الصفحات

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

من وحي انتحار حنان الشهري بل نظام الحقوق الاجتماعية

أخي أبا اسامة، عبد العزيز قاسم
قرأت مقالك الذي انبعثت به أناملُك وأملاه فؤادك على إثر فاجعة الابنة حنان الشهري رحمها الله تعالى /  بالطبع لا أنت ولا أنا من يفصل بين حنان وأسرتها ، لكن حديثنا عن فوات كثير من الحقوق الاجتماعية للمرأة في بلادنا ، وأن هذا الفوات سببٌ رئيسٌ لكثير من المصائب .
وعندي أن فوات تلك الحقوق إنما هو نتيجة لغياب نظام يضمن حصول المرأة عليها دون الحاجة إلى عناء المطالبة بها .
وهو ما يُمكن أن نُسميه نظام الحقوق الاجتماعية .
وهذا النظام قد نشرت مقترحاً موجزاً به منذ سنوات في جريدة المدينة ، وفي مجموعتكم هذه .
وكذلك نشرت شرحاً مفصلاً لهذا المقترح في المؤتمر الذي عقده مركز باحثات في الرياض في العام قبل الماضي .
ولتأذن لي يا أخي الدكتور أن أعيد نشر المقترح في مجموعتك هنا لعل نشره الآن يكون أحرى بالاستماع له .

المقال الأول:
نظام الحقوق الاجتماعية
كنت في مقال سابق تحدثت عن أن استحداث نظام للحقوق الاجتماعية هو المخرج العملي، مما تعانيه كثير من النساء في بلادنا من ظلم يتمثل معظمه في تحميلهن من الواجبات ما هو متعلق في أصل الشرع بسواهن، كالنفقة على الأسرة والأبناء، وكتحملهن وحدهن أعباء تربية الأولاد في حال استهتار الزوج أو مفارقته لطلاق أو وفاة.
وعندي أن استحداث هذا النظام سيحقق أيضا للمجتمع وللدولة معا مكاسب أخر؛ كالقضاء على الفقر والحد من نسبة البطالة والجريمة والتسرب الدراسي وسد حاجات الأفراد الملجئة، كما أن من شأنه إحياء روح التكافل والتواد بين مكونات المجتمع وتنمية شعورهم بالمسؤولية تجاه بعض.
ويمكن تعريف الحقوق الاجتماعية بأنها: ما يستحقه أفراد المجتمع من بعضهم شرعا على سبيل الوجوب أو الندب. وتدخل فيها نفقة الأقارب المعروفة في أبواب كتب الفقه، ونفقة الأبناء وتربيتهم وحقوق الجيران تجاه بعضهم ومسؤوليات العاقلة المالية والتربوية تجاه أفراد العصبة، وحقوق الحضانة، وترتيب مسؤوليات الآباء المطلقين عن أبنائهم، وأقارب المتوفين تجاه أيتامهم وأراملهم ومن تعلقت بهم رعايته.
والواقع المعيش هو أن هذه الحقوق لا تُعطى-بضم التاء- إلا مروءة أو قضاء، ولا يوجد طريق ثالث لتحصيلها حتى الآن.
ولا شك أن الاعتماد على المروءة في إعطاء الحقوق أو تحصيلها لم يعد أمرا عمليا في مجتمع متسع يساهم تمدنه كل يوم في زيادة إبعاده عن سلطته الطبيعية في رقابته على أفراده.
أما القضاء فإن مسؤوليته منحصرة في الحقوق الواجبة دون المستحبة، كما أن ترتيب أخذ الحقوق على إقامة الدعاوى وإحضار البينات وصدور الأحكام إنما هو نتاج المشاحة على إعطائها واستيفائها، إضافة إلى ما ينتج عن رفع الدعاوى القضائية من صرف للأوقات وتوسيع للشقة بين المتقاضين، وكل ذلك خلاف المراد وهو إيصال تلك الحقوق بشكل أقرب ما يكون إلى التلقائية، التي تكفل سرعة التحصيل مع الإبقاء على اللحمة وزيادة المودة والشعور بالمسؤولية الإيجابي بين الأخ وأخيه.في المجتمع الواحد.
وهذا النظام الذي قد يبدو سحريا عند البعض لا بد قبل إقراره من إحداث بعض الترتيبات الهيكلية حتى لا يبدو كذلك، وحتى تتجلى واقعيته وقدرته على التغيير إن شاء الله تعالى.
ومن هذه الترتيبات المقترحة لإنجاح هذا النظام:
تفعيل دور مراكز الأحياء وذلك بإعطائها الصفة الرسمية، إضافة إلى ما لها من صبغة تطوعية وإخضاعها مباشرة لوزارة الشؤون الاجتماعية، التي يتوجب عليها إمداد هذه المراكز بالباحثين والباحثات المنوط بهم تكوين قاعدة بيانات تفصيلية عن ساكني الحي تشمل تعيين جيرانهم وأسماء أقاربهم، الذين تتعلق بهم المسؤوليات الشرعية غالبا، كما يناط بهم متابعة المستجد على المدرجين في تلك البيانات من زواج وطلاق وإنجاب وعسر ويسر وجوائح وتعليم واستقامة وانحراف وعمل أو بطالة، وذلك عبر التواصل المباشر مع أبناء الحي وعمد المحلات، ومن ثم يقوم مركز الحي بما له من سلطة معنوية وصلاحيات رسمية -تحققها له وزارة الشؤون الاجتماعية وإمارات المناطق كل فيما يخصه- بتبليغ المواطن بما ينطبق عليه من مواد نظام الحقوق الاجتماعية وفق ما استجد من متغيرات ومتابعة تطبيقها دون الحاجة إلى أن يتقدم المتضرر من فوات الحق بشكوى رسمية إلا عندما تغفل إدارة مركز الحي عن توفير الحق له.
ومع الجدية في تطبيق هذا النظام فإن المجتمع مع مرور الأيام لن يعود بحاجة إلى سلطة تكفل تطبيقه، حيث سينصرف الناس إلى تنفيذ ما تضمنه تلقائيا بدافع من فطرة الناس على الخير وجنوح المجتمع بشكل طبعي إلى حب الخير والتآلف والتعاون فيما يعود على مجموعه بالخير الدنيوي والأخروي.
وحتى تتضح الفكرة أكثر أقدم أنموذجًا لمادة من مواد هذا النظام وكيفية تطبيقها وفق تصوري.
المادة: حين يكون متوسط دخل الأسرة أقل من 500 ريال للفرد الواحد بعد استثناء إيجار المنزل إن كان مستأجرا يلزم أقارب رب الأسرة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة ممن تثبت قدرتهم على تأدية ما ينقص من دخل الأسرة إلى ربها شهريا.
أما آلية تطبيقها، فإن الباحثين في مركز الحي حين يتحقق لديهم العجز في مستوى دخل أسرة ما يقومون بالتحقق من مستوى دخل أقارب رب الأسرة من الدرجة الأولى والثانية والثالثة وفق ما يتوفر لهم من بيانات، إن كان هؤلاء الاقارب من أبناء حيهم أو بالتواصل مع مراكز الأحياء التي يقطنها هؤلاء الأقارب، ومن ثم مخاطبتهم بما يترتب عليهم من نسب مالية من مجموع العجز في دخل قريبهم ومتابعة تنفيذهم لما يلتزمون به، ولهؤلاء الأقارب الحق في استبدال النسب المالية الشهرية بتأمين عمل لقريبهم يغطي دخله منه النسبة المطلوبة في النظام على أن يتحقق المركز من تسلم المستحق لمثل هذا العمل.
وفي حال عجز هؤلاء الأقارب أو كون هذا الأمر يترتب عليه ضيق مادي عليهم إما لمحدودية دخلهم أو لكثرة الفقراء من أقاربهم، فإن إدارة مركز الحي مسؤولة عن تحصيل الزكاة له من المزكين من أهل الحي أو من الأحياء الأخرى.
وهذه المادة المقترحة وحدها في حال تطبيقها كما هو مقترح سينتج عنها من الخير الدنيوي والأخروي والمادي والمعنوي للمجتمع ما تمتلئ منه الصدور غبطة وسرورا، فلا تحصى ثمرة ما ينتج عنه من رفع للحاجة وحفظ لماء الوجه وتحقيق عملي لما قصد إليه الإسلام من تكافل بين الناس.
..............................

المقال الآخر
وجود نظام يكفل إيصال الحقوق الاجتماعية دون الحاجة إلى المنازعة لاستخلاصها مصلحة عظمى، ولا يمكن لمتبصر في الأمر وناظر إليه بروية أن يقول غير ذلك، وأعني بهذه الحقوق ما كان كنفقة الأقارب، ووقوفهم مع بعضهم في الجوائح، ومسؤوليتهم عن حل مشكلات أفرادهم العائلية أو المالية أو التربوية، وهي أمور كان المجتمع يقدمها تلقائيًا، لكن ذلك كان قبل طروء التغير الجذري الذي أصاب تركيبة المجتمع وعلاقاته الذاتيه بمكوناته وبالبيئة من حوله، لكنها اليوم وبعد هذه التغيرات لم تصل هذه الحقوق إلى أهلها كما يفترض أن تصل إلا في حالات من انتصار المروءة عند بعض الأفراد على حظوظ النفس وإلا بعد معاناة من المطالبة واللجوء إلى القضاء والإلحاح الشديد حتى يتم تنفيذ الأحكام مع الصبر حين تنفيذها على ما قد يلاقيه المستحق من ابتزاز أو ضغوط للكف عن مطالبته. 
والمجتمعات الغربية قبل نهضتها الحديثة لم تكن تحمل إرثًا فقهيًا أو أخلاقيًا يقرر هذه الحقوق بالقدر الذي كانت تحمله المجتمعات المسلمة، ومع ذلك فقد حلت الدول الصناعية كثيرًا من مشاكل الحقوق الاجتماعية عن طريق فرض ضرائب على عامة الشعب وتقديمها كإعانات للمعاقين والعاطلين والمحتاجين، ومنحت المؤسسات التربوية الاجتماعية قوة تستطيع بها انتزاع الأطفال من آبائهم غير المؤهلين والوقوف مع النساء المظلومات من قبل أزواجهن إلى أن يصلن إلى حقوقهن.
وما توصلت إليه هذه الأمم يتناسب مع فلسفاتها الذاتية ومفهومها الخاص للمجتمع والتربية والتكافل الاقتصادي، وإن كانت هذه الأمم قد أحسنت فيما توصلت إليه إلا أن ما نرومه في مجتمعاتنا من فرض نظام للحقوق الاجتماعية يتناسب مع إرثنا الفقهي والثقافي أعظم بكثير مما توصلت إليه تلك الأمم بأنظمتها الضريبية والتربوية. 
فنحن نريد من نظامنا للحقوق الاجتماعية أن يرسخ الشعور بالمسؤولية الدينية والحقوقية والتربوية تجاه بعضنا البعض، بينما يسعى النظام التكافلي الضريبي إلى نزع الشعور بالمسؤولية عن المجتمع من المواطن إلى الجهات التنفيذية والهيئات الاجتماعية والمنظمات الحقوقية.
أردت مما تقدم أن أبين أن فكرة نظام الحقوق الاجتماعية ليست فكرة جديدة أو خيالية بل هو عبادة أداها المجتمع المسلم بشكل تلقائي وحاجة تؤديها المجتمعات الأوربية بقوة الدولة، ولا مانع الآن أن توجد الدولة نظامًا يساعد مجتمعنا على تحقيق هذه العبادة التي لو طبقت كما ينبغي لوصلنا بتحقيقها إلى مشاهد رائعة من ارتفاع الحاجة المادية وطرد الكثير من الآفات الأخلاقية والمشكلات الاجتماعية. 
قد يستشكل البعض على هذا الاقتراح : أن الزكاة لو أديت كما ينبغي أغنت عن كثير من تفاصيل هذا النظام المقترح لأنها سوف تتكفل برفع الفقر عن الناس، وهذا صحيح، لكن الزكاة في الإسلام لا تسقط وجوب نفقة الأقارب، كما أن تقدير حاجات الناس والإرشاد إلى المستحقين ممن لا تغطي نفقة الأقارب احتياجاتهم هي من الأوليات التي يفترض مراعاتها في كتابة هذا النظام. 
ومن الاستشكالات أيضًا: كون إلزام الأقارب بنفقة ذويهم لم يرد في تصرفات الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، بل كان المعروف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه يحمل القوت من بيت المال إلى من يثبت عنده فقرهم، ولم تذكر لنا المصادر التي تروي لنا هذه القصص عن عمر رضي الله عنه أنه كان يسأل عن أقاربهم وأهل الولاية عليهم. 
والجواب عن ذلك أن الأصل في المجتمع المسلم تلمسه حاجاته بنفسه لا سيما إذا كان مجتمعًا متقاربًا مكشوفًا كالمجتمعات التي كان يديرها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم هذا بالإضافة إلى قرب عهدهم بالمنبع الصافي للإسلام وشدة تمسكهم بتعاليمه وإثمار ما زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) لذلك لم يكن عمر في حاجة لأن يسأل عن الأقارب وعن تقصيرهم حيث كان من الواضح أن الحالات التي تظهر أمامه هي تلك التي لا بد من تدخل الدولة لحل مشكلاتها. 
هذا بالإضافة إلى أن نظام الحقوق الاجتماعية لا يرفع عن الأجهزة الحكومية المعنية المسؤولية فيما إذا كانت قادرة على سد خلة المحتاجين أن تكون هي المبادرة إلى عمل ذلك، بل إن من أبرز مضامين النظام المقترح أن يحدد الحالات التي يجب على الدولة التدخل فيها وتحديد حجم المسؤولية الملقاة عليها في كل حال على حدة. 
حين يكتب هذا النظام بشكل مدروس وتفعل الأدوات اللازمة لإنجاحه كمراكز الأحياء ومراكز المعلومات، ويتوفر لخدمته الباحثون الأكفاء في كل مركز من تلك المراكز وتنشط له الوزارات المعنية، فإنني أبشر بمستقبل اجتماعي أفضل من حيث مستواه المادي وقدراته التكافلية والتربوية.
بقلم: د. محمد السعيدي
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..