الصفحات

الاثنين، 22 أبريل 2013

ردا وتعليقا على د. محمد المسعود "يَا وَافِ أَقْبِلْ"

  حمدًا كاملًا أزلًا وأبدًا لربنا ذي الجلال والإكرام, الكريم المنّان, الذي أمر بالإسلام, ودعا إلى دار
السلام, وهَدَى من شاء إلى صراط مستقيم, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, تركَنَا على البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك, صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

فهذه صفحات سطرتها من باب قولهم: ردٌّ على ردٍّ, وقولٌ على قولٍ, فقد ردّ الكريم النبيل الأخ الدكتور محمد المسعود, على مقالي "محمد المسعود, والحميّة الرافضية" بردّ جميل, آثرتُ أن لا أتركه بدون شكر, مع اهتبال هذا الأمر بالإشارة إلى مشروع الحوار الحقيقيّ لا المجامل الشكلي, مع المنتسبين إلى التشيّع ممّن يحسن معهم الحوار البنّاء, لبراءتهم من بواقع الرافضة, وأوابد المجوسيّة, ووثنيّات المشركيّة, وكفريات الجاهليين.

ولي ثلاث وقفات مع كريم ردّك, وقبل إيرادها يطيبُ لمُحبّك إتحافك بهدية, مع أملي بقبولها من لدن جنابك النبيل. 

فلقد طالعتُ مقالك الآنف الشائق, بنفْسٍ مستوفزةٍ ابتداءً متهيئًا لخَشِنِ كلامٍ قد يقع عند مصاولة الكَلِم إذا لُزَّ الأقران,  بل قد يتشحّط أحدهما في دمه لِمَضِّ طعنةِ قناةٍ صليبة, أو هندوانيٍّ صليت, من لدن لسانٍ وريشِ مدادٍ, لا سِنانٍ وريش نِبَال! وجرح اللسان كجرح اليد, وكما قال أبو الطيب:

إذا كنتَ ترضى أن تعيشَ بذلّةٍ   ...   فلا تستعِدَّنَّ الحُسامَ اليمانيا

ولا تَسْتطيلَنَّ الرِّماحَ لغارةٍ   ...   ولا تستجيدَنَّ العِتاقَ المَذاكيا

فما ينفعُ الأُسدَ الحياءُ من الطَّوى   ...   ولا تُتّقى حتَّى تكونَ ضَوَارِيَا

وهذا شأن كثير من الحوارات والمناظرات, فهي مرتعٌ خصيب لسلطان الاستطالة ووقودٌ جزلٌ للقوّة الغضبيّة, أعاذنا الله جميعًا منها إلا بحقّها. فالخشونة في الخطاب على خلاف الأصل المحمديّ إلا على وجهه السائغ, كإنكارٍ على مكابر, أو زجرٍ لمتغالٍ, ونحو ذلك مما جاءت به الشريعة.

 ولا أخفيك أنّي كنت قد اغتنمتُ ساعةَ صفاءٍ قبل رؤية عذب حروفك- فزوّرتُ ردًّا _أُراهُ قَدْ حَوَى حُتُوفًا_ أعددتُه لكلِّ خاتلةِ قلمٍ, ونافذةِ فكرٍ, وصولةِ جنانٍ, وحملةِ طِعانٍ, إذ ظننتُ سلفًا أن الأمر قد يجاوز الزُّبَى, ويبلغُ الحزام الطُّبْيَيْن, فلا يحسن بالمنادي للنِّزَالِ هروبٌ, بل ليُقبل وبين عينيهِ مُنَاهُ, ولْيكُنْ بعدها ما يكونُ, فما نفع حذر من قدر, ولا وقى الهربُ الجبانا, وفاز باللذة الجسور, بل كحال العباس بن مرداس:

أَشُدُّ عَلَى الكَتِيبةِ لَا أُبالي   ...   أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِواهَا

ولِي نَفْسٌ تَتُوقُ إِلى المعَالِي   ...   سَتَتْلَفُ أَو أُبَلِّغُها مُناهَا

فما هو إلا أن طالعتُ حرفَكَ النديَّ, ولفظَك النديّ, حتى غمستُ شهابي في ماء بيانه, وأطفأتُ جمرتي بحسن جوابه, وتجلَّلَتْنِي بُرَحَاءُ الاستبشار والفَرَح, فكررْتُ على أوراقي ممزّقًا, ولحروفي مُذْرِيًا, قد ذهبت سورةُ الغضب, وحميّةُ الطِّعان! فما لهذا الكريم النبيل, والأديب الجميل إلا الاحتفاء والإكرام, فلله أنت من أديبٍ لبيبٍ, وخلوقٍ صدوق, ومحاور ثرٍّ, وحليمٍ كريمٍ, وخبيرٍ بِسَلِّ حَطَبِ الإحفاظ. وأبدلتُ تِيكَ بهذه التُّحفةِ الصادقة, ولْتتقبَّلْها يا صاحبي على عِلَّاتِهَا, فهي يا محبّ كالخَرِيدَةِ الأعرابية, لم تعرفْ سوى الكحل والحناء, لم تمسسها لامسة, ولم تُسمعها هامسة، أو كفَرسٍ من العرائبِ العِتاق, لم يستوِ على ظهرها سوى عصافير الفجرِ طربًا وهزجًا, بَلْ كَنَقْرَةٍ في قُلَّةِ رَضْوَى, سحَّتْ عليها غادياتُ الدّيَم..

فأكْرِعْ في نميرها عِرَابَ جِيادك المُطهّمة, وأمرع فيها سوائمك المُسنّمة, ومواشيك المسمّنة, وأجرِ في مضمارها سوابق أفكارك, واسكب عليها ينابيع أشجانك.

قَدْ سِيقت بعجَلٍ وخجَلٍ, وخفْرٍ وجذَلٍ, إلى عذب شَجنك, وحلو ذوقك, فارتشفها قبل رشفةِ عصفورِ الصباح وخنساء الرواح..

سكبْتُها ميميّة ستّينيّة, على بديهة ذلك الشعور الجميل, وشاطئ تيك المشاعر الرائقة:

"يَا وَافِ أَقْبِلْ"

تضوّعَ نشرُها نَفَسَ الخُزامى   ...   وَنَالَتْ مِنْ أَقَاحِيْهَا المَرَامَا

وَأَضْحَكَتِ الرُّبَى هَبَّاتُ غَيْثٍ   ...   بِطَيْفِ خَرِيْدَةٍ تَشْكُو الْغَرَامَا

يَلُوحُ بِثَغْرِهَا بَرْقًا وَشَهْدًا   ...   أَغَارَتْ فِي الحَشَا صَلْتًا حُسَامًا

فَمَا لِلصَّبِّ أَحْلَى مِنْ لِثَامٍ   ...    بِنَظْرَةِ عَاشِقٍ تَحْكِي ابْتِسَامَا

  وَقَدْ سُكِبَ الجَمَالُ بِوَجْنَتَيْهَا   ...   بِخَدٍّ سَاطِعٍ يَجْلُو الظَّلَامَا  

أَشَاحَتْ بُرْهَةً كَيْمَا تُدارِي   ...   لَوَاعِجَ مُهْجَةٍ تَرْعَى الذِّمَامَا

أَرَادَتْهَا دَلَالًا فَاسْتَحَالَتْ  ...   تَبُلُّ دُمُوعُهَا طَرَفَ اللِّثَامَا 

وَأَرْسَلَتِ السِّهَامَ بِلَفْظِ دُرٍّ   ...   فَأَوْقَدَتِ  الهَوَى نَارًا  ضِرِامًا

فَنَالَتْ مِنْ حُشَاشَةِ قَلْبِ غِرٍّ   ...   فَقَلْبِي ذَا الصَّبُورُ غَدَا غُلَامًا

فَقُلْتُ لَهَا بِحُبٍّ بَرَّحَتْهُ   ...   فَبَعْدَ الدَّعْجِ لَا أَخْشَى السِّهَامَا

كِلَانَا يَا لُبَيْنَى طَلُّ شَوْقٍ   ...   فَمَا فِي الْوَجْدِ يَا لُبْنَى مَلَامَا

فَأَغْضَتْ مِنْ حَيَاءٍ طَرْفَ نُجْلٍ   ...   بِوَجْهٍ خِلْتُهُ بَدْرًا تَمَامًا

 وَأَشْرَقَتِ الدُّمُوعُ بِنَاظِرَيْهَا   ...   وَأَسْعَدَتِ الجُفُونُ المُسْتَهَامَا

أَبَلَّتْ مِنْ حَدِيْثٍ جُرْحَ رُوحِي   ...   بِثَغْرٍ قَدْ حَوَى رَاحًا مُدَامَا

فَقَلْبِي يَا لُبَيْنَى ذَا فُطُورٍ   ...   وَكَبدِي صُدِّعَتْ مِنْكُمْ سِقَامًا

أَنِيْلِي حَاجَةً سُلِبَتْ بِخَفْرٍ   ...   وَمَا نَغْشَى عَلَى كَنَفٍ حَرَامًا

لَبَانَةَ عَاشِقٍ يَشْدُو بِقَوْلٍ   ...   وَقَدْ كَمُلَتْ بِعَيْنَيْهِ احْتِشَامًا

فَدَيْتُكِ يَا لُبَيْنَى كُلَّ لَيْلٍ   ...   أَلِمِّي بِالْجَوَى وَصِلِي سَلَامًا

لَئِنْ شَابَ القَذَالُ فَمَا فُؤَادِي   ...   سِوَى طِفْلٍ يُدافِعُ ذا الفِطَامَا

أَجَابَتْ مِنْ نَهِيْجٍ حَزَّ عَظْمِي   ...   مُحالٌ فِي الْكَرَى إِلَّا لِمَامًا

تَمَتَّعْ مِنْ خَيَالٍ مَرَّ حِيْنًا   ...  وَعَلِّلْ فِي الْكَرَى عَامًا فَعَامًا

أَحَقًّا مَا أَرَى بَلْ طَيْفُ حُلْمٍ   ...   كَأَنْفَاسِ الصَّبَا هَبَّتْ خُزَامَى

أَعَاذِلَتِي َأكَاسِرَةً سِهَامًا   ...   وبالأَسَلِ الظِّمَاءِ بِهِمْ عَلَامَا

أَمَا وَالله قَدْ أَغْمَدْتُ سَيْفِي   ...   وَأَشْهَرْتُ المَوَدَّةَ وَالسَّلَامَا

فَمَا لِأُخُوَّةٍ فِي اللهِ مَعْنىً   ...   إِذَا كَانَ الصَّدِيقُ هُو الإِدَامَا

وَهَلْ مِنْ سَاعَةٍ للهِ تُرْضَى   ...    إِذَا كَانَ الحُسَامُ لَنَا احْتِكَامَا

وَمَا لِجَسَارةٍ نَعْتًا صَدُوقًا   ...   إِذَا هَزَّ الوَغَى وَجْهَ الهُمَامَا

وَقُلْ للظَّنِّ يَحْسُنْ فِي رِجَالٍ   ...   وَجِيلِ عَزِيْمَةُ نَزَعَ اللِّثَامَا

 تَرَضَّوْا عَنْ صِحَابٍ فِي يَقِيْنٍ   ...   وَقَالُوا رَبَّنَا نَرْجُو السَّلَامَا

كَتَمْنَا دِيْنَنَا حِقَبًا طِوَالًا   ...   فَهَذَا يَوْمُنَا نُجْلِي القَتَامَا

   خَلَعْنَا شِقْوَةً ذَهَبَتْ بِوَيْلٍ   ...   وَبِالتَّهْلِيلِ أَيْقَظْنَا النِّيَامَا

فَيَا ذَا الْعَرْشِ ثَبِّتْنَا بِلُطْفٍ   ...   فَمَا لِغَدَاتِنَا مِنَّا انْهِزَامَا

بَرِئْنَا للَّذِي خَلَقَ البَرَايَا   ...   مِنَ الرَّفْضِ المُحِيقِ بِهِمْ خِطَامَا

وَخَيْرُ أُمَّتِنَا الصِّدِّيقُ طُرًّا   ...   بِهِ صَارَ الكَفُورُ فَرٍ هُلَامَا

كَذَا الفَارُوقُ أَكْرِمْ مِنْ نَسِيجٍ   ...   بِهِ شَدَّ الإِلَهُ لَنَا الحِزَامَا

هُمُ الصَّحْبُ الرَّضِيُّ نُجُومُ لَيْلٍ   ...   فَأَنْعِمْ بِالَّذِي مَدَحَ الكِرَامَا

فَقَدْ خَابَ المُؤَمِّلُ غَمْزَ صَحْبٍ   ...   وَأَهْلِ البيتِ أَسْيَادٍ تَسَامَى

فَآلُ الْبَيْتِ تِيْجَانٌ وَطُهْرٌ   ...   تَحَمَّلْ يَا مُحِبُّ لَهُمْ سَلَامًا

وَقَدْ عَادَ الظَّلُومُ يَنُوءُ حِمْلًا ...   بِأَوْزَارٍ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَا

وَمَا لِلْخَلْقِ فِي الغَيْبِ اطِّلاعٌ   ...   وَلِلْوَحْيَيْنِ بَايَعْنَا الإِمَامَا

فَأَمْسَوا فِي التَّرَضِّي رَسْمَ رُشْدٍ   ...   وَأَضْحَوا بِالصَّحِيْحَيْنِ اعْتِمَامَا

فَحَيَّ هَلًا أُبَاةً فِي سَنَاهُمْ   ...  مُحَمَّدُ فِي الذُّرَى  عَلِقَ الوِسَامَا

هُوَ المَسْعُودُ مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ   ...   وَبِالزَّيْتُونِ قَدْ بَثُّوا اليَمَامَا

أُخوَّةُ مَعْشَرٍ تَزْدَادُ صَفْوًا   ...   كَمَا سَاقَتْ عَوَاصِفُهَا الغَمَامَا

رِجَالٌ أَقْبَلُوا لِلَّهِ طُرًّا  ...   فَمَا لِحَفَاوَتِي عَنْهُمْ مَلَامَا

أَلَا مَنْ عَذِيْرِيَ مِنْ نُفُوسٍ   ...   تَنُجُّ بِسَاحِنَا مَكْرًا تَطَامَى 

يَرُوْمُونَ الدِّيَانَةَ بِانْتِقَامٍ   ...   وَثَارَاتٍ مِنَ الصَّحْبِ القُدَامَى

لِثَارَاتٍ أَزَالَتْ آلَ كِسْرَى   ...   وَأَلْحَقَتِ المَجُوسِيَّ اصْطِلَامَا

تَغُصُّ حُلُوقُهُمْ مِنْ ذِكْرِ سَعْدٍ    ...   وَسَيْفِ اللهِ أَشْبْعَهُمْ رَغَامًا

إِلَهَ العَالَمِينَ أَرِحْ فُؤَادِي   ...   فَقَدْ حَزًّ النُّصَيْرِيُّ العِظَامَا

أَفَاضَ الثَّكْلَ فِي الإِسْلَامِ غَدْرًا   ...   وَقَتَّلَهُمْ سُجُودًا أَوْ قِيَامَا

وَعَاثَ الأَبْعَدُ الأَطْغَى زَمَانًا    ...   وَأَكْثَرَ فِي جَوَانِبِهَا اليَتَامَى

فَمُرْ بِكَتِيبَةٍ حَمْرَاءَ تَشْفِي   ...   صَدُورَ الصَّالِحِينَ دَمًا سِجَامًا

وَثَنِّ إِلَهَنَا بِصَلِيْبِ كُفْرٍ   ...   فَدُقَّ عَمُودَهُ الأَفْرَى رُكَامًا

وَثَلَّثْ بِالْيَهُودِ جُنُودَ مِسْخٍ   ...   هُوَ الدَّجَّالُ فَامْتَشِقُوا الحُسَامَا

إِخَالُ جُمُوعَنَا والخَيْلُ تَجْرِي   ...   بِنَا نَحْوَ غُوطَتِهَا الشَّآمَا

سَحَائِبَ جَنْدَلٍ تَرْمِي بِشُهْبٍ   ...   عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ مَطَرٍ حِمَامَا

أَوِ الْرِّيْحَ الدَّبُورَ جَرَتْ بِأَمْرٍ   ...   مِنَ الجَبَّارِ تَجْتَثُّ اللِّئَامَا

أَوِ اللِّيْثَ الهِزَبْرَ يَهُوشُ جَدْيًا   ...   فَهَلْ يَسْتَبْقِ لِلْجَدْيِ السُّلَامَى

أو النيلَ الخِضَمَّ يَسُوقُ بَحْرًا   ...   يَدُكُّ عُرُوشَهُمْ  فَغَدَتْ حُطَامَا

فَإِنْ شِئْتَ البُطُولَةَ صِحْ بِقَوْمٍ   ...   إِذَا كَانَ الكَلَامُ لَهُمْ  كِلَامًا

أَصِيحُ بَأْدْهَمِي يَاوَافِ أَقْبِلْ   ...   فَدُونَكَ مَنْهَلٌ يُرْوِي الزُّؤَامَا

وَصَلِّ إِلَهَنَا فِي كُلِّ حِيْنٍ   ...   عَلَى مَنْ كَانَ لِلْمِسْكِ الخِتَامَا

وإني لأدعو من هذا المنبر الحرّ لإكرام الدكتور محمد المسعود, وشكره على هذا العسجد الذي نثره, والدرّ والعقيان الذي نشره, ونشر الخزامى الذي ضوّعه, فلك من محبّك ركائب الشكر الجزيل, ونجائب الثناء العاطر, ومكين الصدق والصداقة. لك ولكلّ من شرب مشربك, ممن رفعوا هامهم لعلياء السموّ, وقدّموا أبشارهم وأعراضهم قرابين للأحد الصمد، فلم يبالوا في الحق أن يُجهز على الجثمان, طالما العُقبى موعد الديّان. "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" قالوا بِسمْعِ الدنيا وبصرها: "والله خير وأبقى"

وإن كان قد آذاك سالف الكلم, وفهمت منه ما أحفظك؛ فلك العُتبى يا محبّ, فلغير مُحيّاك كانت إرادة الإحفاظ, ولِسِوَى جنابك كانت مشيئة الإغضاب.

ولبعض من لم يتأمّل كلام أخينا أقول: ماذا تريدون مِنْ مَنْ تبرّا من الرفض, بل غضب لما فهم أنه مقصود به. ثم ترضّى عن كل الأصحاب بلا مثنويّة, فقد استعملَ صيغ العموم في بيانه _سواء بالاسم الموصول, أو بأل الاستغراقية, أو الإضافة_ وشَهِدَ لأُمِّنا وأُمِّهِ الصدّيقة بنت الصدّيق, الطاهرة المطهرة, بعظيم الصِّيان, وكبير الصلاح, وسموّ العفاف, ونقاء الأردان.

والحُسْنُ من معدنه لا يُستغرب, وبَيْنَ أرواحِ الصالحين وإن امتد زمانهم واختلفت أوطانهم, علاقةٌ وانسجام, وكلُّ واحد مائل لشبيهه, ومنسجمٌ مع شكيله. 

وإني لأدعو المشايخ وأهل العلم والساسة أن يبدؤا في الحوار وبناء اللُّحمة والنسيج من هنا, من هؤلاء الذين لا يُقارنون بحالٍ _لا اعتقادًا, ولا وطنيةً_ بالمُشركيِّةِ الصفويِّة, وأَدعُوا إلى تمكينهم في الولايات الدينية وغيرها مما يليهم مما في أيدي أولئك المُضطَهِدَةِ المتسيّدة الغالية الفارسية.

وقد أُخبرت من غير واحد مطّلعٍ أنّ هذا التّيار المُصحِّح من داخل المذهب له قوّة ونماء مُضطردَين, وقبولٌ نوعيٌّ بين قومهم, وأنهم ليسوا بقِلَّةٍ, _وإن كانوا أقليّة_ لكن صوتهم لا زال ضعيفًا, ومكانتهم لدى قومهم مرتبطةٌ بعدم خروجهم على السائد الغالي بكل أسف! فَحُقَّ لهم دعمٌ ونصرٌ واحتضانٌ ورفقٌ, فهم طليعةٌ من شأنها تغيير الإقليم للأحسن بإذن الله, وقيادة بني قومهم للهدى, سيّما إن وُفِّقوا لحكماء منهم ومن غيرهم. فمن وُفِّق للبراءة من الشرك والكفر والنفاق؛ لهو حقيقٌ بإذن الله وتوفيقه أن يُوَفَّق للتمام والكمال, بتقديم من قدّمه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم, من غير حطٍّ من قدر السادة الأخيار, كعلي وذريّته رضي الله عنهم أجمعين.

ولقد أعجبني رد الأخ الدكتور محمد, وبيانه لمعتقده, وقطعه الطريق على من قصد ذلك, وقد صدق الأول إذ قال: عقولُ الرجال مخبوءةٌ تحت ألسنتها, والألسنُ مغاريفُ آنيتِها. فقد أظهر الرجلُ عقلًا ونُبلا وكرمًا وأدبا, شَكَرَ الله له ذلك, وزاده من فضله وإحسانه. وهل ما ذكره في حروفه سوى معتقد أهل السنة والجماعة, وهل يضيره أن سلّم على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعليهم صلوات  الله وسلامه  ورحمته وبركاته, أوليس في كل صلاة نخصهم بذلك؟!

ولو أظهر الحق وأبانه في مسائل التفضيل ومصادر التلقي والبراءة الظاهرة من جملة البدع, لكان سنيًّا محضًا, وعسى ذلك أن يكون قريبًا, وما ذلك على الله بعزيز.

    مع أن براءته الأخ محمد من الرفض, يلزمُ منها تقديمُ الصديق على التحقيق. لذا فإما أنه قد قدّم الصديق الأكبر _وهو الحق الذي لا مرية فيه ولا ارتياب منه ولا تردد في شأنه, وهو الهدى الذي كلّ ما سواه باطل, فلعلّه ترك البيان نسيانًا أو غير ذلك مما لا تخفى أسبابه. وإما أنه مقدِّمٌ لعلي رضي الله عنه, مخالفًا الدلائل المتواترات, والبينات الظاهرات, والآيات البينات, ولعلّه إن قال بالأخرى أن ينزِعَ إلى خيرٍ بأخَرَةٍ, فمن تأمّل أدلة الفريقين رجّح كفّة الصديق بثقة ويقين, مع حفظ قدر الصحابي الجليل والصهر العظيم أبا الحسن, عليهم جميعًا شآبيب الرضوان ومفائض الصلوات وكوامل البركات والتسليمات والرحمات. ورحم الله أبا العباس ابن تيمية فقد أجلى في منهاجه تلك المسألة وأظهر وجهها الصحيح المتيقّن بلا مزيد عليه, وكل من أتى بعده فيها فهم عيالٌ عليه. وقد قال في الواسطية _وتأمل القسطاس المستقيم_: "وأهل السنة يتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم, ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"

فمِنْ هذا الكريم الموفق وأمثاله نبدأ. وأَنعِم بمن شَهروا ما عندهم من حقّ وصدق ووفاء, وإن في إكرام مثل هذا الأنموذج الفريد تحفيزًا لغيره من كرام الأفذاذ, ومعادن الطيب, وذخائر الهدى. وكم ممن يكتم بعض إيمانه, مراعاةً لبيئة تأبى عليه خلاف ما يريد, وليس كلٌّ مريد مطيق.

وهذا الرجل من كرام قومه, ومُمَدَّحِيهم, ومقدّميهم, وقد مدّ إليكم نيابة عن كثير من أمثاله اليد التي طالما انتظرها المصلحون في ميداني المعتقد والوطنية, والتقية فيما أظن غير واردة لأمور:

 أولًا: كثرة أمثاله بحمد الله الذين صرحوا ببراءتهم من الرفض, وتوابع ذلك من الشرك والجهل الوخيم, مع بقاء عباءة التشيع على أكتافهم, ووجود بعض الأمور التي تلين مع الوقت إن وُفِّقُوا لمحاور حكيم عليم رفيق.

ثانيًا: طبيعة الدكتور محمد, تأبى عليه الكذب والنفاق _وحاشاه الكريم النبيل, والصدوق الحرّ_ فالرجل بأخلاقه ومكانته وشهادته وأدبه ومدوناته ومكاتباته وإنكاره على قومه كثيرًا من جهالاتهم _لدرجة أن قد وصف أحد كبارهم بسامريّ بني إسرائيل إبان إنكاره عليه أمورًا ممزِّقة للجماعة.

 ثالثًا: أن هذا البيان الذي سطره يراعُه البليغ, يقرؤه فئامٌ من شباب وشابات الشيعة, من أركان الأرض الأربعة, خاصّة وأن كثيرًا من المبتعثين للدراسة منهم, وبيانُ العربيّ لا يُؤخَّرُ عن وقت الحاجة, ورائد القومِ لا يكذِبهُم, فما ثَمَّ إلا الظنُّ بنُصْحِ الدكتور محمد لهم بأن يُلقوا عن كاهل عقولهم أسمالَ التقليد, وينفضوا عن حريّة نفوسهم غبار التبعيّة, ويستنشقوا بصدورهم رياح الصفاء والحقيقة, ويقفوا مع نفوسهم وقفة صدقٍ وفكرٍ وتدبر للحال والمآل. فهي نفخةٌ في روح الفكر المنطلق عبر آفاق التأمل والتدبّر والرشاد, واللهَ أسألُ أن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم, إله الحق آمين.

والحقُّ منصورٌ وممتحنٌ فلا   ...   تعجبْ فهذي سُنَّةُ الرحمنِ

وبالجملة؛ فالدكتور الموفق محمد المسعود مفكّرٌ وأديب, نبيه الذكر, جليل القدر, عبِق الثناء والنشر, فهو وأمثاله مشروع عظيم لبناء آصرة حوار مثمر, وبناء محكم, وتعاون منشود لغايات سامية سَنِيّة في الدنيا والدين.

ثم إن هذا الكريم طراز خاص فَلَهُ -ولا نزكّيه على ربه- من خشية الله وصدق اللهجة والجسارة والنباهة وفقه مآلات الأمور؛ ما يحجزه عن سلوك نفاق -حاشا أخانا وأكرمه الله عن ذلك- والحمد لله الذي لم يخيب ظنّي الحسن به. ويكأن البرقعي يتجلى بين كلماته الجليلة, وجمله الجميلة, وإنصافه الصادق, وغفر الله للشيخ العالم الحرّ الصادق آية الله البرقعي, وجعل مثواه موصولًا بجنات النعيم.

ولأولي الأمر من أهل العلم والسياسة أقول: ألسْتم دومًا تطلبون مفاصلة شيعة العرب غير الغلاة عن مجوس الصفوية؟ فهاهم بعض بني قومكم قد أظهروا المفاصلة, وأشهروا لأولئك المنابذة, فلْتكونوا يدًا واحدة على من سواكم.

وحتى تكون حروف الفكر واضحة, فسأنقل كلامه في تسطير معتقده بحروفه, قال وفّقه الله تعالى: ( أتفق  معك   فيما  تفضلت  به   جميعا  .  أن  -  الخطابية  -  الغلاة  الذين   قادوا   فكر   إتباع  آل  بيت  محمد  صلوات الله  عليهم   الذين  أذهب  الله  عنهم  الرجس  وطهرهم  تطهيرا  .  والذين  لم  يسألنا  نبينا  على  تبليغ  رسالته   إلا  محبتهم   وتعظيم  شأنهم   .  وتقديمهم   على  غيرهم   .   وهذا  حق  لا  مرية  فيه  .

  كما  أن  صحابة  رسول  الله   هم   خير  أمة  أخرجت  للناس  ,  والذين  صدقوا  ما  عاهدوا  الله عليه  حتى  قضوا  نحبهم  .  وهم  الذين  رضي  الله  عنهم   ساعة  البيعة   وبعدها  .  وهم  الذين  نصروه   ,  ونصر  الله  بهم  دينه   كما   يصفهم    علي  بن  الحسين  .  أو  هم  الذين   أماتوا  البدعة   ,  وأقاموا  السنة   كما  يقرر  علي  بن  أبي  طالب   كرم الله  وجهه   . وعليه السلام  .  

وكتاب الله  الذي  لا  يأتيه  الباطل  من  بين  يديه  ولا  من خلفه  .   الذي  أنزله  الله   وهو  له  حافظ  وعليه  حفيظ   حتى  تقوم  الساعة   بين  يديه  .

 ومن  يقول في  أحد  من  زوجات  رسول  بمقدار  المس  برجل  نملة  .  فهو  رد  عن آل  بيت  محمد  و  فاسد  العقيدة    فكل  هذا  لا  يختلف  عليه  مسلم  مع مسلم  .

 ولا  ينبغي   هدر  العمر  في  جدل  و  مماراة  السفهاء  من  الغلاة  والخوارج  الذين  لعنهم  جعفر بن  محمد  الصادق  عليه  السلام  . ولعلي  أتشرف  برفع  كتابي  ((  إعادة  تكوين الوعي  الديني   ))  لتجدني   أتفق  معك  في  كل  هذه  الثوابت   ولا  خرج  عنها   إلا   الغلاة   ومن  تأثر  منهم    بعصبية   إن  كان  من  أهل العلم  .  أو  غلبة  الجهل   .  وهذا  لا  تكاد  تسلم  منه  فرقة  من  فرق  المسلمين  . وأحسب  أن  شيعة الخليج  ليسوا  منهم  .  والشاذ  لا  يقاس  عليه  .  إن  شد  واحد  منهم  أو  نفر تتبع  جيف  الروايات  الفاسدة  والميتة  كالغربان  . تقتات  عليها  وتستلذ  بها  .) أهــ.

ولقد كان مضمون رده الكريم أمور ثلاثة:

الأول: إظهار عقيدته الناصعة على الملأ, دون خوف أو جبن أو تردد, بل عرضها بوضوح وجلاء وشجاعة, ويشهدُ ربّي أنّي قرأتُها بهزّة إجلال وإكبار وفرح وحبور. فياليت كلَّ من كان على هذه الكلمات أن يُشهرها, ويبينها ويجليها, ويصيح بها في الخافقين؛ ليعلمَ عُبّادُ الأوثان أَنَّ ثَمَّ مؤمنون صالحون, يحفظون حقَّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وينزّهون عِرضَه الشريف عن أدنى نقيصة, وعن أقلّ غميزة, ويُجلّون كتاب رب العالمين, ويُوقنون أنه كامل غير منقوص, وانه جامع لحذافير الهدى والرشاد, وأنّ الهدى في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم, والاستنان بسنّته وطريقته, واتّباع سبيله بإحسان, بلا إحداث ولا ابتداع.

 وأكرُّ القول: إن ما سطرته أناملك المنصفة, حقيقٌ بأن يكون مسوَّدَةَ حوار بنّاء. ولكم يعزُّ عليَّ سَلُّ شَبيه الأَسَلِ على مَنْ حال المُحبّين معه: ويلي عليك وويلي منك يا رجل!

وكما قال الحصين بن الحمام:

يفلّقن هاماً من رجالٍ أعزَّةٍ   ...   علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

وإني لأعلمُ أنّه قد فتح على نفسه بابًا سيؤذيه منه من لا خلاقَ له, فاللهم ثبّته وأمثاله على الحقّ, وخذ بأيديهم وقلوبهم إلى تمام العلم والفقه والدين, واجعلهم طليعة هدى, ومقدَّمي رشاد, ورابطة خير.

ولقد اتّفق لي في عملي بضعة إخوة, يدينون بما دان به أخونا من الترضّي والتفضيل لكل الأصحاب, والدفاع عن أم المؤمنين وتنزيه عِرضها الشريف المصون, والقول بكمال القرآن العظيم, مع انتماء بعضهم للإسماعيلية, وبعضهم للجعفرية الاثني عشرية, ويقولون: إنا برآء من كل ما ينسب من تيك العظائم والفِرَى. ولعل الله تبارك وتعالى, أن يُتمّم عليهم النعمة, بإتمام البراءة من كلِّ شائبة باطل, وطائفة ضلال, وفئة بدعة وإحداث. ولعل بعضهم يقرأُ هذه السطور, فيُداخلها بشهادته المشكورة الوفيّة. 

ولإخوتي الذين قد يتهمون هؤلاء بتقية ونحوها أقول: ما تريدون من إخوتكم؟! أتريدونهم أن يقتلوا أنفسهم حتى تصدقوهم؟! ليس لكم عليهم إلا الظاهر, أما سرائرهم وسرائركم فلعلّام الغيوب وحده لا شريك له, ورسولُ الهدى صلوات الله وسلامه عليه لم يُبعث لينقّب عن بطون الناس, ولا ليشقّ عن صدورهم. أمّا الحذرُ لخوف الرِّيبة فهو منوطٌ بالشبهة, ومقيدٌّ بحدّ الحاجة, بلا وَكْسٍ ولا شَطَطٍ, فبالعدل قامت السماوات والأرض, والإنصاف عزيزٌ إلا لمن وفّقه مولاه.

وفي ظنّي أن لا تلازم بين الصفويين والشيعة, وإن وُجِد _بلا شكّ_ قابليّةٌ واحتضانٌ وتبعيّة عند الكثير. وقد قال الدكتور الكريم بظنّه أن هذا المعتقد الذي ساقه هو ما يدين به جُلُّ أهل الخليج والمنطقة الشرقيّة, وبنفسِي عاضدُ ذلك ببرهان, مِنْ شاهدٍ أو موثّقٌ أو خبير, كذا مخالف ببرهان, فلا زالتْ في الجَوِّ عَتَمَةٌ! 

ولهؤلاء الذين فارقوا الغلاة ونبذوا المشركين, وصابَرُوهُم في ذات الإله أقول: لقد أخذتموها بجمالة وكرامة, على حدّ هتاف الشاعر الباسل:

فَما لَيَّنَتْ مِنَّا قناةٌ صليبَةً   ...   ولا ذَلَّلَتْنَا للَّذِي ليسَ يَجْمُلُ

وَلَكِنْ رَحَلْنَاهَا نُفُوسَا كَرِيمَةً   ...   تُحَمَّلُ مَالا يُستطاعُ فتحمِلُ

وَقَيْنَا بِحَدِّ العَزْمِ مِنَّا نُفُوسَنَا   ...   فَصَحَّتْ لَنَا الأَعْرَاضُ والنَّاسُ هُزَّلُ

مع تسجيلنا أن الانتماء لطائفةِ بدعةٍ محذورٌ شرعيٌّ بحدِّ ذاته, ولكن حال بعضهم ممن يكتم إيمانه قول طرفة البكريّ: حنانيك بعض الشرِّ أهونُ من بعض.

وبعدُ؛ فأحسنوا الظنَّ في الموجود يُوهب لكم ما لم يوجد, وكما أن المؤمن حسن الاعتقاد, فهو كذلك حسن الظن.

 وللفريقين: تأمّلوا حال كثير من كبار الشيعة الذين هداهم الله للحق والهدى, مع أن بعضهم قد وصل في المراتب الدنيوية والعلمية ما لا يُلحق به من أقرانه, مع ذلك اختار الابتلاء بالدعوة إلى توحيد رب العالمين, واتّباع سنة خاتم المرسلين, والعض عليها بالنواجذ.

فمن أولئك الأفذاذ: أحمد مير قاسم بن مير أحمد الكسروي, المولود في تبريز, وتلقى تعليمه في إيران, وعمل أستاذاً في جامعة طهران, و تولى عدة مناصب قضائية, و تولى مرات رئاسة بعض المحاكم في المدن الإيرانية, حتى أصبح في طهران أحد كبار مفتشي وزارة العدل الأربعة, ثم تولى منصب المدعي العام في طهران, و كان يشتغل محرراً لجريدة "برجم" الإيرانية, و كان مجيدًا لسبع لغات, الفارسية الحديثة, والفارسية القديمة "البهلوية" والعربية والتركية و الإنجليزية والأرمنية والفارسية, وله كتب كثيرة جداً, ومقالات منتشرة في الصحف الإيرانية, ولا زال له جمهوره المحب حتى الساعة. ولقد كانت مقالاته القوية التي يهاجم بها أصول المذهب الرافضي, قد جذبت نظر كثير من الأحرار في إيران وخارجها. حتى كتب له بعض الكويتيين بطلب تأليف كتب بالعربية ليستفيدوا منها, فكتب لهم كتابه الشهير "التشيع والشيعة" والذي أوضح فيه بطلان المذهب, فانتقم منه الغلاة, فأطلقوا عليه الرصاص, ودخل المشفى ثم خرج منه بعافية. ثم أخذ خصومه من الروافض يتهمونه بمخالفة الإسلام! و رفعوا ضده شكوى إلى وزارة العدل ودعي للتحقيق معه مع أمرٍ قد بيّتُوه بليلٍ, وفي آخر جلسة من جلسات التحقيق _وقيل بل في قاعة المحكمة_ في نهاية سنة (1324هـ - 1946م) أطلقوا عليه الرصاص مرّة أخرى, وطعنوه بخنجر, فمات على إثر ذلك شهيدًا, ولا نزكيه على الله - وقيل إن قتله كان بفتوى من الخميني - وعدّوا في جسمه تسعة وعشرين جرحاً, وقَضَى رحمه الله عن عمرٍ ناهز سبعاً وخمسين سنة, وهو معدودٌ من طلائع التّصحيح وهُداة الشيعة للحق في هذا الزمان, رحمه الله.

وقد ألف وأورث كتبًا قيّمة وقويّة في الردود على التّشيّع والتّصوّف, ومما قاله بالحرف: "إن الإسلام الصحيح, هو ما عليه أهل السنة" فضلًا عن أنه معدود من أكبر وأوثق المؤرخين الكبار في العصر الأخير في إيران. و بعد رحيل الكسروي إلى ربه تتابع الخروج من التشيّع, وتأثر كثير من علماء الشيعة بآرائه الجريئة, ونبذوا التشيع جانبًا, وبعضهم اقترب كثيرًا من ذلك وإن لم يصل بعد. ولعل الكسروي رحمه الله كان من ثمار الحركة الإصلاحية التي قادها آية الله محمد حسن شريعة سنغلجي (ت:1943) صاحب كتاب "توحيد العبادة" الذي أثبت فيه وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة وتوحيده لا شريك له, وكتاب "مفتاح فهم القرآن" الذي أوجب فيه تقديم القرآن الكريم على كل ما سواه من روايات الشيعة وتمحيصها ورد ما يخالفه منها.

ومن بركات جهاد الكسروي في الله بسيف العلم والحجّة والبيان أن هدى اللهُ به آيةَ الله العظمى _بحسب تسميات مراتبهم_ السيد أبو الفضل البُرقعي, المجاهد العظيم, ومؤلف الكتاب الشهير الكاسر "كسر الصنم" في نقض أصول الكافي, وهو أبو الفضل بن الرضا البرقعي القُمّيّ مولداً ثم الطهراني، ويرجع نسبه إلى السيد أحمد بن موسى المبرقع ابن الإمام محمد التقى الجواد ابن على بن موسى ابن موسى الرضا, فهو من سلالة الحسين رضي الله عنه, وكان من أقران الخميني, بل هو أعلى رتبةً وعلميّة ومرجعية منه في مذهب الشيعة, وقد خرج من التشيّع, وأعلن السُّنَّة في عهد الشاة. وهو من أهل قُم, و قد أقام بها أجداده منذ ثلاثين جيلاً, وسلسلة نسبه و شجرة عائلته موثّقة في كتب الأنساب. وقد كان البرقعي رحمه الله يحملُ على الكسروي بردود شديدة حتى هداه الله للحق. وقد تلقى العلم في الحوزة العلمية في "قم" ونال درجة الاجتهاد في المذهب الجعفري الاثني عشري, وله مئات المصنفات والبحوث والرسائل، وكان في شبابه شيعياً متعصباً, وبعد هداية الله له لمّا أعلن جهاده باللسان والقلم في ردّ بني قومه للحق, ودعوتهم للهدى, فأزمعوا قتله غيلة! _كعادتهم الدنيئة_ فتعرّض للاغتيال في مسجده مع أنّه كان مناهزًا الثمانين. وقد أنجاه الله من القتل, لكنه أصيب في سمعه بسبب إحدى طلقات الرصاص التي أصابته. ثم بعد ذلك تعرض للسجن والتعذيب والنفي بعد شفائه, بعدها بسنوات حكم عليه بالسجن ثلاثين عاماً, فسجن رحمه الله. ثم رحل إلى ربه عام 1993م  ولا يُعلم هل اغتالوه, أم لا؟ وقد أوصى الشيخ ألا يدفن في مقابر الشيعة. وقد ترجم البرقعي رحمه الله  "مختصر منهاج السنة " لشيخ الإسلام ابن تيمية إلى الفارسية, وألف كتباً  أخرى منها كتاب "تضاد مفاتيح الجنان مع القرآن" وكتاب "دراسة علمية في أحاديث المهدي" وكتاب "دراسة في نصوص الإمامة" وكتاب "الجامع المنقول في سنن الرسول" وكتاب "نقد على المراجعات" وكتاب "تضاد المذهب الجعفري مع القرآن و الإسلام"

هذا, وممّن نفع الله بكتبهم: حيدر علي قلمنداران القمي, صاحب كتاب "تمحيص روايات النص على الأئمة" وقد قدّم له العلّامة البرقعي رحمهما الله, وله كتاب "طريق النجاة من شر الغلاة".

ومن أولئك الأفذاذ الأحرار: السيد حسين الموسوي الكربلائي النجفي, من أهل العراق, وهو من أهل النجف خصوصًا, وُلد في كربلاء, وقد كان عالما محدثاً, ومدرساً فيها, درس المذهب الاثنى عشري في الحوزات العلمية, وكان صديقًا للخميني, وكانت له اليد الطولى مع بعض زملائه من علماء الحوزة في إعادة صلاة
الجمعة إلى المذهب الشيعي بعد أن أوقفت قرونًا طويلة انتظارًا لأُسطورة صاحب السرداب! وقد كان والده عالماً من علماء الشيعة. وهو مؤلف الكتاب المشهور الذي أحدث ضجة في العراق والشام واليمن والخليج "لله ثمّ للتأريخ" وهو عبارة عن شهادات ووقائع ونقد ودعوة, وقد نَقَدَ حياته نقدًا غير نسيئة ثمنًا لهذه الرسالة رحمه الله تعالى, إذ تمّ اغتياله انتقامًا ممن حشرهم صِدْقُه ونُصْحُه وشجاعته, تقبّله الله في الشهداء. وقد سبقه في درب الشهادة غيلةً_ولا نزكيهما على الله_المجاهد النادر إحسان إلهي ظهير, الذي نفع الله بمؤلفاته الفئام الذين لا يحصون حتى هذه الساعة.

وممن أفاد الناس بعلمه وتجرّده للحق: محمد إسكندر الياسري, وله كتاب "الحقيقة القرآنية" وقد اغتيل عام 1997م.

ومن أولئك الأخيار: العلامة إسماعيل آل إسحاق خوئيني. وله مرتبة علميّة سنية في المذهب, وقد كرّس حياته للتصنيف والكتابه حتى وفاته رحمه الله في 7/10/2000م.

ومن أولئك الأماجد: الإمام الشيخ حسين المؤيد, الذي أعلن وأشهر اعتناقه مذهب أهل السنة والجماعة, وقد أحدث تسنّنه ضجّة وهزّة في أتباع المذهب الإمامي. وقد فصّل ذلك في كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان إتحاف السائل . والشيخ حسين المؤيد منحدرٌ من عائلة شيعية عريقة, ويعتبر من أبرز المراجع الشيعيه في العراق, وقد  درس العلوم الدينيه, في الكاظمية في بغداد, وتتلمذ في قم الإيرانية عام 1982على يد كبار علماء الشيعة, وقد نال درجة الاجتهاد المطلق في المذهب, وهي أرفع الدرجات العلمية في الحوزة.

وانظر _يا رعاك الله_ كذلك كتاب "يا شيعة العالم استيقظوا" للشيخ موسى الموسوي, وله كذلك "الشيعة والتصحيح" ومن أصحاب القلم الحرّ: الأستاذ صباح الموسوي, صاحب كتاب "كشف مآسي أهل السنة في إيران" وكتاب "الدفاع عن القضيّة الأحوازية".

 وقد كثرت في هذا الزمان بحمد الله الأقلام الإصلاحية من داخل مذهب الشيعة والدعوة للحق والهدى, وترك التعصب لغير الوحي المنزل, وانظر على سبيل المثال كتاب "ربحت الصحابة ولم أخسر الآل" للأستاذ علي القضيبي من البحرين, وكتاب "صرخة من القطيف" للأستاذ صادق السيهاتي, وكتاب "ثم أبصرت الحقيقة" للأستاذ محمد سالم الخضر. وغير ذلك كثير بحمد الله.

والسؤال المُنقدح في ذهن كلِّ شيعيّ حرّ: لماذا  فعلها هؤلاء, وهم قد تسنّموا أعلى المراتب؟! بل كيف صبروا وصابروا ورابطوا عليها حتى لقوا الله بها؟! أتُراهم متهوِّكون؟! كلّا والذي فلق الحبّ وبرأ النّسم, إن هم إلا مُوفّقُون مهديون, والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ثاني الوقفات مع رده الكريم: غضبه من الإشارة ولو من طرف خفي باتهامه بالرفض.

فالجواب: أن المشهور عن أهل القطيف في حسينياتهم ومساجدهم ومدوناتهم وشبكاتهم _وعسى أن أكون مخطئًا_ أنّ جُلَّهُم, لا كُلُّهُم على مذهب الرافضة السبابة, والحمد لله الذي استنقذك من ذلك, وبرّأك مما هنالك بإعلانك البراءة منهم, فله وحده الحمد والمنة.

وقد ذكرت _وفقك الله_ أن من يقود فكر أتباع أهل البيت في هذا الزمن هم الغلاة, أي الرافضة. وفي هذا اعتراف بأن كلمتهم هي النافذة عند جمهورهم, فالذي يراك من خارج القطيف يُحاكمك إلى من اشتهرت تبعيّتك له, إلا بقرينة صارفة.

وأزيدك بالقول بذهاب جمع من أهل العلم إلى تسمية جمهور الاثني عشرية بالرافضة؛ كالاشعري في المقالات (١/ ٨٨) وابن حزم في الفصل (٤/ ١٥٧-١٥٨) بل قد ذهب البغدادي وغيره إلى إطلاق هذه التسمية على جميع فرق الشيعة بلا مثنويّة!

 بل إن كتب الاثني عشرية قد نصّت على الموافقة على أن هذا اللقب (الرافضة) من ألقابها! وانظر البحار للمجلسي (٦٨ / ٩٦-٩٧)

قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وإنما سُمّوا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر. قلت: وذلك لما فارقوا زيداً رحمه الله لترضّيه عن الشيخين

ولا بد من تحرير معنى الرفض, فالرفض اسم عام لكلّ من إمامة أو خلافة أو تقديم الشيخين. فمن قدّم عليهما أحد فلهُ نصيب من ذلك فمستقلٌّ ومستكثر. وإني سائلك من هذا المنبر فأجب بلا حيده: هل تُقدّم  الشيخين في الفضل, وأحقّية الإمامة على كل من سواهما؟

يا دكتور _أخذ الله بيدي ويدك_ هذان شيخا المسلمين, عنهما نتحدّث, وإلى فضلهما نشير, هما خير من خلق الله من ولد آدم بعد الأنبياء, هذان صاحبا المصطفى الخاتم عليه الصلاة والسلام في حياته, ووزيراه بعد مماته, وأقرب الناس منه جسداً بعد لحاقهما به. لا كان ولا يكون في الأمة مثلهما. لقد حفظ الله بهما الدين, وقمع بهما جموع المرتدين, وأقام بهما الملّة الحنيفيّة بعد كيد المجرمين, ودحر بهما زيغ المبتدعين, وفتح بهما الأمصار للمؤمنين, وأدخل بهما الناس أفواجًا في دين رب العالمين, وما ذاك إلا ببركة اتباعهما للرسول الأمين عليه الصلوات والبركات والتسليم. إنهما الشيخين رجح إيمانُهما بالأُمّة قاطبة!

 ويا خيبة من عاداهما وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في أبي بكر: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ, وقال أبو بكر: صَدَقَ. وواساني بنفسه وماله, فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟! فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" رواه البخاري, وقال صلى الله عليه وسلم: "أبرأ إلى كل خليل من خله, ولو كنت متخذا خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا, وإن صاحبكم خليل الله" رواه الترمذي وأصله في الصحيحين. إنّه أبو بكر ثاني اثنين في الغار, وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائمٌ رأيت الناس يُعرضون علي، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك, وعُرِضَ علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره, قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: الدين" متفق عليه, ولهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن، فشربت حتى إني لأرى الرّي يخرج في أظفاري, ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب" قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: "العلم"

وقالت عائشة رضي الله عنها: لما توفي صلى الله عليه وسلم اشرأبَّ النفاق, وارتدت العرب, وانحازت الأمصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها, فوالله ما اختلفوا في نقطة إلاَّ طار أبي بغنائها وعنائها، ثُم ذكَرَتْ عُمَر فقالت: ومن رأى عُمَر علم أنه خُلِقَ غناء للإسلام، ثُم قالت: وكان والله أحوذيَّا, نسيج وحده, قد أعد للأمور أقرانها.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ذُكر الصالحون فحيّ هلًا بعمر, إن إسلامه كان نصرًا, وإن إمارته كانت فتحًا, وايم الله إني لأحسب بين عينيه ملكًا يسدده ويرشده, وايم الله إني لأحسب الشيطان يفرق منه أن يحدث في الإسلام حدثًا فيردّ عليه عمر.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وُضِعَ عمرُ على سريره، فتكنفه الناس، يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي؛ فإذا عليّ، فترحَّم على عمر وقال: ما خلّفت أحدًا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك. وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيرًا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر.

وعن عبد العزيز بن حفص الوالبي قال: قلت للحسن: حُبّ أبي بكرٍ وعمر سنّة؟ قال: لا, فريضة. وعن أبي حازم عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن أبي بكر وعمر, ومنزلتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كمنزلتهما اليوم, هما ضجيعاه. وكذلك أجاب إمام دار الهجرة مالك بن أنس هارون الرشيد حينما سأله عن منزلتهما منه فقال: كقرب قبريهما من قبره بعد وفاته. فقال: شفيتني يا مالك, شفيتني يا مالك.

وعن جعفر الصادق رحمه الله تعالى قال: أنا بريءٌ ممّن ذكرَ أبا بكرٍ وعمرَ إلا بخير. فخذوها معاشر الجعفرية, هدانا الله جميعًا سواء السبيل.

ومن طعن في إمامة الشيخين أو تقديمهما فهو أضلُّ من حمار أهله, كما قاله إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله, ولعله اختار ذلك التشبيه لأن الحمار أبلدُ الحيوانات, وأقلّها فهمًا, فماذا بعد الحق إلا الضلال, فأنّى تُصرفون؟!

هذا مع إجلال الإمام أحمد رحمه الله تعالى لأهل البيت, وحفظه لحرمتهم, وحفظه لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم, ولمّا رفع المتوكّل محنة القول بخلق القرآن العظيم طلب من الإمام الصفح عن المأمون والمعتصم والواثق ففاجأه بجوابه بأنه قد سامحهم في وقت عذابهم له, لكونهم من آل بيت النبوة, وكان إذا أراد الخروج من المسجد قدّم قبله صبية آل البيت الصغار إجلالًا لآل رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم وعلى المؤمنين. كذلك كان الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله, وكان يستحسن تمييز آل البيت بلباس أخضر كي لا يمتهن مقامهم من لا يعرفهم, أو يضيّع حقهم من يجهلهم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية:مبيّنا اعتقاد أهل سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين: "ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولّونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث قال يوم غدير خمّ: "أذكّركم الله في أهل بيتي" وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: "والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".

ويتولون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، و الصدّيقة بنت الصّدّيق رضي الله عنها, التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وقد علّق العلامة العثيمين رحمه الله تعالى عليها بتعاليق نفسية _كعادته_ جديرة بالمطالعة, في شرحه للواسطية.

هذا, وإن القول باندثار الشيعة المفضّلة مجانبٌ للصواب, فقد رأينا منهم فئامًا, والظن بكثيرهم أن يعودوا بالمسألة لأولِ الأمر, فيحاكموا التنازع للوحي المنزّل المعصوم, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو ضمانة النجاة, وصِمَامُ أَمْنِ العَثَار والزلل, ومفتاح الهدى والتوفيق, إي وربي.

وإن مما يُحمد لوسائل التواصل الإعلامي في عصرنا مرئيةً أو مقروءة أو مسموعة؛ أنها نفخت رياح الحريّة الحقيقية في نفوس عبادٍ لله كانت مكبّلةً بالتقليد والتوجّس, فما هو إلا أن رأت وسمعت وقارنت وقايست, فأعملت عقلَها, واستنطقت فطرتها, وقبل ذلك استهدت بربها, فأسلمها ذلك التوفيق لمنازل الهدى ومواطن الرشاد, فبلغت في ذرى الفلاح أعلى أمانيها.

وأقول للمهتدي من محافظة صفوى الأخ جميل آل مسلم _الذي كان سبب تلك المقالات_:باركك الله, وبارك فيك, وبارك لك, وبارك عليك, وجعلك مباركًا أينما كنت, وثبّتك على الحق والهدى, وأمدّك بتوفيقه وهداه حتى تلقاه وهو عنك راض. إله الحق آمين.

الوقفة الثالثة: ذكر الدكتور محمد في ردّه قضيّة محاكمة الدكتور النفيسي _حفظه الله, وفكّ رهنه, وأطلق حبسه_ وبما أنّي لم أتطرّق لهذه القضيّة في مقالي الآنف ابتداءً فلستُ هنا بسبيل الردّ عليها - إلا أن شاء الدكتور الفاضل سجالًا فعلى الرحب والسعة- كقول الأعشى:

قَالُوا الرُّكُوبَ فَقُلْنَا تِلْكَ عَادَتُنَا   ...   أَوِ تَنْزِلُونَ فَإِنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ

واعلم _رحمني الله وإياك_ أن المسميات إنّما هي قوالبُ وعلاماتٌ, وليس بالضرورة حقائق ومعاني! فاللقب مهمّ لأنه إشارة وانتماء واجتماع ظاهر إلى طائفة مخصوصة, مع فريضة الانحياز لأهل السنة والجماعة, ولكن المعوّل يا صاحبي إنما هو على الحقائق, ويذكر أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لمّا بيّن فضيلة أهل البيت اتّهمته الناصبةُ بالرفض. _والناصبة طائفة مبتدعة عادت أهل بيت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم, وقد جار وظلم من نسب أهل السنة إليهم_  فقال رحمه الله تعالى في أبيات رائقة:

يا رًاكبًا قِفْ بِالمُحَصَّبِ مِنْ مِنًى   ...   وَاهْتِفْ بِسَاكِنِ خَيْفِهَا والنَّاهِضِ

سَحَرًا إِذَا فَاضَ الحَجِيجُ إِلى مِنًى   ...   فَيْضًا كَمُلْتَطِمِ الفُراتِ الفَائِضِ

إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلٍ محمدٍ ... فَلْيَشْهدِ الثَّقَلانُ أَنّي رَافِضِي

 وحاشاه عن الرفض, ولكن قالها من باب استحالة فصل محبّة أهل البيت من الدين, قال البيهقي رحمه الله: وإنما قال الشافعي ذلك حين نسبه الخوارج إلى الرفض حسدًا وبغيًا.

أخيرًا: فقد ضاق سَحرُ بعض قومنا ممن لوّثتهم العلمنة, بشأن اليقين بالحق, وعدم التردّد فيه, وشنعوا علينا بأن هذا إنما هو من قبيل الرأي الأحادي, وعدم قبول الرأي الآخر..إلى آخر ذلك الغثاء, عائذًا بربي من الخذلان.

وقد غفلوا عن أن مسائل الشريعة منقسمةٌ إلى: أصولٍ قطعية يقينية, لا يجوز التردد فيها, بل اليقين فيها لازم لكل مؤمن. والقسم الثاني: مسائل يسوغ فيها الخلاف بين المؤمنين من أهل العلم والاجتهاد.

ولكلِّ من نَعَقَ بنشازِه ونَهَقَ بشقاقه, بترديد قالاتِ الكفرة من المستشرقين وورثتهم, بزعم النظرة الأحادية, واحتكار الحقّ ونحو ذلك, فنقول لكل أولئك ومن خلفهم: بسم الله الرحمن الرحيم "الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" فلسنا في شكّ من ديننا, بل في يقينٍ أرْسَى من ثهلان ورضوى بحمد ربنا الهادي. ونقول بعالي الصوت لكل من وصف هذا المسلك بمسلك الغلوّ والشطط, الذين سبقهم أخوانهم بقولهم "غرّ هؤلاء دينهم":

 نعم, نحن المسلمون وحدنا على الحق والهدى, وكل من سِوَى المسلمين فضالٌّ ظالم خاسر. ثم أَخُصُّ بعد العموم فأقول: إن الحق لا يخرج بمجموعه عن أهل القرون المفضّلة من السلف الصالح, الذين ورثهم أهل السنة والجماعة, فكل أمر خالف ما عليه صحابة رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ فهو باطل مُطَّرح مرذول، مهما أجلب أهل الجدل والشقاق.

وعليه: فكل من خالف عقيدتهم التي أخذها عنهم التابعون والأتباع، كذلك منهجهم وفقههم وسلوكهم؛ فهو ليس من الهدى في شيء. وجِمَاعُ دينهم الكتاب والسنة, بفهمهم المعصوم -في جملتهم, لا أفرادهم- عن الزيغ والضلال، فلم يجتمع سلف الأمة على ضلالة مطلقًا, وإن اخطأ آحادهم، فالحق لا يخرجُ عنهم.

ومن فروع ذلك شرطيّة اليقين للإيمان بالله تعالى, فلا إيمان لمن لا يقين له, بل هو الشك والريبة والنفاق, قال سبحانه وبحمده مادحًا أئمة المؤمنين: "لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" وإن الله تبارك وتعالى قد اصطنع خليله ورباه وكمّله وقال: "وليكون من الموقنين" وقال جل وعلا:"هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" وقال تبارك اسمه: "الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون" وقال جلّ وعزّ: "قل يا ايها الناس إن كنتم في شكّ من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن اقم وجهك للدين حنيفًا ولا تكونن من المشركين"

فلسنا بحمد الله في شك وريب من أمرنا, بل إن من شكّ في دينه فهو خارج عن ملّة المسلمين, فليس في أهل القبلة مرتاب. إنما أولئك أهل النفاق، فحذار حذار من أن تُفضِيَ بقلبك إلى ما فيه عطبك, من كتب وقالاتٍ لأهل الزيغ والشرك والبدعة. 

  قال الله تعالى: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" وقال سبحانه: "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" 

وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على خير خليقته محمد وآله وصحبه, عدد أنفاس أهل الجنة.

إبراهيم الدميجي

14/ 6/ 1434



نحن على موعد مع أديبين كبيرين ، قبل أن يكونا باحثين متخصصين، وأزعم أننا سنغنم لذة القراءة بمتعة لا تضاهى لما سيسطره يراعهما في هذا السجال، الذي أفخر بحق أن أديره في المجموعة البريدية ..
مما ندرّسه في فنّ المقالة الصحافية؛ التأكيد على قضية الامتاع للقارئ، ولا والله لا أروع مما يكتبه الزميلان المتساجلان..شكرا أخي الدميجي، شكرا أخي المسعود على هذا الرقي في الحوار بينكما.. ولغة الانصاف التي كتبت بها يا شيخ ابراهيم الدميجي هذه المقالة تزيدك قدرا-وقدرك عال- ورفعة في قلوب كل من قرأ لك هاته السطور..
دكتور محمد المسعود، دونك ما خطه  "رافعي السلفيين" الشيخ الدميجي، فهات لنا ردك ..عبدالعزيز قاسم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..