الصفحات

الأحد، 5 أغسطس 2012

الليبرالية في آيات القرآن

ليست الليبرالية نظرية لها محددات، وليست صياغة لمفكر واحد ، ولا هي نظام لحل مشكلات الإنسان مفصلة. هي تراكم معرفي وبنية تحالفية بين نظريات تؤكد حق الإنسان بالحرية والانطلاق للإنجاز، وهي محاولة مستمرة لكسر القيد الذي يمنع الإنسان عن تحقيق مراده، وعيوب هذه النظرية عند خصومها هي مصادر قوتها عند المدافعين عنها باعتبارها نموذجا لاستيعاب حتى المتمرد عليها ومبغضها، وأنها لا تحمل موقفا عدائيا من اختيارات البشر أيا كانت وأنها تمتلك مرونة عالية في التكيف مع الأنظمة السياسية والقوميات والأديان وليس لها قوانين مفصلة تحد حرية حركتها أو حركة الإنسان معها، والليبرالية لا تقدم حلا نهائيا لمشكلات الإنسان والكون من حوله إذ إنها لا تؤمن بالحتميات ونهاية التاريخ.وكثير من الليبراليين يسعون بالملاءمة بين الليبرالية وطبيعة مجتمعاتهم الدينية والقومية ، بل والنظم السياسية باعتبار أن الليبرالية ليست صدامية ولا تسعى لإلغاء الآخر، وهي أشبه بقوة ناعمة لتحرير الفرد سياسيا واقتصاديا وإبداعيا وحقوقيا.

وكثير من النظريات والنظم والفكر التي جاءت لوضع حلول لمشكلات البشر تتفق مع الإسلام في جوانب، ولكنها تصطدم به في جوانب أخرى ، ولو سعت لتفادي الاصطدام، وقد جاء القرآن الكريم صريحا في وصف هذه النظريات والنظم والأفكار بقوله تعالى " أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا " النساء 82 وهنا سنقف مع بعض هذا الاختلاف الذي يتعذر فيها الملاءمة ويقع الاصطدام مهما حاول المؤمن بالإسلام والليبرالية معا أن يتفاداه.

1- مصادر العلم القطعية

مصادر العلم عند البشر كثيرة ومنوعة بعضها ظني وبعضها يقيني وبعضها مجمع عليه ، وبعضها مختلف عليه، ومنها ما يتيقنه مجتمع أو دين أو حضارة ويرفضه غيره.

فالحس والعقل مصدران يقينيان مجمع عليهما، ومصادر أخرى مختلف عليها كالأحلام وقراءة الكف والفنجان والسحر وعلم النجوم والفراسة والكهانة وعلم الغيب عند آحاد الناس وحديث القلب وغيرها .فبعض البشر يعتبر بعضها يقينيا ، وبعضها تعتبر ظنية ، وينكر البعض غالب هذه المصادر.

الإسلام يتميز بمصدر يقيني قطعي مع العقل والحس وهو الوحي بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة في حين أن الليبرالية تعتبر العقل والحس هما مصادر العلم القطعية فقط وهي لا تعادي المصادر الأخرى باعتبارها خيارات بشرية ، ولكنها ترفض أن تكون مصدرا لإثبات حقائق علمية أو معلومات تاريخية أو تكون مصدرا لقانون.يقول ليبرالي عربي شهير " للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم واسماعيل ولكن هذا لا يثبت حقيقة وجودهما التاريخي.." وهذا النص يتسق مع الليبرالية باعتبار أن القرآن الكريم كتاب مقدس عند المسلمين ولا يحق لأحد أن يسخر منه أو يهينه ولكنه – عند ذلك الليبرالي ومتبعيه - ليس مصدرا للعلم فضلا أن يكون مصدرا للتشريع، ولا تقبل الليبرالية وصف القرآن الكريم مضمونه بأنه أقوم وأهدى ولا ريب فيه.

2- الحياة الحقيقية

تعتبر الليبرالية الحياة هي المكون النهائي للبشرية فيه العمل والإنتاج والنتائج والجزاء، ورغم عدم مصادمتها لمن يعتقد بحياة أخرى فهي لا تسخر منه ، ولكنها ترفض أن يؤثر على مسيرة الحياة بتأجيل الجزاء أو ربطه بقانون، أو وعيد أحد بعقاب مالم يعتقد أو يعمل بدين معين، وهي تنظر لتناسخ الأرواح وسعادة البشرية النهائية والجنة والنار نظرة واحدة باعتبارها اعتقادات بشرية لهم الحق في اعتقادها دون ترحيلها لنظم أوقوانين أو تهديد لأحد بالعذاب والخسارة النهائية.

وفي القرآن الكريم آيات صريحة تصف الحياة الدنيا بأنها زينة ، ولكنها لهو ولعب، وأن الحياة الحقيقية هي الآخرة كما في قوله تعالى في سورة العنكبوت وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿٦٤﴾ وقوله تعالى في سورة يوسف : وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿٥٧﴾ " وقوله في سورة الضحى:"وللآخرة خير لك من الأولى" وآيات كثيرة تأمر بالسعي في الدنيا والتفكر فيها ، ولكنها مرحلة مؤقتة ومرتبطة بالآخرة ، وأن الأعمال في الدنيا جزاؤها الحقيقي في الآخرة.

3- تقسيم البشر

الليبرالية لا تعترف بتقسيم البشر لقوميتهم أو أعراقهم أو أديانهم ، ولكنها تعترف بالتقسيم على أساس الهوية الوطنية أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية ، وتقر الحقوق وتمنعها على هذا الأساس، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تقسم الناس على أساس ديني ، بل قسم الخلق عليه كما في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٢﴾ التغابن . وجعل التقوى هي المعتبرة في الفرق بين الناس كما في الحجرات : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿١٣﴾" ووضح الولاء على هذا الأساس كما في الأنفال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴿73 وفي المؤمنون قال : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ 71 ، حتى العلاقات الأسرية تبطل أمام هذه العلاقة : "قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ " هود 46، وآية المجادلة الأخيرة : لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَـٰئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٢٢﴾وتقسيم البشر وأساساته موجودة في جميع المكونات الفكرية والنظم السياسية منذ بدأ الإنسان بتكوين المجتمع، وتعتبر أحد أهم معالم الفكر، وناقشها كثير من المفكرين والسياسيين وهي محورية في القرآن الكريم.

4- نسبية الحقيقة

الليبرالية تصدق بالحقائق العقلية والحسية ولكنها تقوم على نسبية الحقيقة في الأفكار والآراء والقوانين وتعتبر أن المنتج البشري الفكري والإبداعي يتطور ويتغير ، والمتغيرات من حوله غير ثابته لذلك فالحقيقة نسبية ، ولا يمكن أن نجزم وإلى الأبد بصحة فكرة أو قانون أو رأي، في حين أن القرآن الكريم يثبت في آياته أن هو الحق وما سواه باطل ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿٦٢﴾ الحج، ، بل جعل الإسلام حقا وحيدا وغيره لا يقبل : " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" وقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴿١١٩﴾ البقرة، ومثلها الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿١٤٧، بل جزم بأن الباطل لا يأتيه : لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴿٤٢﴾ فصلت، إذا حقائق القرآن حق دائم لا يبطل لا في قصصه ولا أحكامه ولا حقائقه العلمية ولا تشريعاته ولا وعده ووعيده.

5- حق الاختيار الليبرالية تمنح الفرد حق الاختيار ، وحق الاعتراض ، وله حق محبة قانون أو رأي أو فكر ولو لم يعمل به وله حق الكره أيضا، أما القرآن الكريم ، فلا يعطي الفرد مطلق الخيار، ويحمله تبعت خياره الخاطىء يقول تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴿٣٦﴾ الأحزاب، ، وحتى الخيار القلبي الخاص يجب أن يتبع الحق ، وليس اختيارات النفس كما في سورة النساء : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿٦٥﴾ ، وليس له كره شيء ولو عمل به : ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿٩﴾ محمد.

هذه الخلافات تعطي أساسا لنقاش فكرة اعتقاد فكرتين معا ولو تناقضت في بعض أجزائها ولا يمكن أن تستثني المتناقض ، لأن غيره جزء من إحدى الفكرتين، بل لا يوجد تشريعان أو دينان ولا نظامان مختلفان من كل وجه.

الليبرالية محاولة إنسانية جادة لحل مشكلات الحريات ، وتحرير الاقتصاد وصياغة الحياة قانونياً يحد من تحكيم عواطف ورغبات الأفراد وقوى المجتمع ، ولكنه يبقى قاصراً بقصور البشر ، وأن منظري الفكر الليبرالي عدد محدود، وأن بقية البشر مستهلكون لها ، وهذا ضعف آخر. ومن الغرائب أن تجد من يعتبر الليبرالية حقا مطلقا وحقيقة حتمية رغم أن الليبرالية تقوم على نفي الحقيقة المطلقة والحتمية.

 

عادل أحمد الماجد :
09-15-1433 04:51

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..