الصفحات

السبت، 9 يونيو 2012

حول دراسة القوانين الوضعية وتدريسها (2/2)

سبق في القسم الجائز من فتوى دراسة القوانين الوضعية ودراستها، للشيخ العلّامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله، النصُّ على الأغراض الأربعة، التي رَبَطَ حكم الجواز بها أو ببعضها، وهنا بيانها بما يحتمله المقام:

الغرض الأول: دراستها أو تولي تدريسها؛ لمعرفة حقيقتها.

وذلك أنَّ من يدرس القانون في هذه الحال، يُشترط أن يكون ممن لديهم تأهيل شرعي، وهم عادة من خريجي كلية الشريعة، ومن ثمّ فدراستهم للقانون، تفيد في الحكم عليه مثلًا؛ لأنَّ «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، كما هو معلوم، أي أنَّه لا يحق لأحدٍ أن يحكم على شيءٍ دون أن يكون مؤهّلًا، يُدرك حقيقته، ويدرك تكييف هذه الحقيقة شرعًا.

الغرض الثاني: دراستها أو تولي تدريسها؛ لمعرفة فضل الشريعة الإسلامية عليها.

وهذا داخل فيما يعرف بالدراسة المقارنة؛ وهي تتطلب كون المقارِن من أهل العلم بالشريعة والعلم بالقانون، فيما يُجري فيه المقارنة على الأقل؛ فهذا من شروط الدراسات المقارنة التي نصّ عليها علماؤنا السابقون، كأبي العبّاس ابن تيمية رحمه الله.

وهنا سؤال يتردد كثيرا بين عدد من الشرعيين، وهو: حكم المقارنة والموازنة بين الشريعة والقانون:هل يُعدّ انتقاصًا للشريعة، لوجود الفارق الكبير بين الشريعة الربانية الكاملة الشاملة، وبين القوانين الوضعية البشرية القاصرة بالنسبة للشريعة؟ وقد أجاب عنه الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله قديمًا، بقوله: «إذا كانت المقارنة لقصدٍ صالحٍ، كقصد بيان شمول الشريعة، وارتفاع شأنها، وتفوقها على القوانين الوضعية، واحتوائها على المصالح العامة، فلا بأس بذلك؛ لما فيه من إظهار الحق وإقناع دعاة الباطل، وبيان زيف ما يقولونه في الدعوة إلى القوانين أو الدعوة إلى أنَّ هذا الزمن لا يصلح للشريعة أو قد مضي زمانها، لهذا القصد الصالح الطيب، ولبيان ما يردع أولئك ويُبين بطلان ما هم عليه؛ ولتطمئن قلوب المؤمنين وتثبيتها على الحق.

لهذا كلّه لا مانع من المقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية إذا كان ذلك بواسطة أهل العلم والبصيرة المعروفين بالعقيدة الصالحة وحسن السيرة وسعة العلم بعلوم الشريعة ومقاصدها العظيمة».

وهنا أستطيع أن أقول بكل ثقة إنَّ أهم الدراسات المقارنة بين الشريعة والقانون، قام بها شرعيون درسوا القانون، أو قانونيون درسوا الشريعة بأمانة، وأنَّه بقدر عمق أصحابها في علم الشريعة والقانون، بقدر ما تكون أعمق وأقوى في كشف عظمة الشريعة، وسبقِها في تقرير المبادئ الفقهية المتنوّعة، وتفوّقها الطبعي على القوانين الوضعية؛ وقد كشفَت هذه الدراساتُ عظمة الشريعة وخاصّة لمن لم يتعلّمها، وبين يدي العشرات منها.

وقد تنوعت هذه الدراسات القيمة؛ فمنها ـ مثلًا- ما اختصّ بمقارنة أصول القانون بالشريعة الإسلامية، ومن أهمّها: «نظرات في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية» للعلّامة الشيخ عبدالكريم زيدان، وهو كتاب قيّم لا يستغني عنه دارس علم القانون.

ومنها ما اختصّ بمجال فقهي وفرع قانوني، ومن أهمها: «التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي»، للشيخ عبدالقادر عودة رحمه الله؛ وهو من الكتب المتميزة، ولا سيما مقدمته التي تُقرِّب القانوني من فهم الشريعة، والشرعي من فهم القانون.

ومنها ما اختص بمقارنة قانون وضعي في بلد معين بالفقه الإسلامي في مجال معين، مثل: «المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي» قارن فيه الشيخ سيد عبدالله حسين، خريج الأزهر ثم الحقوق الفرنسية، بين القانون الفرنسي المدني وبين مذهب الإمام مالك في أربعة مجلدات، وبرهن فيه على تأثّر مفاهيم القانون الفرنسي بمبادئ الفقه المالكي، بأدلة علمية، لا بعواطف مجرّدة؛ نُشِرَ عام 1366هـ (يوافقه 1947م).

الغرض الثالث: دراستها أو تولي تدريسها؛ للاستفادة منها فيما لا يخالف الشرع المطهّر.

وهذا ما ينبغي أن يعتني به دارسو القانون من أبنائنا؛ ويظهر ذلك في القوانين الإجرائية والإسنادية، التي تتطور بتطور الأمم في حياتها، كما يظهر في الإفادة من المناهج القانونية الحديثة في طريقة التأليف والتبويب للنظريات والمسائل، لتقريب الفقه الإسلامي إلى كثير من أبناء العصر ممن يعسر عليهم فهم طريقة المتقدمين التي تتطلب عالما لا مجرد باحث؛ ومن أهمّ هذه الدراسات: «المدخل الفقهي العام» للعلّامة الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله، وهو من الكتب التي ينبغي أن يعتني بها طلاب الشريعة وطلاب الأنظمة.

الغرض الرابع: دراستها أو تولي تدريسها؛ ليفيد غيره في ذلك.

وتظهر فائدته في الحوارات والخطاب الفكري والدعوي وغيره..

هذه إشارات ليس إلا، وللموضوع جوانب عديدة لا يحتملها المقام..


د. سعد بن مطر العتيبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..