الصفحات

الجمعة، 25 يناير 2013

الاحتفال بالمولد النبوي .. مناقشة علمية هادئة

لقد اصطفَى الله نبيَّنا وسيدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم لتحمُّل أعباء الرسالة وتبليغ الشريعة؛ فهو
النبيُّ المُعظَّم، والرسولُ المُكرَّم، سيدُ ولد آدم بالاتفاق، وخيرُ أهل الأرض على الإطلاق، الجوهرةُ الباهِرة، والدُّرَّةُ الزاهِرة، وواسِطةُ العِقدِ الفاخِرة.
عبدُ الله ورسولُه ونبيُّه، وصفِيُّه ونجِيُّه، ووليُّه ورَضِيُّه، وأمينُه على وحيِه وخِيرتُه من خلقِه، الذي لا يصِحُّ إيمانُ عبدٍ حتى يُؤمنَ برسالته ويشهَدَ بنبوَّته.

سيدُ المُرسلين والمُقدَّم لإمامتهم، وخاتَمُ النبيين وصاحِبُ شفاعتِهم، أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة، وأولُ شافعٍ يوم القيامة، وأولُ من يجُوزُ الصراطَ من الرُّسُل بأمته يوم القيامة، وأكثرُ الأنبياء تابِعًا يوم القيامة، صاحبُ اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، عبدُ الله المُصطفى، ونبيُّه المُجتبَى، ورسولُه المُرتَضَى.

يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "ما خلقَ الله وما ذرأَ وما بَرَأَ نفسًا أكرمَ عليه من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وما سمِعتُ اللهَ أقسمَ بحياةِ أحدٍ غيره). قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى: "وأقسمَ بحياته، وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ ومقامٌ رفيعٌ وجاهٌ عريضٌ".

فكم حَبَاه ربُّه وفضّله    وخصّه سبحانه وخوَّله

أبـى الله إلاَّ رَفعه وعُلُوَّه   وليس لما يُعلِيه ذو العرش واضعُ

لا يتم الدين إلا بالإجلال والحب :

مما لا يختلف عليه أهل الإسلام، أنه لا يتمّ دينُ المرءِ إلاّ بإجلال النبي صلى الله عليه وسلم، والانقيادِ له وحبِّه، يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان: " لا يؤمِن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالدِه والناس أجمعين".

كما لا خلاف بين المسلمين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب حبه، ولكن الخلاف يكون في بعض الطرق، وبعض المظاهر التي يزعم فاعلها أنه من باب تعظيم الحبيب صلى الله عليه وسلم وحبه وواجبه على الأمة .



ومن تلك التطرق والوسائل، الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم .

فهل هذه الطريقة طريقة شرعية أو على الأقل بدعة حسنة ؟! أم هي بدعة في الدين، وضلال عن سنة سيد المرسلين ؟

وفي هذا المقال محاولة لمناقشة هذا الأمر، بعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن التشنج واتهام الآخرين في نواياهم ومقاصدهم .

وسأناقش هذا الموضوع من خلال الأصول المتفق عليها بين المسلمين وهل يتوافق معها هذا العمل، أم يخالفها ويعود عليها بالنقض ؟!

الأصل الأول : حقيقة الإتباع وحقيقة المحبة :

إنَّ الاتباعَ الحقيقيَّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا باطِّراح الهوى ،وتربيةِ النفس على لزوم السنّة، واتِّباعها والرجوع إلى الحقّ، وإخلاص القصد، وصلاح النّية، وصدق الإخلاص، والتجرُّد لله رب العالمين.

ولابد لكل من يتكلم في هذا الأمر، سواء في كتاب أو مقال، أو خطبة، أو حتى كلمة، أن ستحضر هذا الأصل،  وإن المتأمل لكثير ممن يتكلم في هذا الأمر يجد أن الغالب عليه التقليد، وعدم تحرير المسألة، والبعد عن السنة، فيكفك من أجل أن تعرف هذا، أن تلقي بنظرة على ملايين المحتفلين بالمولد، فيظهر لك الجهل، وعدم التجرد في اتباع السنة، والله المستعان.

وحتى لايتهمني أحدٌ بالدخول في النيات وأنا أحذر من ذلك، أقول هذا هو الظاهر، وأما السرائر فالله يتولى الجميع المانع والمجيز .

والمقصود هنا أنه لابد استحضار المحبّةُ الصادقة، والتي تفضَي بالعبد إلى أصلِ الطّاعة والتسليم الذي دلَّ عليه قول الحقّ تبارك وتعالى: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" .

وحينما نريد أن نناقش حكم الاحتفال بالمولد، لابد وأن نبين مسألة مهمة في هذا الجابب، وهي حقيقة المحبة، إذ أن الدافع الأكبر لمن يقوم بهذا العمل هو المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والسؤال المهم هنا [ ماحقيقة المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ّ! ] وهنا يأتي السؤال الأهم، هل هذا الاحتفال ومايترتب عليه يتفق مع المحبة الحقيقة والواجبة على المسملة تجاه نبيه ؟!  لقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقة هذه المحبة وبين علامتها ؛ حيث قال  " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ".

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسيره : " هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة؛ فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه؛ فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما " .

فحقيقة وعلامة محبة الله ورسوله هي اتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما .

والحب الوجداني للنبي صلى الله عليه وسلم، لازمه وهو الاتباع والانقياد والطاعة له صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي .

ولكن حينما نتأمل في حال من يحتفل بهذا المولد، تجد أنهم قَصْرُوا محبته صلى الله عليه وسلم على هذا الحب الوجداني، متمثلاً في إنشاد وتلحين القصائد والمدائح التي لا تخلو غالباً من الغلوّ إن سلمت من الشركيات، والرقص والتواجد، وإحياء الحوليات، والاحتفال بالمواليد، بل لقد بلغ الغرور – كما قرر الدكتور محمد أحمد في مقال له - ببعضهم أن يحكم على من لا يقرّهم على ذلك، ويشاركهم فيه، ويمارسه معهم، بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لعمرالله ! من الافتراء المبين، والظلم المشين، والغرور اللئيم؛ حيث قلبوا الموازين، وافتروا على رب العالمين، وتلاعبوا بسنة سيد المرسلين، وأجحفوا في حق إخوانهم في الدين؛ حيث جعلوا البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً .

وبهذا يتبن لنا أن هناك خللاً في مفهوم المحبة الواجبة، وهناك مخالفة بل نقض في هذا الفعل – أي المولد - للمحبة الواجبة على العبد تجاه نبيه .

وثمة أمر هنا لابد من التنبيه عليه، وهو إننا في الوقت ذاته الذي ننكر فيه الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ونستنكر تلك الممارسات المبتدعة التي اختزل فيها حب النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ذلك فإننا نستنكر كذلك الجفاء في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، نستنكر الجفاء في محبته صلى الله عليه وسلم وعدم معرفة فضله على الأمة وأنه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، هداهم إلى الصراط المستقيم، ولم يترك سبيلاً لهدايتهم إلا سلكه، ولا علمًا إلا بذله، فصلوات الله وسلامه عليه. فمعرفة حقه على كل مسلم واجب عظيم، لا ينبغي تركه وإهماله، وكما أن الغلو مردود فكذلك الجفاء مرفوض بكل صوره وأشكاله

الأصل الثاني : أصل التلقي والاتباع، وكيف نشأ الاحتفال وهل يتوافق أم يتعارض مع هذا الأصل ؟!:

وبيان ذلك أن من الأصول التي يجب أن يستحضرها الناظر في هذه المسألة، هو أن كل أمر حادث، لابد وأن يعرض على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، والقرون المفضلة، والأصل في هذا أن كل محدث في الدين يعتبر مردود على صاحبه،  وقد دل على هذا الأصل أحاديث عدة، ومن ذلك : حديث عائشة في الصحيح ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ » متفق عليه، وفي رواية لمسلم : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ »، وقد عدَّ العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .و حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - : « ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة ضلالة » .

وكل عمل في الدين لايخرج عن أمرين، إما أن يكون وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم سواءً كان قولاُ أو فعلاً أو تقريراً، وإما لا، وإن كان الأول واضح حكمه، فان الثاني – وهو لم يكن – فلابد من دليل عليه وإلا بقي في دائرة البدعة المنهي المسلم عن قربانها .

وهنا نسأل متى وكيف وممن بدأ الاحتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم؟!وهل يخالف الأصل الشرعي في التلقي ؟!

إن أول من سنّ وابتدع هذا الاحتفال هم الرافضة ملوك الدولة الفاطمية التي انتسبت كذبًا وزورًا إلى فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي القرن الرابع الهجري ابتدع الخليفة الفاطمي المعز العبيدي فكرة الاحتفال بالمولد النبوي، وأحدث مع المولد النبوي أربعة موالد أخرى: مولدًا لعلي، وآخر لفاطمة، وثالثا للحسن والحسين، ورابعاً لمن يحكم من العبيديين، ثم توسعوا في إحداث الموالد والمناسبات البدعية الأخرى.

وهذه الدولة التي أحيت وابتدعت المولد النبوي دولة كافرة فاسقة بإجماع المحققين من أهل العلم، عطلت الإسلام، وجحدت السنن والآثار، في ولايتهم أرغِمَ المصريون على سبّ أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، ومنع الناس من صلاة التراويح ومن السعي لطلب الرزق نهارا، وانتشر الرعب والقتل حتى أكل الناس في زمانهم بعض البهائم والحيوانات.

هذه الدولة يرى بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها تنحدر من أصل يهودي أو مجوسي، وبناء على ما سبق لم تعرف الأمة هذا المولد قبل هذه الدولة، فهل هي أهلٌ للاقتداء بها؟!

وهنا نتساءل هل يمكن لأمر جاء من هذه الدولة، وبهذه العقيدة الباطلة، هل يمكن أن يكون ديناً يتدين به المسلم وكل عام ؟! أين الأصل في الاتباع والذي من خلاله يعبد المسلم ربه، فكيف إذا كان هذا الفعل يخالف هذا الأصل؟!

وكيف لدولة هذه حالها أن توفق لهذا الخير، ويتركه خير جيل بعد الأنبياء، وكلنا متفق أنه ليس هناك أحد يحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كحب أصحابه له، لا والذي رفع السماء بلا عمد، لقد ضربوا المثل الأعلى في حبهم، فلماذا لم يحتفلوا بمولده؟! ثم أليس في عدم احتفالهم اتهام لهم عند من يرى الاحتفال بأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ؟!

فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد النبوي، فإنه حدث متأخّر عن القرون الثلاثة الفاضلة، وبهذا نجد أن هذا الاحتفال في نشؤه، وبدايته،  مناقضاً لأصل من أهم الأصول التي يجب أن يتبعها المسلم في تلقي دينه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم الموسوم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم قال: "ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى وإما محبّة للنبي وتعظيمًا له من اتخاذ مولد النبي عيدًا مع اختلاف الناس في تاريخ مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع، ولو كان خيرًا محضًا أو راجحًا كان السلف أحق منا بفعله، فإنهم كانوا أشدّ محبة وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كانت محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته ظاهرًا وباطنًا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرصاء على هذه البدع تجدهم فاترين في أمر الرسول مما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزله من يحمل مصحفًا ولا يقرأ فيه ولا يتبعه" انتهى كلامه رحمه الله.

الأصل الثالث : وجوب ترك كل عمل محرم، أو جرّ إلي عمل محرم .

من المقرر عند كل مسلم أن الواجب عليه ترك كل فعلٍ محرم، بل يجب ترك بعض ما أمر به المسلم إذا كان سيؤدي للوقوع في المحرم ؟!

وحينما نتأمل في هذا الفعل ـ لو سلمنا بجوازه جدلاً ـ وننظر في أفعال هؤلاء المحتفلين؛ لنرى هل يوافق الفعل الادعاء.

في يوم المولد يتمّ الاحتفال بنظام وتقليد معيّن، ربما تختلف تفاصيله بحسب البلدان، لكن الغالب أنه تقام فيه شعائر مخصوصة، وتلقى فيه أشعار تتضمن الشرك الصريح والكذب الواضح، وعند مقاطع معينة من الشعر الملقى يقوم الحضور على أرجلهم زاعمين أن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليهم في هذه اللحظة، ويمدون أيديهم للسلام عليه، وبعضهم يطفئ الأنوار ويضع كأسا للنبي صلى الله عليه وسلم، ليشرب منه حين قدومه إليهم، فهم بزعمهم يضيفونه في هذه الليلة؟! ويضعون مكانا خاصا ليجلس فيه؛ إما وسط الحلقة أو بجانب كبيرهم الذي يدعي بدوره أنه من نسله. وبعد ذلك يشرع في التذكير بقراءة سيرته وحياته، وهذه القراءة تكون مصحوبة بهز الرأس والجسم شمالا ويمينا، وأحيانا يتم الهز وهم وقوف، وربما اجتمع الرجال والنساء جميعا، هذا غير مشاركة المعازف وآلات الموسيقى في مثل هذه الاحتفالات، فكيف يقبل مسلمٌ أن يتم إحياء ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه المنكرات والمخالفات؟!.


د . عبد الله المعيدي الشمري


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة - أو - ذات صلة :



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..