الصفحات

الخميس، 1 مارس 2012

الفرق بين شك المتفلسفة والشك الذي قد ينسب إلى الرسل عليهم السلام




فهمت من كلام بعض الناس أنه قد يستدل بقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا‏)‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏110‏] على أن الشكاك الذين ظهروا الآن معذورون في
ذلك‏؛ فكتبت جوابًا في تفسير هذه الآية ودلالتها على وقوع الشك من الرسل أو أتباعهم ، وقد تضمن بيان ما يشرع فعله عند الابتلاء بالشر ، وإبطاء الموعود به ، وهذا مما يحتاج إليه الناس أيضًا، ولا سيما في هذه الأوقات...       
فجوابًا عن ذلك يقال :
قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا‏)‏ فيه قراءتان:‏ قراءة بتخفيف الذال في (كذبوا) وقراءة بتشديدها‏، وفي معناه ستة أقوال :‏
‏1- قالت عائشة - رضي الله عنها – وكانت تقرأ بالتثقيل ، وتنكر التخفيف: (‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ‏)‏ ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك...
لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم؛ فما هو بالظن‏ .
لم تكن الرسل تظن أنها قد كُذِبت .‏
فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار للمكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم.
2- وقال ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أن الرسل قد كذَبوهم، جاءهم النصر على ذلك...
3- وقال بعض المفسرين : وظن اتباع الرسل أن الرسل قد كذَبوهم ...
4- وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في رواية : كانوا بشرًا ضَعفُوا ويَئِسوا.
وقد فهم أبو جعفر ابن جرير الطبري – رحمه الله – أن معنى هذه الرواية : وظنَّتِ الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر .  
قال أبو جعفر: وهذا تأويلٌ وقولٌ ، غيرُه من التأويل أولى عندي بالصواب،  وخلافه من القول؛ أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعدِ الله إياهم، ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم؛ فيعذروا في ذلك، فإن المرسَلَ إليهم لأوْلى في ذلك منهم بالعذر . وذلك قول إن قاله قائلٌ لا يخفى أمره .
وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة ، فأنكرته أشد النُكرة فيما ذكر لنا .
5- وقال آخرون ممن قرأ قوله:"كُذِّبُوا" بضم الكاف وتشديد الذال ، معنى ذلك: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم ويصدِّقوهم ، وظنَّت الرسل، بمعنى: واستيقنت، أنهم قد كذّبهم أممهم، جاءَتِ الرُّسل نُصْرَتنا .
قال ابن جرير : وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلافٌ لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة ، لأنه لم يوجه"الظن" في هذا الموضع منهم أحدٌ إلى معنى العلم واليقين ، مع أن"الظنّ" إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهدة والمعاينة.
فأما ما كان من علم أدرك من وجه المشاهدة والمعاينة، فإنها لا تستعمل فيه"الظن" ، لا تكاد تقول:"أظنني حيًّا، وأظنني إنسانًا" ، بمعنى: أعلمني إنسانًا، وأعلمني حيًا .
والرسل الذين كذبتهم أممهم ، لا شك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة ...
6- وروي عن مجاهد في ذلك قولٌ هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين الذين سَمَّينا أسماءهم وذكرنا أقوالهم، وتأويلٌ خلاف تأويلهم، وقراءةٌ غير قراءة جميعهم ، وهو أنه - فيما ذُكِر عنه - كان يقرأ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا) بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال، وكان يتأوّله: استيأس الرسل أن يُعَذَّبَ قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا .
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها. ولو جازت القراءة بذلك؛ لاحتمل وجهًا من التأويل، وهو أحسن مما تأوله مجاهد ، وهو: حتى إذا استيأس الرسل من عذاب الله قومَها المكَذِّبة بها ، وظنَّت الرسل أن قومها قد كَذَبوا وافتروا على الله بكفرهم بها = ويكون"الظن" موجِّهًا حينئذ إلى معنى العلم ، على ما تأوَّله الحسن وقتادة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير هذه الآية في الفتاوى (15/ 175-195) ما ملخصه:
وقوله‏:‏ ‏(‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏)‏ قد يكون مثل قوله‏:‏ ‏(‏إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ‏)‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏.
والتمني هو التلاوة والقرآن، كما عليه المفسرون من السلف كما في قوله‏:‏ ‏(‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏)‏ ‏[‏البقرة‏:‏78‏]‏ .
والإلقاء في التلاوة لا محذور فيه إلا إذا أقر عليه، فأما إذا نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته فلا محذور في ذلك، وليس هو خطأ وغلط في تبليغ الرسالة، إلا إذا أقر عليه‏.‏
والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح، كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويسمون الاعتقاد المرجوح وهمًا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏‏ (‏إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا‏)‏ ‏[‏يونس‏:‏36‏]‏‏.‏
فالاعتقاد المرجوح هو ظن، وهو وهم، وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل‏)‏.
وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا‏:‏ يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحَّرق حتى يصير حُمَمَة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أو قد وجدتموه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ذلك صريح الإيمان‏)‏، وفي حديث آخر‏:‏ إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة‏)‏‏.‏
فهذه الأمور التي تعرض ثلاثة أقسام‏:‏
منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان، وإن كان لا يزيله، واليقين في القلب له مراتب.
ومنها ما هو عفو يعفى عن صاحبه .
ومنها ما يقترن به صريح الإيمان‏.‏
ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا كما أخبر الله عنه بقوله‏:‏‏ (‏أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى‏)‏ ولكن طلب طمأنينة قلبه‏.‏ كما قال‏:‏ ‏(‏وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏)‏، فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي صلى الله عليه وسلم شكًا لذلك بإحياء الموتى، كذلك الوعد بالنصر في الدنيا يكون الشخص مؤمنًا بذلك، ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن ، فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب، فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد، وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب؛ فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث‏.‏
وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمنين؛ فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله‏:‏ ‏(‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ‏)‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏‏.‏
وإذا كان الاتساء بهم مشروعًا في هذا وفي هذا؛ فمن المشروع التوبة من الذنب، والثقة بوعد الله، وإن وقع في القلب ظن من الظنون، وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب، كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما [إذا]كان المتبوع معصومًا مطلقًا‏؛ فيقول التابع‏:‏ أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر الذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ إن ذلك مجبور بالتوبة، فإنه تصح معه المتابعة، كما قيل‏:‏ أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر، ومن أشبه أباه ما ظلم‏ .
والله تعالى قص علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب.
وأما ما ذكره سبحانه أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها، ولم يتوبوا منها، فهذا هو المشروع‏ .‏
فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم، وإن كان ما أمروا به أبيح لهم، ثم نسخ، تنقطع فيه المتابعة، فما لم يؤمروا به أحرى وأولى.‏
وأيضًا، فقوله‏:‏‏ (‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ‏)‏ قد يكونوا ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه، فهذا جائز عليهم ، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب، وكان كذبًا من جهة [أنه]ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه‏.‏
فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به؛ فهذا لا يكون..‏.‏
ومما ينبغي أن يعلم أنه سبحانه ذكر هنا شيئين‏:‏
أحدهما‏:‏ استيئاس الرسل‏.‏
والثاني‏:‏ ظن أنهم كذبوا‏.‏
وقد ذكرنا لفظ‏:‏ ‏(‏الظن‏)‏، فأما لفظ‏:‏‏(‏استيأسوا ‏)‏، فإنه قال سبحانه‏:‏‏ (‏حتى إذا استيأس الرسل)‏ ولم يقل‏:‏ يئس الرسل، ولا ذكر ما استيأسوا منه... بل أطلق وصفهم بالاستيئاس، فليس لأحد أن يقيده بأنهم استيأسوا مما وعدوا به، وأخبروا بكونه، ولا ذكر ابن عباس ذلك‏.‏
فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مطلقًا، فمن المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصر مطلق كما هو غالب إخباراته؛ لم يقيد زمانه، ولا مكانه، ولا سنته، ولا صفته، فكثيرًا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم ينزل عليها خطاب الحق، بل اعتقدوها بأسباب أخرى...
ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئًا؛ فيكون الأمر بخلاف ما ظنوه؛ فقد يظنون فيما وعدوه تعيينًا وصفات؛ ولا يكون كما ظنوه، فييأسون مما ظنوه في الوعد، لا من تعيين الوعد...
والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، لكن لا يقرون عليه، وإذا كان في الأمر والنهي؛ فكيف في الخبر ‏؟‏!
فإذا كان من الجائز في باب الأمر والنهي أن يظنوا شيئًا، ثم يتبين الأمر لهم بخلافه، فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولى والأحرى، حتى إن باب الأمر والنهي إذا تمسكوا فيه بالاستصحاب، لم يقع في ذلك ظن خلاف ما هو عليه الأمر في نفسه، فإن الوجوب والتحريم الذي لا يثبت إلا بخطاب؛ إذا نفوه قبل الخطاب، كان ذلك اعتقادًا مطابقًا للأمر في نفسه، وباب الوعد إذا لم يخبروا به قد يظنون انتفاءه...
وما أكثر من يظن من الناس أنه من أهل الوعد، ويكون [الغلط] في ظنه أنه متصف بما يدخل في الوعد لا في اعتقاد صدق الوعد في نفسه ‏.
فقد يظن الإنسان في نفسه أو غيره كمال الإيمان المستحق للنصر، وأن جند الله الغالبون، ويكون الأمر بخلاف ذلك‏.‏
وقد يقع من النصر الموعود به ما لا يظن أنه من الموعود به ، فالظن المخطئ [في] فهم ذلك كثير جدًا، أكثر من باب الأمر والنهي مع كثرة ما وقع من الغلط في ذلك، وهذا مما لا يحصر الغلط فيه إلا الله تعالى، وهذا عام لجميع الآدميين، لكن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يقرون، بل يتبين لهم، وغير الأنبياء قد لا يتبين له ذلك في الدنيا‏.‏
ولهذا كثر في القرآن ما يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتصديق الوعد والإيمان، وما يحتاج إليه ذلك من الصبر إلى أن يجيء الوقت، ومن الاستغفار لزوال الذنوب التي بها تحقيق اتصافه بصفة الوعد، كما قال تعالى‏: ‏‏(‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ‏)‏ ‏[‏الروم‏:‏60‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏(‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏)‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏77‏]‏‏.‏ والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة‏.‏ والله تعالى أعلم‏. .فؤاد أبو الغيث
ع ق 1318

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..