الصفحات

الخميس، 27 سبتمبر 2012

الاستدراج الفكري عند الليبراليين السعوديين !


ابتداءً أشير إلى أن وصف (الليبراليين السعوديين) الوارد في العنوان  لا يعني بالضرورة أن لدينا في السعودية
ليبراليين حقيقيين ! إنما هم (أدعياء الليبرالية) ، ومقولة ليبراليين هي من قبيل الافتراض ، ومجاراة لمنطق الإعلام الإلكتروني السائد في تصنيف أتباع التيار المعارض أو المختلف مع التيارين الديني (الإسلامي) والمحافظ (الشعبي) على الساحة المحلية ، خاصة ً أن الواقع السعودي على المستويين (الرسمي) و(الشعبي) يرفض الليبرالية وفق مفهومها الغربي المعبر عن فلسفتها المادية . وكما قال الأستاذ جمال خاشقجي في برنامج (اتجاهات) على شاشة قناة (روتانا خليجية) إن الليبرالية في مفهومها الغربي لا يمكن أن تتحقق في السعودية ، وأزعم أنها لن تتحقق في أي مجتمع مسلم .
أعود إلى فكرة المقال المتمثلة بـ(الاستدراج الفكري) ، وهو سلوك جديد يحاول فيه أدعياء الليبرالية من مثقفين وكتاب رأي سعوديين اتخاذه منهجاً تكتيكياً في التعامل مع التيار الديني ، كي يكون بديلاً عن الصدام الفكري الصريح مع رموزه أو مواجهته جماهيرياً ، بحكم أنه ـ أي التيار الديني (الإسلامي) ـ لازال يشكل التيار العريض في الأمة بكل أطيافه من سلفية وإخوانية وجهادية وغيرها ، بحيث يتم من خلال هذا الاستدراج سحب الإسلاميين شيئاً فشيئاً نحو منطقة اتفاق معينة تتسم بالضبابية ، فيسهل على أدعياء الليبرالية تمرير رؤيتهم الفكرية لشرائح المجتمع على أنها هي وجهة النظر المعبرة عن الجميع ، ما يحقق اختراقاً في الموقف الفكري للتيار الإسلامي .
تكتيك الاستدراج الفكري يمكن ملاحظته في محورين رئيسين هما : (المبادئ الفكرية) و(القضايا المعاصرة) ، وهنا سأكتفي بمثالين لكل محور للإيضاح ومنعاً للإطالة ، فمن حيث المبادئ الفكرية نجد أن أدعياء الليبرالية استوعبوا (درس العلمانية) ، حينما نجحت الصحوة الإسلامية في الثمانينيات الميلادية بجعل العلمانية (تهمة) قد تصل إلى (الردة) بمعارضتها للإسلام ، ما جعل المثقفين السعوديين يتسابقون على ميدان إعلان البراءة منها ، رغم أن بعضهم يحمل نفساً علمانياً واضحاً ! هذا الدرس استوعبه أدعياء الليبرالية السعوديين فراحوا يؤكدون في كل مناسبة أن الليبرالية لا تتعارض مع الإسلام ! كي يقبلها العامة والبسطاء وقطاع من خصومهم الإسلاميين ، وأنها تحترم الأديان ! فهي مجرد أسلوب حياة تتكيف مع خصوصيات كل مجتمع من خلال تطبيقات الحرية ! وكل هذا غير صحيح ! فمع أن الليبرالية تتفق مع الإسلام في الدعوة للقيم الإنسانية من حرية وعدالة ومساواة ، إلا أنها تتعارض معه لأسباب ثلاثة رئيسة ، الأول (الحالة التاريخية) لليبرالية كونها نشأت في بيئة وظروف رافضة تماماً للدين ، والسبب الثاني (نسبية المعرفة) فلا يوجد في الليبرالية حقائق مطلقة وكل شيء خاضع للشك والنقد والمساءلة ! أما السبب الثالث فهو (مرجعية التشريع) ، فهي في الإسلام محددة بالوحي (القرآن والسنة) ، بينما في الليبرالية محددة بالقانون الوضعي من خلال الصندوق الانتخابي والعمل البرلماني . والإشكال أن بعض الإسلاميين صار بالفعل يردد باقتناع أو بجهل أن الليبرالية لا تتعارض مع الإسلام حتى خرجت علينا أكذوبة (الليبرالية الإسلامية) والأشنع منها (الإسلام الليبرالي) .
المثال الثاني لفكرة الاستدراج الليبرالي في محور المبادئ الفكرية ، هو تركيز أدعياء الليبرالية على (الأممية) عند الإسلاميين وجعلها في مقابل (الوطنية) ، وبذلك يتم تصويرهم على أنهم ضد أوطانهم ! رغم أن مفهوم الأممية لا يتعارض مع الوطنية أبداً ، فكل هوية لها نطاقها وواجباتها ومساحتها ! وعليه تجدهم يشنعون على الإسلاميين اهتمامهم بالمسلمين في أصقاع الأرض ! ما يجعلهم ينشغلون في تبرئة أنفسهم من معاداة أوطانهم ، لدرجة أن يصل حال بعضهم إلى التنكر لمفهوم الأممية كي لا يتهم بوطنيته ، وهذا خطأ جلي فمن لا يؤمن بالأممية عليه أن لا يستقبل ملايين الحجاج والمعتمرين على مدار العام وأن ينسلخ من كل المنظمات والهيئات الإسلامية . في المقابل تجد أدعياء الليبرالية يستشهدون بالاتحاد الأوروبي باعتباره نموذج وحدة حضارية ! بل يسّوق هؤلاء الأدعياء مذهب (الإنسانية) على حساب الوطنية ، حتى تباكوا على ضحايا الغرب أكثر مما تباكوا على ضحايا الوطن في الأعمال الإرهابية .   
أما من حيث محور القضايا المعاصرة ، فلعل أبرز مثالين يُعبران عنه هما (أسلمة الربيع العربي) ، وقضية (الفيلم المسيء) ، ففي البداية صفق أدعياء الليبرالية لثورات الربيع العربي لأنها كانت شعبية غير حزبية ، وغير محددة بتيار فكري معين ، ولكن الصدمة الانتخابية التي أعقبت تلك الثورات وجاءت بالإسلاميين إلى سدة الحكم ، أصابتهم بلوثة فكرية وحالة نفسية جعلتهم يصيحون في كل محفل سياسي وملتقى إعلامي أن الإسلاميين ُطلاب حكم وليس طلبة شريعة ، وأنهم سيستغلون الديمقراطية للانفراد بالسلطة ، وسيصادرون حقوق الشعوب باسم الدين ! فصارت مهمة الإسلاميين طمأنة الشعوب والإقرار بأنهم يؤمنون بتداول السلطة وقرار الناخب ! وأنهم متساوون مع غيرهم ! وهذا استدراج ، لأن الواقع يقول إن الإسلاميين هم التيار العريض في الأمة والمعبر عن همومها وتطلعاتها ، والمنطلق من ثقافة دينها وخصوصيات مجتمعاتها ، فمن الطبيعي أن يكونوا في الصدارة ويمسكوا بتلابيب القيادة ! خلافاً لليبراليين الذين هم أقل شأناً بارتهانهم لفكر الغرب ، لذا هم خارج التاريخ بعد أن أصبحوا على هامش الواقع رغم عراقتهم السياسية وتاريخهم الحزبي ، ما يؤكد فشلهم بالتعبير عن جماهير الأمة .
أيضاً في قضية (الفيلم المسيء) للرسول صلى الله عليه وسلم يتضح الاستدراج الليبرالي لخصومهم الإسلاميين ، عندما ركزوا بشكل مكثف وبلغة استنكاريه على (النتيجة) ، المتمثلة بالمظاهرات الغاضبة وأعمال العنف ضد السفارات الغربية ، مع تهميش واضح (للسبب) وهو ليس الفيلم ـ كما يعتقد البعض ـ إنما حرية التعبير الانتقائية في العالم الغربي ، التي أفرزت ذلك الفيلم الشيطاني ، لأن مناقشة الحرية وفضح ممارساتها في الحياة الغربية ُتبين عوار فلسفة الليبرالية للحرية ، التي يبشرون بها ليل نهار ، كما تكشف حجم المأزق الذي تعيشه الليبرالية الغربية المعاصرة في مسألتي الحرية الدينية والحرية الفكرية إزاء الأديان . لهذا تلاحظ تعبيرات أدعياء الليبرالية لا تخرج عن وصف الفيلم بالتافه الذي لا يستحق ردود الأفعال ! ووصف الغاضبين بالهمجية والسفاهة والحمق ! وللأسف أن بعض الإسلاميين تحدثوا بنفس هذا المنطق وتناسوا أصل المشكلة وهو موقف العالم الغربي عموماً بمؤسساته السياسية ، ووسائله الإعلامية ، ودوائره الاستشراقية ، ونخبه المثقفة من الإسلام . وفي هذا الشأن أشير إلى أن أدعياء الليبرالية كانوا يدعون إلى (الخيار السلمي) بديلاً عن العنف في التعبير عن الاحتجاج أو الغضب أو المقاومة مستشهدين بمانديلا وغاندي ، وعندما يمارس المسلمون هذا الخيار كـ(المقاطعة الاقتصادية) كما فعلوا مع الدنمرك يخرج هؤلاء الأدعياء لوصفها بالحمق والخطأ وظلم للشعب الدنمركي . فهل يدرك التيار الإسلامي هذا الاستدراج الفكري من قبل ما يسمى بالتيار الليبرالي ؟



 محمد بن عيسى الكنعان *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..