعداء من الخارج، لا يمكن ان تساعدها على مجابهة التحديات الجديدة – القديمة في الداخل. بالعكس. ان علاقة الأسرة المالكة بالولايات المتحدة اعتبرت اشكالية وكانت عاملا مركزيا في انشاء منظمة القاعدة. هذا الى ان الاستثمار الباهظ في وسائل قتالية متقدمة من انتاج الولايات المتحدة ليس فيه ما يحل التحديات التي تجابهها وأكثرها داخلي.
          يمكن ان نتفهم التلاؤم في السياسة السعودية باعتباره محاولة لأن تصوغ علاقاتها بالولايات المتحدة من جديد. وهذه العلاقات التي حصلت على صبغة علاقات وكيل – زبون قد تصير لها صبغة مختلفة في المستقبل. فالى كون الولايات المتحدة مصدرا لسهام الانتقاد من قبل جهات معارضة في المملكة، فان الاحتجاج حتى لو كان على نار هادئة، قد يكشف مع الوقت وبقوة أكبر عن التباعد الفكري الكبير بين واشنطن والرياض ويدق إسفينا بين الدولتين وهو ما قد يحد أكثر من قدرة امريكا على التأثير في المنطقة. لا يوجد الآن بديل عن قوة الحماية الامريكية، لكن السعودية تريد إبقاء أكثر الخيارات مفتوحة، وهي تتجه شرقا ايضا الى الصين لتجند تأييدا سياسيا والى دول مسلمة كاندونيسيا وماليزيا والباكستان في محاولة لتجنيد مرتزِقة ووسائل اخرى لحمايتها.
          ان علاقات بُنيت على مدى ستين سنة وفي أساسها مصالح مادية عميقة للطرفين لا يمكن فصمها بسهولة. فحاجة الولايات المتحدة الى القرب من اقتصاد الخليج ستبقى، وكذلك حاجة السعودية الى ركيزة امنية فعالة. ان سياسة صارمة للسعودية وبخاصة اذا كانت موجهة على ايران، تساوق مصالح الولايات المتحدة. لكن الحفاظ على اطار العلاقات بالسعودية مع استمرار الاحتجاج قد تكون صيانته صعبة على الولايات المتحدة وتضطرها في المستقبل الى ان تبت الاختيار بين قيمها الليبرالية وبين الحاجة الى الحفاظ على استقرار حتى بعد ان تسحب جزءا كبيرا من قواتها من المنطقة. ويبدو ان السعودية لا تشك فقط في جدوى التمسك بحلف مع الولايات المتحدة بل تحاول ان تصوغه بحيث يُمكّنها من حرية مداورة أكبر مما كانت في الماضي. وعلى هذا قد توزن ايضا بجدية ترتيبات امنية موازية، في الرياض.
          ان صرامة السعودية كما عبر عنها نزع القفاز في مواجهة ايران، مستحسنة في القدس كما يبدو. ان الذي ربط في السنين الاخيرة بين دول الخليج ودولة اسرائيل أكثر من كل شيء آخر هو الخوف الذي أخذ يزداد من ايران. ويُبلغ بين الفينة والاخرى أن عددا من دول الخليج ومنها السعودية تجري مع اسرائيل حوارا استخباريا غير مباشر أو مباشر ايضا. وقد لا يتصل هذا الحوار مباشرة بالمشروع الذري في ايران لكن ليس من الممتنع ان يعمل الأطراف للكشف عن نشاط ايران أو عملائها في المنطقة واحباطه. وزيادة على الحوار الاستخباري قد يكون الطرفان ينسقان سياسة في هذا المستوى أو ذاك، إزاء الادارة الامريكية التي لا تستوي سياستها في شأن ايران وسياستهما برمتها. وزيادة على الخوف من ايران، تخشى اسرائيل والسعودية الزعزعة التي تجري على المنطقة ايضا. وقد أظهرت كلتاهما منذ بدء الأحداث في العالم العربي تفضيلا واضحا للحفاظ على الوضع الراهن – وهو سبب آخر لتعميق التعاون بينهما.
       خلاصة وتقدير
          تفضل السعودية ان تُبطل الأخطار على أمنها القومي لتفريق الأخطار، والامتناع عن استعمال وسائل عسكرية مكشوفة ومحاولة التهرب من أدوار قيادة وزعامة. ان الدبلوماسية والمال هما الوسيلتان المفضلتان مع محاولة العمل من وراء ستار. ان المملكة مزودة في الحقيقة بوسائل جيدة جدا لمجابهة احتجاج محتمل في الداخل – قدرة اقتصادية ضخمة وشرعية دينية وولاء الحرس الوطني – لكن حكامها يدركون أنه لا تكفي الوسائل "التقليدية" التي صاغوا بمساعدتها سياستهم الخارجية. وربما يعتقدون انه يجب على السعودية ان تستعمل وسائل جديدة لاحباط أخطار على أمنها القومي وأن تحاول عند الحاجة ان تأخذ بيديها زمام قيادة العالم العربي. وقد أصبحت هذه الملاءمات في سياستها تُعرضها للمواجهة مع عدوتها المركزية من جهة، ومع حليفتها المركزية من جهة اخرى. ان الزعزعة في العالم العربي التي أفضت الى رسم من جديد لخريطة الأحلاف الاقليمية تهييء للسعودية فرصة لتموضع نفسها باعتبارها زعيمة معسكر عربي سني أكثر تكتلا مما كان في الماضي. لكن بقيت الأخطار الى جانب الآمال وعلى رأسها العلاقة مع الولايات المتحدة التي تضررت وهي علاقة تشكل لبنة مهمة في أمنها القومي. وسيصعب على السعودية ايضا ان تقود المعسكر العربي وحدها زمنا طويلا من غير مصر وكتلة خليجية موحدة من ورائها، وقد تنتهي فورة النشاط التي نشهدها سريعا. ان توجه السعودية في قبض وبسط ازاء محاولات تركيا ان تعود الى موقع قيادة في الشرق الاوسط. فمن جهة تبدو معارضة اسرائيل والبديل السني عن ايران بمظهر ايجابي في الرياض ومن جهة اخرى قد تكون "عودة" تركيا الى الشرق الاوسط على حساب مكانة السعودية في العالم السني ايضا. هذا الى كون الذكرى السلبية للحكم العثماني ما تزال طرية في الرياض. ويهدد نموذج الاسلام في تركيا الذي يدعو اليه اردوغان، صبغة المملكة المحافظة.
          ان اسقاط نظم الحكم السنية في شمال افريقيا واستمرار الغليان في البحرين وعدم الاستقرار المزمن في اليمن وميل العراق الذي أخذ يزداد الى منطقة التأثير الايرانية تزيد الخوف في السعودية من ازدياد قوة ايران وتأثيرها في المنطقة. وليس واضحا هل تكفي الوسائل غير المعتادة التي استعملت حتى الآن لتساعد الأسرة المالكة التي أشرفت على الشيخوخة على أن تواجه بصورة أفضل التحديات القديمة الجديدة في الداخل والخارج. ان امتياز السعودية هو في المواجهات غير المباشرة: فليست لها طوابير عسكرية بل مال كثير ومكانة ريادة في العالم الاسلامي. وليس هذا قليلا لكن الدور الذي تريد ان تؤديه متعلق، زيادة على رأب الصدع مع الولايات المتحدة، بدعم المنطقة العربية السنية والصبغة المضللة لـ "الثورة العربية" التي قد تسقط أعداءا لكن قد تقف على بابها ايضا.



* تقدير استراتيجي – المجلد 14، العدد 3، تشرين الاول 2011.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..