الصفحات

الخميس، 5 سبتمبر 2013

عن السعودية: حتى لا نفقد البوصلة في زمن الطوفان

عن السعودية: حتى لا نفقد البوصلة في زمن الطوفانهل السعودية غير؟
تميّزت السعودية كدولة بأن قيامها بُني -بدءاً بنشوء الدولة السعودية الأولى، وانتهاء بتأسيس الدولة السعودية الثالثة- على التحالف الايجابي البنّاء بين الدين والسياسة، وعلى رعاية الدنيا بالدين (على تفاوت في صحة بعض اجتهادات التطبيق).

هذا الاندماج المتكامل كما يراه المراقبون هو حجر زاوية بقاء هذه الدولة وسر حفظها في فترات المحن التي مرت عليها، وهو جوهر قوتها، وأس شرعيتها.
هذا التوحد بين الدين والدنيا والعقيدة والسياسة، هو جوهر لا يمكن للدولة السعودية القيام والبقاء من دونه، ولا تملك التحلل منه، ولا قوة لها في مجابهة الأطماع ومحاولات التفكيك والتفتيت الخارجية والداخلية إلا به، ولا يغني عنه ولا يقوم مقامه "ضمانات" موهومة داخلية أو خارجية أو تحالفات دوليه.
فهو الصمام "الحقيقي" للأمان الداخلي بشواهد التاريخ، بل إنه هو الذي منح ويمنح الدولة عمقا استراتيجيا خارجيا في قلب ما يربو على مليار ونصف مسلم، حتى إن أغلب هؤلاء المسلمين ليوالي هذه الدولة ويدافع عنها في لحظات الخطر الحرجة (كما حدث في فتنة جهيمان وفي حرب الخليج) أكثر مما يبذله ولاءً لبلده التي يحمل جنسيتها.
لهذا السبب وحده، فإن السعودية ليست مصر، ولا الإمارات، ولا حتى تركيا أو إيران، هي كيان (غير) ذو هوية فريدة، ولا تملك الدولة قَدَرَاً أن تغير هذه الهوية، تحت أي ذريعة، وذلك لعوامل عدة، منها وجود الحرمين الشريفين فيها، وأنها قامت فوق أرض "جزيرة العرب" ذات الخصيصة الحكمية الشرعية المميزة لها عن سائر الأرض بأحكام وهوية خاصة، وهذه الهوية في المقابل هي ما يعطي هذه الدولة الحصانة ضد دعوات تدويل الحرمين الشريفين، أو تفتيت الوحدة الوطنية من قبل أقليات طائفية أو علمانية.
يرى كثير من المراقبين الموضوعيين أنه يكاد يكون من المؤكد أن ينتفي وجود الدولة السعودية، وتضمحل وتتفتت في فترة قصيرة جدا، أسرع من أي دولة أخرى، حال انتفاء هذه الهوية، أو عند وصول إضعاف هذه الهوية في واقع الحياة لدرجة معينة.
والسعودية (غير)، لأن الإسلام (السني) بقيمه العقدية هو الذي وحّدها وأبقاها متماسكة، فالبيعة الشرعية، وطاعة ولاة الأمر في المعروف، وأصل عدم شرعية الخروج على الحاكم الشرعي، كلها قيم من قيم الإسلام (السني) وأصوله، موثقة في أبواب العقائد في كتبه.
هذا الجوهر المتفرد لا يجوز -عند العقلاء والمخلصين- المساس بإضعافه تحت أي مسمى أو لأي غرض، ولو لوقت مرحلي أو لمصلحة سياسية متوهمة، راهنة أو قادمة، لأن معنى ذلك حقن فيروس "الإيدز السياسي" القاتل الذي لا علاج له في هذا الكيان المبارك، أو الانتحار السياسي المريع، وهو أمر لا يمكن أن يقبله مواطن صادق الولاء، أو من لديه مجرد ذرة وطنية صافية، كما لا يمكن أن يقبله إنسان مسترشد، معه بعض من العقل والفكر فضلا عن الدين.

 

 الفصام الخطر وصمام الأمان:

إن ما يجعل مليار ونصف مسلم يقبل ديانة الولاء لهذا الكيان "السعودي"، رغم عدم قناعتهم أحيانا ببعض اجتهادات المواقف السياسية الداخلية والخارجية للسعودية، هو هذا الارتباط الذي لا يزال في أذهان كثير من الناس بين الدين والدولة في السعودية، وبين العقيدة والسياسة فيها {وهو ما قد يسمى (الإسلام السياسي)}.
وهو ذات السبب الذي يجعل المواطن الصالح يقبل بشظف العيش، وبالأثرة التي يراها تبرز بوجهها الكالح أحيانا، يقبل وجود ذلك كله ولو آذاه أو الحق به الضرر، يقبله ديانة وتعبدا لله بالحفاظ على هذا الكيان، رغم تباين وضع هذا المواطن مع وضع بعض جيرانه في كثير من أمور الحياة وزخرفها، ووعيه بذلك، ورغم الزخم الثوري الذي يُنفخ في وجدانه بين الحين والآخر.
لكن هذا المواطن المتعبد لله، مثقفا أو غير مثقف، شديد التدين أو خفيفه، لا يجيز لذاته إخلال الولاء لدينه ووطنه، ولو عانى ما عانى، ما دام أنه يرى "عمليا" و"واقعيا" مقتضيات راية بلده ولوازمها تتجسد "بصدق" فوق أرض الوطن وتحت سمائه.
إن الخشية والخوف لدى المخلصين هو أن يُحل صمام الأمان هذا، أو أن يتحقق إضعافه، قصدا أو جهلا، ينحل هذا الصمام عندما يظهر للناس في "واقع" الحياة بوضوح وبصورة يقينية بروز الفصام النكد بين العقيدة والسياسة، وبين الراية ومقتضياتها ولوازمها من جهة، وواقع الحال من جهة أخرى.
إن الأحزاب والحركات اليسارية القديمة (1) والقوى والتوجهات اليمينية الحديثة، المتواجدة داخل الوطن وخارجه، المدركة يقينا لهذه الحقيقة، استغلت وتستغل بصفتها "طابورا خامسا(2)" كل فرصة تستقوي فيها بـ"الآخر" لإضعاف هذا الهوية الفريدة وهذا الكيان المتكامل وهذا التميز المتفرد، وتستثمرها لزرع (3) بذور الفصام النكد، بين الدين والدولة وبين الدين والمصالح السياسية وبين الدين والتنمية، تحت شعارات متعددة تارة باسم "الخطوات الإصلاحية"، وأخرى باسم "مكافحة الإرهاب وتمويله"، وثالثة باسم "التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، ورابعة باسم "التطوير الثقافي والتعليمي والاندماج مع الآخر".

 

 الحقيقة والزيف:

في ظل الفضاء الإعلامي المفتوح، وعصر قنوات التواصل الاجتماعي الحر، وزمن الوعي الفردي والمجتمع المتنامي بصورة مذهلة، لن يستطيع أحد- مهما بلغ من قوة وسلطة- أن يغطي الفصام النكد حال وجوده في البلد بصورة أكبر مما هو فيه الآن -لا سمح الله- ولا أن يخفيه عن وعي المواطن ولو تعاضدت لهذه المهمة جيوش الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ولو تداعى لها أساطين بلاغة تغيير الوعي أو تغييبه، بعباءتهم المتباينة، بل وحتى لو سخرت له منابر الحرمين، أستغفر الله، فلن يقوى حينذاك ترغيب ولا ترهيب على توفير الحصانة من طوفان ردة الفعل الشعبية الداخلية والخارجية غير المرغوبة.
فالإنسان السعودي بواقعه إنسان متدين، ولو غلبته بعض الشهوات أو الأهواء، يعز عليه أن يخذل في دينه، فالدين في النهاية هو هويته وضابط تحركه وموجه قراره، ولو فقد من الدنيا ما فقد، أو أعطي منها ما أعطي، إلا قلة شاذة لا تمثل المجتمع.
إن فزاعة الدين والمتدينين، تحت أي مسمى سُميت أو لباس أُلبست، والتي تُرفع من حين لآخر وينفخ في بوقها المغرضون (دولا ومنظمات وأفرادا) ويتابع صداها الجهلة، إنها وإن نجحت في تحقيق مآربها في كل بلاد العالم، تحت رعاية ووصاية دولية، فإنها لا يمكن أن تنجح أبدا في السعودية في تحقيق التغيير المستقر، إنها -في أحسن أحوالها- قد تنجح مرحليا في إيجاد تغيير جزئي، لكنه يتحول بدوره -إن وُجد- لوقود سريع الاشتعال لثورات وفوضى لا تبقي ولا تذر.
فالسعودية إذا كانت غير الدول الأخرى في أساس قيامها ووحدتها، فإنها ليست بمنأى عن السنن الربانية في التغيير (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) سورة محمد (38).
أفلا يكون من الحكمة السياسية ومن الديانة إعادة معايرة بوصلتنا السياسية، الموجِهة لقراراتنا ومواقفنا الداخلية والخارجية، وإعادة ضبطها باستمرار، لنضمن التزام الهوية الفريدة التزاما صادقا، ثابتا، واضحا لا لبس فيه ولا دخن، حتى لا تضل السفينة الطريق أو تتحطم بفعل صخور التغييرات العاتية، فـ "يا ليت قومي يعلمون"!!!

 

 الختام:

في سبيل تنقية البوصلة وضبط معايرتها، من المهم الإجابة على عدد من الأسئلة مثل:
  • ما هي "الوطنية" ومن هو "الوطني"؟
  • وهل هذه المصطلحات متفق على معناها وتعريفها عالميا؟
  • وما دور شعار "الوطنية" في توحد المجتمع وثبات الدولة؟
  • وهل يمكن أن يحمل هذا الشعار في جيناته بذور تمزق الدولة والمجتمع؟
  • وهل لذلك شواهد تطبيقيه عالمية؟
  • وما هي المعايير العقلانية لتحديد مصطلح "الوطنية السعودية" الواجب الالتفاف حوله والذي يحقق منافع الوطنية ويحمي من جينات هدمها للوطن وتمزيقه؟
هذه الأسئلة تولى –بحمد الله- الإجابة عليها العالم الشرعي والقانوني المخلص ورجل الدولة الأمين معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله- في وثيقته العلمية الموضوعية المعنونة بـ"اقتراح لصياغة مفهوم للوطنية السعودية" من منشورات مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وتجدها على هذا الرابط: http://rowaq.org/?p=251
وأنظر تعليق معاليه اللاحق على هذه الوثيقة والمكمل لها والمعنون بـ"أساس وحدتنا الوطنية"، وتجده على الرابط: http://rowaq.org/?p=341
وأحسب أن هذين السفرين لمعاليه يرحمه الله مما يؤسس بموضوعية وأمانة لبوصلة منضبطة المعيار للمواطنة والوطنية السعودية، منسجمة مع تفرد هذه البلاد، تكون مرجعا لوحدة الصف في وجه التيارات المتباينة المناهضة لهوية هذا الوطن، وعاملا مهما وجوهريا في مقاومة القوى الضاغطة داخليا وخارجيا.
 
والله ولي التوفيق
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد يكون الكثير من القراء قد عايش ويعايش هذه التوجهات التغريبية في نسختها الحديثة، ولذا لا حاجة للإشارة إليها، أما عن القديمة المتمثلة بشكل خاص في الحركات الثورية والأحزاب السرية الاشتراكية والقومية والناصرية والبعثية والشيوعية في فترة الستينات والسبعينات الميلادية والتي كانت لها تنظيماتها ومحاولاتها الانقلابية فأنظر نبذا عن تاريخها في رسالة الماجستير الكندية لأيمن الياسيني، والتي طبعت في كتاب بعنوان "الدين والدولة في المملكة العربية السعودية" من منشورات دار الساقي وكتاب الكاتب البريطاني ألفرد هالدي الذي ترجمه د. محمد الرميحي بعنوان "المجتمع والسياسة في الخليج العربي"، وغيرها من المراجع ذات العلاقة .
(2) هو مصطلح يطلق على المنافقين من بني الجلدة ممن يتواصلون مع الدول الأجنبية وسفاراتها لتنفيذ اجندات فكرية وسياسية ضد الوطن وقيمه الثقافية ومصالحه السياسية.
(3) انظر على سبيل المثال مذكرة أمريكية سربها موقع ويكيليكس وحملت عنوان "الاتجاهات الأيديولوجية والملكية في الصحافة السعودية"، أرسلتها السفارة الأميركية في السعودية، توضح دور وسائل الإعلام العربية في تحقيق مآرب الدعاية الأميركية في التغيير الثقافي في السعودية.


د. محمد بن عبدالله السلومي / كاتب وباحث سعودي
2013-8-31 |

المصدر

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..