الصفحات

السبت، 19 مايو 2012

يقول المثل عش رجبا ترى عجبا وأقول عش هذا الزمان وترى ما لم يكن وكان

بقيت أدافع الرغبة العارمة للتعليق على تصريحات معالي الشيخ الدكتور عبد المحسن العبيكان وتعليقات أصحاب السعادة والفضيلة والمكرمين عليها. بيد أن أحد طلابي ممن حصلوا على رخصة السواقة الدكتوراه عاتبني بشدة لامتناعي عن الحديث عن قضية "النصح في السر لذوي السلطان" وقد كنت درّسته وغيره مواد في
أحكام الدعوة وأساليبها ووسائلها.

وكنت أدافع الرغبة الملحة لأني عندما كنت أقرأ بعض التعليقات ومن بعض الشخصيات لا أملك إلا أن أقهقه، تنفيسا عن الألم الذي كان يعتريني عند التمعن في ما أقرأ.

فمثلا يرى البعض أنه من الشجاعة والشهامة تحت لواء الحرية (معبودة هذا الزمان أو قل "موضتها" أن نسلخ، إلى غير القبلة، من لا نحب أو نكره من أصحاب السلطة، علنا، في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية... أما أن يشخص معالي العبيكان حالة غير صحية موجودة بين أصحاب القرار في الوصول إلى المسئول الكبير أو الحرمان منه، في حديث إذاعي فهذا مما حرمه الله وحرمته معبودتنا، الحرية الغربية المثلى، والمبادئ الأخلاقية اللادينية والبشرية جمعاء...

وتجنبا لإساءة فهمي أؤكد أن هذه الحالة غير الصحية قد تحدث بقصد، وقد تحدث بغير قصد، وقد يضطر إليها أصحابها للموزانة بين ضغوط متعارضة أو مطالب كثيرة...

كما يرى البعض أن من الفضائل الصمود في الحق، ولكن الحق هو رأيهم ورأي مشايخهم، وإن خالفت المدلولات الصريحة لنصوص الكتاب والسنة. بل تصل درجة التحزب والإصرار إلى رفض صاحب السلطة في النشر حتى التحاور مع المختلف للوصول إلى الحق والصواب في المسألة المختلف عليها، وإن كان في العلوم التي تستند إلى الكتاب والسنة وتحتكم، في النهاية، إليها.

بمراجعتي لحديث معالي الشيخ العبيكان تبيّن لي أن نصيحته أو تشخيصه ليس موجها للملك حفظه الله وسدده وسدد جميع المخلصين للحق والصواب، ولكن لمن لديه سلطة في السماح له بمقابلة الملك أو عدمه.

وهنا تكمن المشكلة الأولى فتشخيص الشيخ العبيكان ليس "نصيحة" لولي الأمر حتى نحشر حكم النصيحة الجهرية للسلطان، سواء أكان تحريمه، أو الانكار عليه، أو...

وتكمن المشكلة الثانية في تعميم الأحكام بصرف النظر عن اختلاف التفاصيل في الواقع. وهذه مشكلة بل وباء ينتشر بين كثير من الناس بدرجات متفاوتة، ومنهم قادة الرأي والفكر والباحثون والدعاة والعلماء، وفي جميع المجالات. وهذا التعميم ليس إلا انعكاسا للسطحية في فهم الأشياء وفي وصف الظواهر الموجودة في الواقع، ثم في التعامل معها.

ومن الأمثلة على اختلاف الواقع أن يكون أحدهم قريبا من صاحب السلطة (من يملك القرار النهائي) فيلح عليه بآراء قد تكون صحيحة في ذاتها، ولكن هناك حاجة ضرورية إلى الموازنة بينها وبين آراء أخرى معارضة قد تكون هي أيضا صحيحة في ذاتها. وهنا يفصل في الموضوع إلمام صاحب السلطة بالموضوع من جميع جوانبه، حسب تقديره، أو المستشار أو المستشارون. وهنا يتصارع أصحاب الآراء المتعارضة فتستخدم كل فئة منها ما يتوفر لديها من وسائل القوة: "القرب"، قوة الإقناع، والنفوذ و...

وأرجو التنبه إلى أن صاحب السلطة والقرار النهائي قد يكون "المراسل" وليس شرطا أن يكون صاحب سمو أو معالي أو سعادة... فالمراسل، مثلا يملك قرار إيصال الرسالة إلى صاحبها، أو عدم إيصالها، ولاسيما إذا كانت الرسالة ليست معلنة، ولو بتسجيلها لدى جهة رسمية (بريد مسجل يتطلب التوقيع عند الاستلام والتسليم)...

وأقول "المستشارون" وليس من الضروري أن يكون ممن يحملون ألقاب رسمية، يتقاضون عليها مرتبات من بيت مال المسلمين، ولكن كل من يُستشار للاستفادة من رأيه في الترجيح بين الآراء المتعارضة، أو للتخلص من مسئولية القرار النهائي وإلقاء عبئه على شخص آخر... وقد يكون صاحب فضيلة أو لديه شهادة دكتوراه، أو صديق، أو موظف... وقد يكون من المؤهلين في إبداء الرأي في الموضوع المحدد، أو من الذين يفتقدون المعرفة أو الخبرة اللازمة للفتوى في الموضوع. وقد يكون ممن اختاره صاحب القرار النهائي لمعرفته الشخصية بقدراته، أو لأن أحد الذين يثق فيهم أخبره بقدراته أو أوهمه بها... فما أعظم تأثير فيتامين "و" (الواسطة) في حياتنا الخاصة والعامة!

ومن أمثلة اختلاف الواقع أنك تسر بالنصيحة أو المقترح إلى إنسان يهمك أمره والقرارات التي يتخذها أو السلوك الذي يصدر منه، ولكنه، إن لم يصعر خده لك أو يؤذيك، يتجاهلك تماما. فهل تستمر في تضييع وقتك بالنصيحة السرية؟ دعنا نتصور أن إنسانا يسبب لك أضرارا فورية أو مستقبلية فتنصحه بالهمس والطريقة المؤدبة ولكنه يتمادى ولا يلتفت إليك، فهل تستمر في الطريقة نفسها؟

ومن زاوية أخرى، لا شك أن من له نوع من الوصاية عليك، له مكانته الخاصة والطريقة الخاصة للتعامل معه، وذلك للمكانة الرسمية التي يحتلها أو المكانة الاجتماعية أو العلمية أو...  ومن الطرق الخاصة التي توفر احتمالا أكبر للتعديل والإصلاح هي السرية، ومنحه حقه من الاحترام والتقدير لإيجابياته قبل نقده على سلبياته ولنظرة المجتمع بعامة إليه. فلا يخلو مخلوق من الإيجابيات، وليس من العدل محو، مثلا آلاف الفتاوى الصائبة، ومحاسبته على فتاوى معدودة أخطأ فيها... ويكفي أن نتدبر قوله تعالى "الآمرون بالمعروف" و "يأمرون بالمعروف" و"أمروا بالمعروف" لنجد أن القاعدة العامة التي تعبر عنها العبارة، في ضوء البلاغة القرآنية، تعني الأمر بالمعروف من حيث المضمون ومن حيث الأسلوب أيضا.

وهناك قضية أخرى ذات علاقة بحرية الرأي والفكر والتصرف وهي قضية يصيح عامة الإعلاميين بها، ويلقون اللوم فيها على الأجهزة الحكومية، مثل وزارة الإعلام. ومع الأسف يلاحظ المدقق أن معظم الإعلاميين الذين يرفعون تلك الشعارات ويرفعون أصواتهم بها هم من الذين يمارسون عكسها تماما، يئدون أفكار الآخرين وآراءهم ويدفنونها ما لم توافق آراءهم أو هواهم أو أو أذواقهم، وليس فيها صلة صديق أو ليس فيها مصلحة شخصية... ويدرك هذه الحقيقة كل من عمل في مجال النشر، سواء أكان في وضع المقدم لشيء يستحق النشر في رأيه ورأي كثيرين، أو في مكان من يملك صلاحية اتخاذ قرار "صالح للنشر" أو "غير صالح للنشر". وينطبق هذا على كل من في يده تحديد صلاحية النشر، وذلك بدءا من رئيس التحرير إلى المسئول عن الصفحة الرياضية، الإخبارية، الثقافية...

فمما يثير السخرية أن كثيرا ممن يطالبون الجهاز الحكومي بحرية التعبير هم أنفسهم من يكتمون أنفاس التعبير، إلا لأنفسهم ومن يواليهم، أو لمن يرجون من ورائه مصلحة شخصية. وقليلا ما تكون مصلحة الوسيلة الإعلامية التي يعملون فيها هي الدافع. وأما المصلحة العامة، فهي وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية: السمعة، والشهرة، والأسبقية...

وقد تصل عملية التحكم وكتم أنفاس أصحاب الرأي الآخر درجة من التحزب للرأي والهوى والذوق، أو لرأي "شيخه" أو من له مصلحة شخصية عنده إلى اتخاذ قرار "غير صالح للنشر" بسهولة وبكل بساطة.
ومما له علاقة بالحرية والمسئولية ذلك الفهم المتناقض المضحك عند كثير من الذين يصرخون منادين بالحرية وبحقوق الإنسان في وقت واحد. فهم يعتبرون الجرأة على الله وكتابه العزيز والجرأة على نبي الله وسنته الموثقة نوع من الحرية المطلوبة. كما يعتبرون التعدي على معتقدات الدين الذي يدعون الانتماء إليه ودين المسلمين الآخرين وعلمائهم وتقاليدهم التي لا تؤذي الآخرين حرية تعبير...

وأما معاقبتهم على تعديهم على حقوق الآخرين ومقدساتهم فهي مخالفات  لحقوق الإنسان... وأتساءل أي إنسان هذا؟!

والحديث ذو شجون، ولكن معذرة على الإطالة أو التوقف.
سعيد صيني
27/ 6/ 1433هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..