الصفحات

الخميس، 16 فبراير 2012

"آلَامُ الإِخْوَان السُّعُوديِّين" (2) معركة "حوقان" وتسمى: ( المدفع )

في رجب (1336) وهو الراجح, وقيل في (25) شعبان (1336)
"حَوْقَان" ضاحية من ضواحي الخرمة على الجنوب منها, وهي مزارع مأهولة, بينها قصور منزولة, على الضّفة الغربية للوادي الكبير وادي سبيع, وتبعد عن السّوق قرابة الثلاثة أكيال(31) وحينما ثار الرصاص في السّوق,كان فيه قصر لأحد أهل القصيم, يقال له: الشّقحاء, فانزوى ومعه أهله في طرف قصره, وصعد قنّاصة حزب الشريف في علّيّته, وأخذوا يرمون الإخوان وقتلوا أحدهم وهو حسين بن فواز, وكان الإخوان لا يُحدّون الرّمي فيهم طمعاً في إسلامهم, كأنما عناهم البحتري:

إذا اقتتلتْ يوماً ففاضتْ دماؤها       تذكرت القربى ففاضتْ دموعُها

وكان بعض الإخوان لقرابتهم لكبار أهل السّوق يدخلون السّوق متقلدي السّيوف والبنادق على ظهور الخيل ليشتروا حاجتهم بسرعة ثمّ يخرجوا, أمّا البقيّة فلا يقتربون أصلاً من السّوق, وكان هذا قبل قتل حسين بن فواز فلمّا جرى الدّم بين الفريقين, انحاز الإخوان للسّلميّة, وتكتّل الآخرون في السّوق, وثارت المناوشات بين الطّائفتين .

ولمّا ضايق أهل السوق خالداً وأرادوا قتله كما أسلفنا, جمع خالدٌ الإخوان ولم يكن لهم في بداية أمرهم مكانٌ واحدٌ حصينٌ يؤويهم, وأخبرهم بعزمه الذهاب لبيشة, ويقال إنّه كان والياً عليها من قبل الشريف في سنين مضت, فقال لهم: سأذهب لبيشة حتّى لا أتسبب في سفك الدماء, وإنّما قال ذلك ليرى صدق ولائهم . فلمّا سمعوا ذلك فَدَّوْهُ بأنفسهم, وألَحّوا عليه بالبقاء في الخرمة فقال: أمّا وقد أصررتم, فانظروا إلى قصر حوقان هل فيه أحد؟ أم نتحصّن فيه عن القوم الّذين ازداد شرّهم وأخذوا يطاردون الإخوان (32) فانطلق اثنان من الخيّالة فنظروا لقصر حوقان فإذا هو خال من المقاتلة وليس فيه أحد ذو شأن, فأخبرا الإخوان فنزلوه بالّليل معهم أميرهم خالد, ولمّا خرج ثواب بن وندان ليؤذّن الفجر بمسجد حوقان إذ المسجد ملئ بالرّجال والسّلاح, فاستبشر بهم, وحينما صلّوا خرج مبيريك _وهو من موالي الأشراف_ فأخذ يعرض -أي يرقص رقصة الحرب- ويهزج ويقول: إيه هذا المسجد قد أتاه أهله وأنا أخو مسفرة!

 فلمّا وَلَوا حوقان صار مركزاً لهم, ثم ذهب خالد ومعه مجموعة لخبراء الرويبي _على مرحلة جنوب شرق الخرمة_ وعليها ماجد بن جروة, ومنه إلى بيشة ثم رنية لاستنهاض الموحّدين, وأوُّلُ الغيث رشٌّ ثم ينسكب .

ولمّا عاد خالد من سفره مرّ بالإخوان الذين كانوا في السّلمية, وطلب منهم الذّهاب معه لحوقان للتّمركز هناك إذ الأنباء تفيد بخروج جيش الشريف إلى  الخرمة, فلم يوافقوه في البداية وبعد أن ابتعد خالد عنهم, وسمعوا صوت المدفع على إخوانهم في حوقان هبّوا مسرعين .

يَجُودُ بِالنّفْسِ إذْ ضَنَّ البَخِيلُ بِهَا      وَالجُودُ بالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَة الجُودِ

وكان حوقان محاطاً بسور عالٍ وفيه علالي (33) وركب خالد وأصحابه إلى حوقان, ولمّا جازوا الدغميّة وتوسطوا شعب "القفيدي" (34) ومع طلوع الشّمس إذ صوت المدفع يزمجر على حوقان معلناً وصول جيش الشريف, بقيادة حمود بن زيد بن فوّاز الشريف, ويرافقه زعيم حزب الشريف من أهل الخرمة _وقد عاد لحزب الموحدين آخراً وحسُن بلاؤه معهم_ وتعجّب الّذين لم يكونوا يعرفون المدفع من صوته, وقال بعضهم: ما هذه البندقية؟ ما أشدها! وما أعظم رصاصها!.

إذا لم يكن من المنيّة بدّ     فمن العار أن تموت جباناً

وهذه أولى المعارك مع جيوش الشريف أهل الباطل والبغي, وأصاب جيش الشّريف الغرور من كثرتهم ووجود المدفع معهم فقال قائلهم شامتاً في أهل التّوحيد! وما علم أنّ الله ناصر جنده, ومعلٍ كلمته:

بنركّـب المدفع على حوقــان      والروح تدبيــره على واليــه

كله على غرسـة الوديـــان       واللي يبا الغطغط يهاجر فيه (35)

فصاح خالد في من معه محرضاً على الجهاد, وكانوا أهل خمس وعشرين راحلة وستة فرسان فقط, وقال لابنه محسن: اسبقونا لحوقان واركضوا مع الحزم, أي من الجهة الشّمال غربية, وابتعدوا عن السّوق حتّى لا يصيبكم رصاص أهله, ونحن سنسير مع الوادي _أي في الجهة الشّرقيّة للبلدة_ حتّى ندرككم هناك .

ولمّا وصلت الخيّالة للمعمعة, انبطحوا على الأرض وهم سبعة محسن بن خالد بن منصور على حصانه" كحيلان" وأخوه سلطان, وقد كُسرت ساقه في تلك المعركة, ومنير الحضبي, وثنيّان بن غرمول البقمي, ونايف بن منصور الشريف أخٌ لخالد, وقد كُسرت فخذه, ونايش بن هرسان, ورجل يقال له حطّاب, ومشرع بن كريميع أو كريوين وهو الوحيد من الخيّالة الّذي استشهد في تلك المعركة . وفرّقوا الرّصاص بينهم من الخِرْج, قائلين: ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) ويكرّرونها, وصاح محسن: والله ليأتينّ إسلامٌ يلحق أهلهم (36) أو كفرٌ ليوم القيامة, يا أهل التوحيد يا عصابة راسي! . ثمّ أطلقوا النّار على جيش الشريف الّذي يفوقهم بستين ضعفاً _كما رُوي _ ولكن من نصر الله نصره الله ومن غالب الله غُلِب .

يَا مَنْ يُرَجَّىْ لِلشَّدَائِدِ كِلِّهَا      يَا مَنْ إِلَيْهِ المُشْتَكَى وَالمَفْزَعُ

    أمّا الإخوان الّذين كانوا في السّلميّة, فقد كانوا مجتمعين عند الأمير مفرح بن شارع أمير بني ثور من سبيع, قد تحلّقوا في مجلسهم على نارهم, وقد شربوا الطّبخةَ الأولى _ أي قهوة الصباح _ ونحروا بعيراً للغداء, وقد طرحوا عنه جلده, والشّمس قد طلعت وارتفعت قِيْدَ العَصَا, وألقت بثوبها العسجدي على الشعاب المرمرية والكثبان الفضية للوادي الكبير, وبيناهم في حديثهم المعبق بالآي المُلهمات الكريمات والأحاديث النبوية العاطرات, في شجونٍ من أخبار وقصصٍ ووصايا؛ إذ سمعوا مثل الدّبكة - أي الوجبة والضربة بصوت مرتفع - من بعيد, من جهة أعلى البلد أي حوقان, فاستنصتهم مفرح فسمعوا الوجبة الثّانية, فعلموا أنّ جيش الباطل قد وصل. وبدأ بدكّ معقل الموحّدين في حوقان! فهبّوا سراعاً يقولون: يا أهل التّوحيد وقد جعلوها عزوة لهم وشعاراً, بدلاً من اعتزائهم بالإبل أو الخيل أو النّساء (37) وتركوا بعيرهم بحاله - وَخَلَفَهُمْ عليه من لم يُنحر له - وانقسموا لفريقين, فالفرسان مع الحزم من الجهة الشّمال غربيّة, أمّا ثقل الجيش والإبل فمع بطن الوادي وأسرعوا السّير لإنجاد إخوانهم . 

عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ الله إِنَّهُ      لَهُ كُلّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ

أمّا أهل القصر فقد أخذ زمام قيادتهم فيصل بن عبد الله القريشي, ومعهم والده, وغالب بن مصقال القريشي, والشّياهين, والشّلاوا, والحلاحلة, وكان مجموعهم ثلاثين, وقسّمهم إلى مجموعات, فعشرة في مواجهة المدفع, وعشرة يرمونه من اليسار, وخمسة من اليمين, والخمسة الباقين في الخلف لحفظ ظهور أهل القصر من تدخل أهل السّوق, حتّى لا يفاجؤنهم من خلفهم فيطعنون ظهرهم وقت حَمْيِ الوَطِيسِ .

فضرب المدفع ضربته الأولى فأطارت حَمَامَ القصر (38) ثمّ زفر المدفع بالضّربة الثّانية؛ فأطارت السّطح وهدمت جزءاً من قصر آل مبارك, ثمّ الثّالثة؛ فخرقت الجدار ثمّ خرجت من الجهة الأخرى لعليّة سليم, وكان فيها فيصل بن نايف الّذي أصيب, وغالب بن مصقال الّذي استشهد, فشربت الأرضُ الإخوانَ من الخوف! لكنّهم ثَبَتُوا بعون الله لهم وتوفيقه:

يوم المكاين دندنت ما جنبـوا      نادى المنادي يا هل التوحيد

وَحَمِيَ حزب الشريف, وأسكرته نشوة البداية, وزمجر مدفعهم على رؤوس الإخوان(39)

وكان الإخوان ينشدون:

بــانت البيّـنة والدّين ديـن الله      ما مشـينا في دين الرّب كذّابة

يا سـلامي على من كـان طاع الله    واتبع ملّــة إبراهيم واصحابه

 وأوّل رصاصة أطلقها الإخوان كانت من يد محمد الأُعيسم (40) وسلّط الله تعالى الرّصاصةَ وأرسلها على رقبة العبد الّذي يصبُّ القهوة لسيّدِهِ الشّريف (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وكان الشريف حمود بن زيد قد فُرِشت له البسط, وتحلّق كبار قوّاده عليه, ولمّا ذكّت رصاصة الأُعيسم ذلك العبد, انتثر الدّم وطشّ على حمود بن زيد فتشاءم, وتشاءم قوّاده من هذه البداية, فأنزل الله تعالى الدّبرة والهزيمة عليهم, وركبهم رصاص خيّالة التّوحيد ورجاله .

    يقول عيّاد الحلحلي العتيبي (41): والله لقد كنت معه في مجلسه في خيمته حين نحرت الرّصاصة العبد, فألقى الله في قلوبنا فزعاً ورعباً عظيماً, والكثير منّا فزع من فوره لذلوله لا يلوي على شيء .

     ثمّ إنّ قنّاصاً من الإخوان ضرب رامي المدفع ففجر رأسه, ثمّ ثنّى على مساعده فألحقه به, وثار الهيْج, فألقى الله الرّعب في قلوب أهل الباطل والبغي, فهربوا وتركوا متاعهم وطعامهم, وركائبهم فلمّا رأت خيل الشريف أنّ الرّجّالة هربت, اتّبعتها هاربة, تاركة خلفها ثلاثمئة بعير موَقّرة الأحمال سلاحاً وطعاماً, كلّ خمسين بعيرٍ في مقطر, ثمّ إنّ الإخوان أحرقوا ذبائح الأعداء وأكفؤا قدورهم لأن القوم _في نظرهم_ كفار وذبائحهم ميتة لا يحلّ أكلها.

       فنصرهم الله تعالى, وأنزل مدده وجنده, وقُتل ثمانية وعشرون رجلاً من جند الشريف, وهرب الباقون على رأس حمود بن زيد الشريف, وغنم المسلمون الغنائم الوافرة, ولم يستشهد من الإخوان إلّا اثنين(42).

    ولمّا هرب جيش الشريف لامَهم من لامهم في الحجاز وقال: كيف تهربون من خمسين رجلاً؟ فقال زعيم حزب الشريف من أهل الخرمة: ليس هؤلاء من طردنا! فأصحابي أهل الخرمة أعرفهم واحداً واحداً, ولكن أتانا أكثر من ألف فارس عليهم ثياب بيض على خيل صفر من السماء, فطردونا حتى أقبلنا على جبل حضن! . قلت: إنّ صحّت هذه الرّواية فهي الملائكة عليهم السلام, وأهل السّنة لم يشترطوا نزول الملائكة مع الأنبياء بل مع أتباعهم عند حاجتهم إلى يوم القيامة, كما قرّره شيخ الإسلام وغيره, والله غالب على أمره .

    يقول غالب بن فهيد بن شاهين الشريف: كنّا أهل القصر ثلاثين, وجاء خالد بمن معه وكانوا خمسة وعشرين, فاستوفينا العدد خمسة وخمسين فقط, في مقابل كتيبة الشّريف الّتي قوامها ثلاثة آلاف ( ولينصرنّ الله من ينصره) وكان مع الشّريف شاعر وكان يقول:

يا لله انك لا تعـاون خــالد      من يـحب الله يقــول آمين

جـرها بين الولـد والوالـد      لين خـاب من الشرف والدين

قلت: نعم فرّقت بينهما لا إله إلّا الله, كما فرّقت قبلهم بين الصّحابة وآبائهم الكفّار .

فَثِبْ وَاثِقاً بِاللهِ وَثْبــَةَ مَاجِــدٍ       يَرَى المَوْتَ في الهَيْجَا جَنى النّحْلَ في الفَمِ

    وبعد معركة حوقان وقف خالد على هذا الشّاعر وهو مجندل تحت نجوم السّماء, قد التوى ميتاً على شجرة فقال: أهذا صاحب الأبيات! .

     ووجدوا مع الغنائم أربعين سلسلةً,كان الشّريف قد أمر بأن يُقرن فيها جميع كبار الإخوان, كخالد بن لؤي ومفرّح بن شارع بن هليّمة وناصر الحارث ومنير الحضبي وماجد بن جروة وسعيد بن هميل, ويؤتى بهم إليه مشاة حفاة إلى مكة مقرّنين ذليلين صاغرين لكن أبى الله ذلك .

     وبقي المدفع واسمه سرهيد  لا يَعرفُ الإخوان كيفيّةَ استخدامه, فسحبوه وأدخلوه القصر حتّى أتاهم سعد بن سهل الرويس من الغطغط ودربهم عليه فقد كان من جنود الشريف سابقاً.

      وبجانب السّور كان هناك قصر سليمان الدميجي, في بستانه "معجبة" وكان غائباً في القصيم قبل أن يعود ويشارك مع الإخوان في معركة تربة لاحقاً, فدخل اثنان من الإخوان إلى القصر, وهما حمود بن مبارك وعبّاس بن شاهين, ليضعوه في حمايتهم وصعدوا لسطحه, فهجدهم بعض أهل السوق من حزب الشريف, وأطلقوا النار على أهل القصر فصاح أحدهم في الإخوان يسبُّهُم ويشتُمُهُم ويهدِّدُهم بالقتل وقال: اخرج يا عبّاس يا خرث الرِّجْل _لعرج فيه_ لأقتلنك قبل الصباح, وكان الظلام دامساً فلا يرى بعضهم بعضاً, وفي حركة هوجاء أحرقوا في زرائب البستان بقصد إتلافه وترويع أهل القصر, وغفلوا عن أنّهم انكشفوا على ضوء النّار لقنّاصة الإخوان, فما راع ذلك الرجل إلا وعباس قد صوّب البندقية جهته واستعدَّ لرميه, فتدرّأَ بنخلةٍ كانت بينهما, ولكنّ الرّصاصة اخترقت النّخلة ثمّ قتلته, وبعد قتله هرب الباقون, وقد وقفتُ على تلك النخلة ومضرب الرصاصة مخترقها!.

   وفي الصّباح سحب الإخوان جثّةَ وأخذوا الرجل  ويعرضون عندها _أي يرقصون رقصة الحرب_ والأمير خالد بن منصور يقول:

عقّب اللي يوم يجـرون المـدافع      ما حمى في دين رب العـالمين

من قعد ما عاد نبيله مـنــافع       بنعده من حسـاب الميتين(43)

مناوشات الدّفعة "السوق"

     يعتبر السّوق ويسمّى الآن بالسّوق القديم واسطة عقد البلد ومكان تبايعه, وهو أقدم مكان سكني معمور في الخرمة, ويقع على طرف الوادي على الجهة الغربيّة ليس بينهما إلّا بساتين قليلة .

     وبعد معركة حوقان دخل الإخوان القصر"قصر حوقان" وأطلقوا المرأة وأرسلوها برسالة صُلْحٍ ودعوة لأهل السوق, وقال لها الأمير خالد: اذهبي لهم يا وقولي لهم: يأتوني ظالمين ويعودون سالمين, إلّا ماشيتهم فليست لهم(44).

    فذهبتْ لهم وأخبرتهم الخبر وأبلغتهم الرّسالة, فغضب أحد كبارهم وشتمها  وضربها بالمشعاب _أي الهراوة_ على رأسها وقال: يا فاعلة! ويا كذا, وفعلوا بك كذا وكذا! والآن جئتي تخوّفين الرّجال, فقالت: لا تضربني يا فلان عسى يضربك العدو .

    ثمّ إنّ خالداً أرسل الفارس المشهور منير الحضبي الثوري, ليدعو بني عمومته للدّخول في الدّين, وأن يتعاهدوا جميعاً على إقامة الشريعة, وأنّ البيعة تكون على الكتاب والسّنّة . فذهب لهم خياّل "سرّا" وهي فرسه, فأتاهم ودعاهم بالحسنى, فردوا قوله عليه بأن قالوا: تكلّم يا حطّاب _ولعلّه مجنون سخرية بمنير_ فقال منير:  أنا أخو نورة أهديكم للإسلام والمسلمين وتقولون تكلم يا حطّاب! . فأخذت امرأة منهم عموداً وهي زوجة الرجل الذي ضرب المرأة بالهراوة, فضربت فرسه ضربة شديدة كادت تفتك بها, فقال منير غاضباً: "أنا خيّال سرّا! والله لئن أحياني الله  ليعرقنّ مركبي من حربكم يا....."  ثم لوى عنق فرسه وعاد للإخوان .

وَمِنَ البَليّةِ عَذْلُ مَنْ لَا يَرْعَوِي      عَنْ غَيِّهِ وَخِطَابُ مَنْ لَا يَفْهَمُ

      وحينما أمسى الليلُ أهلَ السّوق, سروا مع مسيل الوادي بأهلهم, وتركوا بعض القنّاصة خلفهم, اثنان استسلما وتديّنا في الآخر أمّا الثالث فقُتل قتلة رديئة لأنه نزل من القصر على أمان أحد الإخوان, فلمّا نزل هجم عليه رجل آخر من الإخوان فقتله على ثأر كان بينهما وذِحْلٍ في الجاهليّة, فلامه الإخوان على خفر ذمّتهم على إِحَنِ الجاهلية, ومهما كان تبريره فقد ارتكب منكراً بخفر ذمة أخيه المسلم . وذمة المسلمين واحدة ويسعى بها أدناهم, قال العلماء: ولو أن امرأة من طرف المسلمين أمنت حربيّاً لوجب إبرار ذمتها . وفي حديث معاوية والزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان قيد الفتك) رواه أحمد . وقد أقر صلوات الله وسلامه عليه إجارة ابنته زينب رضي الله عنها لزوجها أبي العاص بن الربيع قبل إسلامه .

     وكان دخول الإخوان للسّوق بعد أسبوع تقريباً من معركة حوقان, وقد أرسل الشريف دعماً من سلاح وذخيرة لأهل السوق لكن تلقّفَهُ الإخوان وغنموه .

إذا لم تكن ليثاً على الأرض أطلساً      كثير الندى بالت عليك الثعالب!

    وأخذ مفرح في نداء الناس ومن أجابه دخل مع الإخوان مباشرة, وفي الصّباح أغار الإخوان على السّوق , ولم يجدوا فيه سوى هؤلاء الثلاثة ورابعهم رجل من أفتك الناس وأشجعهم وأرماهم وكان لا يزال في القصر .

     ثمّ إنّ الإخوان من حوقان وافاهم إخوانهم من الصّملة في السّوق, فرمى ذلك الفاتك ابنَ وندانٍ الصميلي فقتله, وألحق به روضان الثوري, ثمّ أتبعهما بثالث! مع أنّ الإخوان كان ينادونه بالأمان إن سلّم نفسه, لكن أبى حظُّهُ العاثر إلّا المنيُّة الحاضرة, ولمّا رفع رأسه يبحث عن ضحيّةٍ رابعة, إذ رامٍ من الإخوان قد جهّز حتفه وعجّل حِمامه, فرماه برصاصة أطارت قُحْفَ رأسِه من فوق القصر وفجرت دماغة, فخرّ صريعاً لليدينِ وللفمِ . وهذا القتيل قد كان سابقاً يستهزئُ بالأذان فكان إذا سمع المؤذّن أخذ يلاحيه ويسخر منه, فدعا عليه غالب بن ناصر بن لؤي وكان الأمير في ذلك الوقت, وقال: غيّر الله صوتك جزاء ملاحاتك للمؤذّن, فابتلاه الله بمرض الشجر فأكل أنفه. ولمّا وَلِيَ الإخوان السّوق فرحوا به كأنهم قد ولوا الطّائف.

    ثم أمدّهم الله بإخوانهم من أهل الغطغط البواسل, ويُقال إنّ أوّل سريّةٍ وصلت منهم هي سريّة سعد بن سهل الرّويس العتيبي في ثمانين من إخوان الغطغط, منهم محسن بن رجاء الّذي قُتِلَ بعد السّبلة مع ابن بجاد رحمهما الله, بل لعلّ هذه السريّة كانت بقيادته, ومعهم مقعد الدّهينة أمير المساعيد من الغطغط, الّذي خرج على الإمام عبد العزيز فيما بعد, ثمّ رجع تائباً فعفا عنه, وكان قدومهم بعد معركتي حوقان والسّوق فشهدوا معركة جبّار وما بعدها, والله أعلم.

    وبعد حوقان كتب خالد بن لؤي للإمام عبد العزيز يستنصره لإرسال قوّة تدافع عن الخرمة ضدّ هجمات الشريف وألحّ عليه بذلك وأغلظ له القول. وقديماً قالت العرب: قد ذل من لا ناصر له, ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم..

تَعْدُوا الذِّئَابُ عَلَى مَن لَا كِلَابَ لَهُ      وَتَتَّقِي صَوْلَةَ المُسْتَأْسِدِ الضّارِي

    وفي تقرير "جون فلبي" رئيس البعثة المُوفَدة إلى نجد سنة: ( 1918م) ذكر "إن الشريف قد غزا الخرمة بالقوّة الأولى غضباً على الإخوان من أهل الخرمة وزعيمهم خالد الّذي طَرَدَ القاضيَ المُرسل من قبل الشريف, وبعد الموقعة أرسل خالدُ الرسولَ للإمام عبد العزيز ليبشّره بالنّصر, ومع مرور الرّسُلِ بالغطغط دعوهم للنّصرة فلبّوها سِرَاعاً وأرسلوا فريقاً قويّاً, وضجّت الرّياض تطلب الحرب مع الشّريف, وعلى رأسهم الإمام عبد الرحمن والد الإمام عبدالعزيز, لكن عبد العزيز قاوم الضّغط الشّديد عليه, واستدعى فريق الغطغط وأرسله دعماً لابنه تركي في حربه شمّر! وكتب إلى خالد بن لؤي: أنّهُ قائم بالاحتجاج عند البريطانيين ضدّ الشريف, ثمّ إنّ الشّريف غزاهم مرّة أخرى ودحروه, ثمّ أرسل خالد إلى عبدالعزيز: إنّك إذا لم ترسل النّجدة فسيضطرّ أهل الخرمة لإرسال أطفالهم لطلب مساعدة أهل نجد, فكتب له عبد العزيز: أنّهُ لا زال يبحث مع الحكومة البريطانية هذه الأزمة, وأنّه في حالة توقِّعِ هجوم ثالث فسيهبّ لنجدتهم .... "(45).

     وبعد أربعة عشر ليلة هجم أهل السّوق الّذين كانوا قد خرجوا منه على الإخوان هجوماً صادقاً شديداً, من طلوع الشّمس إلى مغيبها بلا انقطاع, وتفجّرَ أكثر السّلاح من حرارة الرّصاص وغزارته, ولم يَعْتُقْ ويصمد معهم من السّلاح السّليم غير البنادق أمّهات إحدى عشر, وصَدَقَ الإخوان اللّقاء وصبروا, حتّى دفع الله أعداءهم عنهم, فسمّيت معركة "الدفعة".

    وأُصيب في ذلك النهّار نايف بن منصور الشريف, وسلطان بن خالد الشريف, في آخرين كُثُر من الإخوان .

   وبعدما انهزم أولئك وتراجعوا, استفزعوا بالشّريف الّذي أرسل لهم كتيبة عظيمة, حتّى لاقوا بها الإخوان في معركة جبّار, ومن لُطْفِ الله تعالى أنّ أَمْدَادَ أهلَ الغطغط قد وصلت أوائلها, فثبّت الله أقدام الإخوان.

"حادثة مقتل بعيجان بن منصور رحمه الله تعالى"

بعد معركة السّوق "الدّفعة" وقبل معركة جبّار, وفي أثناء مرابطة أهل الغطغط في الخرمة, وبناءِ خالد للهجرة سنة: ( 1336) ونزلها الإخوان حدثت مشكلة ذات عُبَرٍ كادت تفتك بتجمّع الإخوان وائتلافهم لولا رحمة الله الذي جعل الأمر في يد المجرّب الحكيم خالد بن لؤي, ووفقه للخروج بالإخوان منها, تلك هي حادثة مقتل بعيجان (46) بن منصور أخو الأمير خالد, فبعد مجيئ أهل الغطغط لهجرة خالد بن لؤي, خيّموا تحت أثلة عظيمة, وبعد أيّام شكّكَ بعضهم في ولاء بعيجان بن منصور بن لؤي للإخوان والتّوحيد, واتّهمه بعضهم بالنّفاق بدون دليل, وهذ من أثر الحماس غير المنضبط, ولعل السبب هو غلظته عليهم في التّعامل, فقال سعد بن سهل الرويس: أنا طبيبه! وكان كلاهما في الغاية من النُّبل والشّجاعة والفروسيّة والحذق في الرّماية, ولكن كان في خلق بعيجان خشونة وشراسة. ولمّا ضاق من صَلَفِهِ بعض إخوان الغطغط شكوا ذلك لابن سهل العتيبي الّذي مرّ ذكره, وتداولوا الرّأي وقالوا: إنّه قادم للتّو من الشريف, وهو الآن يؤذي الإخوان, من ينتدب لقتله؟ فعزم ابن سهل على قتله! فوضع ابن سهل شارة (47) عند قصر بعيجان, وأخذ يرميها بالبندقيّة, اختباراً وإغضاباً لبعيجان الّذي خرج مغضباً, وقال: أنا لست بشارة, لَتَكَفُّنَّ عن ذلك أو لأرمينّكم رمياً ليس برمي الشّارة! ثمّ دخل بيته وصلى الضحى, ثم اضطجع خلف زربة له (48) فلمّا وضع جنبه رماه ابن سهل برصاصة في رأسه فقتله!. فانزعج الإخوان! وثارت حميّة بعضهم, وكادت عراهم أن تنفصم! وصار الحال كما قال العباس بن الحسن: من كان كله لك كان كله عليك .

ولا شكّ أنّ هذا التّصرفَ الأرعن قد بلبل الأمور, وكاد يعصف بوحدة جند الإيمان, ويفرّقهم, لولا لطف الله تعالى, ثمّ حلم وحكمة خالد, الذي فقأ عين الفتنة, وأخمد أوارها, وقد كان طبيب زمانه رحمه الله, لذا فمن حين وصول خبر الفاجعة إليه كان عنده بضعةٌ من الإخوان القريشات الّذين ثاروا وطالبوا بالقصاص فوراً, لكنّه نهرهم بشدّةٍ وقال: هل هو أخي أم أخوكم؟ . قالوا: بل أخوك . قال: إذن الشّرعَ الشّرعَ .

  وفعلاً جعل الحديد والقيد في قدمي ابن سهل, وحبسه في أم الكُرْش (49) ثمّ حاكموه إلى الشّيخ فقال: القاتل يُقتل مع وقف التنفيذ؛ حتّى يغتسل محمد بن بعيجان من الجنابة,كناية عن البلوغ, فلعله يعفو أو يأخذ الدّية (50) .

       ولا خير في حلم إذا لم تكن له    بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له    حليم إذا ما أورد القوم أصدرا

  ثمّ ذهب خالد إلى العطيّب بن بعيجان, وكان قد احتزم بالبندقية كي يقتل قاتل أبيه, فحضنه وضمّه وصاح فيه قائلاً: إن قتلنا ابن سهل والله لتتركنا الرّجال, ولينسحبوا عنا ولينفردنّ بنا الأعداء! ولكن خذ الشّرع من ابن سهل, وأبوك قد مات ولن تعيده بقتلك الرّجل, فألقى العطيّب البندقية,  وَوُضع القاتل في الحبس(51). وكأنما عنى الحسن بن سهل خالداً حينما قال المقولة الشهيرة: لا يصلح للصدر إلا واسع الصدر. وفي هذا عِظه واعتبار لخطر انشقاق الصفوف بسبب بعض التصرفات الحماسية غير المنضبطة التي قد تعصف بالمؤمنين من حيث أراد المتحمّس نصرهم!.

 وبعد أيّام ثارت معركة جبّار, فكان ابن سهل يقول لهم كما قال أبو محجن الثّقفي لزوجة سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم: أطلقوني حتّى أقاتل العدو, فإن مُتُّ فهو ما تريدون, وإن سلّمني الله فوالله لأعودنّ حتّى أضع رجلي في القيد! فأطلقوه فرأى النّاس منه العجب فكان لا ينبطح عند ثوران النيران, ولا يُدبر, ولا تخطئ له رميه, فبلغ قتلاه في ذلك النّهار سبعة (52) وقيل أكثر من ذلك من جيش الشّريف ثمّ عاد لقيده, وكلّما ثارت حرب أطلقوه ففعل الأفاعيل بأهل الباطل .

والناس ألف منهموا كواحد     وواحد كالألف إن أمر عنا

     ثمّ إنّ علّوش بن خالد بن حميد (53) قال لخالد لمّا وصل من الغطغط ورأى ابن عمّه في السجن منتظراً السّيف, وكان قَتْلُهُ لبعيجان على تأويل وليس عن دنيا, فقال لخالد: يا خالد اعلم أنّا لم نعلم بما كان يريده ابن سهل, ولم نرض بفعله, ولكن إن قتلتموه والله لا نشعل عندكم وقيدة! أي لا نبقى معكم ليلة. وذهب خالد للعطيّب وقال: يا ولد بعيجان! فقال: سمّ (54) فقال: ماذا لي منك؟ . قال: كلّي لك . فقال: أعتق ابن سهل . فأتاه ثمّ جزّ ناصيته, وقال: تحاسب أنت وبعيجان, فأطلقه . وأطفأ الله الفتنة بعد ما كادت, رحم الله العطيب وأبيه.

وَمَا قَتَلَ الأَحْرَارَ كَالعَفْوِ عَنْهُمُوا      وَمَنْ لَكَ بِالحُرِّ الّذِي يَحْفَظُ اليَدَا؟

معركة "جبّار" ( الرّضم  _ أبو بغيث )

( 17رمضان 1336 وهو الموافق ليوم غزوة بدر الكبرى )

    بعد معركة حوقان وانكسار أهل السّوق في الدّفعة, جهّز الشّريف جيشاً آخر, لعلّه يردّ له كرامته وهيبته بعدما مرّغها إخوان من أطاع الله في التراب, فجهّز جيشاً بقيادة حمود بن زيد بن فوّاز (55) ولسان حال الإخوان:

إِنْ عَادَتِ العَقْرَبُ عَدْنَا لَهَا      وَكَانَتِ النّعْلُ لَهَا حَاضِرَة

     واجتمع مع حزب الشريف من لم يحضروا معركة حوقان (56) واشتدّ الكرب على الإخوان ( فإنّ مع العسر يسراَ . إنّ مع العسر يسراً )  ( والعاقبة للتّقوى ) فرحمهم الله تعالى بوصول مددٍ من إخوانهم أهل الغطغط, أقبلوا كالغمائم قد سدلوا العمائم, فأرسل سلطان بن بجاد بعد استنجاد إخوان الخرمة,كتيبة قوامها مئتين, وقيل ثلاثمئة, وقيل ثمانين وهو الأشهر, عليهم سعد بن سهل الرّويس(57) _كما مرّ_ ومعه المتيّن من الدعاجين, ومعهم عبدالهادي المقاطي(58) فحضروا جميع مغازي الإخوان, ولم يفتهم غير حوقان والسّوق, والتقى الجيشان ونصر الله أهل الحق والتوحيد . ويُقال إنّ أوّل من رمى برصاصة في جبّار (59) هو الأمير مفرّح بن شارع, إذ أنّه كبّر, ثمّ رمى حامل راية الشّريف, فصرمت الرّصاصةُ يدَهُ, وكَسَرَتِ الرّايةَ فسقَطَتْ, ثمّ ثارت عَجَاجَةُ الخيل, وَرَهَجَتِ بفرسانها, وتعانق الفرسان, وتطاعن الأقران, وتقطعت السيوف, وتكسرت الرماح, وردّد الوادي صدى الرّصاص والتّكبير, وحمي لهيب الرّصاص بين حزب الرحمن وحزب الشيطان, وأمر مفرح عشرة من القنّاصة(60) على طرف الوادي في رأس الجُبُوب (61) وقصد بذلك أن يصيدوا الجيش عن قرب إذا مرّ بهم, وما علموا أنّ رجّالةً من جند الشّريف قد أتوهم من خلفهم, فغدا الصائدُ مصِيداً, فأتوا مع "اللّوي" (62) فأشرفوا على الإخوان, فإذ ظهورهم إليهم مذابيح, فرموهم من خلفهم, فلم يسلم منهم إلّا القليل _ رحمهم الله _ لأنّهم أُخِذوا على غرّة, ثمّ عاد المهاجمون ودخلوا معرّة جيشهم, فأمر الله بهبوب رياح النصر لأهل التّوحيد, وَكَسَرَ اللهُ جيش الباطل, وقُتل منهم الكثير (63) وَهَرَبَ الشّريف وعاد لمركز تموينه في عشيرة, يتجرّع كأس الذّلّةِ والمهانة وحسرة الهزيمة والشّنآن, وليس من قلّة في العتاد ولا في الرّجال ولا في الشّجاعة, ولكن من غالب الله غُلب.

    وقُتِل من حزب الشريف سبعون, ويالله! لقد قاتل الابن أباه والأخ أخاه من أجل لا إله إلّا الله! وهذا هو حال الإخوان, ثمّ يأتينا اليوم من صِبْيَةِ الكُتّاب من يزعم أنّهم يريدون الدّنيا بذلك الجهاد! . ياللعار والشنار!

متَى تَصِل العِطاشُ إلى ارتواء     إذا استقتْ البِحارُ مِنَ الرّكايا

ومَمْ يُثْـنِ الأصاغِرُ عن مراد    وقد جلسَ الأكابرُ في الزوايا

إذا استوتِ الأسافِلُ والأعالي      فقد طـابتْ منادمةُ المنايا

    ولم يُقتل الكثير من الإخوان في معركة جبّار (64) وكان جيش الشّريف هو الوارد في البداية وقتل من الإخوان من قتل, ثمّ هبّت رياح نصر الله للموحِّدِين فدارت الدّائرة على حزب الشريف, وفي هذه المعركة استُشهد محسن بن تركي بن ماضي الشّريف, وغصن الصّميلي السّبيعي, وممن قاتل مع الإخوان في هذه المعركة شباب بن جروة_أمير الصملة فيما بعد_ وكان رديفاً لوالده على الحصان (65) .

     وبعد معركة جبّار عاد مجموعة من أهل الغطغط لبلادهم فاستقبلهم سلطان بن بجاد غاضباً وهو يقول: تركتم إخوانكم مظلومين وجئتم تبحثون عن النّساء! والله لا ترونهنّ, فارجعوا من حيث أتيتم . ثمّ جهّزَ معهم علّوش بن حميد في خمسمئة مقاتل, وقيل أربعمئة, وذهبوا للخرمة فحضروا معركتي الحنو والقرين, حتّى أدركهم سلطان الدّين بن بجاد(66) بجموعه البالغة: (1200) مقاتل, فحضر تربة وما بعدها .

"معركة الحنُو"

( في يوم عرفة التّاسع من ذي الحجة 1336)

وهي معركة عظيمة, وموقعة شديدة, استُشهد فيها الكثير من الإخوان, ومبدؤها؛ أنّ شاكر بن زيد بن فوّاز العبدلي الشريف, وهو أخٌ لحمود بن زيد وهما من أبناء عمومة الشّريف حسين, وشاكر يُعتبر الشّخص الثّاني في القيادة في جيوش الأمير عبد الله "البيه" وكان من خاصّة الملك حسين وقد أمّره على عُتيبة, وشاكر هذا أرسله الملك حسين لسحق الإخوان وكبسهم من أسفل البلد, بينما حمود بن زيد ينحدر عليهم من علوّه, حتّى تصير البلد بين فكّي الكمّاشة . وقيل: بل كان شاكر هو من قدم عليهم في القرين أيضاً . وهذا ما تؤيّده مراسلات حسين للبريطانيين كما هو منشور في الوثائق البريطانية, والله أعلم .

قومي إذا ما لضيم حلّ بهم فهم    أسود الشّرى في مدلهم العواتيا

يريدون بذلاً للنفوس وقد سمت    بهم همم نحو الجنان العواليا

فئيهٍ حماة الدين جاء عدوّكم    يريد بكم كيداً عظيم الدواهيا

فإن تستجيبوا للكفور فخبتمُ    ألا حبذا قرماً عن الدين حاميا

وقد هبّت الأرواح نصراً ونجدة    فحيهلاً بالحرب زادت شعاعيا

وخيّم شاكر في "دغيبجة" (67) حتّى تكاملت جموعه ثمّ ذهب بجيشه للحنو(68) وخيّم على "مرّان" بقُرب "الحنو" وجاءته البادية أرسالاً تريد غنائم الخرمة, بل وصل بالشريف الغرور إلى أن قسّم البساتين على كبار جنده الذين معه, الذين أتوا بأهلهم ونسائهم على "الغبطان" (69) واثقين من نزول البلد, خَلَفَاً لأهله"المديّنة"قالت إحدى نسائهم:

تشيّلوا ورعـانكم وارّاح      لعاد تطـرون المديد

قدامكم حسـو قـراح       ومخالطـه تمر جديد

وقبل المعركة بثلاثة أيام كانت إبل جند الشريف على "اللّميسة"(70) و"الحمار"(71) و"الحُفيرة"(72) فقال الإخوان لناصر بن مشاري القريشي: أرنا فعلك, فأخذ مجموعة  معه فرساناً فأغاروا على إبل جند الشريف فأخذوها, وبينا هم مقتفينها يسوقونها؛ لحقتهم خيل الشريف ففكّت إبلها ثمّ رجعت بها, وكان أحد كبار القوّاد غائباً وهو من المقرّبين للشريف, فلمّا قدم أخبروه الخبر وقالوا: إنّ ابنك فلاناً لم يخرج معنا كي يردّ الإبل! وهذه من الكبائر في عرف البادية, فغضب وملأ مشط بندقيته أمّ ركبة, وقال: سأذهب حتّى أضع هذا المشط في "بني رقعان"(73) ثمّ أعود وأفرغ آخر المشط(74) في رأس ولدي فلان, فركب وركب معه خيّالة فلمّا أقبلوا على الإخوان, رموه برصاصة وهو على حصانه ففجرت نحره, فسقط ميتاً يتشحط في دمه, فحمله أصحابه وعادوا به, وقد قال بعض أصحابه فيما بعد مبيّنا خسارتهم لشجاعته وفروسيته وقوة رأيه: والله لقتل فلان علينا ككسرة الحنو (75).

وكانت تلك المعركة عشيّة عرفة, حين هبّت رياح النصر لجند الله,  وكانت جنود الشريف قد ملأت الوادي كثرةً, وقد جرّ المدافع, وأحضر الرشاشات, وجمّع الجموع, ونزل الحنو, ولكن:

وهل ينفع الجيش الكثيف التفافه      على غير منصور وغير معان؟

والإخوان لا يدرون من أين سيهجم عليهم الشريف , أَمِنْ أسفلِ البلدة أم أعلاها؟ وقدّر الله أن أحد الإخوان , وهو غازي بن جرمان الثوري ذهب يبحث عن ناقتين له , ومعه ابن عمه مرزوق فركبا ذلولهما , قاصدين أسفل الوادي حتّى وصلا "غثاة" وكانت مشهورة بشجر الأراك, وهي محَِلّةٌ بالمنتصف تقريباً بين آبار الحنو وبين "أبو جميدة"(76) فلمّا وصلا "غثاة"(77) سألا بني عجاج عن ناقتيهما, فأشاروا إلى جهة الوادي, فتركا ذلولهما عند بني عجاج وقصّا الأثر, حتّى وجدا أثر الناقتين فتتبّعاه على أقدامهما وسارا, وبينا هما يمشيان إذ رابهما عجاج الخيل والجيش, وما راعهما إلّا وعشرون فارساً قد نزلوا عليهما من الحزم, من جُبُوب الخيل - ولازال هذا اسمه - فهربا على أقدامهما, فأدركتهما الخيل بقيادة أحد كبراء البادية وقد وضع نصل سيفه بين آذان الفرس, وهو يقول: لن أقتل "المديّنة" إلّا بهذا السّيف, احتقاراً للإخوان, فالتفت إليه غازي بعدما كاد أن يصل إليهما, فأطلق عليه النار فأطارته الرّصاصة من فرسه صريعاً, فركض غازي ولسان حاله:

تَرَكْنَا الخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ      مُقَلّدَةً أَعِنّتَهَا صُـفُونَا

 وضرب صاحبه إحدى الخيل فقتلها, وسَلِمَ فارسُها الذي أردفه أصحابه وعادوا وانهزموا, أمّا غازي ومرزوق فأطلقا ساقيهما للرّيح بعد ما رأيا حِمام الموت, وبينا هما يركضان إذ أطلق أحد الفرسان رصاصة, فأصابت ساق مرزوق, فأسنده غازي على كتفه حتّى وصلا الذلول, ومنها أسرعا للأمير ابن جروة في السّلمية (78) الّذي أرسل من فوره فارسين ليخبرا الأمير خالد بن لؤي الخبر . ثمّ ندب خالد الصّملة للتمركز أمام العدو, وأرسل فارسين لتقدير حجم العدو ومكان تمركزه (79) فانطلقا وهما غزّاي بن محمد الحارث, ومنير الحضبي, فلمّا أقبلا على القوم, هالتهما كثرة الجند وقوّة الجيش يجرّ ستّة مدافع, فعادا لخالد, ولمّا دخلا عليه مجلسه كان عنده جماعة من الإخوان, فقال منير: إنّهم قوم ليسوا بشيء, يريد طَمْأَنَةَ الإخوان وعدم ترويعهم, ثمّ اختصر بخالد ومفرح, وقال: إنّهم كثير, والله لقد كررت سرّاء_فرسه_ ثمّ أَنْكَفَت ما قَطَعَتْ أثرَهُم من كثرتهم! (80) فقال خالد: لا تخبر الإخوان بما رأيت .

 ثمّ إنّ خالداً كان قد أرسل فارسين ليأتياه بخبر الجهة الجنوبية الغربية, أي أعلى البلد مع الوادي وجهة تربة وحضن, فأرسل منصور بن غالب الشريف وناصر بن جازع العمري السبيعي, فركضا فانطلقا إلى "الغريف" (81) ولمّا وصلا "القُرَيْن" (82) قال ناصر: لنرجع فليس أمامنا أحد, هذا القَطَا قد طار لمّا رآنا فليس أمامه أحد (83) . وعادا للإخوان الّذين اطمئنوا أنّ الجيش الّذي أمامهم واحد, خلافاً لِمَا بلغهم عمّا خطّطَهُ الشّريف بأن يكمش الإخوان بين جيشين من أسفل الوادي وأعلاه, لكن رحمهم الله بتأخّر الجيش الآخر الّذي لم يصل إلّا بعد نحو شهرين .

ووحّد الإخوان وجهتهم, وانطلقوا للحنو, وقد تركوا في حوقان عشرين بوارديّاً, أي قنّاصة لحماية الجهة الجنوبيّة للخرمة, فصلّوا الظهر والعصر جمع تقديم في "غثاة" ثمّ تقدّموا, واستظل الأمراء الثّلاثة تحت دوحة كبيرة للمداولة ولقطع الرّأي, وهم خالد ومفرّح وعلّوش, وظهر تلك العشية رأي وعزم مفرح بن هليّمة الثوري حينما استشاره خالد وعلّوش في وقت الرّواح للحرب, هل يروحون على الأعداء أو ينتظرون الصّباح؟ بيات أم غارة؟ فركب مفرح ناقته وأشار للشّمس وقد مالت بعصاه وصاح: صبيّ التوحيد وأنا أخو من طاع الله, والله لا تغيب الشمس حتّى يكون الوادي لنا أو لهم بأمر الله! فقالا: رأيك رشيد يا مفرح . فهبّ جند الرحمن وحماة التّوحيد, ثمّ استلم منير الحضبي الخيّالة, الّتي ذهب بعضها من الجهة الشّماليّة للوادي, حتّى يقطعوا الطّريق على فرسان الشّريف, من أجل ألاّ يكرّوا عليهم من خلفهم فيخالفونهم على الرّدفاء الّذين في مؤخرة الجيش قد قعدوا عند إبل الإخوان, وينتظرون السّلاح من غنيمة إخوانهم حتّى يكرّوا به معهم, فاستشهد من الفرسان هزاع بن محمد الحارث, وجذيع بن هملان, ومحسن القصيّر أبو مطلق, قتلهم الهمرق مع جيش الشريف, وألحق بهم ثلاثة آخرين وأصاب منيراً في جنبه, وأول عِنَاقِ الفرسانِ وطعان الأقران لبعضهم كان في زريبة (84) "ابن تني" الثوري, الّذي استشهد في أوّل المعركة, ودُفِنَ في زريبته رحمه الله .

وركض البوارديّة (85) على أقدامهم, وخلفهم مفرح على حصانه وكلّما أراد أحدهم أن يفرّ أقبل عليه بحصانه, فيخجل الرجل ويرخى عمامته على وجهه كي لا يعرفه الأمير مفرح! ثمّ عاد وكرّ على لهيب المعركة .

وَقَدْ يَغْشَى الْفَتَى لُجَجَ المَنَايَا      حذَاراً مِنْ أَحَادِيثِ الرِّفَاقِ

واستشهد من أهل الغطغط ستةٌ وثلاثون, لمّا هاجموا المدافع الرّشّاشة لجيش الشّريف (86) وبعد استيلائهم على مدافع الشّريف دارت الدّائرة على الشّريف شاكر, فانهزم وهرب بعد أن قُتل من جنده الكثير, وأدار الله تعالى الدّائرة على أهل الباطل, وأنزل بهم بأسه على أيدي الموحدين, وهبّت رياح الدّبور عليهم, ومنح الله أكتافهم لجنده, وانطلق الإخوان خلفهم يقتلونهم بالعشرات, وبعضهم ينشد:

ذا يوم الحجــة       ذا يـوم العـيد

     فتح باب الجــنة       يا أهـل التوحيد

    وهربت الخيّالةُ النّاجية وأبعدت, لكن الرّجّالة الّذين على أقدامهم لم تحملهم أقدامهم بعيداً, فكانت سيوف ورصاص الإخوان أقرب لقطف أرواحهم, واستحرّ القتل فيهم, كما قال تركي بن حميد:

من طاح في الميدان ماهو بمرحوم     يا كود من ربّ السّما شافع له

 فأدبروا حاملين أسلحتهم الّتي لم تُغن عنهم من الله شيئاً, عليهم  المُذَلَّقَات(87) وكانت البنادق تسحقهم, والسّيوف والرّماح تحصدهم, ثمّ إنّ خمسة من الخيّالة الّذين مع منير داروا على المنهزمين والتفّوا عليهم, لكي يردوهم على الإخوان لكن المنهزم لا يردّه شيء, وكانت هذه غلطة من أولائك الفرسان دفعوا ثمنها أرواحهم رحمها الله, فإنّهم لما داروا عليهم وكمنوا أمامهم ورموهم, أجابهم أولئك بالمثل, ووقعوا بين يدي راميٍ محترف وهو ابن صنيهيت, وقد رمى منيف بن هبسا الثوري مع بطنة فسقط, ثمّ رمى حمود بن صقر الثوري فأصابه إصابة غائرة (88) ثمّ ضرب مناحي بن وندان القريشي فقتله, وقتل حصانه, ثمّ ألحَقَ بهم خالد بن شبش القريشي, وكلّ هذا بسرعة البرق الخاطف لسرعة رميه وحذقه! وهرب خامس الإخوان على حصان أحمر عن مصارع أصحابه! ثمّ إنّ ابن صنيهيت ركض إلى فرس منيف فركبها, ثمّ جرّ فرساً أخرى وجنّبَها معه, ثم ركض لأصحابه, ولعلّه الوحيد الّذي كسب الغنيمة من قوم الشّريف تلك العشيّة, ومع العشاء الآخرة عادت الخيل تحمل الأربعة قد حُملوا عليها عَرْضَاً, وكانت روح منيف لم تَفِضْ بَعْدُ, فأقبلت الفرس يقودها أحدهم يمشي بها الهوينى, والآخر قد أمسك منيفاً حتّى لا يسقط, وكان منيف مشهوراً بالفروسيّة والشّجاعة والسّخاء, فقد كان من الخمسة الّذين يُبكى عليهم, وهو من أحبّ الناس للأمير مفرّح وكان جاراً له, فلمّا أقبلوا به وكان الظّلام قد حطّ رحاله وأسبل وَبْلَهُ وسِبَالَهُ, قال مفرح: من الرّجل؟ فسكتوا ثمّ تحامل منيف على نفسه, كي يُطمئِنَ صديقه فخانته الحروف وضعف صوتُه وهو يقول: آ آ آ آ آ يريد أن يقول: أنا طيّب فلم يسطِع, فسقط مفرح على ركبتيه وهو يقول: يا الله الخيرة! (89) وبعدها بساعة فاضت روحه لبارئها رحمه الله تعالى, فبكاه صاحبه ولسان حاله:

وليس الذي يجري من العين ماؤها     ولكنّها روحٌ تذوب فتقـطرُ

 وغنم الإخوان مدفعين من شاكر (90) وقسموا الغنائم, وكان هاجد بن جروة قد أصيب في معركة جبّار فقالوا: أنت قد عذرك الله فاقعد, فقال: بل احملوني وضعوني في وجه العدو, فإن انهزمتم مرّوا علي واحملوني, وإلا فاتركوني أرميهم, ففعلوا ووضعوه أمام جدار صخري صغير ووضعوا البندق أُم ركبه عنده, فرمى القومَ رمياً هائلاً ولمّا رجع له أصحابه, إذ خلف ظهرِهِ مثل إِلْيَةِ الشاةِ من الصِفر (91) وكان رامياً رحمه الله, وبعضهم يلقّبه بفارس الطَّرَف .

وكان الإخوان قد قسموا جيشهم قسمين, فطائفة مع الزّرائب والحزم, وهم أهل البلد وكانوا قرابة الثمانمئة, وطائفة مع بطن الوادي وهم أهل الغطغط وهم الّذين صاروا في وجه رصاص المدافع الرشاشة فأثخنتهم المقتلة رحمهم الله .

 قال علي النّاقول رحمه الله: والله إنّي لأنظر إلى أهل الغطغط, وعليهم ثياب بيض يركضون في بطن الوادي مُصْعِدِينَ لجيش الشريف, والمدفع الرشاش يحصدهم حصداً, فيسقط أوائلهم صرعى, ويقوم من يليهم على بيرقهم _لوائهم _ حتّى وصلوا لأصحاب المدافع فذبحوهم, وللرّصاص فرقعة في شجر العشرّ مع الوادي.

إِذَا مَا غَضِـــبْنَا غَضْبَةً مُضَرِيَّةً      هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَوْ تَقْطُرُ الدّم

    وأنزل الله نصره قبل مغيب شمس عرفة من عام: ( 1336 ) وكان شاكر الشّريف ينظر للمعركة بمنظاره (92) المكبِّر, ويتعجّبُ من بسالة الإخوان وفدائيتهم, فالتفت إلى صنيتان بن هليمة الثوري (93) وقال له: أهولاء المديّنة لا يردهم الرّصاص؟ فقال صنيتان: هؤلاء لا يردّهم شيء! فقال شاكر: لقد جاءنا جندنا هاربين قد ركبهم العدو . ثمّ أمر بخِرْجِهِ الّذي فيه الذهب فَرُفِع على حصانه ثمّ انطلق هارباً .

تمتع من شميم عرار نجد    فما بعد العشية من عرار

     ووصل الإخوان لواء الشريف, وتناوله اثنان منهم, أحدهما من المدارية (94) قد مسك رأس اللواء, والآخر ابن سهل قد مسك عصاه ويهزّانه .

لَوْلَا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ      الجُودُ يُفْـقِرُ وَالِإقْدَامُ قَتَّالُ

وكان من ضمن جيش الشريف أحد أمرائه الكبار وهو محمّد العبّود (95) وكان عنده زوجتان الأولى ابنة عمّه, والأخرى من سبيعيّات الخرمة وهي "قوت" الغُزيليّة الثّوريّة, فارتحل مع جيش الشريف بثقله وحريمه على الغُبطان وبينما هم في الطّريق لغزو الخرمة قالت الأولى للثّوريّة: يا قوت سترين بني عمّك غداً مقتولين, وسترين نساءهم عاصبات أقدامهن بالخرق راكضات لرنية! فقالت: لا يتمُّ قولك إن شاء الله, ولعلّي أراك غداً هاجّة على بعيرك حِرْذون(96) وكان ما قالت, فقد كانت قوتٌ قد حملت غبيطها على بعيرها من حين نزولها متفائلةً بفرار الجيش, أمّا الأخرى فاتّكأت على غبيطها وبنت بيتها وكأنها في الحَرَمِ! فما راعها إلّا وزوجها العبّود يركض فزعاً, وقد مرّ بهما على فرسه, ونهمهما: العجلةَ العجلةَ لا رَحِمَ اللهُ والديكما! أمّا السّبيعية فركبت بعيرها الّذي كان جاهزاً, أمّا الأخرى فركبته حرذوناً كما وصفته جارتها, ولا تهزأ بأخيك, فيعافيه الله ويبتليك!.

واستُشهد فيها الكثير كما أسلفنا كفهيد بن شاهين الشريف, وهزاّع بن محمّد الحارث الّذي قال ضُحى ذلك اليوم: الّلهم إن كانت المنيّة قريبة فاجعلها اليوم, فاستجاب الله دعوته, ومناحي بن وندان, والكثير من الغطغط, قال عمر بن علوش: النّساء اللاتي لزمهن الإحداد في الغطغط بعد الحنو لا يحصين من كثرتهن! وشارك مع أهل الخرمة خمسمئة من أهل الغطغط, ومئتان وخمسون من أهل الرّين – إن صحت رواية مشاركتهم في الحنو - أمّا أهل الخرمة فقرابة الثمانمئة .

قال دندن العصامي المطيري:

بانت البيّـــنة والدين دين الله       ما نطـاوع هل الردات والجافي

ومن يشكك في كفـر البيه عبد الله      ذاك ما قلبه على التوحيد ميلافي

يوم سرنا على الكـفـار  بامر الله       حجـّة  حجها من نار واطافي

يوم شاكر جمع جنود عاصيــة الله       ومشره نفسه بتصبيح الأسلافي

يالإمام ارتحل ياشيــخ  جـند الله       يوم ضلوا طريق الحق الأشرافي

يالإمام اجتهد فيما يحـــب الله        وان صدقنا مع الله هو لنا كافي

        وبعدها لام الشريف حسينُ شاكر بن زيد, وقال: أنت لا تصنع شيئاً! فقال: اذهبوا لهم وسترون فعلهم فيكم . فقال عبدالله "البيه": أنا من سيؤدب "المديّنة" . فبدأ بالتخطيط لمعركة تربة الرهيبة! والتي هدّت عروشهم, وأخرجتهم من الحجاز  _وقد حكموه ألف سنة إلّا ستة عشر عاماً_ . كتب الله أنّ من نصر الدّين نصره, ومن خذل الدّين خذله, والله غالب على أمره . وكما قال عمر رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله . وبعد "الحنو" أرسل الملك عبد العزيز الكثير من السّلاح للإخوان, حتّى كالوا قسمة الرصاص كيلاً بعدما كانوا يعدّونه عَدّاً, وقسموا الغنائم وجعلوا المزاد على البيوت الكبار, فاشترى مفرح بيت العبّود بثلاثين جنيه فرنسي (97) وقال: هذا لبدراء (98) وعيالها .

قال ابن مسفر:

جانا فاجـر والشريف شــاكر      يمشـون مــن الحرة للأفياح

يمشي على قـومه ويقـول اردوا      اردوا على تمر مــن قــراح

تنادبوا هـــل التوحيد وسبلوا      تســــالموا وكل قال مباح

كل كتـب دينه ولبـس احـرامه      وقال امشوا هذي حجة الأرواح

وقـمنـا عليهم قومة بأمــر الله     لين الأوايل عـــودوا طفاّح

يازين صقع سيــوفنا في جباههم     صقـع الصواقع من السما طياح

ذيابة الخـــلا أكلي وغبـّـبي      ملّي المجــاحر واهتني بارواح

وبعد معركة الحنو راسل الإخوان أهل تربة للدخول معهم في التديّن والجهاد فحصل نوع موافقة من بعضهم, وذهب إليهم بعض الدّعاة الذين قبض عليهم عبد الله "البيه" فيما بعد وقتلهم (99) .

 مكث أهل الغطغط بعد معركة الحنو في الهجرة عند خالد قرابة شهرين,  وبعد برء جراحهم قالوا: قد انتهت مدّة الجهاد, فبعضهم وبخاصّة أهل السّريّة الأولى كان لهم ما يزيد عن الخمسة أشهر عن بلادهم بعد معركة جبّار, وعادوا لديارهم, وأثناء سيرهم جاءهم صارخ الإخوان؛ أن عودوا فقد عاد الشريف مع "القرين" . فقالوا : اطلبوا الله لسنا بعائدين إليكم قريباً!.

 ولما وصلوا نهرهم سلطان بن بجاد, وهجرهم ثلاثة أيام لقدومهم قبل استغناء إخوانهم عنهم, وأقبل الشريف حمود بن زيد على القرين .

معركة "القُرَيْنِ"

( 17 صفر1337)

  القرين مضيق في الوادي الكبير, ويصب فيه شِعْب متوسط, ويقع جنوب غرب الخرمة بنحو عشرين كيلاً .

 جاء جيش الشريف بقيادة حمود بن زيد, الذي كان قد هُزم في حوقان وجبّار, وقد تأخر بحمد الله عن القدوم للخرمة, ولم تتم خطته مع أخيه شاكر حينما اتفقا بأمر حسين على غزو الخرمة من الجهتين _ إن صحّت الرواية _ وعلى الرواية الأخرى؛ أنّ قائد جيش الشريف في القرين هو شاكر وليس حمود, الشّاهد أنّه بعد وقعة الحنو بشهرين جاءه الإخوان وهو يجهّز لهم في القرين, فغزوه في ثكناته وكما قيل: ما غُزِيَ قومٌ في عقر دارهم قطّ إلّا ذلّوا, فكانت معركة القرين عظيمة, مع عدم التعبئة الكاملة للإخوان, لكنّ الله أنزل نصره وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده, وطارد الإخوان فلول الشّريف حتّى مغيب الشمس وحلول الظلام, كما حدث في الحنو, وكان شاعر الشريف يهجو الإخوان بقوله:

 يا تيوس يقوّدها خـــروف      واجتلبها على المــوت الحمر

حالـف ما أديّن لين أشــوف      لين أوصّــل لبو فيصل خبر

فقال الإخوان: ردّ يا مناحي عليه, قال: ليس الآن . فقتله نايش بن هرسان في القرين (100) فلمّا جندله ورآه الإخوان قال شاعرهم مناحي بن غبيشان حينئذ:

عيّدوا بفلان أهل الســيوف      ونحــمد الله على البيه الخطر

نحمد اللي جمع كل الشـفوف      نصرة للديــن طار بها الخبر

يا كليـب بقلفـته محـذوف       عند حـــوقان دعته القدر

كانت مجموعه من الإخوان يصلّون صلاة العصر في شعب الجوفاء (101) فجاءهم الصّائح وهم يصلون خلف إمامهم ابن حسين, فأوجزَ الصّلاة, ثمّ تواثبوا على ظهور الخيل, معهم محسن بن خالد, وطاردوا خيل الشريف, وقتلوا منهم الكثير, ووصلوا القرين والشريف نازل فيه, وتتابعت نجدات الإخوان واشتدّتِ المعركة, إلاّ أنّ الليلَ منع الإخوان من مطاردة العدو, فهرب الشريف ومن معه, وقتل مع الشريف رجل كان من قدماء الإخوان, قبل أن ينقلب على عقبيه لخوفه على نخلاته من قطع الشريف لها! نعوذ بالله من الحور بعد الكور, ومن الضّلالة بعد الهدى.

وفي رواية مشرع الكرناف قال: أرسلنا الشريف من القرين للإخوان وأَمَرَنَا باغتيالهم بالرّصاص أثناء صلاتهم . قال : إذا كبّر بنو رقعان للصّلاة فضعوا الرّصاص في ظهورهم, قال: فانطلقنا عشرة فرسان, ولمّا أقبلنا عليهم _وكان تحتي فرس صفراء_ إذ لمحتنا امرأة كانت تحتطب, فأسرعت لخالد فأخبرته الخبر , فكمنّا ننتظر وقت صلاتهم حتّى نقتل كبارهم وهم في الصّلاة, ولمّا علم خالد, أمر بضعة فرسان عليهم ابنه سعد ومعه العطيّب وهو عبد الله بن بعيجان ومجموعة من الفرسان الأشدّاء؛ بأن يدوروا من خلفنا ويرموننا من ظهورنا, وفعلاً لمّا كنا ننتظر وقت الصّلاة ونحن على خيلنا, إذ تَعَقّدَتْ ظُهُور الخيل من تحتنا من أجل سماعها دَكَكَ الخيل من خلفها, ولم ننتبه إلّا ونواصي الخيل نازلة علينا من خلفنا هابطة من الشعب, فرمونا بالمشط الأول وهربنا, وأسقطوا أحد فرساننا من فرسه وأسروه, وأسقطوا آخر, لكنا أردفناه معنا وغنموا فرسين, فلمّا أقبلوا به على خالد قال لهم: هل أمّنتم الرجل أم لا؟ فقال الإخوان: لا, فقال خالد: اذهب به يا فلان _ابن عم الأسير_  فاقتله, فضربه برصاصة في رأسه . فَأَمَرَ الرجل بقتل ابن عمه كما طلب عمر رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل قريبه بعد بدر, وأن يقتل عليٌ قريبه كذلك, ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) .

ثم انطلق الإخوان قد ثار غبار خيلهم, حتّى وصلوا "القُرَيْن" فنازلوا الشريف, وقتل من جند الشريف ذلك النهار أكثر من سبعين.

واستشهد من الإخوان الكثير في تلك المعركة, منهم محمد بن زايد كذلك ابنه عجب, ثمّ هرب الشريف لمركزه في عشيرة بعد هذه الهزيمة, ورحم الله ابن المبارك حينما قال حاثّاً على الجهاد :

رِيْحُ العَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرُنَا      رَهَجُ السّنَابِكِ وَالغُبَارُ الأَطْيَبُ

ويقال: إنّ الهجوم من الإخوان كان في اليوم الثاني بعد صلاة الظهر,  واستمرت المعركة إلى قبيل المغيب قبل انهزام جيش الشريف, وطاردوا فلول الشريف إلى العشاء الآخرة, وقد حضر المعركة من كبار الإخوان صقر العواجي ومن معه من بيشة _ وهو الذي أسقط ذلك الرجل الذي كان من الإخوان ثم انتكس على عقبيه _ ثم سدد فم البندقيّة له, فصاح فيه ذلك الرجل: أنا فلان! فقال صقر: ما حضرت إلا لقتل المرتدين أمثالك فقتله .

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ والرّمْحُ شَاجِرٌ       فَهَلّا تَلَا حَامِيْمَ قَبْلَ التّقَدّمِ

(ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا . وصدق البستي – رحمه الله – إذ يقول:

وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الدِّينَ يَجْبُرُهُ      وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ

وكان سلطان أبا العلا قد وصل للإخوان, معه أربعة عشر من جماعته أهل سَنَام, وليس معهم سوى فرس سلطان "الوشعاء" فحضروا القرين مع الإخوان, كذلك ابن عفيصان معه الدواسر, وآخرون من مدد الإخوان الذين شاركوهم  معركة القرين . قال المؤرخ محمد بن بليهد يذكر بعض معارك الإخوان:

قُرَيْنٌ وَحَوْقَانٌ وَحِنْوٌ مَصَارِع       وَجَـبَّارُ لِلْبَاغِيْنَ لَيْسَ بِجَابِرِ

"معركة عشيرة"

( ربيع الأول 1337)

        وبعد القرين هجم الإخوان على عشيرة, وتقع شرق الطائف بمرحلة, وتعتبر مركز التموين لجيش الشريف, وقد بدأت جموع الشريف تجتمع فيه انتظاراً لعبد الله البيه القادم من المدينة النبويّة بعد قضائه على التّرك فيها, فجاء متفرّغاً لحرب الإخوان, وللوفاء بوعده الذي قطعه لوالده بتأديب المديّنة, وكان عدد الإخوان المهاجمين ثلاثمئة, ثمانين من الخيّالة والبقية من الهجّانة _بناءً على تقرير وزير حربية الشريف_ أتوا من الخرمة رأساً إلى عشيرة, فبدّدوا مَنْ كَانَ بها من جنود الشريف وأخذوا مدفعين جبليين, وغنموا ثمانمئة كيس من الدقيق والأرز, ثمّ عادوا للخرمة .

      قال المؤرخ محمد العلي العُبيّد رحمه الله وكان قد سكن الخرمة قبيل اشتهار التديّن كظاهرة, سنتي (1330_1331) عند خالد بن لؤي . قال عن معركة عشيرة بتصرف واختصار: إنّ الإخوان قدموا عليها تحت ثمان رايات, خالد بن لؤي, وسلطان بن بجاد, وسلطان أبا العلا, ونجر بن حجنة, وناصر بن عمر, فلما دنوا من الأبرق تشاوروا, فقال خالد: نقسم خيلنا قسمين كلّ قسم مئة مردفة بمئة, فقسم يغيرون عليهم شمالاً حتّى ينزلوا عليهم من الحرة, ثمّ ينزل الردفاء وهم الرماة في الأرض معهم الخيّالة, ويمطروا الرّصاص على أهل الماء ومن حولهم, أمّا المئة الثّانية فتغير عليهم مُجنِبَةً حتّى تستقبلَهم إذا فرّوا سِرَاعاً مبادرين الرّيع المؤدي إلى السّيل وهو وادي محرم, أمّا الجيش براياته الثمان؛ فيُغيرُ غارةً واحدةً على المدافع وعلى الجموع المحتشدة في عشيرة, فمن قُتِلَ قبل أن يصل فهو شهيد, ومن لم يقتل فليقاتل على قدر شجاعته لا يدّخر منها شيء . فرضوا رأي خالد وعملوا به, فهزموا الجموع الغفيرة من جند الشريف وقتلوا أكثر رجالهم, ولم يمض ثلاث ساعات حتّى خلا المَطْرِحُ (102) إلّا من القتلى أو الإخوان الّذين بقوا يومين يقسمون الغنائم .
إبراهيم الدميجي

ع ق   1271

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..