الصفحات

الجمعة، 2 نوفمبر 2012

الصحة النفسية في الإسلام

المقدمة :
أهمية الصحة النفسية
تعتبر الصحة النفسية من الأشياء التي ينشدها الناس في مشارق الأرض ومغاربها ، ولأهميتها في حياة الفرد والمجتمع ، ظهر الدعاة إليها ، الذين يقولون إن رسالتهم هي مساعدة الأفراد على أن تكون لهم البصيرة والقدرة على التصدي لمشكلاتهم اليومية ، والقدرة على حلها ، بما يؤدي بهم إلى الصحة النفسية ، وعلى ضوء هذا ظهر العديد من المنظمات التي تعمل في مجال الصحة النفسية ، وتهدف إلى تدعيمها لدى الأفراد ، بما ينعكس إيجابيا على المجتمع ، كما صدرت الكتب والمراجع والدوريات والنشرات التوجيهية الخاصة بالصحة النفسية ، كما ظهر أيضا العديد من المؤسسات ومكاتب التوجيه والإرشاد النفسي لمساعدة الأفراد على تحقيق الصحة النفسية وتدعيمها لديهم ، وعلى الرغم من ذلك نجد أن هناك تزايدا في عدد المؤسسات والعيادات النفسية التي تقوم على علاج الاضطرابات النفسية التي تتزايد يوما بعد يوم ، وخاصة في المجتمعات الغربية ، والتي من أهم مظاهرها زيادة حالات الانتحار الفردي والجماعي (، هذه الظاهرة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على اليأس من الحياة ، وعدم القدرة على الوصول للصحة النفسية ، لماذا ؟ لأنهم ضلوا الطريق الصحيح للوصول إلى الصحة النفسية ومن ثم فقد أحس الفرد في طول العالم وعرضه أنه في سفينة انقطعت أسبابها بالبر (الصحة النفسية )
ومن هنا ظهرت أهمية ربط الصحة النفسية بالمنبع الأصيل ، والمنهج الرباني الذي أنزله الله ديناً للبشر ، وهداية لهم في دياجير الظلم ، فيه الهدى والنور ، وفيه السعادة والحياة الطيبة ، يحوي سبل الخير وطرق الرشاد لمن أراد الدلالة عليها ، وبحث عن أسباب الحياة الطيبة ، قال تعالى : " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "
وسوف يكون بحثي حول موضوع : الصحة النفسية في الإسلام ، وكيف أرشد الإسلام الناس إلى طرق الصحة النفسية وأسبابها ، وما هي مؤشرات الصحة النفسية في الإسلام ، وما منهج الإسلام في تحقيق الصحة النفسية ، مستضيئين بأقوال لابن القيم رحمه الله تعالى وبعض من علماء النفس الإسلامي المعاصرين .


وستكون عناصر هذا البحث على النحو التالي :
• تعريفات الصحة النفسية
• مفهوم الصحة النفسية عند ابن القيم
• مؤشرات الصحة النفسية في علم النفس المعاصر
• مؤشرات الصحة النفسية في الإسلام
• منهج الإسلام في تحقيق الصحة النفسية
• عوامل بناء الصحة النفسية من منظور إسلامي
• مرتكزات تحقيق الصحة النفسية عند ابن القيم
• الخاتمة
نسأل الله تعالى أن يجعله بحثاً مباركاً وأن ينفع به وصلى الله وسلم على نبينا محمد


************************************************** ****************

تعريفات الصحة النفسية :

يعرف علماء النفس الصحة النفسية ، بصفة عامة ، بأنها النضج الانفعالي والاجتماعي ، وتوافق الفرد مع نفسه ومع العالم من حوله ، والقدرة على تحمل مسؤوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات ، وتقبل الفرد لواقع حياته ، والشعور بالرضا والسعادة .
والتعريف الذي وضعته هيئة الصحة العالمية للصحة النفسية بأنها : تكيف الأفراد مع أنفسهم ومع العالم عموما ، مع حد أقصى من النجاح والرضا والانشراح والسلوك الاجتماعي السليم والقدرة على مواجهة حقائق الحياة وقبولها .
ومن أمثلة هذه التعريفات أيضا ، أنها : التوافق التام أو التكامل بين الوظائف النفسية المختلفة ، مع القدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية التي تطرأ عادة على الإنسان ، مع الإحساس الإيجابي بالسعادة والكفاية .
وعرفت موسوعة علم النفس والتحليل النفسي الصحة النفسية بأنها : ( التوافق السليم والشعور بالصحة والرغبة في الحياة )
وقد عرفت لجنة خبراء الصحة العالمية في منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بأنها : ( قدرة الفرد على تكوين علاقات ناجحة مع الآخرين والمشاركة في تغيير وبناء البيئة الاجتماعية والطبيعية التي يعيش فيها . وإشباع حاجاته الأساسية بصورة متوازنة وإنما شخصية قادرة على تحقيق الذات بصورة سوية )
وعرف الدكتور كمال إبراهيم مرسي الصحة النفسية تعريفاً مبنياً على تصور إسلامي رائد في مفهوم الصحة النفسية ( الصحة النفسية حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بالرضا والارتياح عندما يكون حسن الخلق مع الله ومع نفسه ومع الناس )
***********************

مفهوم الصحة النفسية عند ابن القيم :

أكد ابن القيم على أهمية الصحة النفسية التي يسميها السعادة القلبية أو الحياة الطيبة المتصلة بالإنسان وأنه ينبغي معرفتها تفصيلاً والمحافظة عليها فقال : ( ولما كانت الصحة من أجل نعم الله على عبده ، وأجزل عطاياه ، وأوفر منحه ، بل العافية أجل النعم على الإطلاق فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها وحفظها ، وحمايتها عما يضرها )
وقال : ( يحتاج الإنسان لأمرين بهما يتم سعادته وفلاحه :
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له بصيرة في ذلك بما شهده في العالم وما جربه في نفسه وغيره وما سمعه من أخبار الأمم قديماً وحديثاً .
الأمر الثاني : أن يحذر من مغالطة نفسه على هذه الأسباب )
وهو يطلق على مفهوم الصحة النفسية مفهوم الحياة الطيبة أو السعادة القلبية ، فيقول في الحياة الطيبة : ( فالوحي حياة الروح كما أن الروح حياة البدن ولهذا فمن فقد هذه الروح فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة .. وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته فقال تعالى : " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضى والرزق الحسن وغير ذلك ، والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة ، وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه ملكها ، وهذه الحياة تكون في الدور الثلاث أعني الدنيا ، دار البرزخ ، ودار القرار )
وهو يربط الحياة الطيبة بطاعة أوامر الله واجتناب نواهيه، ولذا قال : ( وأنه إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والمهانة ، والحقارة ، وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب ، كما قال تعالى : " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى " ، وفسرت المعيشة الضنك : بعذاب القبر ، والصحيح أنها في الدنيا ، وفي البرزخ فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزل ، فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها ، والآلام خلال ذلك )
وجعل السعادة القلبية في قمة أنواع السعادة حين قال : ( إن أنواع السعادة التي تؤثر النفس ثلاثة : سعادة خارجية عن ذات الإنسان بل هي مستعارة له من غيره تزول باسترداد العارية ، وهي سعادة المال والحياة . السعادة الثانية : سعادة في جسمه وبدنه كصحته واعتدال مزاجه وتناسب أعضائه وحسن تركيبه وصفاء لونه وقوة أعضائه فهذه ألصق به من الأولى ولكن هي في الحقيقة خارجة عن ذاته
السعادة الثالثة : هي السعادة الحقيقية وهي سعادة نفسانية روحية قلبية ، وهي سعادة العلمُ النافع ثمرتها فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره وفي دوره الثلاث )
اتضح من خلال كلام ابن القيم معنى السعادة والصحة النفسية ( الحياة الطيبة) وهي حياة القلب التي لا تكون إلا مع الإيمان وطاعة الرحمن ، والبعد عن معصيته وطريق سخطه وغضبه .

*********************************************

مؤشرات الصحة النفسية ( سمات – مظاهر ) :

وقد وضع علماء النفس بعض المؤشرات التي يستدلون منها على تمتع الأفراد بالصحة النفسية ، ومنها المؤشرات التي وضعها ماسلو Maslow وهي تشمل ما يلي : ارتباط الفرد بمجموعة من القيم منها : صدق الفرد مع نفسه ومع الآخرين ، أن تكون لديه الشجاعة في التعبير عما يراه صوابا ، أن يتفانى في أداء العمل الذي يجب أن يؤديه ، أن يكشف من هو, وما الذي يريده , وما الذي يحبه ، وأن يعرف ما هو الخير له ، وأن يتقبل ذلك دون اللجوء إلى حيل دفاعية يقصد بها تشويه الحقيقة .
ومن أمثلة مؤشرات الصحة النفسية كذلك ما ذكره عثمان لبيب فراج ، وهي تشمل باختصار ما يلي :
1- أن يشعر الفرد بالأمن النفسي .
2- أن يتقبل الفرد ذاته ، ويشعر بقيمته كفرد ، و أن يدرك قدراته ، ويتقبل حدودها ، وأن يتقبل الآخرين ويتقبل الفروق فيما بينهم ، والفروق فيما بينه وبينهم .
3- أن يتميز بدرجة مناسبة من التلقائية والقدرة على المبادأة .
4- أن يكون ناجحا في إنشاء علاقات فعالة ومشبعة مع الغير .
5- أن يكون واقعيا في نظرته إلى الحياة ، وما يعترضه من مشاكل ، وما يتوقع أن يحصل فيها من كمال
6- أن يكون متكامل الشخصية .

ومما هو جدير بالملاحظة أن مؤشرات الصحة النفسية التي وضعها علماء النفس المحدثون سواء كانوا من الغربيين أو من العرب تدور كلها حول تكيف الفرد أو توافقه مع نفسه ومع المجتمع ، ومدى قدرته وفاعليته في القيام بشؤون حياته الواقعية ، وإشباع حاجاته المادية الدنيوية ... (و) لم يوجهوا أي اهتمام نحو الجانب الروحي في الإنسان ، وإلى أهمية دور الدين والإيمان في الصحة النفسية .
غير أن عددا قليلاً جداً من علماء النفس المحدثين والمحللين النفسيين مثل وليم جيمس ، وكارل يونج ، وا.ا.بريل ، وهنري لينك إبتدأوا أخيراً يدركون أهمية الدين والإيمان بالله في الصحة النفسية ، وأشاروا إلى الدور الهام ( المهم) الذي يقوم به الإيمان في بث الأمن والطمأنينة في النفس ، وفي التخلص من القلق والاضطراب النفسي ....


مؤشرات الصحة النفسية في الإسلام :

وقد أشار إلى أهمية الجانب الروحي في الصحة النفسية الدكتور محمد عودة محمد والدكتور كمال إبراهيم مرسي في كتابهما : " الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام " .. وقد ذكر هذان المؤلفان مؤشرات الصحة النفسية التالية :
1- الجانب الروحي : الإيمان بالله ، أداء العبادات ، القبول بقضاء الله وقدره ، الإحساس الدائم بالقرب من الله ، إشباع الحاجات بالحلال ، المداومة على ذكر الله
2- الجانب النفسي : الصدق مع النفس ، سلامة الصدر من الحقد والحسد والكره ، قبول الذات ، القدرة على تحمل الإحباط ، القدرة على تحمل القلق ، الابتعاد عما يؤذي النفس ( الكبرياء ، الغرور ، الإسراف ، التقتير ، الكسل ، التشاؤم ) ، التمسك بالمبادئ المشروعة ، الاتزان الانفعالي ، سعة الصدر ، التلقائية ، الإقبال على الحياة ، السيطرة وضبط النفس ، البساطة ، الطموح ، الاعتماد على النفس .
3- الجانب الاجتماعي : حب الوالدين ، حب شريكة الحياة ، حب الأولاد ، مساعدة المحتاجين ، الأمانة ، الجرأة في قول الحق ، الابتعاد عما يؤذي الناس (الكذب ، الغش ، السرقة ، الزنا ، اقتل ، شهادة الزور ، أكل مال اليتيم ، الفتن ، الحقد ، الحسد ، الغيبة ، النميمة ، الخيانة ، الظلم ) ، الصدق مع الآخرين ، حب العمل ، تحمل المسؤولية الاجتماعية .
4- الجانب البيولوجي : سلامة الجسم من الأمراض ، سلامته من العيوب ، سلامته من العيوب الخلقية ، عدم تكليفه إلا في حدود طاقته .


وذكر الدكتور نجاتي بعض المؤشرات للصحة النفسية في ضوء القرآن والسنة :
من حيث علاقة العبد بربه : الإيمان بالله وحده لا شريك له ، وبكتبه ورسله وملائكته ، وبالآخرة والحساب ، وبالقضاء والقدر ، والتقرب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات ، والإخلاص في التقوى ، واتباع كل ما أمر الله تعالى به ، ووصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والابتعاد عن السيئات والمعاصي ، وكل ما نهى عنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
1- من حيث علاقة الفرد بنفسه : يعرف نفسه ، ويعرف إمكاناته وقدراته وقدر نفسه ، وتكون طموحاته في الحياة على قدر إمكاناته وقدراته ، وهو يسعى دائماً إلى تحقيق كماله الإنساني على قدر إمكاناته وقدراته ، ويعرف حاجاته ودوافعه ورغباته ، ويقوم بإشباع ما يستطيع إشباعه منها بالطرق الحلال ، بتوسط واعتدال من غير إسراف ، ويستطيع أن يتحكم فيما لا يستطيع إشباعه منها حتى تتاح له في المستقبل الظروف المناسبة لإشباعها بالطرق الحلال ، وهو قادر على التحكم في دوافعه وأهوائه وشهواته التي تتعارض مع القيم الدينية ، والخلق الحسن ، أو القيم الإنسانية ، والمعايير الاجتماعية .
وهو يشعر بالمسؤولية ، ويعتمد على نفسه في تولي أموره المعيشية ، وهو واثق من بنفسه ، ويؤكد ذاته ، ومستقل برأيه ، وله قدرة كبيرة على الصبر وتحمل ضغط الحياة ومشاقها .. وهو مستقيم في سلوكه ، يعبر عن رأيه بصدق وشجاعة أدبية ، حسن الأخلاق ، وهو يؤدي عمله بأمانة وإخلاص ، وبمهارة وإتقان ، وهو يعنى بصحته الجسمية ، وبقوته البدنية .
2- من حيث علاقة الفرد بالناس : إن علاقته بالناس بصفة عامة طيبة ، فهو يألفهم ويحبهم ، وهم كذلك يألفونه ويحبونه ، إنه يعاملهم بالحسنى والمودة ويمد يد العون والمساعدة إليهم ، إنه دائماً صادق في أقواله لهم ، وأميناً في تعالمه معهم ، فهو لا يكذب ولا يغش . إنه لا يؤذي أحداً ، ولا يحمل في نفسه حقداً لأحد ، أو كراهية أو حسداً ، إنه متواضع لا يتعالى ولا يتكبر على الناس ، إنه يقدر جيداً دوافع الناس الآخرين ، ومشاعرهم وانفعالاتهم ، ويحترم آراءهم وحقوقهم ، ويعفو عن المسيء منهم عند المقدرة . إنه يشعر بالمسؤولية نحو المجتمع ، ويعمل دائماً على ما فيه مصلحته . وعلاقته بأسرته على وجه عام علاقة طيبة ، فهو يحب زوجته ، ويحترمها ، ويعاملها معاملة حسنة ، ويحب أولاده ويعطف عليهم ، ويراعي شؤونهم ، ويعنى بحسن تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم ، كما أنه يحب والديه ويحترمهما ويعطف عليهما ، ويحسن معاملتهما ، ويصل رحمه ، ويحسن معاملة جاره.
3- من حيث علاقة الفرد بالكون : إنه يعرف حقيقة منزلته في الكون ، وأن الله تعالى كرمه على سائر مخلوقاته ، وهو يعلم رسالته الكبرى في الحياة كخليفة لله تعالى في الأرض ؛ عليه مسؤوليات عمارة الأرض ، وتطبيق منهج الله تعالى في الحياة ، إنه يتأمل في آيات الله تعالى في الكون ، وينظر إلى مخلوقات الله تعالى ، ويدرك فيها قدرة الله تعالى ، الفائقة اللامتناهية على بديع الخلق ، ويستشعر فيها الجمال والإتقان والإبداع . إنه يشعر بمتعة الحياة في هذا الكون ، ويشعر بكل ما فيه من جمال ، ويشعر بالحب نحو كل مخلوقات الله تعالى من جماد وحيوان ونبات .

وذكر ابن القيم عددا كثيراً من السمات وأغلبها يدور حول الجانب الروحي والقيمي ، وتقويته ، وبعضها يصلح أن يكون سمة ومؤشراً ، وفي نفس الوقت مرتكزاً وطريقاً لتحقيق الصحة النفسية :
1- العبودية : جعل ابن القيم هذه السمة معلماً مهماً لصاحب السعادة ، وشرفاً كبيراً لإنسان ، وحافظاً له من الأعداء ، يقول : " والحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب " .. وقال : " وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها ، فهي إنما تتحقق بإتباع أمره واجتناب نهيه .." ويقول أيضاً : " ومبنى (إياك نعبد) على أربع قواعد : التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح ، وبيانها أن العبودية منقسمة على القلب واللسان والجوارح ، وعلى كل منها عبودية تخصه ، والأحكام التي للعبودية خمسة : واجب ، ومستحب ، وحرام ، ومكروه ، ومباح ، وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح "
2- الوسطية : ويسميها ابن القيم أحياناً العدل ؛ حيث يقول : " وما قام الوجود إلا بالعدل ، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير " ويقول أيضاً : " فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ، وخير الناس النمط الوسط ، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ، ولم يلحقوا بغلو المعتدين ، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط . والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف ، والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها " .. ثم تحدث عن الوسطية والاعتدال في النوم وبين ضرر الكثرة منه والتقليل منه ، وعن الأخلاق حيث قال:"والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور " إلى أن قال : "فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو ؛ وإما إلى ذل ومهانة وحقارة ، وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب ، عزيز جنابه ، حبيب لقاؤه "
3- البركة : يشير ابن القيم إلى الربط بين الطاعة والمعصية في البركة زيادة ومحقاً ، حيث يقول : "إن المعاصي تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة الطاعة ، وبالجملة إنها تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله . وليست سعة الرزق والعمل بكثرتها ولا طول العمر بكثرة الشهور والأعوام ، ولكن سعة الرزق والعمر بالبركة فيه . وقد تقدم أن عمر العبد هو مدة حياته ، ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره ، فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه ، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأنس بقربه ، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله "
4- الذكر : قال ابن القيم : "وفي الذكر أكثر من مائة فائدة منها : أنه يزيل الهم والغم عن القلب ، وأنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط ، وأنه يورث المحبة التي هي روح الإسلام ، وقطب رحى الدين ، ومدار السعادة والنجاة " وقال أيضاً : " إن ذكر الله عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلها ، وله تأثير عجيب في حصول الأمن ، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله عز وجل ، إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان ، والغافل خائف مع أمنه حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف ، ومن له أدنى حس قد جرب هذا والله المستعان "

وقد لاحظ الدكتور محمد شريف – طبيب نفس باكستاني – انخفاض حالات الاكتئاب في شهر رمضان ، وعندما عالج 64مريضاً بالاكتئاب وقسمهم على مجموعتين . 32 مريضاً أعطاهم العلاج الطبي فقط ، و32 مريضاً أعطاهم العلاج الإيماني ، وطلب منهم القيام بالليل من الساعة 2 إلى 4 صباحاً لصلاة التهجد ، وذكر الله ، وقراءة القرآن ، والدعاء والاستغفار . وبعد أربعة أسابيع وجد أن 78% من المجموعة الثانية و15% من المجموعة الأولى قد تخلصوا من الاكتئاب .
5- الصدق : يقول ابن القيم : " ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة ، فيصدقه في عزمه وفي فعله ، فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل .. "
يقول الدكتور كمال مرسي : " لم يعد مجرد الصدق في القول والعمل دعوة دينية أخلاقية ، بل أضحت مطلباً نفسياً اجتماعياً ، بعدما تبين من دراسات كثيرة أن تحري الصدق ينشط أجهزة المناعة الجسمية والنفسية ، والكذب يثبطها ويضعفها . ودعا المعالجون النفسيون والأطباء والمرشدون التربويون إلى الصدق في القول والعمل ، واعتبروه علامة جيدة في الصحة النفسية ، بينما اعتبروا الكذب من عوامل وهن الصحة النفسية والجسمية ، وقد توصلت المدرسة السلوكية المعرفية إلى أن الصدق والأمانة والإخلاص تخفف القلق والتوترات ، وتزيل الاكتئاب ، ... وانتهى "بيرسال" من دراساته في علم المناعة النفسية إلى أن الصدق صحة والكذب مرض ، وقال : " تحروا الصدق وإن رأيتم الهلكة فيه ؛ فعاقبته خير في كل الأحوال " "
6- الطمأنينة وفرح القلب : يقول ابن القيم : " فالطمأنينة إلى الله سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه ، وترد قلبه الشارد إليه فتسري تلك الطمأنينة في نفسه ، ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه على الله ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا بالله وبذكره ، وهو كلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم "
واتفقت الدراسات النفسية مع ابن القيم على جعل السعادة والشعور بالأمن وذهاب التوتر معلماً ومؤشراً على الصحة النفسية .
7- الرضا : إن الرضا عند ابن القيم يعني القبول القلبي والحالي ، وعدم التسخط ، وأنه صفة لمريد السكينة ومعلم ظاهر لأهل السعادة ، حيث يقول : " والرضا يشمل الرضا بربوبيته ، وألوهيته ، والرضا برسوله والانقياد له ، والرضا بدينه ، والتسليم له ، ومن اجتمعت فيه هذه الأربعة فهو الصديق حقاً .. وثمرة الرضا الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى "
8- التعاون والتكميل : أكد ابن القيم أن الحياة الطيبة لا تحصل لمن قصر الخير والنفع على نفسه وأهمل الآخرين ، حيث يقول : " فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره ، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية ، فصلاح القوة العلمية بالإيمان ، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه ، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل "
9- الرغبة في الآخرة : يقول ابن القيم :" فأعقل الناس من آثر لذته وراحته الآجلة الدائمة ، على العاجلة المنقضية الزائلة ، وأسفه الخلق من باع نعيم الأبد ، وطيب الحياة الدائمة ، واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ولا نقص بوجه ما بلذة منقضية مشوبة بالآلام والمخاوف وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء "(الطريق إلى الصحة النفسية :84-102)

************************************************** *

منهج الإٌسلام في تحقيق الصحة النفسية :

يتبع الإسلام في تربية الإنسان منهجا تربويا هادفا يحقق التوازن بين الجانبين المادي والروحي في شخصية الإنسان ، مما يؤدي إلى تحقيق الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية .
يتضمن هذا المنهج ثلاثة أساليب من التربية :
أولاً : أسلوب تقوية الجانب الروحي :
1- الإيمان بالله وتوحيده وعبادته : يدعو الإسلام إلى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له ، وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم الثلاث عشرة سنة الأولى من الدعوة يدعو إلى عقيدة التوحيد ، ويثبت جذور الإيمان في قلوب أصحابه ، ويصفي نفوسهم ويزكيها بالتقرب إلى الله تعالى وعبادته . ولقد كان للإيمان بالله تعالى أثر عظيم في تغيير شخصيات العرب ، فقد تخلوا عن كثير من أخلاقهم وعاداتهم في الجاهلية ، وتحررت عقولهم من الجهل والخرافات ، كما تحررت نفوسهم من الخوف من كثير من الأمور التي يخافها في العادة معظم الناس .. وأصبحوا يعيشون في أمن نفسي .. كان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه ألا يخشوا إلا الله تعالى وحده ، وألا يسألوا إلا الله وحده كما يتضح ذلك من توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم : (..إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك . ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ..)
إن الإيمان بالله تعالى يملأ النفس بالانشراح والرضا والسعادة ، ويجعل الإنسان يعيش في حالة غامرة من الطمأنينة والأمن النفسي .
قال تعالى : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله إلا بذكر الله تطمئن القلوب )
قال تعالى : ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة . ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفوق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له "
2- التقوى : ويصاحب الإيمان الصادق بالله تعالى تقوى الله ، ويتضمن مفهوم التقوى أن يتوخى الإنسان دائماً في أعماله الحق والعدل والأمانة والصدق ، وأن يعامل الناس بالحسنى ، ويتجنب العدوان والظلم ، ويتضمن مفهوم التقوى كذلك أن يؤدي الإنسان كل ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه.. وهذا يدفع الإنسان دائماً إلى تحسين ذاته وتنمية قدراته ومعلوماته ليؤدي عمله على أحسن وجه . إن التقوى بهذا المعنى تصبح طاقة موجهة للإنسان نحو السلوك الأفضل والأحسن ، ونحو نمو الذات ورقيها ، وتجنب السلوك السيئ والمنحرف والشاذ . فهي إذن عامل رئيس لتحقيق السعادة والصحة النفسية .
3- العبادات : إن القيام بالعبادات المختلفة من صلاة وصوم وزكاة وحج إنما يعمل على تربية شخصية الإنسان ، وتزكية نفسه ، وتعليمه كثيرا من الخصال الحميدة المفيدة التي تعينه على تحمل أعباء الحياة ، والتي تساعد على تكوين الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية . إن التقرب إلى الله تعالى بالعبادات يبعث في الإنسان الشعور بالسعادة والأمن النفسي، ويمده بقوة روحية عظيمة لأنه يعلم أنه في رعاية الله تعالى وحمايته ، وان الله تعالى يمده بعونه وتأييده ، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محدثا عن ربه : " "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأكره مساءته. ولا بد له منه"
ثانيا – أسلوب السيطرة على الجانب البدني في الإنسان :
1- السيطرة على الدوافع : يدعو الإسلام إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها ، ولا يدعو إلى كبت الدوافع الفطرية ، وإنما يدعو إلى تنظيم إشباعها والتحكم فيها ، وتوجيهها توجيهاً سليما تراعى فيه مصلحة الفرد والجماعة ، ويدعو (الإسلام ) إلى نوعين من التنظيم في إشباع الدوافع الفطرية :
أ‌- التنظيم الأول هو إشباعها عن الطريق الحلال المسموح به شرعاً ، ومن أمثلة هذا التنظيم إباحة إشباع الدافع الجنسي عن طريق الزواج فقط ، وتجريم إشباعه عن طريق الزنا
ب‌- التنظيم الثاني هو عدم الإسراف في إشباع الدوافع لما في ذلك من أضرار بالصحة البدنية والنفسية .. ولم يعن القرآن الكريم بتوجيه الإنسان إلى السيطرة على دوافعه الفسيولوجية للفطرية فقط ، وإنما عني بتوجيهه أيضاً إلى السيطرة على دوافعه النفسية أيضاً مثل دافع العدوان ، ودافع التملك وأهواء النفس المختلفة .
2- السيطرة على الانفعالات : ويدعو القرآن الكريم الناس إلى السيطرة على انفعالاتهم التحكم فيها وقد بينت الدراسات الطبية والنفسية الحديثة الحكمة في ذلك إذ ثبت أن اضطراب الحياة الانفعالية للإنسان يؤدي إلى نشوء كثير من أعراض الأمراض البدنية والنفسية .. ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أيضاً إلى التغلب على انفعال الغضب وغير ذلك من الانفعالات الأخرى
ثالثاً – أسلوب تعليم الخصال الضرورية للصحة النفسية :
لقد عني الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء الإنسان وتربيته وإعداده لتحمل مسؤوليات نشر الدعوة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية فإلى جانب تعليمية أصول الدين الإسلامي وأداء العبادات وبث جذور الإيمان والتقوى في نفوسهم ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعلمهم أيضاً الاستقامة في السلوك والأخلاق الحميدة والعادات الحسنة في ممارساتهم المختلفة في حياتهم اليومية وفي تعاملهم مع الناس الآخرين ، وكان يبث فيهم حب الناس والتعاون ومد يد العون و المساعدة إلى الغير والثقة بالنفس والاعتماد عليها ، والقناعة والرضا بما قدر الله تعالى لهم ، وكان يغرس في نفوسهم الأمن والطمأنينة والتحرر من الخوف والقلق ، ويحثهم على العمل والإنتاج وعلى إتقان ما يقومون به من أعمال ، وعلى تحصيل العلم وتلقي المعرفة والتحرر من الجهل والأوهام والخرافات ، وكان عليه الصلاة والسلام يوجههم أيضاً إلى العناية بصحة الجسم وقوته وتعلم الفروسية والرماية . وباختصار كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه كل ما هو حسن وجميل من الخصال والأخلاق التي يعتبرها علماء النفس المحدثون من مؤشرات الصحة النفسية .. ولن أحاول هنا أن أقوم بحصر شامل لكل الخصال والأخلاق والعادات السلوكية التي تعتبر من مؤشرات الصحة النفسية ، والتي تعلمها الصحابة من مدرسة النبوة ، ولكني سوف أكتفي بذكر بعضها فقط ، وهي التي استطعت أن أجمع عنها بعض الأحاديث النبوية .
1- الشعور بالأمن النفسي :
كان الرسول صلى الله عليه وسلم دائم الدعوة لأصحابه إلى الإيمان بالله تعالى ، ودائم الترغيب لهم في تقوى الله تعالى وطاعته أملاً في الفوز بمغفرته ورضوانه وفي ثوابه العظيم بالنعيم الدائم في الجنة .
وكان هذا الأمل دافعاً قوياً لهم في الإخلاص في عبادة الله وفي الاستقامة في السلوك وفي الابتعاد عن كل مظاهر الانحراف مما كان له أثر كبير في شعورهم بالطمأنينة والأمن النفسي .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبث في أصحابه روح الإخاء والتعاون والتماسك والاكتمال الاجتماعي ، ويقوي فيهم روح الانتماء إلى الجماعة ويعزز بينهم أواصر العلاقات الاجتماعية .
إن هذا الشعور بالانتماء إلى الجماعة والإسهام الفعال في خدمتها ، والإخلاص في العمل على تقدمها ورفعتها ، والشعور بالحب نحو الأفراد الآخرين في هذه الجماعة ، والشعور أيضاً بأنه مقبول ومحبوب منهم ، كل ذلك من العوامل الهامة لشعور الفرد بالراحة النفسية والأمن النفسي .. فعن عبيد الله بن محصن الخطمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " من أصبح آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها "
ففي هذا الحديث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أسباب رئيسية للسعادة ، وهي : الشعور بالمن في الجماعة ، وصحة الجسم ، والحصول على القوت .
2- الاعتماد على النفس : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاعتماد على النفس ، وتولي شؤونهم بأنفسهم ، وعدم الاتكال على الغير في قضاء حاجاتهم .. فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً ليسأله أعطاه أو منعه "
وعن حكيم بن حزام قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : ياحكيم إن هذا المال حلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، كالذي يأكل ولا يشبع . واليد العليا خير من اليد السفلى . قال حكيم : فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا . فأعطاه أبوبكر ثم عمر رضي الله عنهما حقه من الفيء فأبى ثم توفي "
3- الثقة بالنفس : زادت التربية النبوية من ثقة المسلم بنفسه ، وعملت على تخليصه من الشعور بالنقص والضعف والخوف ، وحثته على الاعتزاز بالنفس ، وعلى الشجاعة في إبداء الرأي والتعبير عن أفكاره ومشاعره دون خشية من الناس . عن أبي سعيد الخدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحقر أحدكم نفسه " قالوا : يارسول الله ، كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال : يرى أمراً لله عليه فيه مقال ، ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس . فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى )
4- الشعور بالمسؤولية : من الصفات الهامة(المهمة) للشخصية السوية شعور الفرد بالمسؤولية في شتى صورها ،وإذا شعر الفرد بالمسؤولية تجاه المجتمع عم الخير جميع أفراده فشملتهم الصحة النفسية . ولقد عني الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه على تحمل المسؤولية ، فعن ابن عمر –رضي الله عنهما – أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .."
ولعل في تكليفات النبي صلى الله عله وسلم لبعض الصحابة بأعيانهم ما يشير إلى هذه التربية على تحمل المسؤولية ، بمن فيهم صغارهم وشبابهم كزيد بن ثابت حين ائتمنه على تعلم لغة يهود ، وأصبح ترجمانه فيها ، وأسامة بن زيد وغيرهما

5- تأكيد الذات والاستقلال في الرأي : كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينمي في أصحابه تأكيد الذات والاستقلال في الرأي وتجنب التبعية للغير في آرائهم وأعمالهم دون أن يكون ذلك صادراً عن تفكير منهم وروية ، ودون أن تكون آراؤهم أو أفعالهم صادرة عن إرادتهم الحرة واختيارهم الشخصي . فعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يكن أحدكم إمعة ، يقول أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت . ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ،وإن أساؤوا تجنبوا إساءتهم "
6- القناعة والرضا بالقضاء والقدر : إن من أهم عوامل راحة بال الإنسان وسعادته قناعته بما قسمه الله تعالى له من رزق ، وما وهبه من نعم ، وعدم تطلعه إلى من هو أكبر منه ثراء ، وأوفر منه نعماً . إن عدم القناعة وعدم الرضا يؤديان إلى سخط الإنسان وتبرمه ، ويسببان له التعاسة والشقاء .. فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس "
وعن أبي هريرة – أيضا- أن الرسول صلى الله عليه قال : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخَلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ، ذلك أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " زاد رزين في رواية : " قال عون بن عبدالله بن عتبة رحمه الله : " كنت أصحب الأغنياء فما كان أحد أكثر هماً مني . كنت أرى دابة خيراً من دابتي ، وثوباً خيراً من ثوبي . فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت "
انظر حول أثر الرضا بالقضاء والقدر ما نقله ديل كارنيجي عن بودلي الذي قضى سبع سنوات مع مسلمين عرب في إحدى دول المغرب العربي (الصنيع :373)
7- الصبر : من المؤشرات الهامة للصحة النفسية قدرة الفرد على تحمل مشاق الحياة ، والصمود في مواجهة الشدائد والأزمات ، والصبر على كوارث الدهر ومصائبه ، فلا يضعف أمامها ولا ينهار ، ولا يتملكه اليأس . إن الشخص الذي يقابل المصائب والمواقف العصيبة بصبر وثبات ، إنما هو شخص سوي الشخصية يتمتع بقدر كبير من الصحة النفسية . وقد أوصانا الله تعالى في كثير من الآيات بالصبر ..( ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين )
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن ما يحل بهم من أمراض أو مصائب إنما هو ابتلاء من الله تعالى ، يرفعهم بها درجات ، ويمحو بها عنهم خطايا ، ويكتب لهم حسنات . وكان هذا التعليم النبوي يقوي فيهم عادة الصبر على شدائد الحياة ، وتحمل مصائبها بنفس راضية بقضاء الله تعالى فعن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من خطاياه " .. وعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة "
8- أداء العمل بفاعلية وإتقان : إن الشخص السوي شخص نشيط يؤدي عمله بحيوية وفاعلية ، ويحاول دائماً أن يتقن ما يقوم به من أعمال ، وأن يؤديها على أحسن وجه .. وهو يرى في أدائه لعمله بمهارة وإتقان تعبيراً صادقاً عن طموحه في التقدم والرقي والكمال النفسي ، وعن رغبته الصادقة في القيام بدور فعال في خدمة المجتمع والإسهام بإخلاص في نموه وتقدمه وازدهاره . والإسلام دين حياة وعمل ، فهو يحث الإنسان على العمل ، وينهى عن الخمول والكسل .. ( فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ..) وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على العمل ، فعن المقداد بن معديكرب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده "
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل "
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على إتقان ما يقومون به من إعمال ، فعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " إن قيام الإنسان بعمل ما ، وإتقانه له ، ونجاحه فيه .. كل ذلك يؤدي إلى زيادة ثقة الإنسان بنفسه ، وإلى شعوره بقيمته كإنسان فعال مفيد يقوم بدور فعال هام في المجتمع ، كما يجعله يشعر بالرضا والسعادة .
9- العناية بصحة الجسم : من مؤشرات الصحة النفسية أيضاً سلامة الجسم وصحته . وقديماً قيل : العقل السليم في الجسم السليم . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعنى بتربية شخصيات أصحابه من جميع نواحيها النفسية والبدنية والاجتماعية . وكان يحثهم على العناية بصحة أجسامهم وبقوتها حتى يكونوا قادرين على نحمل مسؤوليات الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية . فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف .. " ، وكان عليه الصلاة والسلام يعتبر صحة الحسم وعافيته من المقومات الرئيسية لسعادة الإنسان : " من أصبح آمناً في سربه ، معافى في جسده .. "
وكان عليه الصلاة والسلام كثير الدعاء بالعافية ، ومن أدعيته المأثورة : " اللهم عافني في بدني ، وعافني في سمعي ، وعافني في بصري ، لا إله إلا أنت " .. وعلق ابن القيم على حديث :"سلوا الله العفو والعافية والمعافاة .." :"وهذه الثلاثة تتضمن إزالة الشرور الماضية بالعفو ، والحاضرة بالعافية ، والمستقبلة بالمعافاة ، فإنها تتضمن المداومة والاستمرار على العافية "
وكان عليه الصلاة والسلام يحث أصحابه على الرياضة البدنية والفروسية ، فكان يشجعهم على الرمي وركوب الخيل .. عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله عليه وسلم وهو على المنبر يقرأ : " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة " ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً .

***********************************************

عوامل بناء الصحة النفسية من منظور إسلامي :

أولاً – العوامل الذاتية :
1- الإيمان : وهو أهم العوامل من المنظور الإسلامي ، فلا يمكن أن يتمتع الفرد بالصحة النفسية الحقيقية إذا افتقد الإيمان الصحيح .."الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " ويشمل الإيمان أركانه الست : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
2- الأعمال : وهي عامل هام في الصحة النفسية ، وقد ورد وصف ملازم للأعمال في الإسلام وهو " الصالحة" ، فالناظر في آيات القرآن الكريم يلاحظ تكرار ذلك ، بل إن الأعمال الصالحة تربط بالإيمان ربطاً يدل على تلازمهما ، وأنه لا إيمان مقبول إذا لم يصحبه أعمال صالحة تدل على صدق الإيمان ورسوخه في القلب .
فقد وردت كلمة العمل الصالح بهذا الاقتران 20 مرة ، وفي صيغة " عملوا الصالحات " 53 مرة . وأما اقتران الإيمان بالعمل الصالح فقد ورد بصيغة " آمن وعمل صالحاً " 7 مرات ، وبصيغة " آمنوا وعملوا الصالحات " 48 مرة في آيات القرآن الكريم . ويدخل في الأعمال الصالحة أركان الإسلام وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج .
ويدخل في مسمى العمل : ما يمكن أن نسميه بالمهنة : وهو ما يمارسه الفرد في حياته اليومية ، ويقابلها البطالة التي تؤثر سلباً على صحة الفرد النفسية ، فقد حث الله تعالى على الاكتساب والسعي في الأرض والأكل من رزقه " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ، وإليه النشور " ، وقد ذكر الدعوة إلى الاكتساب بعد الانتهاء من أداء العبادة فقال تعالى : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون "
يقول سيد قطب : " هذا هو التوازن الذي يتسم به المنهج الإسلامي . التوازن بين مقتضيات الحياة في الأرض ، من عمل وكد ونشاط وكسب ، وبين عزلة الروح فترة عن هذا الجو ، وانقطاع القلب وتجرده للذكر "
ويدخل في العمل أيضاً : الهوايات ؛ إذ إن للهواية المفيدة دور إيجابي على صحة الفرد النفسية بحيث يشغل وقت فراغه بما تهواه نفسه من أنشطة جسمية وعقلية وترفيهية نافعة .. حيث تصرف فيها الطاقة ويتخلص فيها الفرد من ضغوط العمل والحياة ، وقد جاء التوجيه النبوي :" إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " ليلفت انتباهنا إلى أن حاجة النفس بإعطائها حقها من الراحة والاستجمام المباح .
3- الأخلاق : وهي العامل الثالث من العوامل الذاتية للصحة النفسية ، فالمسلم حسن الخلق هو الذي يتمتع بالصحة النفسية ، ولذلك لخص رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته بإتمام مكارم الأخلاق للمسلمين : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مستويات الصحة النفسية التي يمكن أن يبلغها بشر :" وإنك لعلى خلق عظيم " ، ولعل من أهم الأخلاق التالي :
أ‌) الإخلاص : وهو من أهم الأخلاق لكي يتمتع الفرد بصحة نفسية عالية ، بل إن كل الأعمال والسلوكيات إذا لم تكون خالصة لله فغنها تبطل ولا يقبلها الله ولا يوفقها للخير .
ب‌) الأمانة :
ت‌) الصدق :
ث‌) الصبر : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ، إن الله مع الصابرين " وهذا المعنى – وهو معية الله للصابرين – هام لطمأنينة النفس وسكونها لعلمها بعظم قدرة الله ، وأن كل شيء تحت مشيئته .
ج‌) التواضع :
ح‌) الحلم والصفح :
4- العلاقات : وهي العامل الرابع من العوامل الذاتية للصحة النفسية وهي ثلاثة أنواع :
أ‌) العلاقة مع الله :وذلك بطاعة أوامره واجتناب نواهيه ، والاستسلام له بالعبودية الحقة القائمة على نصوص الكتاب والسنة .
ب‌) مع النفس : بان يتعامل مع نفسه بطريقة إيجابية تجعلها خاضعة لأوامر الله ومنتهية عن نواهيه ، ويحفظ للنفس حقها فيعطي الجسم كل ما يحتاجه من الغذاء والراحة والمحافظة عليه من كل ما يضره.
ت‌) مع الآخرين
ثانياً – العوامل البيئية : وهي مجموعة العوامل المحيطة بالفرد منذ قدومه إلى هذه الحياة الدنيا وحتى رحيله عنها بالموت . وأثرها في صحة الفرد النفسية لا يمكن إنكاره
1- الأسرة : وهي المحضن الأول الذي يعيش فيه الإنسان عندما يقدم إلى هذه الحياة . ويقوم الوالدان بالدور الأكبر في التأثير على شخصية المولود ، فإن كانا صالحين مستقيمين على مستوى جيد من الصحة النفسية انعكس ذلك على صحة الطفل النفسية .
2- الجيران : وهم أفراد الحي الذي يعيش فيه الفرد ، ولهم أثر إيجابي على صحة الفرد النفسية إذا كانت العلاقات قوية بين الجيران ، حيث يقومون بأدوار عديدة من المساندة الاجتماعية لبعضهم
3- الرفاق : بين الرسول صلى الله عليه وسلم الأثر الذي يحدثه الرفيق على رفيقه بمثال حسي وهو حامل المسك ونافخ الكير حين قال : " مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير .."
4- أماكن العبادة والتعليم والعمل : وهي الأماكن التي يتدرج فيها الإنسان منذ صغره ويمر في مسيرة حياته في أجوائها ، ويتأثر بما فيها من عوامل الخير أو عوامل الشر . مدارس التعليم العام والعالي والمهني ، والمساجد كلها بيئات تعليمية بما فيها من مدرسين وطلاب ومناهج وتجهيزات قد تعين على تمتع الفرد بصحة نفسية . والمسجد من أفضل الأماكن لأنه يقام فيها توحيد الله سبحانه وتعالى ، ويتوجه المسلم بقلبه إلى الله .
5- وسائل الاتصال : وهي مجموعة الوسائل التي يتعامل معها الفرد ليتعرف على ما حوله . وأثرها يعتمد على محتواها ؛ فإن كان صالحاً يدل على الخير ويحث إليه ؛ كان لبنة صالحة في البناء النفسي للأفراد .

***********************************************

مرتكزات تحقيق الصحة النفسية:

تكلم ابن القيم عن مرتكزات الحياة الطيبة بشكل كبير ، ولعلنا نقتصر على الآتي :
1- العلم والإرادة : يقول ابن القيم : " ولما كان في القلب قوتان قوة العلم والتمييز ، وقوة الإرادة والحب ، كان كماله وصلاحه باستكمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته ، فكماله باستعماله قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته ، والتمييز بينه وبين الباطل ، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل " وقال أيضاً : " فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما ، إما أن لا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها ، أو يكون عالماً بها ولا تنهض همته إليها "
2- الإيمان بالله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم : يقول ابن القيم : " الله أقسم على أن كل أحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بطاعة الله "
3- التوكل على الله : يقول ابن القيم : " وكلما كان العبد حسن الظن بالله ، حسن الرجاء له ، صادق التوكل عليه ؛ فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل ، فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به "وذكر ابن القيم أن التوكل مركب من مجموعة من الأمور لا تتم حقيقته إلا بها .. وذكر الدرجة الثامنة والأخيرة له وهي : الرضا وهو ثمرة التوكل " يقول د.عبدالعزيز الأحمد : "إذاً ثمرة التوكل الرضا ، ومعناه القناعة والسعادة القلبية والاطمئنان ، وهذا يتفق مع جعل التوكل سبباً مهماً لتحقيق الحياة الطيبة والصحة النفسية ، إذ التوكل يعطي الإنسان أمرين مهمين :
أولاً – اعتماد القلب بل الإنسان كله على قوة عظيمة وركونه إليها ، وهي قوة الله ؛ مما يدفع الإنسان قدماً في حياته عاملاً كادحاً فيستمد قوته من الله تعالى .
ثانياً – التوكل ينفي عن القلب والنفس الحزن والخوف . ينفي عنه الحزن مما وقع به بالأمس لأنه فوض أمره لله.. وينفي عنه الخوف من كل شيء سواء من البشر ،او الخوف على النتائج ، فالمطلوب منه العمل وبذل الأسباب ... وهذه الركيزة مما تفرد بها ابن القيم حيث لم يجد الباحث أحداً تطرق إليها من علماء النفس المعاصرين "
4- التفكر
5- حسن الخلق
6- الصبر
7- علو الهمة والجد ( الطموح)
8- التنظيم و " المحافظة على الوقت " : حيث يقول ابن القيم :"وإذا أراد الله بالعبد خيراً أعانه بالوقت وجعل وقته مساعداً له ، وإذا أراد به شراً جعل وقته عليه وناكده وقته ، فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده الوقت ، والأول كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده "
9- الاهتمام بغذاء البدن والقلب والروح
10- المحاسبة : يقول ابن القيم أثناء حديثه عن السكينة – وهي الطمأنينة التي يلقيها الله في قلوب أوليائه : "السكينة عند المعاملة ،وتحصل بثلاثة أشياء :
أحدها – محاسبتها على طاعة قصر فيها من حق الله فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي .
ثانيها – أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله .
الثالثة – أن يحاسب نفسه على أمر مباح أم معتاد. لم فعله ؟وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحاً "
11- الاستغفار والتوبة : يقول ابن القيم : " فالتوحيد يدخل العبد على الله ، والاستغفار والتوبة يرفع المانع ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه ، فإذا وصل إليه زال عنه همه وغمه وحزنه ، وإذا انقطع عنه حصرته الهموم والغموم والأحزان ، وأتته من كل طريق ، ودخلت عليه من كل باب " ويقول : " وأما تأثير الاستغفار في دفع الهم والغم والضيق ؛ مما اشترك في العلم به أهل الملل وعقلاء كل امة : أن المعاصي والفساد توجب الهم والغم والخوف وضيق الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم وسئمتها نفوسهم ارتكبوها دفعاً لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهم والغم ، وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب ؛ فلا دواء لها إلا الاستغفار والتوبة "


********************************************

[align=center] (الخاتمة والتوصيات )[/align]

الإسلام والصحة النفسية :

لم يعد مفهوم الصحة النفسية قاصراً على الخلو من الأمراض والاضطرابات النفسية ، وإنما تجاوز ذلك إلى اعتبار الشخص صحيحاً من الناحية النفسية إذا توافرت فيه مجموعة من الخصائص مثل الفاعلية والكفاءة والمرونة وتوافر علاقات اجتماعية سوية ، والثقة في النفس وتحمل المسؤولية ، والقدرة على مواجهة الظروف الصعبة وغير ذلك .
وإذا نظرنا إلى المنهج الإسلامي وما يقدمه للأفراد والمجتمعات من جوانب أساسية تساعدهم على التوافق في معايشهم وبالتالي على التمتع بالصحة النفسية ؛ لوجدنا هذا المنهج في الواقع أغنى وأقوى ما يعين الأفراد والجماعات على التمتع بها .. وإليكم مجموعة من الخطوط الرئيسة :
أولاً – ربط المنهج الإسلامي الفرد بهدف سام فجعل غاية حياته عبادة الله سبحانه وتعالى وحده . قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين .."
ولو أخذنا هذا الجانب وحده لوجدنا أنه يمثل قمة ما يساعد الفرد على تحقيقي التوافق والصحة النفسية ، فلقد نادت بعض النظريات الخاصة بالعلاج النفسي التي تهتم بمشكلة المصابين بالأمراض النفسية ، والتي يأتي القلق بفروعه المختلفة في مقدمتها .. أن هؤلاء المرضى إنما يعانون من فراغ وجودي ، فهم لا يعرفون غاية لوجودهم وحياتهم ، مما يوقعهم في هذا القلق ، والمسلم لا يشعر ولا يعايش هذا القلق .. لأنه يعرف غاية حياته ؛ وهي عبادة الله سبحانه وحده .
كذلك فإن التردي في الجهالة وعدم الاعتقاد في وجود بعث بعد الموت جعل كثيرا من الغربيين يعايشون قلقا شديدا في أواخر حياتهم ، يودي بكثير منهم إلى الاكتئاب ، وإلى قضاء بقية أعمارهم في مصحات الأمراض النفسية .. في الوقت الذي نجد فيه المسلم الذي عمر قلبه بالإيمان وأدرك أنه راجع إلى ربه يتشوق إلى أن يختم حياته بمزيد من العمل ومزيد من الاجتهاد في العبادة ، وليس أدل على هذا من ذلك الكم الكبير من المعتمرين والحجاج من كبار السن الذين يقبلون على أداء المناسك تحت أي ظروف .
هكذا منحت العقيدة الإسلامية للمسلم أول مفاتيح التوافق ، فالمسلم يعرف أنه مكلف بعبادة الله وحده والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
المسلم الذي يؤمن بالقدر خيره وشره لا يمكن أن يحزن لذهاب الشباب أو لفقدان عزيز أو لخسارة في المال أو ضياع فرصة للترقية أو لإصابة في بدنه .
والمسلم لا يصل به الحزن إلى اليأس من روح الله لأنه لا يأس من روح الله إلا مع الكفر .
وثانيا: تزودنا الشريعة الإسلامية الغراء بما يكفي لحماية الإنسان من الضرر وبذلك فهي تمثل ركنا أساسيا على طريق الوقاية من المرض النفسي ، ذلك أن الفقهاء يحددون مقاصد الشريعة في المحافظة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال .
ولو نظرنا إلى أسباب الأمراض النفسية لوجدنا في مقدمتها ما يحدث من إحباط للدوافع والحاجات ، وما ينشأ من صراعات حول إشباع بعض الحاجات ، وكذلك الانطلاق في طلب إشباع الحاجات من إي مصدر وبأي طريقة ، وهو ما يمثل الدوافع الأولى في ارتكاب جرائم مثل القتل والسرقة والزنا بل يؤدي إلى الاتجار في المحرمات .
والإسلام لم يمنع الإنسان من إشباع حاجاته بل إن ما ذكره القرآن الكريم من حاجات للإنسان يفوق ما ذكرته جميع نظريات الدوافع ، كما أن الإسلام يتفوق عليها جميعا في أنه وضع أسس و ضوابط لإشباع الحاجات يمكن أن نجملها في ثلاث قواعد أساسية :
1- أن يتحقق بإشباع الحاجة الوفاء بعبادة الله سبحانه وتعالى وعمارة الأرض .
2- أن يكون إشباع الحاجة من مصدر حلال .
3- التزام الاعتدال في إشباع هذه الحاجات .
وثالثاً : جاء الإسلام مطهرا لنفوس البشر ، يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، فقد حرم الإسلام الخمر وهي أم الكبائر .. كما حرم التعامل بالربا ، وحرم الزنا وقتل النفس ، وهذه كلها من البلايا التي ابتليت بها المجتمعات الغربية .
ورابعاً : أن الإسلام يدعو إلى مكارم الأخلاق ، فهو يدعو إلى الصدق والأمانة ، وعدم الغش والوفاء بالعهد ، وعدم التكبر ومساعدة الضعفاء وغير ذلك كثير مما يساعد على تحقيق السلام بين أفراد المجتمع ويساعدهم على التمتع بالصحة النفسية .
وخامساً : أن الإسلام يهتم بجانب المسؤولية .. وقد جعل الإسلام كل فرد مسؤولاً عن نفسه وعن عمله لا يحاسب والد بولده ولا ابن بأبيه.. ولو تحقق للفرد تحمله المسؤولية فإنه يتحقق له جانب كبير من جوانب الصحة النفسية . ذلك أن كثيراً من الأمراض النفسية إنما يرجع إلى عدم تحمل المسؤولية والهروب منها ، حتى إن الأمراض العقلية الخطيرة مثل الفصام قد تكون هروباً من المسؤولية في صورة انفكاك عن الواقع .
وسادساً : إن الإسلام يساعد الفرد على بناء شخصيته وتعديله لهذه الشخصية بمحاسبته نفسه دائماً . ويعطيه وسائل العلاج الذاتي من العبادة والاستغفار والتوبة والصبر والذكر وغيرها مما يساعد الفرد على استعادة توازنه النفسي في أي موقف يطرأ عليه . وبذلك يواجه المواقف بما تستحق .
وسابعاً : ينظم الإسلام العلاقات بين الأفراد ، بين الزوج وزوجته ، وبين الآباء والأبناء ، وبين الجيران بعضهم وبعض ، وبين أولي الأرحام ، وبين المتعاملين في تعاقدات وتجارات بما يتحقق معه دائماً وجود المودة والرحمة .
إن معيار الصحة النفسية الذي وضعه الإسلام ليس معياراً وضعياً من صنع البشر ، وإنما هو معيار حدده لهم خالقهم جل وعلا .( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )
" ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها " " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "
ولا شك في أن اتباع المسلم للمنهج الإسلامي اتباعاً صادقاً هو خير ما يساعده على بناء شخصية سوية متوافقة ، وخير ما يقيه مما يمكن أن يحدث له نتيجة لما يلم به من ملمات ، وخير ما يعالجه حين ينتابه الوهن والقلق والخوف والاكتئاب .



التوصيات :


لعل من أهم ما نوصي به في نهاية هذا البحث ما يلي :
1- الرجوع إلى المنهل الصافي ( القرآن الكريم والسنة النبوية ) للاقتباس من هديهما فيما يفيدنا في موضوعات علم النفس المتنوعة ، ففيهما الغنية والنور والهداية لكل محتاج
2- تقليب النظر في كتب علمائنا الأقدمين الذين عنوا بالحديث عن تزكية النفس وطهارتها ، والبعد عن أمراض القلوب وأسبابها ( مثل ابن القيم وابن تيمية وابن رجب وابن الجوزي وغيرهم ) ففيما كتبوه علم جم ، وفوائد غزيرة تغني عن غيرها ولا يغني عنها غيرها من الكتب والنظريات الغربية الحديثة .
3- الخروج بنظريات إسلامية في جوانب علم النفس المختلفة منطلقة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج السلف وفهمهم وفقههم .
4- إثراء المكتبة بالكتب النفسية المؤصلة على القرآن والسنة النبوية ، لعظم فائدته وحاجة العالم إليها ، وقلة الكتب الجيدة في هذا المجال مع الأسف .
5- الثقة بمنهج الإسلام وأنه صالح لكل زمان ومكان ، والاعتزاز به ، وترك الانهزامية والتبعية المقيتة والانبهار بالنظريات الغربية والتمسك بها حتى كأنها وحي منزل .

وفي الختام أسأل المولى تعالى أن يوفقنا لما فيه الخير والهدى ، وأن يجعلنا أنصاراً لدينه ، هداة إلى شرعه ، على فهم سلف أمتنا الصالح
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين




المراجع :
1- نجاتي ، محمد عثمان ، (1425هـ ) : الحديث النبوي وعلم النفس ، القاهرة : دار الشروق ، الطبعة الخامسة .
2- الأحمد ، عبدالعزيز بن عبدالله ، (1420هـ ) : الطريق إلى الصحة النفسية (عند ابن قيم الجوزية وعلم النفس ) ، الرياض : دار الفضيلة ، الطبعة الأولى .
3- الصنيع ، صالح بن إبراهيم بن عبداللطيف ، (1426هـ) : الصحة النفسية من منظور إسلامي ، مصر : دار الهدي النبوي ، الطبعة الأولى .
4- الشناوي ، محمد محروس ، (2001م) : بحوث في التوجيه الإسلامي للإرشاد والعلاج النفسي ، دار غريب .
5- الزهراني ، مسفر بن سعيد بن محمد ، (1421هـ) : التوجيه والإرشاد النفسي من القرآن الكريم والسنة النبوية ، مكة ، المكتبة المكية ، الطبعة الأولى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..