الصفحات

السبت، 2 مارس 2013

الفرق بين التربية والتعليم

 إن عدم وضوح العلاقة بين مفهوم التربية ومفهوم التعليم قد أدى إلى أخطاء في مجالات التربية والتعليم عبر القرون.
ولهذا جدير بنا أن نعرض لهذه العلاقة ونوضح هذه الفكرة، فنقول وبالله تعالى التوفيق.
هناك فرق واضح بين عملة التربية من جهة والتعليم من جهة أخرى، فالتعليم يمثل جزاءً من التربية، والتربية تشمل التعليم، والعكس غير صحيح.
فالتربية هي عمليه تنمية متكاملة لكافة قوى وملكات الفرد، بمختلف الأساليب والطرق، ليكون سعيداً وعضواً صالحاً في مجتمعه، وهي بذلك تشمل جميع جوانب شخصيته: الروحية والعقلية والخلقية والاجتماعية والوجدانية والجمالية والبدنية.
أما عمليه التعليم فهي - كجزء من العلمية التربوية الكاملة - ترمى أساساً إلى تنمية عقل الفرد وتمكينه من اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة لحياته، ودرايته بعلم ما، أو فن ما، أو حرفة أو مهنة ما ونحو ذلك.
وهكذا يتضح أن عملية التربية أكثر وأوسع شمولية وتكاملية من عملية التعليم، إذ أن هدف التربية يتجه إلى تنمية وصقل جميع جوانب الشخصية الإنسانية بما يكوِّن في المجتمع أعضاء صالحين ذوي مواهب وقدرات وخبرات وكفاءات جيدة، متعاونين متآزرين، سعداء ذوي نظرة إيجابية للحياة، قادرين على مساعدة وإسعاد أسرهم وأقربائهم وإعانة بقية أفراد مجتمعهم، حريصين على القيام بواجباتهم الإنسانية تجاه غيرهم. (1)
ومن الخطأ أن نظن اليوم أن مجرد التعليم بحشو الأذهان المختلفة بالمعلومات المقررة وتوصليها إلى الأذهان يؤدي إلى تربية الرجال ويرتقي بهم إلى الكمال، كما يؤدي إلى نمو جميع جوانب الإنسان مثل النمو الروحي والأخلاقي وما إلى ذلك.
ومن الأدلة على ذلك أن ارتفاع معدل نسبة التعليم في المجتمعات لم يؤد إلى إقلال الشرور والجرائم، وإننا نرى اليوم أن نسبة الفساد لدى المتعلمين لا تقل عما لدى غير المتعلمين، وبخاصة إذا رأينا ما صدر من الفساد والجرائم من كبار المتعلمين ومن الموظفين والمسئولين حتى في أكثر الدول تقدماً في المجالات العلمية نقتنع عندئذ تماماً بأن مجرد حشو الأذهان بالمعلومات المقررة لا يؤدي إطلاقاً إلى إصلاح النفوس، وإلى الرقي الروحي والأخلاقي والاجتماعي، ويفسر ذلك أيضاً ظاهرة الغش وعدم التمسك بالقيم الإسلامية لدى المتعلمين بصفة عامة.(2)
إن عملية التعليم إذا زالت عنها السمة التربوية أصبحت مجرد حشو وتكديس لمعلومات لا تفيد في تشكيل الشخصية أو تعديل اتجاهاتها بالشكل الايجابي المرغوب منها، والحاجة الماسة تظهر دائماً " للمربي الكامل " الذي يمكنه القيام بعمليتي التربية والتعليم معاً - وذلك يتأتي باقتران أقواله بأفعاله، فإن حث على الصدق كان صادقاً، وإن رغب في الرحمة كان رحيماً، وإن وجه إلى الإتقان كان متقناً وهكذا - فيساعد على تكوين الشخصية السوية المتكاملة لا المعلم الذي يقتصر دوره على تلقين الدروس والمعارف.(3)
يقول الرسول الكريم صلى الله علية وسلم مادحا ارتباط التربية بالتعليم:" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولاتنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِِمَ وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "(4)
قال القرطبي وغيره: " ضرب النبي صلى الله علية وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه صلى الله علية وسلم، فكما أن الغيث يحيى البلد الميت فكذا علوم الدين تحيى القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع، لكنه أداه إلى غيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله صلى الله علية وسلم: " نضر الله امرأً سمع مقالتي فأدها كما سمعها "(5). ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها(6)
وقال الطيبي: " وفي الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست بمكتسبة، بل هي مواهب ربانية يختص بها من يشاء، وكمالها أن يفيض الله عز وجل عليها من المشكاة النبوية، فإذا وجد من يشتغل بغير الكتاب و السنة وماولاهما علم أن الله لم يرد به خيراً، فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل ثم علَّم، وفاقد أحدهما فاقد هذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله، كما يفيد بعلمه، ولو أفاد بالعمل فحسب لم يحظ منه بطائل، كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرأ مرعاها، ولو اقتصر علي القول لأشبه السقي مجرداً عن الرعي، فيشبه أخذه المستسقى، ولو منعهما معاً كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظلمة عن مستحقيها. قال:
ومن منع الجهال علماً أضاعه * ومن منع المستوجبين فقد ظلم(7)
إن رسول الله صلى الله علية وسلم قد جمع في هذا الحديث بين عملية التربية والتعليم، وجعل صلى الله علية وسلم أعلى الطوائف العالم العامل المعلم لغيره، ثم يليه في المرتبة العالم المعلم الذي يبلغ ما سمع من الخير بلا تحريف للكلم ولا إفساد للمعنى.
فامتدح صلى الله علية وسلم هاتين الطائفتين من الناس لاشتمالهما على عملية التربية والتعليم، وذم الطائفة الثالثة التي لم يتحقق فيها شيء من ذلك.
ولذا فإن من الواجب على المؤسسات التعليمية، وخاصة التي تعنى وتهتم بتعليم الكتاب والسنة وما يتعلق بهما من أحكام فقهيه إلى غير ذلك، أن تهتم بالجانب التربوي إلى الجانب التعليمي النظري، فتكون بذلك قد ربطت الجانب النظري البحت بالجانب التطبيقي والعملي لهذا العلم الذي عن طريقه يُعبد الله تعالى.
إن العلم والتفقه في الدين ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة إلى غاية عظيمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له على علم وبصيرة، قال الله تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) [الأنعام:162-163].
فالغاية من تعلم العلم بل من خلق الإنسان على هذه الأرض هو العبودية الخالصة لله تعالى والتي تشمل إقامة منهج الله تعالى في الأرض وتحكيم شريعته، كما دلت عليه الآية السابقة، وأن العبادة تشمل إلى جانب الشعائر التعبدية من صلاة وصدقة وصيام وذبح لله تعالى تشمل كذالك جوانب الحياة والممات بتحكيم المنهج الرباني المتمثل في كتاب وسنة رسوله صلى الله علية وسلم.
يقول ابن القيم: " إن العبد لو عرف كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئاً "(8)
وقد ذم رسول الله صلى الله علية وسلم الذي يطلب العلم لغير العمل به، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علية وسلم: " من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة "(9)
هكذا ربى رسول صلى الله علية وسلم أصحابه على اقتران العلم بالعمل، فلم يأخذوا العلم لكي يتزينوا ويتجملوا به، ولا لكي يترقوا به المناصب الزائلة في الدنيا، وإنما تعلموا وتفقهوا ليعملوا به ويعبدوا الله وحده بلا شريك، ويبينوه للناس.
" إن هذا القرآن هو الذي أنشأ خير أمة أخرجت للناس فهو منهج التربية الذي تربى عليه الرسول صلى الله علية وسلم وربى عليه أمته من بعد.... إن هذا الدين ليس شعارات وليس مُثلا معلقة في الفضاء، وليس قيماً فكرية تتملى بالذهن، ولكنه واقع يعاش وهذا هو التوجيه " التربوي " الأكبر في القرآن: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) [العنكبوت:7].
((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) [النساء:123].
((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)) [آل عمران:195]
ما من موضع في القرآن يخلوا من هذا التوجيه، إن الإسلام ليس مشاعر إيمانية فحسب، فضلاً عن أن يكون كلمة تقال باللسان، ولكنه عمل كذلك بمقتضى الإيمان، وإذا كان الإسلام كذلك، فقد تولي القرآن مهمة تربية الأمة الإسلامية لتكون مسلمة بالفعل، أي تمارس إسلامها في عالم الواقع(10)

1434/4/17



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..