نعم على ثورة الربيع العربي أن تشكر أمريكا وإسرائيل وبعض أصحاب البراميل.
فهم قد أقدموا على
الخطوة الأخيرة التي تدحض أفكار كل الذين أرادوا أن يلطخوا حقيقة
ما أثبته الشعب عندما أعطى أمانة حكمه للمخلصين من أبنائه ممن عرفوا بصلابة
مواقفهم من عهد الاستبداد والفساد سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين حتى وإن
كانت غالبية من اضطهد في أموالهم وأعراضهم وحياتهم من أولئك دون حصر فيهم.
وقد ذهب بعض المتفاقهين في علم الجيوستراتيجيا إلى اتهام الثورة نفسها فردوها
إلى مجرد مؤامرة ضد المقاومة والأنظمة القومية التي تعارض مصالح الغرب وتدافع عن
مصالح بلادها رغم علم الجميع بأنها تبق قائمة إلا بما تستند إليه من دعم غربي
عسكريا ومخابراتيا. لم يكفهم أنهم يؤيدون قاتل مئات الآلاف من شبعه ومبدد وحدته
بتطويفه وتخويفه بعضه من بعضه بل هم يحاولون سلب الشعب من أعز ما عنده بالحط من
فعله وجعله مجرد دمية تحركه كما ترحكهم المخابرات الأجنبية.
لذلك استنتجوا من هذه الفرضية التي تعبر عن خيالهم المريض الفرضية التي
باتت عقيدة عند كبار المنظرين من العلمانيين والليبراليين وأدعياء المقاومة
الطائفية باسم الحرب على التكفيريين أن الإسلاميين ومن لم يقبل بإستراتيجية فتح مع
حماس من العلمانيين والليبراليين الذين قاوموا الاستبداد والفساد قبل الثورة أنهم
عملاء أمريكا نصبتهم في الحكم بديلا من أنظمة تعارضها أو نفدت فاعلتيها الخدماتية.
ألا يجب علينا حينئذ أن نشكر أمريكا وإسرائيل وبعض أصحاب البراميل؟ يوجد صنفان من
الأسباب العرضية التي يفرض علينا أن نقدم الشكر والامتنان لأن العرفان من شيم
الإنسان.
الصنف الأول من أسباب الشكر والعرفان العرضية
ولنبدأ بالصنف الأول. فطبعا ليس الشكر والعرفان من الثورة لأمريكا وإسرائيل
لأنهما ساعدا الإسلاميين ومن عمل إلى جانبهم من ورثة المقاومين الصادقين للتبعية
والاستعمار في أقطار الربيع العربي طيلة القرنين الأخيرين لأن الاستراتيجين فضحوا
نواياهما في ذلك فبينوا أنه لم يكن حبا في الإسلاميين بل سما في الدسم القاتل: فذلك كان خطة حتى يطعموا (يفكسنوا) الجماعة العربية بصورة
تبعد عنهم نهائيا كل تفكير في حكم إسلامي إذ كانا يعلمان إن تجريبهم سيبين لهم
ضحالتهم فيعود العرب إلى صوابهم ويختاروا من يحققون مصالحهم ومصالح أصدقائهم.
إنما الشكر والعرفان سببه الأول هو ما يحصل الآن وكانت بدايته في مصر وخاصة
في حالة التسليم بفرضية المشوهين للإسلاميين. فما يحصل في مصر يثبت أمرين متناقضين
وإن اشتركا في الدور التحفيزي للوعي والفعل أمرين ينبغي لوعي الشعب العربي عامة ووعي
الشباب فتيات وفتيانا منهم خاصة أن يحللهمها حتى يفهم ما يجري الفهم الصحيح فيشكر
المكر السيء الذي ليس هو إلا من أدوات المكر الخير لو كان أصحابه يعلمون:
الأول يمكن القول إنه أكبر إيهام بصدق الفرضية القائلة بعمالة الإسلاميين وبإخلاص
الإنقلابيين: فأمريكا وإسرائيل بلدان معروفان بحب الخير للجميع ودُماهم من أصحاب
البراميل معروفة بالتقدمية والحرية والجميع إذن حريص على مصلحة أوطاننا إلى حد جعلهم
لا ينامون قبل أن يعملوا كل ما بوسعهم للتعاون مع المخلصين لهذه الأوطان فيشجعوهم
على إبعاد الإسلاميين العاجزين عن الحكم خدمة لمصلحة المصرين ورعاية لمجد مصر.
الثاني -وقد يبدو مناقضا للأول رغم كونه مثله إيهاما بصحة الفرضية من بعض
الوجوه-هو أن الإسلاميين ومن لم يقبل بخطة فتح مع حماس فشاركوهم في تحمل المسؤولية
باتوا دهاة في السياسة أوهموا الغرب عامة أمريكا خاصة بأنهم مستعدون للخدمة إذا
وصلوا إلى الحكم ولما أوصلوهم تنكروا لهم فلم تمهلهم أمريكا وبينت لهم قدرتها على
العودة إلى من هم في العمالة أكثر إخلاصا لها.
وطبعا فلما كان فقهاؤنا في التحليل السياسي يعتبرون كل إسلامي غبي بالطبع
كما تقول بعض مثقفات تونس من التقدميات فلا يمكن أن يصفوا من ليس من صفهم بالذكاء
والدهاء فإن الفرضية الوحيدة المقبولة عندهم هي الأمر الأول. لذلك فنحن نوافقهم
ونقبل بهُ: نقبل بأن تكون
إسرائيل وأمريكا ومعهما دُماهما من الخليج حرصا منهما على رعاية مصالح شعب مصر
وحسن إدارتها اختاروا أفضل نخبها وقدموهم لإدارة البلد. وطبعا فأفضل ما يوجد في
مصر- وفي تونس لاحقا ربما- هم كل معارف أمريكا وإسرائيل ممن عرف بحبه لبلده
وإخلاصه لها.
فتكون أمريكا وإسرائيل قد ضربتا عدة عصافير بحجر واحد: فَكْسَنَتْ العرب ضد
أي تفكير في حكم الشعب بمن يشاركه نفس القيم وفي أن يحكم بقيم يؤمن بها فأعادت إلى
الحكم من هم أولى الناس به لفرط ما عرفوا به من ديموقراطية وحقوق إنسان. ولا
تلوموهم إذا هم احتاجوا وصولا إلى الحكم إلى تعويض الطرق التقليدية بركوب الدبابات
العسكرية والكذابات الإعلامية والقواعد العسكرية والمخابرات الأجنبية وصولا إلى الحكم
وبقاء فيه دون حاجة لرأي الشعب لأنه جاهل ولا يعرف مصلحته التي هم حريصون عليها
أكثر منه.
أما رضا نظام الاستبداد والفساد عن
هؤلاء فليس ذلك مما يدل على اتصافهما بالفساد والاستبداد مثله بل كانوا أطهارا
وشرفاء إنما عملوا معه حبا للوطن وبسبب الحاجة إليهم لكفاءتهم الخيالية التي لم
يجد الدهر بمثلها بدليل أن غيابهم عن الدولة في هذه الفترة أدى إلى الخراب بعد أن
كانوا قد عمروا البلاد وأشبعوا العباد. أما من الكلام على الحقيقة فهذا تعلل من
الفاشلين الذين أتوا بعد الثورة: ألم ينجحوا في أقل من نصف قرن نجاحا منقطع النظر فجعلوا شعوبهم متقدمة حتى
وإن أصبحت محتاجة للقمة العيش فضلا عن التبعية في كل ما عدا ذلك؟ أليست الجزائر مثلا
الجزائر التي كانت فرنسا مدينة لها بغذائها الذي لم تستطع تسديد كلفته قد باتت
تستورد قوت شعبها اليوم؟ ومن قال إن البترول سينضب فيهدد العراق والخليج والجزائر
وليبيا ناهيك عن الأقطار التي لا بترول لها ولا غاز بأن تصبح متسولة بل هي بعد
كذلك؟
الصنف الثاني من أسباب الشكر والعرفان العرضية
ولنتكلم الآن الكلام الجدي على الأسباب العرضية للشكر والعرفان اللذين ندين
بهما لأمريكا وإسرائيل وما لهما من دمى بين العملاء من أصحاب البراميل: ندين لهم
بها ليس بمقتضى قصدهم منها بل بمقتضى عكسه. وهنا أيضا نجد علتين أساسيتين تبدوان
متناقضتين لكنهما في الحقيقة تثبتان نفس الحقيقة هي التي تنفيها الفرضية التي نبعت
منها العلل السابقة: وهذه الحقيقة هي أن ثورة الربيع العربي ثورة شعوب حقيقية وليست مؤامرة
أمريكية وما يحركها حقا هو رصيدها النضالي وقيمها التي تمثل معين ذاتها وأصل
قيامها الروحي والخلقي. لم تكن فزة
جهاز عسكري حتى تنسب إلى تحريك أجهزة مخابرات الأعداء.
لذلك فالعلل الحقيقة لما يجري ليست هذه الأسباب العرضية بل هي طبيعة الثورة.
لكن ذلك كان
بحاجة إلى محفزين خارجيين يوجهان سبابة الإشارة إلى ما يستقبله الوعي والفعل
مباشرة لالتصاق أعدائه في الداخل بأعداء الأمة في الخارج. فيكون ديننا لهما دينا
للمحفز وليس للمعلل:
فالدور المحفز الأول لهذا التماهي بين العدوين أوصل إلى الوعي الجمعي بحدة هذه الحقيقة حتى
يصبح محركا للجماعة تحريكا فاعلا يحررها من رد الفعل فيكون المضمون القيمي متجاوزا
للتناقض المعطل للمسيرة التاريخية التناقض المتمثل في الخيار الزائف بين إحياء
الأصيل واستنبات الحديث. فكلاهما يمثل أحد وجهي الحياة: تواصل الماضي هو عين إبداع
المستقبل. وهذا الإبداع كما سبق أن بينا مثلته في الوعي العادي شعارات الثورة حقيقة
فعلية بصريخ الجماهير ومجازا شعريا بالتحرر من الفهم الانفعالي للقضاء والقدر في
بيتي الشابي صوغا لآية جليلة من القرآن الكريم حول صلة الفاعليتين الإنسانية
والإلهية في التاريخ الفعلي.
والدور المحفز الثاني للتماهي بين العدوين ثبت هذه الحقيقة في الصراع
الفعلي ثبتها بصورة لا تقبل الدحض حتى تصبح فاعلية في الأعيان وليست مقصورة على الوعي
في الأذهان. وهذا ما نشهده في ميادين مصر التي هي مركز الفاعلية العربية بل
والإسلامية منذ سقوط بغداد إلى اليوم ضد الصليبيين والمغول وكل من تلاهم من أهماج
التاريخ وبرابرته. وهنا نرى أن التجاوز المشار إليه في أولا لم يعد مجرد فكرة بل
هو امتزاج فعلي لكل القوى التي تؤمن بالبناء الفاعل لشروط القيام العربي المستقل
وغير التابع. فالحاضرون في الميادين ليسوا إسلاميين إلا بنفس النسبة التي يمثلها
عديدهم في الجماعة دون حصر لأن كل من عداهم حاضر بنسبته في هذا العديد.
وهذان الأمران وعيا وفعلا ندين بتحفيزهما وبتسريع
فاعليتهما إلى أمريكا وإسرائيل تخطيطا وحماية وللفاسد من حكام العرب تمويلا
وإعلاما سفيلا لذلك فهما يستحقان الشكر والعرفان وبعضه لتوابعهما في أقطار الربيع
وبقية الأقطار العربية. فلو لم يجدوا جنرالا سخيفا (السيسي) وشيخا خرفا (هيكل) ونخبا
سطحية (أدعياء العلمانية والليبرالية) وسلطا دينية (شيخ الأزهر وبابا الكنيسة) وبقايا
من النظام الفاسد والمستبد (الفلول) النظام الذي قامت عليه الثورة لما أمكن لهما
أن يجعلا الشعب المصري خاصة والشعوب العربية عامة ترى ماثلا مثولا ماديا أمام
أعينها ما يفهمها بالدقة الواجبة طبيعة الرهان في الربيع العربي:
فميادين مصر هي التي تحدد الآن مضمون الرسالة التي يريد الربيع العربي
تحقيقها: التوحيد بين فعل الإحياء لمعين الذات وفعل الاستنباب لشروط البقاء
المادية والرمزية من خلال تحقيق شروط التحرر من التبعية التي لمجرد كلامه عليها
عزل البطل مرسي: الغذاء والدواء والسلاح وطبعا شرط شروط ذلك أعني التقدم العلمي
التقني والاقتصادي الاجتماعي.
وميادين مصر هي التي تعين طبيعة القيادة. لم يعد الشعب العربي يقاد الزعماء
الدجالين والدعاية الكاذبة التي تجند الإعلام النذل أصحابه وإلا لكان السيسي كما
أوهمه خراف عبد الناصر أعني هيكل قد نجح من اليوم الأول الذي أعلن فيه عما يسميه
خارطة طريقة بحضور شهود الزور من السلطتين القضائية والروحية تحت حماية الدبابة
والمخابرات والإعلام السافل.
هل بعد هذا كله لا يستحق من طلبت أن نشكره الشكر ؟ فالذي خطط والذي مول
والذي وعد بمنع رد الفعل السالب وبتحقيق الاعتراف الدولي بالانقلاب كل هؤلاء ذوو
فضل على الثورة لأنهم من حيث لا يعلمون حققوا بمكرهم السيء فرصة مجرد الفرصة لأن
الفاعل الحقيقي هو إرادة الشعب التي يوجهها صاحب المكر الخير فباتت الثورة دارية
برسالتها واضح الدراية وعالمة علم اليقين بأن زعيمها الأوحد هو إيمان شعبها
بإرادته وحريته وكرامته إرادته التي لن تقهر لأنها من إرادة رب العالمين.
أبو يعرب
المرزوقي
منزل
بورقيبة في 2013.07.20
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..