الصفحات

الأحد، 4 مارس 2012

تقليص الفجوة بين المثقف وأمته


ما يزال الحديث عن العلاقة بين المثقف والسياسي متواصلا بتواصل القطيعة القائمة بين أهل الفكر وأهل الحكم، إلى درجة أن بعض المتتبعين لمسار هذه العلاقة في الآونة الأخيرة وصفوها بكونها أزمة تاريخية مستعصية، مستدلين في ذلك بكونها ترجمة لطبيعة الصراع الحاصل بين منهجين في التغيير يقوم أولهما على المثالية النظرية ويعتمده المثقفون والمفكرون، بينما يقوم ثانيها على المكيافيلية النفعية، ويتبناه السياسيون ورجال الحكم.

لسنا مع تصنيف المبدعين والعاملين في الحياة العامة إلى مثقفين وسياسيين، ذلك أن الأصل في السياسي أن تكون له أرضية فكرية ثقافية يتحرك وفقها ويرسم خططه على هديها، وإلا كانت حركته ضلالا وتيها، كما أن الأصل في المثقف أن يكون له حد أدنى من الفقه السياسي بالواقع وما يعتمل فيه من مذاهب وأفكار ومناهج، وما يشغل الناس حتى لا تكون تنظيراته وتوجيهاته في منأى عن معاناة المجتمع وانشغالاته، وبالتالي يكون كمن يقف في برج عال يتأمل غريقا دون أن يمتلك القدرة على إنقاذه. إن هذا التصنيف ليس إلا تصنيفا إجرائيا أملته الحاجة إلى بحث سبل التقاطع والتكامل بين ركنين أساسين من أركان النهوض بالأمة العربية الإسلامية إلى مصاف الدول المتقدمة وضمان الحياة الكريمة لأفرادها.

لقد ظل الذين يتطرقون لهذا الموضوع الحي، ولهذا الموضوع الجديد القديم يبحثون في حدود مسؤولية كل منهما عن هذا الواقع الذي نعيشه، بل ألفت في سياق ذلك كتب ومؤلفات، وعقدت للغرض نفسه ندوات هدفت كلها إلى تحديد مسؤوية كل منهما، أو على الأقل إلى تحديد مستوى العلاقة بينهما.

والواقع أن كل القرائن التاريخية والمعطيات الواقعية تؤكد أن للسياسي وللمثقف معا دورين هامين في الحياة العامة يشكلان وجهين لعملة واحدة، يستحيل فصل إحداهما عن الأخرى.

إن استمرار النقاش حول دور المثقف والسياسي في النهوض بواقع التردي الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية إنما يعكس حقيقة القطيعة الحاصلة بين هذين الركنين الأساسين وبين المجتمع، وبالتالي يبقى السؤال المطروح الذي لابد من البحث له عن جواب هو: هل فقد المجتمع ثقته في السياسي وفي المثقف؟ وإن كان ذلك كذلك فما شروط استعادة هذه الثقة المفقودة؟.

أفرد العديد من الكتاب العرب حيزا هاما في كتاباتهم لهذه الإشكالية، محاولين تلمس نقطة البدء نحو إعادة ترميم ما فسد من العلاقة بين هذين الركنين، وتوصلوا إلى أن تغييب السياسي والمثقف للمتلقي العام من سلوكهما وخطابهما أدى إلى حصول ما نراه اليوم من قطيعة بين المجتمع برمته وبجميع طوائفه، وبين السياسي والمثقف.

1- حب مفقود

ليس ثمة كلام كثير حول "السياسي" على اعتبار أن المثقف هو الذي يتولى في غالب الأحيان مخاطبة الناس بما ينتجه من خطب وأفكار، بينما يتوجه السياسي لتنفيذ برامج موضوعة من طرف الجهة التي يمثلها. لكن يمكن القول إن هذه الفجوة بين المجتمع وبين رجلي الفكر والسياسة، التي تزداد اتساعا في أيامنا هذه، إنما مردها إلى غياب عنصر الحب المتبادل بين الطرفين، فلا المجتمع يحب السياسي ولا المثقف، ولا السياسي والمثقف قادران على حب المجتمع ومخالطته.

كتب الدكتور طه جابر العلواني يوم كان رئيسا للمعهد العالمي للفكر الإسلامي مقالا في العدد الأول من مجلة "الكلمة" أكد فيه أنه لا مجال لتقليص الفجوة بين المثقف ومجتمعه إلا بتوافر شرط الحب، حب المثقف لأمته ومجتمعه، فقال موضحا قيمة هذه الخلق العظيم:" أظن أن هناك آدابا يمكن رصدها ويمكن جمعها، ويمكن أن نشكل من مجموعها منهجا يسد الفجوة بين المثقف والأمة... فحينما تتعرض الأمة لمحاولة تجهيل متعمدة، تجعل منها أمة ذات عقلية عوام وطبيعة قطيع(كما وصفها الجاحظ في منتصف القرن الثالث الهجري) فتصاب بكل هذه الأمراض ويكون المثقف منتميا لهذه الأمة. لكنه في الوقت نفسه أوتي حظا من العلم والمعرفة، من الفكر والمنهجية والثقافة، يسمح له أن يكون شيئا آخر، أن يكون عاملَ تغيير وإصلاح في مجتمعه. وفي هذه الحالة هو مطالب بأن يلتفت إلى هذه المداخل كلها، ولعل أهمها هو حب الأمة، يُعلم نفسه كيف يحبها رغم كل ما فيها، كيف يفرض على نفسه الانتماء إليها سواء عاش في أوساطها أو تابعها من الخارج. ينبغي أن يشعر بآلامها وآمالها، يحاول أن يكون تجسيدا لها. ويوم ينفصل عنها، يصبح خطابه باردا، جامدا".

2-خاطبوا الناس على قدر عقولهم

وحتى يتجاوز المثقف حالة الغربة التي يعيشها في مجتمعه، ويتجاوز الحدود بينه وبين أمته، أكد الدكتور العلواني أن المدخل لذلك اعتماد توصيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أحكمها، حين أمر بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، خشية أن يكذب الله ورسوله، وأن يُنزَلَ الناس منازلهم".

إن المثقف، ومعه نظيره السياسي، مطلوب منهما حب أمتهما، حبا خالصا لا تشوبه شائبة تحقيق مصلحة خاصة ولا حزبية، على أن حبهما للأمة يعطيهما فاعلية ومشروعية، ويجعل لكلمتهما مسلكا لاختراق آذان الناس وعقولهم لتصل إلى قلوبهم، ومتى وصلت هذه الكلمات إلى القلوب حصلت الاستجابة.

3- لا مجال للشعور بالعظمة والاستعلاء

ثمة سبب ثالث لا يقل أهمية عن غياب حب المثقف لأمته، يجعل أهل الفكر والسياسة في غربة وهم بين أهليهم وذويهم، ويتعلق الأمر بمنطق الاستعلاء الذي يتعامل به السياسيون والمثقفون في تناولهم لقضايا الواقع العربي والإسلامي. هذا الشعور بالاستعلاء يجعل المثقف والسياسي على حد سواء يشعران بأن المجتمع لا يقدر مجهوداتهما ولا يتفهمهما ولا يرغب في الاقتناع بما يدعوان إليه، وهو الأمر الذي يخلف بالنسبة إليهما معا شعورًا بالانفصال والغربة عن الأمة، وهو شعور طالما يتحول عندهما إلى اتهام المجتمع بالمرض. وهكذا تزداد الفجوة اتساعا، بل ليس غريبا أن يواجه المثقف على سبيل المثال بالرفض المطلق لما يدعو إليه. والحاصل أمام هذا الوضع شعور الأمة بأن مثقفيها وسياسييها ليسوا منها ولا يعكسون واقعها، وشعور أهل الفكر والسياسة بأن أمتهم مريضة، وبالتالي تضيع قناة التواصل بين الطرفين.

لقد أصبح مطلوبا من أهل الكلمة أن يبحثوا عن المداخل الحقيقية للمجتمع إن هم أرادوا حقا تجاوز حالة القطيعة التي تحول دون تحقيق تواصلهم مع المجتمع. وفي هذا السياق أشار طه جابر العلواني في مقاله سالف الذكر إلى ضرورة الالتزام بالمداخل التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث حب الناس والسعي في مصلحتهم والرفق بهم والصبر عليهم والصدق معهم وما إلى ذلك من مداخل حددتها السيرة النبوية العطرة. وكلها مداخل إن التزم المثقفون والسياسيون بها استطاعوا إن يوصلوا رسالتهم إلى قلوب المتلقين كلهم.

4- التنمية تستنبت ولا تستورد

ثمة سبب آخر يجعل القطيعة بين المثقف والمجتمع تزداد اتساعا، ويتعلق الأمر بكون عدد كبير من السياسيين ورجال الفكر يبنون مشاريعهم التغييرية وتوجهاتهم الفكرية دون الاعتماد على توجيهات الإسلام في العديد من القضايا، وهو ما يجعل هذه الأفكار والبرامج غير ملتفت إليها ولا محتفل بها. يضاف إلى ذلك أن التنمية، كما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، عملية تستنبت ولا تستورد، بمعنى أنه لتحقيق التنمية في وطننا العربي والإسلامي لا بد من الاعتماد أولا على مقوماتنا الذاتية وخصوصياتنا الحضارية، وبالتالي لا يستساغ الاعتماد على خطط وبرامج وأفكار الآخر لأن الظروف حتما مختلفة والإنسان العربي ليس هو الإنسان الأوروبي أو الأمريكي.

يقول المفكر زكي الميلاد في إحدى مقالاته:"هذا الدين، الذي مثل أعظم تحول حضاري في تاريخ العالم والحضارة الإنسانية، هو اليوم من الأمور المجهولة بين (غالب) المثقفين في العالم العربي والإسلامي. الجهل الذي يقابله انفتاح واطلاع واسع على الفكر الأوروبي في مرجعياته الفلسفية والأدبية والاقتصادية والسياسية، وهي حقيقة من الصعب أن يخفيها المثقف العربي عن نفسه.

وقد تركت مشكلة المثقف مع الدين تداعيات حساسة وحادة في علاقته بالناس، حين أخذ يثير الشكوك، ويعبر عن أفكار ومفاهيم تصطدم بشكل صريح مع الدين، الأمر الذي تسبب في قطيعة عميقة ومستعصية بينه وبين الناس، أفقدته مكانته وتأثيره وحضوره. وهي المشكلة التي كرّست عزلة المثقف، وأجهضت مشروعه في التغيير الثقافي، وعطلت أهم أدواره في الحقل الاجتماعي".

إن المثقف في العالم العربي والإسلامي، إن هو أراد أن يتمثل دور النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، أي أن يخالط الناس ويصبر على أذاهم ويكون بهم رحيما رفيقا مصلحا، مطالبٌ، على الفور لا على التراخي، بأن يُعيد النظر في درجة التزامه بمبادئ وأخلاق الإسلام، كما هو مطالب بالانحياز لصف الجماهير والذود عنهم.

إن الإشارة التي أشار إليها الدكتور طه جابر العلواني، حين أكد أن من وظيفة الأنبياء أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، تحيل إلى التصنيفات التي حددها الأستاذ زكي الميلاد حين تطرق إلى التمييز بين المثقف المتشبه بالنبي والمثقف الفيلسوف، واعتبر أن الأول هو المثقف الذي تريده الأمة العربية والإسلامية في وقتها الحاضر، كما اعتبر في الوقت نفسه أن المثقف، الذي يمتلك نصيبا من العلم والمعرفة، قادر على أن يقوم بوظيفة الإصلاح والتغيير وتوفير سبل النهوض لمجتمعه إن هو تمثل في شخصيته حقا دور النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، آخذا بعين الاعتبار المداخل التي حددها الإسلام والتي سبقت الإشارة إليها.

إن الواقع الحالي لدرجة قرب أو بعد المثقفين خاصة من المجتمع يؤكد أن هذه الشريحة المعول عليها في صقل الهمم وشحذ الفعاليات وتنوير الرأي العام بما ييسر الوصول إلى بر الأمان قد انحازت لصف النموذج الثاني، أي لصف المثقف الفيلسوف. وفي هذا السياق أشار زكي الميلاد إلى أن الفيلسوف هو "من يعيش في عالمه الخاص، في كهف مهجور، ويتحدث بلغة لا يفهمها الناس ... أما المثقف المصلح حقا فهو الذي يعيش في عالم الأمة ويحمل لها رسالة الإصلاح والتغيير، ويتحدث بقدر عقول الناس، ويتحمل الصعاب والتعب والمشقة في سبيل رسالته وأمته.

إن المثقف النبوي هو الذي قاوم الظلم والاستبداد والطغيان ودافع عن حقوق الناس وطالب بالعدل والحرية، وكان يضحي بنفسه في سبيل خلاص الناس... وهو ـ في الحقيقة ـ الذي حرك التاريخ وصنع الأمم وبنى الحضارات". فما أحوج الأمة لمثل هذا النوع وما أحوج المثقفين أيضا أن يتمثلوه.


المصدر: موقع الشبكة الإسلامية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..