الصفحات

الأحد، 13 مايو 2012

نظرية "فوكوياما" الجديدة حول الحداثة

د.  السيد. ولد أباه
اشتهر المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما على نطاق واسع بمقالته "نهاية التاريخ"
(1989) التي تحولت إلى كتاب مفصل صدر في مطلع التسعينيات. اعتبر الكتاب أوانها صياغة نظرية متفائلة لانتصار المعسكر الرأسمالي في الحرب الباردة ورهاناً على
حتمية انتصار الديمقراطية الليبرالية في العالم بأجمعه.

قبل ست سنوات أصدر فوكوياما كتابه "أميركا في مفترق الطرق"، الذي انتقد فيه السياسة الخارجية الأميركية للرئيس بوش المتأثرة بأطروحات "المحافظين الجدد"، الذي كان قريباً منهم فكرياً، معتبراً أن الديمقراطية لا تفرض بالقوة، وإنما هي حصيلة مسار تحديثي مكتمل.

أصدر "فوكوياما" مؤخراً كتاباً مختلفاً من حيث الطموح والتوجه، أراد أن يخرج فيه عن السجال الأيديولوجي، وأن يقدم نظرية كبرى حول التحديث السياسي توازي وتنسخ الأطروحات الفلسفية والاجتماعية المعروفة.

الكتاب يحمل عنوان "أصول النظام السياسي"، وهو المجلد الأول من عمل موسوعي ضخم حول مسار تشكل النظام السياسي. يتناول المجلد الأول الحقبة الممتدة من ما قبل التاريخ (بل من الأشكال الإنسانية الأولى) إلى الثورة الفرنسية، وسيتلوه جزء ثان يتعلق بالحقبة المعاصرة انتهاء باللحظة الراهنة.

ينطلق "فوكوياما" في كتابه الجديد من نقد جذري لأهم أطروحتين حديثتين في تفسير الانتقال من الحالة السياسية الوسيطة إلى نموذج الدولة الليبرالية الحديثة:

- أطروحة "حالة الطبيعة "التي شكلت الأفق الفلسفي للحداثة السياسية: المرور من حالة الحرية الفردية المطلقة غير المنظمة إلى الحالة التعاقدية بنظمها التمثيلية وشرعيتها السيادية (هوبز وروسو وكانط ولوك...). والمعروف أن هذه الأطروحة قد تم تحيينها ومراجعتها من الفيلسوف الأميركي المعاصر "جون راولز" في نظريته للعدالة التوزيعية الصادرة في مطلع سبعينيات القرن العشرين.

- أطروحة العقلنة التاريخانية والاقتصادية في نسختيها الماركسية والفيبرية: اكتشاف قانون لتاريخ المجتمعات الإنسانية يتحدد بحسب النظم الانتاجية وما تكرسه من تقاليد ومؤسسات تسيير بيروقراطي وإداري (الرأسمالية الحديثة).

في مقابل أن هاتين الأطروحتين المؤثرتين في الفكر السياسي، ينطلق فوكوياما من التصورات البيولوجية التي كانت حاضرة في أعماله السابقة، معتمداً نمطاً من الداروينية الاجتماعية المستندة للأبحاث الجديدة لتبيان صحة مسلمة البعد التشاركي الإيثاري في الطبيعة الإنسانية في ما وراء الاختلافات الثقافية والاجتماعية (على عكس القول بالطبيعة الفردية الأصلية للإنسان).

فبالنسبة لفوكوياما ليس النظام السياسي الحديث خياراً حتمياً في أي مجتمع ولا هو حصيلة عنصر محدد، بل هو نتاج معادلة تاريخية معقدة تلتقي فيها العوامل البيولوجية بالسياقات التاريخية والعقدية وبالمصادفات الظرفية.

ويجمل "فوكوياما" المحددات المحورية في النظام السياسي الحديث في عوامل ثلاثة هي: الدولة القوية الناجعة القائمة على تركيبة بيروقراطية فاعلة، وسيادة القانون بمفهومه الكلي المجرد، ومسؤولية السلطات الحاكمة أمام شعبها من خلال مؤسسات تكفل الشرعية. ولم تلتق هذه العناصر في مجتمع قبل المجتمعات الأوروبية في القرن الثامن عشر خصوصاً في أوروبا الشمالية (بريطانيا والدنمارك) وقد شكلت الثورة الفرنسية الأفق المرجعي لهذا التحول.

ومع أن الدولة القوية الناجعة ظهرت في الصين قبل أوروبا بعشرين قرناً بالانتقال من النظام الإقطاعي الأبوي(الباترمونيالي) إلى شكل الدولة البيروقراطية غير القرابية، إلا أن المجتمعات الآسيوية لم تتمكن من اكتشاف العنصرين الأخيرين، وبالتالي لم تلج أفق الحداثة السياسية. وقد اضطرب "فوكوياما" في تفسير أسباب التحديث السياسي في أوروبا (بريطانيا على الأخص) بإرجاعه إلى خلفيات متباينة، بعضها يرتبط بمسار تشكل الدولة وتقاليدها المحلية في التمثيل، وبعضها يتعلق بطبيعة الدين المسيحي الذي اعتبر أنه بلور فكرة سيادة الدولة وفكرة القانون الكلي ونظام العلمنة (مما يقربه من أطروحة فيبر – غوشيه التي ينتقدها بقوة).

ولا بد من انتظار صدور الجزء الثاني من الكتاب لمعرفة تطور رؤيته لمسار التوسع الديمقراطي في العالم، وأن كانت بعض الآراء الأولى في الموضوع تبرز جلية في ثنايا عمله الحالي. ومن أهم هذه الآراء الاحتفاظ بمسلمته السابقة حول انتصار القيم الليبرالية الديمقراطية أفقاً أوحد للتحديث السياسي، حتى ولو كان خفف من النغمة الحماسية التعبوية في الدفاع عن هذه الفكرة، التي تعود أصولها للفيلسوف الفرنسي "ألكسندر كوجيف" شارح "هيجل" المعروف.كما أن فوكوياما يرفض القول بالموانع الدينية والثقافية للتحديث، معتبراً أن النظام السياسي الحديث قابل للتأقلم مع كل السياقات الحضارية والاجتماعية لأن له جذوراً في الطبيعة الإنسانية في ثوابتها وقابليتها للتحول.

لا شك أن أطروحة فوكوياما بنيت على عدة نظريات ومفهوميات غنية ومتنوعة تدل على إطلاع واسع في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والبيولوجيا والاقتصاد والقانون، وإنْ كانت لا تصل به إلى مصاف فلاسفة التأسيس الاجتماعي.

ولعل نقطة الضعف الرئيسية في أطروحة "فوكوياما" هي تصوره للطبيعة الإنسانية والخلفيات البيولوجية لهذا التصور. فالسؤال الذي يولده هذا المنحى النظري يتعلق بتحميل المعطيات الحيوية مضامين معيارية وقيمية لا يمكن موضوعياً تقديم الدليل عليه.

وإذا كان الاتجاه الحيوي عريقاً في الدراسات الاجتماعية المعاصرة منذ "نتشه" وصولًا لدلوز وسلوتردايك، الا أن الخطورة تكمن في إضفاء صبغة وضعية عليه، بتحويل المفاهيم والافتراضات الفلسفية إلى مصادرات علمية تجريبية.

كما أن أطروحة "فوكوياما" لم تتبين الإشكالات النظرية المعقدة المتعلقة بالسلطة التأسيسية، أي اللحظة القانونية والاجتماعية السابقة على الشرعية القانونية.

إنه الاتجاه الذي يهتم به اليوم عدد من متتبعي مسار الحداثة السياسية من منظور نقدي غير تمجيدي لليبرالية، وفي مقدمتهم الفيلسوفان الإيطاليان "توني نجري" و"جورجيو أجامبن".

يمكن القول في نهاية المطاف إن الكتاب يحتاج أن يقرأ بتمعن في الساحة السياسية والفكرية العربية التي تعرف في أيامنا حراكاً غير مسبوق مفتوح على احتمالات عديدة. ولا شك أن "فوكوياما" يستحثنا على التفكير الجدي في ثلاثية الدولة القوية وحكم القانون وشرعية المؤسسات التمثيلية للأمة، باعتبار أن العلاقة العضوية والمتكاملة بين هذه العناصر هي محور ورهان نجاح التجارب الديمقراطية الوليدة التي نتجت عن حركية ما يسمى بـ"الربيع العربي".


نظرية "فوكوياما" الجديدة حول الحداثة | Al Ittihad Newspaper - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..