الصفحات

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

فخ الـ «نيويورك تايمز

لا يزال قسمٌ كبيرٌ من النخب المثقفة والعقول الأكاديمية تصر على أن أحداث 11/9/2001 في نيويورك ما هي إلا مؤامرة.. وأما أحدث نسخة من هذا التصوّر التآمري فهو اللغط الإعلامي العربي الذي وقع في فخ ما نشرته صحيفة ''نيويورك تايمز'' أخيراً من خريطة لتقسيم العالم العربي، ومنها السعودية، والتعامل معه كحقيقة، فيما نظر الغرب للمسألة على أنها ترويجٌ لصحيفة استشعرت انحسار الأضواء عنها من ناحية وفانتازيا كاتب أو هوى يهودي أو جهوي تستهدف صرف الانتباه عن أدوار يتكفل الضجيج حول الخريطة بعدم الالتفات إليها.
نظرية المؤامرة حتماً ليست هي التاريخ ولا يسير التاريخ بمقتضاها؛ وإن كانت جزءاً فيه .. غير أن سطوة هذه النظرية على العقل العربي تؤكد دلالة لا شعورية واحدة هي الميل الجارف لإعفاء هذا العقل من تحمُّل مسؤوليته في فهم سياقات التاريخ بتعليق كل ما يراه العربي ضدّه على مشجب المؤامرة وعدم الفهم؛ ليس حالة مزاجية وإنما ظاهرة ذهنية تتمثل في تبسيط وتسطيح ما هو معقدٌ إلى مجرد أبيض وأسود، لتظل فكرة المؤامرة سارية المفعول مقفلة هذا العقل عليها.
إن خلع هالة أسطورية خارقة على قدرات أمريكا أو الغرب بشكل عام في التلاعب بمصير الأوطان نفيٌّ لإرادة عقول هذه الأوطان والتسليم بأن شعوبها وقياداتها بيادق على رقعة شطرنج يتم تحريكها بلا حول ولا قوة، وأنها في انتظار تلقي الحدث ليس إلا.. وهذا يتعدّى كونه امتهاناً لكرامة المواطنة وسيادة الوطن إلى التخريف واللامعقول لأنه يُفترض سكونية تاريخية لا يتغيّر فيها الزمن والبشر مساوياً بين ظرف كان وظرف كائن، كما أسفر عنه هذا السجال الإعلامي يركضه للماضي مستشهداً باتفاقية سايكس بيكو، إلى حدوتة الشرق الأوسط الجديد لكونداليزا رايس؛ للتدليل على أن المؤامرة مستمرة.. علماً بأن مثل هذه المشاريع التقسيمية لم تكن وليدة اليوم، بل خبرٌ يرتفع في فترات وينخفض في فترات لأسباب لا علاقة لها بالمؤامرة، وإنما لكونها نوعاً من الابتزاز الإعلامي لمآرب سياسية تستهدف تمرير تحركات مصلحية أو للتغطية عليها أو لإيجاد ظروف مواتية لها. بل هي أحياناً تصوراتٌ شاذة لم تنج أمريكا نفسها منها، فهناك دعواتٌ لانفصال ولاية مونتانا وولاية أريزونا وغيرهما لكن ''نيويورك تايمز'' لا تنشر مثل هذا الهراء لعلمها أنه لن يحصد سوى السخرية!
إن فعل التلقي .. أو الذهنية الاستقبالية المستسلمة لما يُنشر ويُقال على أنه في طور الحدوث يؤدي إلى تعميق القابلية لسيطرة الآخر باستثماره هذه القابلية للمُضي أبعد مما قد يكون يريد، وليس بالضرورة بفعل جزافي كحكاية تقسيم العالم العربي، وإنما بقوة ناعمة أثرها أخطر من القوة الخشنة.
لقد وقع الإعلام العربي في فخ ''نيويورك تايمز'' فتعامل مع التقسيم وكأنه حقيقة مقبلة، واستفاض الكُتّاب والمحللون في الصحافة والفضائيات، وهذا التهافت يؤكّد أن ''الطُّعم'' قد تم ابتلاعه .. ما يعني أن الخطاب الإعلامي العربي بفعله هذا يوسّع نطاق فانتازيا خريطة الـ ''نيويورك تايمز'' بدلاً من قلبها في اتجاه معاكس بالانطلاق من واقع الأسس السيادية للبلدان العربية مادية وروحية من ناحية، ومن واقع ما يكمن خلف النشر نفسه مما يُراد تمريره أو التستر عليه سياسياً وإعلامياً واقتصادياً.
لم يكن تقسيم السودان والعراق واليمن والصومال وغيرها من أقطار عربية صناعة غربية بقدر ما كان حاصل سوء إدارة مزمن تركت التنمية خلف ظهرها، فالسودان تعاقبت عليه انقلاباتٌ عسكرية أهملت جنوبه الذي يطعمه ويسقيه وها هو اليوم عاجزٌ عن صرف مرتبات موظفيه، والعراق وجد فيه الجنرال برايمر أناساً جاهزين للمحاصصة الطائفية فتلاعب بهم وتركهم على طبق من ذهب لإيران وللعنة العنف والإرهاب، وقل مثل ذلك في سواهما.. فالعلة كانت غياب التنمية؛ لأن التنمية لو وُجدت لأمكن دفعها وتصحيح مسارها مهما كان نوع الأخطاء، فالتنمية هي التي تجعل الوطن بمواطنيه سداً منيعاً يحبط حتى خيال مَن تسوِّل له نوازعه رسم مثل هذه الخريطة. وحين يغفل الإعلاميون العرب هذا الفعل التنموي الشامل، في الخليج بالذات، فإن ذلك قد يفسر من ناحية أمنيات مريضة لدى البعض ضد الخليج، ويفسر من ناحية أعم خطيئة المساواة بين مَن أهدروا ثروات بلدانهم الهائلة كصدام والقذافي وبشار بالحروب والطغيان، وبين بلدان أصبحت منارات تنموية تنعم بالاستقرار يُتلهَّف لفرصة عمل فيها، ليس الأشقاء العرب وغيرهم وإنما حتى الغربيين ممَّن لا يخفون امتنانهم للعمل فيها.

صالح الشهوان

 
صحيفة الاقتصادية الالكترونية
العدد: 7302   1434/12/03   الموافق: 2013-10-08
المصدر

3 تعليقات

  1. Hamad (1) 2013-10-08 09:06:00
    لم تعملها إلا لهدف واحد،رفع المبيعات لتعويض الخسارة وتجنب الإفلاس.
    العلة في غياب التنمية؛ لأن التنمية هي التي تجعل الوطن بمواطنيه سداً منيعاً يحبط حتى خيال مَن تسوِّل له نوازعه رسم مثل هذه الخريطة.
    ---------------------
     
  2. Hamad (2) 2013-10-08 09:54:00
    وكذلك العدل، فعندما العدالة بين الجميع بلا استثناء،فلن يرضى أي شخص مهما كان ضعيفاً أن يخون إلا إذا تعرض للظلم.
     --------------------------------------------------------------------------
     
  3. د. مستور الغامدي (3) 2013-10-08 11:11:00
    انكار حقيقة نظرية المؤامرة لا يقل خطرا عن تجاهلها وارجو ان لايكون الاستاذ صالح الشهوان من مستصغري الشرر. نعم حتى تنجح المؤامرة لابد من وجود عوامل مساعده ذكرها الاستاذ صالح ومنها غياب التنمية وزد على ذلك التهميش وانتفاء العدل والشعور بالحرمان انعدام التنمية السياسية كل ذلك لايقل بشاعة عن انعدام التنمية الاقتصاديه لذا لكي تصان الاوطان لابد لكل وطن عربي تهدده هذه المؤمرات تلمس مواطن الضعف التي قد تسهم في انجاح المؤمرات واصلاحها قبل ان تستغلها اي فئة انتهازية لتحقيق طوحها الخاص بمساعدة خارجية
     
     
جميع الحقوق محفوظة لـصحيفة الاقتصادية الإلكترونية 2013
 
 

_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..