الصفحات

الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

العام والخاص والمطلق والمقيد (دراسة أصولية فقهية)

  الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالكِ يوم الدِّين، وصلِّ اللهمَّ على محمَّد، عبدك ورسولك.
أما بعدُ:
فقد تميَّزتِ العلوم الإسلامية بسِمة خاصَّة، تُميِّزها عن علوم غيرها، وذلك بما تمتَّعت به من الموازنة
بيْن الوحي والعقل، ويُعتبر عِلمُ أصول الفقه الإسلامي أدلَّ العلوم التي حوتْ هذه السِّمة (الموازَنة).

ولا يُتاح للمجتهد إجراءُ اجتهادٍ ما، إلا بعدما يحيط بهذا العلم إحاطةً بالغة؛ لأنَّ هذا العلم مُسْتَنْبَطٌ من النص القرآني، والسُّنة النبويَّة.

ولذلك كلِّه ولغيره قام قسمُ الشريعة (الدِّراسات العليا) بفرْض هذه الدراسة على السَّنة التمهيديَّة، فلِلَّهِ دَرُّهُم، فقد وقَف الباحِثُ على الدلائل البينة على أهمية دراسةِ هذا العلم.

وقد قام الباحِث بدراسةِ أحدِ فروع هذا العلم، وهو العام والخاص، والمطلق والمقيَّد، وانتقَى عِدَّة مباحث تتناول بالدراسة الأصولية والفقهية تلك الفروع؛ بحيث تُنبِئ عنه خيرَ إنباء، وقسَّم البحث عِدَّةَ فصول، تتناول المباحث في موضوعات مصدرة.

الفصل الأول

العام

هذا الفصل يحتوي على:
1- تعريف العام.
2- حُكم العام ودَلالته.
وَحَدُّهُ لَفْظٌ يَعُمُّ أَكْثَرَا
مِنْ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ مَا حَصْرٍ يُرَى
مِنْ قَوْلِهِمْ عَمَمْتُهُمْ بِمَا مَعِي
وَلْتَنْحَصِرْ أَلْفَاظُهُ فِي أَرْبَعِ
الْجَمْعُ وَالْفَرْدُ الْمُعَرَّفَانِ
بِالَّلامِ كَالْكَافِرِ وَالْإِنْسَانِ
وَكُلُّ مُبْهَمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ
مِنْ ذَاكَ مَا لِلشَّرْطِ مِنْ جَزَاءِ
وَلَفْظُ (مَنْ) فِي عَاقِلٍ وَلَفْظُ (مَا)
فِي غَيْرِهِ وَلَفْظُ أَيٍّ فِيهِمَا
وَلَفْظُ (أَيْنَ) وَهْوَ لِلْمَكَانِ
كَذَا (مَتَى) الْمَوْضُوعُ لِلزَّمَانِ
وَلَفْظُ (لاَ) فِي النَّكِرَاتِ ثُمَّ (مَا)
فِي لَفْظِ مَن أَتَى بِهَا مُسْتَفْهِمَا
ثُمَّ العُمُومُ أُبْطِلَتْ دَعْوَاهُ
فِي الْفِعْلِ بَلْ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ
نظم متن الورقات.

تعريف العام:
تعريف العام لُغة واصْطِلاحًا:
قال في "البحر المحيط": قال الإمامُ أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -: لَم نكن نعْرِفُ الخصوص والعموم حتى ورَدَ علينا الشافعيُّ - رضي الله عنه.

وهو في اللغة: شمولُ أمرٍ لمتعدِّد، سواء كان الأمرُ لفظًا أو غيره، ومنه: عمَّهم الخبرُ إذا شَمِلهم وأحاط بهم؛ ولذلك يقول المنطقيُّون: العامُّ ما لا يمنع تصوُّر الشَّرِكة فيه كالإنسان، ويجعلون المطلقَ عامًّا.

واصطلاحًا: اللفظ المستغرِق لجميع ما يصلُح له مِن غير حصْر؛ أي: يصلح له اللفظُ العام كـ"مَن" في العُقلاء دون غيرهم، و"كل" بحسب ما يدخل عليه، لا أنَّ عمومَه في جميع الأفراد مُطلقًا.

وخرَج بقيد "الاستغراق" النَّكرة، وبقوله: "مِن غير حصْر" أسماءُ العَدد، فإنها متناولة لكلِّ ما يصلح له، لكن مع حصْر، ومنهم مَن زاد عليه.

(بوضْع واحد) ليحترز به عمَّا يتناوله بوضعَيْن فصاعدًا، كالمشترك، وذَكَر ابن الحاجِب أنَّ العام يُطلق أيضًا على اللفظ بمجرَّد مسمياته، مثل: العَشَرة، والمسلمين لمعهود، وضمائر الجمْع، كما يُطلق التخصيص على قصْر اللفظ على بعضِ مسمياته، وإنْ لم يكن عامًّا.

وقال أبو علي الطبري: مساواة بعضِ ما تناوله لبعض"، ونُوقِض بلفظ التثنية، فإنَّ أحدهما مساوٍ للآخَر، وليس بعامٍّ.

وقال القفَّال الشاشيُّ: أقلُّ العموم شيئان، كما أنَّ أقل الخصوص واحِد، وكأنَّه نظَر إلى المعنى اللُّغوي، وهو الشمول، والشمول حاصِل في التثنية، وإلا فمِن المعلوم أنَّ التثنية لا تُسمَّى عمومًا.

وقال الغزالي: اللفظُ الواحد الدالُّ مِن جهة واحدة على شيئين فصاعدًا، واحترز بقوله: "فصاعدا" عن لفْظ "التثنية"، وأراد "بالواحد" مقابلَ المركب؛ حتى يشملَ الاثنين، واقتضَى كلامه في "المستصفى" أنَّ قوله: "واحد ومن جهة واحدة" فصل واحد، واحتراز به عن قولهم: ضرَب زيدٌ عَمْرًا، فإنَّه دلَّ على شيئين، ولكن بلفظين لا بلفظٍ واحد، ومن جهتين لا مِن جهة واحدة، وأراد بالجهتين: الفاعل والمفعول.

وقال الصفيُّ الهندي: اعتُرِض عليه بأنَّه إنْ أراد دلالةَ ضَرَب عليهما معًا فباطل؛ لأنَّها التزامية، ودلالة العام على معناه بالمطابقة.

هذا، وجاء في الموسوعة الفقهيَّة الكُويتيَّة[1]:
العام: هو اللفْظ المستغرِق لجميع ما يصلُح له بوضْع واحدٍ من غير حصْر، وعرَّف بعضُ الأصوليِّين (العام) بأنَّه: لفظٌ يتناول أفرادًا متَّفِقة الحدود على سبيلِ الشمول.

والفرْق بيْن العموم والعام: أنَّ العام هو اللفْظ المتناول، والعموم تناول اللفْظ لما صلح له، فالعموم مصدر، والعام اسم فاعل مشتقّ مِن هذا المصدر، وهما متغايران؛ لأنَّ المصدر الفِعْل، والفِعْل غير الفاعل.

وجاء في "المغني في أصول الفقه":
العام: هو ما يَنتظِم جمعًا من المسميات.

(وحُكمه): التوقُّف عندَ بعض الفقهاء؛ لأنَّه مجمل فيما أُريد به لاختلافِ أعداد الجمْع: إذِ الثلاثة وما فوقَها جمْع حقيقة.

وعندَ الشافعي - رحمه اللَّه - يوجِب الحُكمَ فيما يتناوله، لا على اليقين؛ لاحتمالِ الخصوص.

وعندنا يوجب الحُكمَ فيما يتناوله يقينًا؛ لأنَّ الصيغة متى وُضِعتْ لمعنًى، فذلك المعنى لازمٌ له، حتى يقومَ الدليلُ بخلافه.

فسقَط احتمالُ الخصوص فيه، كما سقَط احتمال المجاز في الخاص، وإنما يُستعمل العامُّ في الثلاثة بطريق الحقيقة أنْ لو انحصَر الأفراد في الثلاثة، باعتبار أنها جملةُ الأفراد، لا باعتبار أنَّها ثلاثة.

وكذا الأمَّة أجْمَعت على تعميمِ الحُكم بتعميم الصِّيغ: كتحريمِ البنات والأمَّهات، ووجوب التربُّص على المطلَّقات.

وإذا سقَط احتمالُ خصوصِه، لا يجوز تخصيصُه بالقياس وخَبَر الواحِد[2].

وجاء في "بيان المختَصر"، وهو شرْح مُختصر ابن الحاجب:
قال ابن الحاجب: العام والخاص.

أبو الحسين: العام: اللفْظ المستغرِق لِمَا يصلُح له، وليس بمانع؛ لأنَّ نحوَ "عشرة" ونحو "ضرَب زيد عمرًا" يدخُل فيه.

الغزالي: اللفظ الواحِد الدال مِن جهة واحدة على شيئين فصاعدًا، وليس بجامع بخروج المعدوم والمستحيل؛ لأنَّ مدلولهما ليس بشيء، والموصولات؛ لأنَّها ليستْ بلفظٍ واحِد، ولا مانعَ؛ لأنَّ كل مُثَنًّى يدخُل فيه، ولأنَّ كلَّ معهود ونكرة يدخُل فيه، وقد يلتزم هذين.

ثم اختار مؤلف "المختصر"[3] التعريف الآتي:
"والأولى - أي في تعريف العام -: ما دلَّ على مسميات باعتبارِ أمرٍ اشتركت فيه مطلقًا ضربة".

فقوله: "اشتركت فيه ليخرجَ نحو "عشرة"، ومطلقًا ليخرج المعهودون، وضربة ليخرج نحو "رجل"، والخاص بخلافه"[4].

هذا، وقد شرَح التعريفَ السابق مؤلفُ "البيان" شرحًا مستفيضًا، أخْذًا وردًّا من أقوال العلماء.

في العام ودلالته:
"إذا وردَ في النص الشرعي لفظٌ عام، ولم يقُمْ دليل على تخصيصه، وجَب حملُه على عمومه، وإثباتُ الحُكم لجميعِ أفراده قطعًا، فإنْ قام دليلٌ على تخصيصه وجَب حملُه على ما بقِي من أفراده بعدَ التخصيص، وإثبات الحُكم لهذه الأفراد، ظنًّا لا قطعًا، ولا يُخصص عام إلاَّ بدليل يساويه، أو يرجحه في القطعية أو الظنيَّة.

والعام: هو اللَّفْظ الذي يدلُّ بحسب وضعِه اللُّغوي على شمولِه، واستغراقه لجميع الأفراد، التي يصدُق عليها معناه مِن غير حصْر في كمية معينة منها، فلفظ "كل عقد" في قول الفقهاء: كل عقْد يشترط لانعقاده أهلية العاقدين، لفظ عام يدلُّ على شمولِ كل ما يصدق عليه أنَّه عقد من غير حصْر في عقْد معيَّن أو عقود معينة.

ولفظ: "من ألقى" في حديثِ ((مَن ألْقَى سلاحه فهو آمِن)) - لفظٌ عامٌّ يدلُّ على استغراقِ كلِّ فرْد ألقَى سلاحه من غير حصْر في فرْد معيَّن أو أفراد معيَّنين.

ومِن هذا يُؤخَذ أنَّ العموم مِن صفات الألْفاظ؛ لأنَّه دلالة اللفْظ على استغراقه لجميع أفراده، وأنَّ اللفظ إذا دلَّ على فرْد واحد كرجل، أو اثنين كرجلين، أو كمية محصورة من الأفراد؛ كرِجال ورهط، ومائة وألف، فليس مِن ألفاظ العموم، وأنَّ الفرْق بين العام والمطلَق، هو أنَّ العام يدلُّ على شمول كلِّ فرْد من أفراده، وأمَّا المطلَق فيدلُّ على فرْد شائع، أو أفراد شائعة، لا على جميع الأفراد.

فالعام يتناول دفعةً واحدة كلَّ ما يصدق عليه مِن الأفراد، والمطلَق لا يتناوله دفعةً واحدة، إلا فردًا شائعًا مِن الأفراد، وهذا هو المراد بقول الأصوليِّين: "عموم العام شُمولي، وعموم المطلق بدلي"[5].

دلالة العام

دلالة العام:
لَم يختلفِ الأصوليُّون في أنَّ كلَّ لفظ مِن ألفاظ العموم التي بَيَّنَّاها موضوعٌ لغةً لاستغراقِ جميع ما يصدُق عليه مِن الأفراد، ولا في أنَّه إذا ورَد في نصٍّ شرعي دلَّ على ثبوت الحُكم المنصوص عليه لكلِّ ما يصدُق عليه مِن الأفراد، إلاَّ إذا قام دليلُ تخصيص على الحُكم ببعضها.

وإنَّما اختلفوا في صِفة دلالة العام الذي لم يُخصّص على استغراقه لجميع أفراده، هل هي دلالة قطعيَّة، أو دلالة ظَنِّيَّة؟!

فذهب فريقٌ منهم - وفيهم الشافعية - إلى أنَّ العام الذي لم يُخصّص ظاهرٌ في العموم، لا قطعي فيه، فهو ظنِّي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خُصِّص كان ظنيَّ الدلالة أيضًا على ما بقِي مِن أفراده بعدَ التخصيص، فهو ظنِّي الدلالة قبل التخصص وبعده.

ويترتَّب على هذا أنَّه يصحُّ تخصيص العام بالدليل الظنِّي مطلقًا، سواء كان أوَّل تخصيص، أو ثاني تخصيص؛ لأنَّ الظنيَّ يخصص بالظني، وأنَّه لا يَتَحَقَّق التعارُض بين عام وبين خاصٍّ قطعي؛ لأنَّ شرطَ تَحقُّق التعارُض الدليلين أن يكونا قطعيين أو ظنيين، بل يعمل بالخاص فيما دل عليه، ويعمل بالعام فيما عداه.

وحجتهم على ما ذهبوا إليه أن استقرار النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم دل على أنه ما من عام إلا وخُصِّص، وعلى أن العام الذي بقي على عمومه نادر جدًّا، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته، وإذا كان هذا الشأن والكثير الغالب في كلٍّ أنه غير باق على عمومه، فإذا ورد العام مطلقًا عن دليل يخصصه، فهو بناء على عام الكثير الغالب محتمل للتخصيص، وعلى هذا فالعام المطلق عن دليل يخصصه ظاهر في العموم لا قطعي فيه.

وذهب فريق منهم - وفيهم الحنفية - إلى أن العام الذي لم يخصص قطعي في العموم، فهو قطعي الدلالة على استغراقه لجميع أفراده، وإذا خصص صار ظاهرًا في دلالته على ما بقي بعد التخصيص، أي ظني الدلالة عليه.

ففي هذا المذهب: العام الذي لم يخصص قطعي الدلالة على استغراقه جميع أفْرادِه، وإذا خصص صار ظنيَّ الدَّلالة على ما بقِي مِن أفراده بعدَ التخصيص.

ويترتَّب على هذا أنه لا يصحُّ أن يُخصَّص العام أوَّل تخصيص بدليل ظنِّي؛ لأنَّ الظني لا يُخصِّص القطعي، وأنَّه يصحُّ أن يُخصَّص ثانيًا وثالثًا بدليل ظني؛ لأنه بعدَ التخصيص الأول صار ظنيًّا، والظني يُخصَّص الظني، وأنه يتحقَّق التعارُض بيْن العام الذي لم يُخصَّص، وبين الخاص القطعي؛ لأنَّهما قطعيان.

وحُجَّتهم على ما ذَهبوا إليه: أنَّ اللفظ العام موضوعٌ حقيقةً لاستغراق جميعِ ما يصدُق عليه معناه مِن الأفراد، واللفظ حين إطلاقه يدلُّ على معناه الحقيقي قطعًا، فالعام المطلَق مِن قرينة تخصصه يدلُّ على العموم قطْعًا، ولا يُصرَف عن معناه الحقيقي إلا بدليل.

ولهذا استدلَّ الصحابة والتابعون والأئمَّة المجتهدون بعمومِ الألفاظ العامَّة التي وردتْ في النصوص مطلقةً عن التخصيص، واستنكروا تخصيصَها من غير دليل، فإذا خُصِّص العام بدليل دلَّ هذا على صرْفه عن معناه الحقيقي وهو العموم، واستعماله في معنًى مجازي، وهو الخصوص، وصار محتملاً لتخصيص ثانٍ، قياسًا على التخصيص الأول.

والذي يظهر - بعدَ المقارنة بين أدلة الفريقين وأمثلتها وشواهدها - أنَّه ليْس بيْن رأييهما اختلافٌ جوهري مِن الناحية العملية؛ لأنَّه لا خلافَ بينهما في أنَّ العام يجب العملُ بعمومه، حتى يقومَ على تخصيصه دليل، ولا في أنَّ العام يحتمل أن يُخصَّص بدليل، وأنَّ تخصيصَه بغير دليلٍ تأويلٌ غير مقبول.

والقائلون بأنَّ العام الذي لم يقم دليلٌ على تخصيصه قطعي الدلالة على العموم - ما أرادوا بكونه قطعيَّ الدلالة أنَّه لا يحتمل التخصيص مطلقًا، وإنما أرادوا أنَّه لا يُخصّص إلا بدليل، والقائلون بأنَّه ظنيُّ الدلالة على العموم ما أرادوا أنَّه يُخصَّص مطلقًا، وإنما أرادوا أنه يُخصّص بالدليل[6].


فصل

في بيان حُكم العام

قال بعضُ المتأخِّرين ممَّن لا سلَفَ لهم في القرون الثلاثة: حُكْمه الوقف فيه، حتَّى يتبيَّن المراد منه بمنزلةِ المشترك أو المجمل، ويُسمَّى هؤلاء الواقفية، إلا أنَّ طائفة منهم يقولون: يثبت به أخصُّ الخصوص، وفيما وراءَ ذلك الحُكم هو الوقف، حتى يتبيَّن المراد بالدليل.

وقال الشافعي: هو مجرى على عمومه، موجِب للحُكم فيما تناوله، مع ضرْب شبهة فيه؛ لاحتمال أن يكونَ المراد به الخصوص، فلا يوجِب الحُكم قطعًا، بل على تجوُّز أن يظهر معنى الخصوص فيه لقيام الدليل، بمنزلة القياس، فإنَّه يجب العملُ به في الأحكام الشرعية، لا على أن يكون مقطوعًا به، بل مع تجوُّز احتمال الخطأ فيه أو الغَلَط.

ولهذا جوز تخصيص العام بالقياس ابتداءً وبخبر الواحد، فقد جَعَل القياس وخبَر الواحد الذي لا يوجِب العِلم قطعًا مقدَّمًا على موجِب العام، حتى جوز التخصيص بهما، وجَعَل الخاص أوْلى بالمصير إليه من العام؛ على هذا دلَّت مسائِلُه، فإنَّه رجَّح خبر العَرايا على عموم قوله - عليه السلام -: ((التمر بالتمر، كَيْلاً بكيل)) في حُكم العمل به، وجعل هذا قولاً واحدًا له فيما يحتمل العموم، وفيما لا يحتمل العموم؛ لانعدامِ محلِّه، فقال: يجب العملُ فيهما بقَدْر الإمكان، حتى يقومَ دليلُ التخصيص على الوجه الذي ذكرْنا.

والمذهب عندنا: أنَّ العام موجِب للحُكم فيما يتناوله قطعًا بمنزلة الخاص موجِب للحُكم فيما تناوله، يستوي في ذلك الأمرُ والنهي والخبر، إلا فيما لا يُمكن اعتبارُ العموم فيه؛ لانعدام محلِّه.

فحينئذٍ يجب التوقُّف إلى أن يتبيَّن ما هو المراد به، ببيانٍ ظاهِرٍ بمنزلة المجمل، فعلَى هذا دلَّت مسائلُ علمائنا - رحمهم اللَّه[7].

وجاء في "الموجز في أصول الفقه":
حُكم العام: يُراد بحُكم العام أثرُه المترتِّب عليه حالةَ استعماله، وللعلماء فيه ثلاثةُ مذاهب:
الأوَّل: ذهَب عامَّةُ الأشاعِرة إلى أنَّ العام مِن قبيل المُجمَل، وحينئذٍ فلا يمكن معرفةُ المراد منه إلا بواسطة قرينة تدلُّ على عمومه أو خصوصه، وإذا لم توجدِ القرينة وَجَبَ التوقُّف مع اعتقادِ أحقيته.
الثاني: ذهَب بعضُ الحنفية: إلى القَطْع بأنَّ العام يثبت به أقلُّ ما يصدق عليه لفظُ العام وهو الواحِد في اسم الجِنس، والثلاثة في صيغة الجمع؛ لأنَّه المتيقَّن، بدليلِ أنَّه لو قال: له عليَّ دراهم، تجب ثلاثة اتفاقًا، وما زاد على ذلك يجب التوقُّف فيه، حتى يقومَ على المراد مِن صيغته.
الثالث: ذهَب جمهورُ العلماء: إلى أنَّ العام يدلُّ على ثبوت الحُكم في كلِّ ما يتناوله مِن الأفراد، لا يشذ واحدٌ منها إلا بدليل.

وقد استدلُّوا على ذلك بأدلَّة كثيرة، نقتصر منها على الإجماع، فقد ثبَت عن الصحابة وغيرهم الاحتجاجُ بالعمومات، وشاع فيهم ذلك مِن غير نكير، فقدِ اختلف عليٌّ وعثمان في الجمْع بيْن الأختين في الوطء بمِلْك اليمين، حيثُ حَكَم عليٌّ بتحريم الجمع بينهما، فقال: آية ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 3] تدلُّ على حِلِّ كلِّ أمة مملوكة، سواء اجتمعتْ مع أختها في الوطء أم لا، وحرَّمتْها آية: ﴿ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ﴾ [النساء: 23]، فإنَّها تدلُّ على حُرمة الجمْع بينهما، سواء كان نكاحًا، أم وطئًا بمِلْك اليمين، ورجح المحرِّم على المبيح احتياطًا.

وقال عثمان: إنَّ الآيتين تقيدان التحليلَ والتحريم، إلا أنَّه قال: يَحِلُّ الجمع بينهما بمِلْك اليمين؛ ترجيحًا للمبيح على المحرِّم، عملاً بأنَّ الأصل في الأشياء الإباحة.

وأصحاب هذا المذهب اختلفوا فيما بينهم في دلالةِ العام على جميع أفراده: هل هي قطعية أم ظنية؟

فذَهَب الحنفيَّة: إلى أنَّ دلالة العام على جميعِ أفراده قطعية؛ لأنَّه موضوعٌ لإفادة العموم، فيكون لازمًا قطعًا، حتى يقوم دليلُ الخصوص، كالخاص يثبت مسمَّاه حتى يقومَ دليل المجاز.

وذَهَب الشافعية: إلى أنَّ هذه الدَّلالةَ ظنيَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة يصحُّ أن يُراد منه كلُّ عدد من الثلاثة إلى العَشرة، وجمْع الكثرة يصحُّ أن يُراد منه كلُّ عدد مِن العشرة إلى ما لا نهاية، ولأنَّ كل عام يحتمل التخصيص، والتخصيص شائعٌ فيه وكثير، حتى صار بمنزلةِ المَثل: "ما مِن عام إلا وخصص".

وثَمَرةُ هذا الخلاف: تظهر في تخصيصِ العام بخبر الواحِد والقياس، فالقائلون بالقطعية لا يُجيزونَ ذلك ما لم يخصَّ العام أو القطعي؛ لأنَّهما ظنيَّان، والظنيُّ لا يقضي على القطعي، فإنْ خصَّ بالقطعي، صار ظنيَّ الدَّلالة على الباقي، فيقبل التخصيص بِخَبَر الواحِد والقياس، والقائلون بالظنيَّة يُجيزون التخصيصَ بهما من غير حاجةٍ إلى وساطةِ التخصيص بالقطعي؛ لاحتِمال الخُصُوص مِن أوَّل الأمر"[8].

وجاء في "أصول الفقه"؛ لعبدالوهاب خلاَّف:
"إذا ورَد في النصِّ الشرعي لفظٌ عام، ولم يقم دليلٌ على تخصيصه، وجَب حملُه على عمومه، وإثباتُ الحُكم لجميع أفراده قطعًا، فإنْ قام دليلٌ على تخصيصه، وجَب حملُه على ما بقِي من أفراده بعدَ التخصيص، وإثبات الحُكم لهذه الأفراد، ظنًّا لا قطعًا، ولا يُخصَّص عامٌّ إلا بدليل يساويه، أو يرجحه في القطعية أو الظنية"[9].

الفصل الثاني

في بيان حُكْمِ العام إذا خُصِّص منه شيء

هذا الفصل يحتوي على:
1- بيان حُكم العام إذا خُصِّص منه شيء.
2- بيان حُكم العام الذي لم يثبت خصوصُه، وهل لا يحتمل الخصوص بخبر الواحد والقياس. (التكلُّم عن المذاهب في ذلك).
3- تعقيب: كلام الباحِث عن التخصيص بالقياس، واتباعه مذهب الجمهور، وهو الجواز.

الفصل الثاني

في بيان حكم العام إذا خصص منه شيء

بعدَما تكلَّم السَّرخسي عن حُكم العام، واعترَض على مَن قال بالوقف مطلقًا في العام، وسريان عملِه، تطرَّق إلى فرْع من ذلك وبيَّن الصواب فيه مِن وجهة نظره، وأنقل كلامه هنا لتفصيلِ وبيانِ ذلك.

"قال - رضي الله عنه وعن والديه -: كان أبو الحَسن الكرخي - رحمه اللَّه - يقول مِن عند نفسه لا على سبيل الحكايةِ عن السَّلَف: العام إذا لحِقَه خصوصٌ لا يبقى حُجَّة، بل يجب التوقُّف فيه إلى البيان، سواء كان دليلُ الخصوص معلومًا، أو مجهولاً إلا أنَّه يجب به أخص الخصوص إذا كان معلومًا.

وقال بعضهم: إذا خصَّ منه شيء مجهول، فكذلك الجواب، وإنْ خصَّ منه شيء معلوم، فإنه يبقي موجبًا الحكم فيما وراءَ المخصوص قطعًا، وقال بعضهم: هكذا فيما إذا خص شيء معلوم، وإنْ خص منه شيء مجهول يسقط دليلُ الخصوص، ويبقى العام موجبًا، كما كان قبلَ دليلِ الخصوص.

قال - رضي اللَّه عنه -: والصحيح عندي أنَّ المذهب عند علمائنا - رحمهم اللَّه - في العام إذا لَحِقه خصوص يبقى حُجَّة فيما وراء المخصوص، سواء كان المخصوصُ مجْهولاً أو معْلُومًا، إلا أنَّ فيه شُبهةً، حتى لا يكونَ موجبًا قطعًا ويقينًا، بمنزلة ما قال الشافعي - رحمه اللَّه - في موجِب العام قبل الخصوص.

والدليل على أنَّ المذهب هذا أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه – استدلَّ على فساد البيع بالشرط بنهيِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن بيْع وشرْط، وهذا عام دخَلَه خصوص، واحتجَّ على استحقاق الشُّفعة بالجِوار إذا كان عن ملاصقة بقول النبي - عليه السلام -: ((الجار أحقُّ بصَقَبِه))، وهذا عام قد دخَلَه خصوص، واستدلَّ محمد على فساد بيْع العقار قبل القبْض بنهيه - عليه السلام - عن بيْع ما لم يَقبض، وهو عامٌّ لحِقه خصوص، وأبو حنيفة - رحمه اللَّه - خصَّ هذا العام بالقياس، فعرَفْنا أنه جهةٌ للعمل من غير أن يكون موجبًا قطعًا؛ لأنَّ القياس لا يكون موجِبًا قطعًا، فكيف يصلح أن يكونَ معارضًا لِمَا يكون موجبًا قطعًا؟!

وتبيَّن أنَّ هذا العام دون الخبر الواحد؛ لأنَّ القياسَ لا يصلح معارضًا للخبر الواحد عندنا، ولهذا أخذْنا بالخبر الواحد الموجِب للوضوء عندَ القهقهة في الصلاة، وتركْنا القياس به، وأبو حنيفة أخذ بخبر الواحِد في الوضوء بِنَبِيذِ التَّمْر، وترَك القياس به، ثم إنَّ خبر الواحِد لا يوجب العلم قطعًا فما هو دونه أوْلَى[10].

وجاء في المسودة:
"اللفظ العام إذا دخَلَه التخصيص، قال ابن برهان: انقسَم فيه أصحابُنا؛ فمِنهم مَن قال: يكون مجازًا، وهو الصحيح، واختاره الجويني، ومنهم مَن قال: يكون حقيقةً، وقال أبو الحسَن الكرخي: إنْ كان التخصيص بدليلٍ متصل، كالاستثناء والشَّرْط والصِّفة لم يكن مجازًا، وإنْ كان التخصيص بدليل منفصل فهو مجاز، قال: وقال عبدالجبار بن أحمد عكس ذلك، ومعنى كونه مجازًا في الاقتصار به على البعض الباقي لا في تناوله له، وذكَر القاضي أنَّ كونه مجازًا قولُ المعتزلة والأشعرية.

قال شيخنا: ونصَر أبو الخطاب أنَّ العام إذا دخلَه التخصيص يصير مجازًا، خلاف ما اختاره شيخُه، مع أنَّه نصَر المنصوص في أنه يكون حُجَّة".

مسألة: "العموم إذا دخلَه التخصيص بشيءٍ فهو حُجَّة فيما عداه، نصَّ عليه في مواضع، وبه قالت الشافعية، واختاره الجويني، وحُكِيَ عن المعتزلة والأشعرية أنه يصير مجازًا ولا يُحتج به، وإليه ذهَب عيسى بن أبان وأبو ثور.

وكذلك ذكر أنَّ بعض أصحابنا اختار أنَّ العام بعدَ خصوصه لا يبقَى حُجَّة، وحكي عن أبي الحسَن الكرخي كقولنا، إنْ كان المخصص متصلاً، كالاستثناء والشَّرْط، وكقول الآخرين إنْ كان منفصلاً، وقال أبو بكر الرازي: إنْ كان الباقي جمعًا، ولم يذكر ابن برهان مخالفًا فيها سوى عيسى بن أبان، ولم يتعرَّض لكونه مجازًا، وذكر غيرُه أبا ثور معه، وهذا أصح - أعْني أنَّ المخالف في كونه حُجَّة هذان دون الجمهور - ولا أحسب ما حُكِيَ الكرخي إلا غلطًا، وكذلك ذكر الاستثناء في هذه المسألة، فإنَّنا لا نعلم خِلافًا بيْن مُثبِتي العموم في أنَّ الاستثناء لا يجعل الباقي وهو المستثنى منه مجملاً، بل يؤكِّد عمومه.

نعم، الخلاف في كونه مجازًا ربَّما أمكن، وهو بعيد؛ لأنَّه يلزم منه أنَّ كلَّ استثناء مجاز، ويحتمل أنَّ الكرخي وابن أبان أرادَا بالمتَّصل المقارن، كقولنا: اقتلوا الكفَّار، ولا تقتلوا الذِّمي[11].

فصل

لفظ العموم والخصوص جاءَ في قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعلي: ((عُمَّ في دعائك؛ فإنَّ فضلَ العُمُوم على الخُصُوص كفضْل السماء على الأرض))، وقوله: ((فعليك بخويصة نفسك، وإيَّاك وعوامَّهم))، وقوله: ((إنَّ الناس إذا رأوا المنكرَ فلم يغيروه أوْشكَ أن يعمَّهم اللَّه بعذابٍ من عنْدِه)).

وقول أبي هريرة: فعمَّ وخصَّ، وجاء لفظ الخصوص في القرآن، ولم يجئ لفظ العموم، وتَكلَّم بهما في الأدلَّة الأئمَّةُ، كالشافعي، وأحمد[12].

جواز التخصيص:
قال الغزالي: لا نعرِف خلافًا بيْن القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل، إمَّا بدليل العقل أو السَّمع أو غيرهما، وكيف ينكر ذلك معَ الاتفاق على تخصيص قوله - تعالى -: ﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقوله - تعالى -: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ﴾ [المائدة: 38]، ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ﴾ [النور: 2]، ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((فيما سقتِ السماء العُشْر)).

فإنَّ جميعَ عمومات الشَّرْع مخصَّصة بشروط في الأصْل، والمحل، والسبب.

وقلَّما يوجد عام لم يخصص؛ مثل قوله - تعالى -: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29]، فإنه باقٍ على عمومه؛ هذا ما قاله الغزالي.

ولكن يُفهم مِن عبارة ابن الحاجب أنَّ هناك مَن خالف في جوازِه؛ حيث قال: التخصيص جائز، إلاَّ عند شذوذ[13].

ويُستفاد مِن كلام ابن الهمام: أنَّ هناك مَن خالف في جواز التخصيص مُطلقًا، ومِنهم مَن خالف في جواز التخصيص بالعقل، ولم يشتغلِ ابن الحاجب بإيراد أدلَّة هؤلاء المانعين بخلاف الكمال، ولمَّا كان لا يُعقَل أن يوجد شخصٌ يرى الحجْر على المتكلِّم أن يتكلَّم بلفظٍ عام ينظم أفرادًا، ثم يبين بكلام متَّصل به أنَّه يُريد بعض أفراد هذا العام لا كلها، وخصوصًا بعدَ أن ثبَت وجود هذا النوع في كلامِ اللَّه ورسوله، وكلام الناس في متعارفهم، لم نشأْ أن نشتغلَ بالاعتراض والجواب في هذا المقام.

ويقول الآمدي:
اتَّفق القائلون بالعمومِ على جواز تخصيصه على أيِّ حالٍ كان مِن الأخبار، والأمر وغيره، خلافًا لشذوذ لا يُؤبَه لهم في تخصيصه الخبر، ويدلُّ على جواز ذلك الشَّرْعُ، والمعقول:

أما الشرع: فوقوع ذلك في كِتاب اللَّه تعالى؛ كقوله - تعالى -: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، وليس خالقًا لذاته، ولا قادرًا عليها، وهي شيء، وقوله - تعالى -: ﴿ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 42]، وقد أتَتْ على الأرض والجبال، ولم تجعلْها رميمًا.

وقوله - تعالى -: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأحقاف: 25]، ﴿ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 23]، إلى غير ذلك مِن الآيات الخبرية المخصِّصة، حتى إنَّه قد قيل: لم يَرِد عامٌّ إلا وهو مخصَّص، إلا في قوله - تعالى -: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29]، ولو لم يكنْ ذلك جائزًا، لَمَا وقَع في الكتاب.

وأمَّا المعقول: فهو أنَّه لا معنى لتخصيص العموم سِوى صرْف اللفظ عن جِهة العموم الذي هو حقيقة فيه، إلى جِهة الخصوص بطريق المجاز - كما سبق تقريره - والتجوُّز غير ممتنع في ذاته؛ ولهذا لو قدَّرْنا وقوعه، لم يلزم المحال عنه لذاته، ولا بالنظر إلى وضْع اللغة.

ولهذا يصحُّ مِن اللغوي أن يقول: "جاءني كلُّ أهل البلد"، وإن تخلَّف عنه بعضهم، ولا بالنظر إلى الداعي إلى ذلك، والأصْل عدم كلِّ مانع سوى ذلك.

ويدلُّ على تخصيصِ الأوامر العامَّة، وإنْ لم نعرفْ فيها خلافًا، قوله - تعالى -: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5] مع خروج أهل الذِّمَّة عنه، وقوله - تعالى -: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38]، و﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ﴾ [النور: 2]، مع أنَّه ليس كلُّ سارق يُقطَع، ولا كلُّ زان يُجلد؛ وقوله - تعالى -: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، مع خروجِ الكافر، والرقيق، والقاتل عنه.

فإنْ قيل: القول بجواز تخصيصِ الخبر مما يوجِب الكَذِب في الخبر؛ لِمَا فيه من مخالَفةِ المخبر للخبر، وهو غيرُ جائزٍ على الشارع، كما في نَسْخ الخبر.

قلنا: لا نُسلِّم لزوم الكذب، ولا وهْم الكذب، بتقدير إرادةِ جهة المجاز، وقيام الدليل على ذلك، وإلاَّ كان القائل إذا قال: "رأيت أسدًا" وأراد به الإنسان، أن يكونَ كاذبًا، إذا تبينَّا أنه لم يُرِد الأسد الحقيقي، وليس كذلك بالإجماع[14].

قال ابنُ الحاجب: مسألة: إذا خُصَّ العام كان مجازًا في الباقي.
الحنابلة: حقيقة.
الرازي: إن كان غير مُنْحَصِر.
أبو الحسن: إن خصَّ بما لا يستقل، مِن شرْط، أو صفة، أو استثناء.
القاضي: إن خصَّ بشرط أو استثناء.
عبدالجبار: إنْ خصَّ بشرط أو صفة.
وقيل: إنْ خصَّ بدليل لفظي.
الإمام: حقيقة في تناوله، مجاز في الاقتصار عليه.

قال الأصبهاني: اختَلفوا في أنَّ العام إذا خصَّ كان صِدْقه على الباقي بطريق الحقيقة أم المجاز، على ثمانية مذاهب[15]:
الأول: أنَّه مجازٌ في الباقي مطلقًا، وهو المختار عند المصنِّف.
الثاني: أنَّه حقيقةٌ في الباقي مطلقًا، وهو مذهب الحنابلة.
الثالث: أنَّه حقيقة في الباقي إنْ كان غير منحصر، ومجاز إنْ كان منحصرًا، وهو
مذهب الرازي.
الرابع: أنه حقيقةٌ في الباقي إنْ خص بما لا يستقلُّ، سواء كان شرْطًا نحوَ: "أكرم بني تميم إن دخلوا"، أو صفةً نحو: "مَن دخل داري عالِمًا أكرمه"، أو استثناءً نحو: "مَن دخل داري إلا زيدًا أكرمه"، ومجاز إنْ خصَّ بما لا يستقلُّ، وهو مذهب أبي الحسين.
الخامس: أنَّه حقيقةٌ في الباقي إنْ خص بشرْط أو استثناء، وإلا فهو مجاز، وهو مذهب القاضي.
السادس: أنَّه حقيقةٌ في الباقي إنْ خصَّ بشرْط أو صفة، وإلا فمجاز، وهو مذهب عبدالجبار.
السابع: أنَّه حقيقةٌ في الباقي إنْ خصَّ بدليل لفظي، وإلا فمجاز.
الثامن: أنَّه حقيقةٌ في الباقي مِن حيث إنَّ اللفظ العام يتناول الباقي مجازًا مِن حيث إنَّه اقتصر على الباقي، وهو مذهب الإمام.

قال ابن الحاجب: لنا: لو كان حقيقةً لكان مشتركًا؛ لأنَّ الفرْض أنه حقيقة في الاستغراق، وأيضًا الخصوص بقرينة كسائرِ المجاز.

الحنابلة: التناول باقٍ فكان حقيقة، وأُجيب بأنه كان مع غيره، قالوا: يسبق وهو دليلُ الحقيقة، قلنا: بقرينة، وهو دليلُ المجاز.

قال الأصبهاني: احتجَّ على المذهب المختار بوجهين:
أحدهما: أنَّه لو كان العامُّ حقيقةً في الباقي بعدَ التخصيص يلزم الاشتراك؛ لأنَّ الفرْض أنه حقيقة في الاستغراق، والتالي باطل؛ لأنَّ الاشتراك خلافُ الأصل، فإنْ قيل: لا نسلم أنه لو كان حقيقةً في الباقي بعدَ التخصيص يلزم الاشتراك، وإنَّما ذلك أن لو لم يكن إطلاقُه على العموم، وعلى الباقي بالاشتراك المعنوي، فيكون حقيقةً صادقة على كلِّ واحد منهما بطريق التواطؤ، أجيب بأنَّه لو كان كذلك لَمَا كان ظاهرًا في العموم، وليس كذلك.

الثاني: أنَّه لو كان حقيقةً في الباقي لَمَا احتاج عندَ إطلاقه إلى قرينة؛ لأنَّ إطلاق اللفظ على مفهومه الحقيقي لا يحتاجُ إلى القرينة، والتالي باطل؛ لأنَّه يحتاج إلى قرينة كسائرِ المجازات.

احتجَّ الحنابلة بوجهين:
أحدهما: أنَّ اللفظ قبلَ التخصيص قد يتناول الباقي بعدَ التخصيص بطريق الحقيقة، والتناول بعدَ التخصيص باقٍ، فيكون حقيقةً في الباقي، أجاب بأنَّ تناول اللفظ الباقي قبلَ التخصيص إنما كان مع غيرِ ذلك الباقي، ولا يلزم مِن كوْن تناوُل اللفظ للباقي مع غيرِه حقيقةً، كون تناول اللفظ الباقِي وحدَه حقيقةً[16].

فصل

العام الذي لم يثبت خصوصه لا يحتمل

الخصوص بخبر الواحد والقياس:
قال في "كشف الأسرار": "وقد قال عامَّة مشايخنا: إنَّ العامَّ الذي لم يثبت خصوصُه، لا يحتمل الخصوص بخَبر الواحد والقياس، هذا هو المشهور، واختارَه القاضي الشهيد في كتاب "الغرر"، فثبَت بهذه الجملة أنَّ المذهب عندَنا ما قلنا، ولهذا قلنا: إنَّ قوله اللَّه تعالى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 121]، عامٌّ لم يلحقْه خصوص؛ لأنَّ الناسي في معنى الذاكِر؛ لقيام الملَّة مقامَ الذكر، فلا يجوز تخصيصُه بالقياس وخبر الواحد، وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97] لم يلحقْه الخصوص، فلا يصحُّ تخصيصه بالآحاد والقياس"؛ انتهى المتن.

وهذا شرحه:
"وقوله: (العام الذي لم يثبت خصوصه): يعني العام مِن الكتاب والسنة المتواتِرة لا يحتمل الخصوص؛ أي: لا يجوز تخصيصُه بخبر الواحد والقياس؛ لأنَّهما ظنيَّانِ، فلا يجوز تخصيص القطعي بهما؛ لأنَّ التخصيص بطريق المعارضة، والظني لا يُعارض القطعي، "هذا"؛ أي: ما ذكرْنا مِن عدم جواز التخصيص بهما، هو المشهور مِن مذهب علمائنا، ونقل ذلك عن أبي بكرٍ الجصَّاص، وعيسى بن أبان، وهو قول أكثرِ أصحاب أبي حنيفة، وهو قولُ بعض أصحاب الشافعي أيضًا، وهو قول أبي بكر وعمر وعبداللَّه بن عبَّاس وعائشة - رضي الله عنهم - فإنَّ أبا بكر جمَع الصحابة وأمَرَهم بأن يردُّوا كلَّ حديث مخالِف للكتاب، وعمر - رضي الله عنه - ردَّ حديثَ فاطمة بنت قيس في المبتوتة أنَّها تستحقُّ النفقة، وقال: لا نترك كتابَ الله بقول امرأة لا ندري أصَدَقتْ أم كذَبت، وردَّتْ عائشة - رضي الله عنها - حديثَ تعذيب الميت ببكاءِ أهله، وتلَت قوله سبحانه: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]؛ أورد هذا كلَّه الجصَّاص، ذكَرَه أبو اليسر في "أصوله"[17].

قال الباحث: ثَمَّة فروق بيْن القول: المذهب عندَنا، وكذلك: "هذا هو المذهب"، وبيْن قول البعض: هو قولُ أكثر أصحاب أبي حنيفة؛ إذ الرِّوايةُ عن الإمامِ هي الوحيدة المُثْبِتَةُ أنَّ هذا الأمر أو ذاك هو مذهبُه أو المذهب، أمَّا الاعتماد على اختيارِ القاضي الشهيد أو غيره مِن العلماء في المذهب، لا يعني ذلك أنَّ هذا مذهب الإمام (رئيس المذهب)، ولهذا تفصيل في مبحث خاص.

"قوله: (ولهذا قلنا)؛ أي: ولأنَّ تخصيص العام مِن الكتاب لا يجوز بخبر الواحد، وبالقياس؛ أي: إذا ترَك التسمية على الذبيحة عامدًا، لا تَحِلُّ الذبيحة عندَنا؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 121] الآية.

ومُطلَق النهي يقتضي التحريم، وأكَّد ذلك بحرف "مِنْ"؛ لأنَّه في موضع النفي للمبالغة، فيقتضي حُرْمة كلِّ جزء منه، والهاء في قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ [الأنعام: 121] إن كانتْ كناية عن الأكْل، فالفِسق أكلُ الحرام، وإنْ كانت كنايةً عن المذبوح، فالمذبوح الذي يُسمَّى فسقًا في الشرع يكون حرامًا؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه ﴾ [الأنعام: 145].

وقال الشافعي - رحمه اللَّه -: تحِل؛ لحديث البراء بن عازب، وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((المسلِم يَذبح على اسمِ اللَّه سَمَّى أو لم يُسمِّ))، وعن عائشة - رضي الله عنها -: أنَّها قالت: "قالوا: يا رسولَ اللَّه، إنَّ هنا أقوامًا حديثٌ عهدُهُم بشِركٍ يأتوننا بلحمان لا ندري يَذكرون اسم لله عليها أم لا؟ قال: ((اذكُروا أنتم اسمَ اللَّه وكُلُوا))[18].

قال: ولا متمسَّكَ لكم في الآية؛ لأنَّ الناسي قد خصَّ منها بالنص، وهو ما رُوي أنه - عليه السلام - "سُئِل عمَّن ترَك التسمية ناسيًا، فقال: ((كُلوه، فإنَّ تسميةَ اللَّه في قلْب كلِّ امرئ مسلِم))، فيخص العامِد بالقياس عليه؛ لشمولِ العلَّة المنصوصة إيَّاهما، فإنَّ وُجودَ التَّسْمِيَةِ في القلْب حالة العمد أظهرُ منه في حالةِ النسيان، أو نخصُّه بحديث عائشةَ والبراء وأبي هريرة - رضي الله عنهم.

فأجاب الشيخ عن ذلك، وقال: لا نسلِّم أنَّ الآية لَحِقَها خصوصٌ؛ لأنَّ الناسي ليس بتارك للذِّكر، بل هو ذاكرٌ، فإنَّ الشرع أقام المِلَّة في هذه الحالة مقامَ الذكر، بخلاف القياس للعجز، كما أقام الأكْل ناسيًا مقامَ الإمساك في الصوم، وإذا ثبَت أنَّ الناسي ذاكر حُكمًا، لا يثبت التخصيصُ في الآية، فبقيت على عمومها، فلا يجوز تخصيصُها بالقياس وخبر الواحد؛ لِمَا ذكرْنا أنَّ الظني لا يُعارِض القطعي، ولأنَّ التخصيص إنَّما يجوز إذا بقِي تحتَ العام ما يمكن العلم به.

أمَّا الفرْد الواحد في اسم الجنس، أو الثلاثة في اسمِ الجمع، وها هنا لم يبقَ تحت النص إلا حالةُ العمد، فلو ألحق العمد بالنسيان لم يبقَ النَّصُّ مَعْمولاً به أصلاً، فيكون القياس أو خبر الواحد معطَِّلاً للنص، وإنه لا يجوز، مع أنَّه لا يستقيم إلْحاق العامِد بالناسي؛ لأنَّ الناسي عاجِز، مستحِقٌّ للنظر والتخفيف، والعامِد جانٍ مستحقٌّ للتغليظ والتشديد، فإثباتُ التخفيف في حقِّه، بإقامة الملَّة مقامَ الذكر خلفًا عنه لا يدلُّ على إثباته في حقِّ العامد؛ إذ الفرْق بين المعذور وغير المعذور أصلٌ في الشرع، في الذبح وغير الذبح، كما أنَّ في اشتراط الذِّكْر في الذبح يفصل بين المعذور وغيره، وكما في الأكْل في الصَّوم يفصل بيْن الناسي والعامِد، ولأنَّ العامِدَ مُعرِض عن التسمية، فلا يجوز أن يُجعَل مسمِّيًا حكمًا مع الإعراض عنها، بخلاف الناسي فإنَّه غير مُعرِض.

وأمَّا حديث عائشة، فدليلها؛ لأنَّها سألتْ عن الأكل عندَ وقوع الشك في التسمية، وذلك دليلٌ على أنه كان معروفًا عندَهم أنَّ التسمية من شرائط الحِل.

.... ثم توالتِ الكشوف عن أسرارِ هذا المبحث عبر أمثلة متعدِّدة لإثبات أنَّ العام الذي لم يثبت خصوصُه لا يحتمل الخصوصَ بخبر الواحد والقياس.

وجاء في "المغني" في تقرير مسألة سقوط احتمال التخصيص:
"وإذا سقَط احتمال خصوصه، لا يجوز تخصيصُه بالقياس وخبر الواحد؛ فلهذا قلنا: قليلُ الرَّضاع وكثيرُه سواء؛ لعمومِ قوله - تعالى -: ﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ﴾ [النساء: 23][19].
فلا يجوز تخصيصُه بما روَى ابن الزبير - رضي الله عنه -: ((ولا تحرَّم المصَّة والمصتان، ولا الإملاجةُ والإملاجتان)).
ولا بما روتْه عائشة - رضي الله عنها -: "أنَّ مما أنزل في القرآن: عشر رضعات تُحرمْن، فنُسخن بخمس رضعات تُحرمْن"[20].

وقال السرخسي - رحمه اللَّه -:
"وأكثرُ مشايخنا يقولون أيضًا: إنَّ العام الذي لم يثبُتْ خصوصه بدليل، لا يجوز تخصيصُه بخبر الواحد ولا بالقياس".

ثم قال: "ما اختاره أكثرُ مشايخنا - رحمهم اللَّه - أنَّ تخصيص العام الذي لم يثبُت خصوصه ابتداءً لا يجوز بالقياس وخبر الواحِد، وإنما يجوز ذلك في العام الذي ثبَت خصوصه بدليل موجِب مِن الحُكم مثل ما يوجِبه العام، وهو خبر متأيِّد بالاستفاضة، أو مشهور فيما بيْن السَّلف، أو إجماع"[21].

تعقيب:
ينقل الباحِث هنا كلامَ الإمام الشوكاني في مسألة التخصيص بالقياس، فقد قال الشوكاني: إنَّ الجمهور قد ذهَب إلى جوازه، ونقَل كلام الرازي في "المحصول"، ثم قال: "وحكاه ابنُ الحاجب في "مختصر المنتهى"، عن هؤلاء[22]، وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل، وكذا حكَى ابن الهمام في "التحرير".

وحكاه القاضي عبدالجبار عن الحنابلةِ عن أحمد روايتين.
وحكاه الشيخ أبو حامد، وسليم الرازي، عن ابن سريج.

ونَقَلَه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي، عن أحمد، وقيل: إنَّ ذلك إنما هو في روايةٍ عنه، قال بها طائفةٌ من أصحابه.
ونقلَه القاضي أبو بكر الباقلاني، عن طائفةٍ من المتكلمين، وعن الأشعري.

وذهَب عيسى بن أبان إلى أنَّه يجوز إنْ كان العامُّ قد خُصِّص قبل ذلك بنصٍّ قطعي، كذا حكَاه عنه القاضي أبو بكر في "التقريب"، والشيخ أبو إسحاق الشِّيرازي، وأَطْلق صاحب "المحصول" الحكاية عنه، ولم يقيِّدْها بكون النص قطعيًّا.

والحقُّ الحقيق بالقَبول: أنه يُخصَّص بالقياس الجلي؛ لأنَّه معمول به لقوَّة دلالته، وبلوغها إلى حدٍّ يوازن النصوص، وكذلك يُخصَّص بما كانت عِلَّته منصوصة، أو مجمعًا عليها، أمَّا العلة المنصوصة فالقياس الكائِن بها في قوَّة النص، وأما العِلَّة المجمَع عليها، فلِكونِ ذلك الإجماع قد دلَّ على دليلٍ مجمع عليه، وما عدا هذه الثلاثة الأنواع من القياس، فلم تقمِ الحُجَّة بالعمل به مِن أصله"[23].

تخصيص الكتاب بخبر الواحد:
"الجمهور على جوازه مطلقًا، وذهَب بعضُ الحنابلة إلى المنع مطلقًا، وحكاه الغزالي في المنخول عن المعتزلة، ونقلَه ابنُ برهان عن طائفةٍ من المتكلمين والفقهاء.

وذهَب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي، وكذلك إمامُ الحرمَيْن الجويني في "التلخيص".

وحكَى غيرُ هؤلاء عنه أنَّه يجوز تخصيص العام بالخبر الآحادي، إذا كان قد دخَلَه التخصيص مِن غير تقييد لذلك بكون المخصِّص الأوَّل قطعيًّا[24].

الفصل الثالث

أنواع العام

هذا الفصل يحتوي على:
1- أنواع العام.
2- العموم مِن عوارضِ الألْفاظ.
3- عموم اللفظ وخصوص السبب.

بيان المذاهب في تلك القاعِدة، وذِكْر مذهب بعض المُحْدَثين (التنويريِّين)، والتفريق بيْن مذاهب الأصوليِّين ومذهب التنويريِّين.


الفصل الثالث

أنواع العام


العام ثلاثة أقسام:
1- عامٌّ يُراد به قطعًا العموم، وهو العام الذي صحبتْه قرينةٌ تنفي احتمالَ تخصصيه، كالعام في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، وفي قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء: 30]، ففي كلِّ واحدة مِن هاتيْن الآيتيْن، تقريرُ سُنَّة إلهية عامَّة، لا تتخصص ولا تتبدَّل، فالعام فيهما قطعيُّ الدَّلالة على العموم، ولا يحتمل أن يُراد به الخُصوص.

2- وعام يُراد به قطعًا الخصوص، وهو العام الذي صحبتْه قرينةٌ تنفي بقاءَه على عمومه، وتبيِّن أنَّ المراد منه بعض أفراده؛ مثل قوله - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97]، فالناس في هذا النصِّ عام، مرادٌ به خصوصُ المكلَّفين؛ لأنَّ العقل يقضي بخروج الصبيان والمجانين، مثل قوله - تعالى -: ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [التوبة: 120]، فأهل المدينة والأعراب في هذا النصِّ لفظان عامَّان، مرادٌّ بكلٍّ منهما خصوصُ القادرين؛ لأنَّ العقل لا يقضي بخروج العَجَزة، فهذا عام مرادٌ به الخصوص، ولا يحتمل أن يُرادَ به العموم.

3- عامٌّ مخصوص، وهو العام المطلَق الذي لم تصحبْه قرينةٌ تنفي احتمالَ تخصيصه، ولا قرينة تنفي دَلالتَه على العموم، مثل أكثر النصوص التي وردتْ فيها صِيغ العموم، مطلَقة عن قرائِنَ لفظية، أو عقلية، أو عرفية تُعيِّن العموم أو الخصوص، وهذا ظاهرٌ في العموم، حتى يقومَ الدليل على تخصيصه؛ مثل: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ [البقرة: 228][25].

قال الشوكاني في التفريق بيْن العام الذي يُراد به الخصوص، والعام المخصوص:
"العامُّ الذي يُراد به الخُصوص هو العامُّ الذي صاحبتْه حين النطق به قرينةٌ دالة على أنه مرادٌ به الخصوص لا العموم، مثل خِطابات التكليف العامَّة، فالمراد بالعام فيها خصوصُ مَن هم أهلٌ للتكليف؛ لاقتضاءِ العقل إخراجَ مَن ليسوا مكلَّفين، ومثل: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ [الأحقاف: 25]، فالمرادُ كل شيء ممَّا يقبل التدمير.

وأمَّا العام المخصوص، فهو الذي لم تصاحبْه قرينةٌ دالَّة عن أنه مرادٌ به بعضُ أفراده، وهذا ظاهِر في دَلالته على العموم، حتى يقومَ دليلٌ على تخصيصه"[26].

العموم من عوارض الألفاظ:
يقول ابنُ الحاجب: مسألة: العموم مِن عوارض الألْفاظ حقيقة، وأمَّا في المعاني فثالثها الصحيح كذلك، لنا أنَّ العموم حقيقةٌ في شمول أمرٍ لمتعدِّد، وهو في المعاني كعموم المطر والخصب؛ ولذلك قيل: عَمَّ المطر والخصب ونحوه.

وكذلك المعنى الكلي لشمولِه الجزئيات، ومن ثَمَّ قيل: العام ما لا يمنع تصوره مِن الشركة، فإنْ قيل: المراد أمرٌ واحد شامل، وعموم المطر ونحوه ليس كذلك، قلنا: ليس العموم بهذا الشَّرْط لغة، وأيضًا فإنَّ ذلك ثابِت في عُموم الصوت، والأمر والنهي، والمعنى الكلي.

ثم قال الأصبهاني في بيانه لمختصر ابن الحاجب:
"اتَّفق العلماءُ على أنَّ العموم مِن عوارض الألْفاظ حقيقة، وأمَّا عروضه للمعاني فقدِ اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهبَ.
الأول: أنه لا يكون مِن عوارض المعاني لا حقيقةً ولا مجازًا[27].
والثاني: أنَّه مِن عوارض المعاني مجازًا لا حقيقةً[28].
[نقَل الآمديُّ هذا القول عن الأكثرين ولم يرجِّح خلافَه؛ راجع "الإحكام" للآمدي (2/56)].
وثالثها: وهو الصحيحُ عندَ المصنف أنه مِن عوارض المعاني حقيقة[29]، وإليه أشار بقوله: وثالثها الصحيح كذلك.

والدليل عليه أنَّ العموم في اللُّغة هو شمول أمرٍ لمتعدِّد، وهذا المعنى كما يعرِض للفظ يعرض للمعاني، فكما يكون حقيقةً في لفظ يكون حقيقةً في المعنى، كعمومِ المطر والخصب ونحوه، وكذلك يعرِض العموم حقيقةً للمعنى الكلي لشموله الجزئيات.

وقال في "مذكرة في أصول الفقه"؛ للشيخ محمَّد الأمين بن مختار الشنقيطي: "اعلم أنَّ العموم مِن عوارض الألفاظ حقيقة، وقد يُطلق في غيرها... إلخ ".

معنى كلامه أنَّ العمومَ مِن صفات الألفاظ، وقيل: تُوصَف به المعاني أيضًا، واختاره العضد وابن الحاجب وغيرهما، وإليه الإشارة في المراقي بقوله:
وَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْمَبَانِي
وَقِيلَ لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي[30]

ويقول الدكتور محمد أبو النور زهير:
"اتَّفق الأصوليُّون على أنَّ الألْفاظ توصَف بالعموم، واختلفوا في وصْف المعاني بالعمومِ على أقوال ثلاثة...."، وقد مرَّ سابقًا في كلام الأصبهاني، وإنَّما أردتُ بهذا النقل إثباتَ أنَّ العلماء اتفقوا في مسألةِ العام مِن عوارض الألفاظ[31].

كلام الشوكاني في مسألة "عموم اللفظ وخصوص السبب"[32]:
وهو مهم؛ لأنَّه من المحقِّقين، وممَّن رفَض مذهب التقليد، ودعا إلى التجديد، وفتح باب الاجتهاد في الفِقه وأصوله بنَقْده النصوص التي أُضفِي عليها قداسة ليستْ لها؛ إذ حذف ما أُلِّف من نصوصٍ بشرية غير مدعمة بما جاء به النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

يقول الشوكاني:
"المسألة الثالثة والعشرون: ورود العامِّ على سببٍ خاص، وقد أطلق جماعةٌ مِن أهل الأصول أنَّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وحكوا ذلك إجماعًا كما رواه الزركشي في البحر، قال: ولا بدَّ في ذلك مِن تفصيل، وهو أنَّ الخطاب إما أن يكون جوابًا لسؤال سائل، أو لا، فإنْ كان جوابًا، فإمَّا أن يستقلَّ بنفسه أو لا، فإنْ لم يستقلْ بحيث لا يحصل الابتداء به، فلا خلافَ في أنه تابِع للسؤال في عمومه وخصوصه، حتى كأن السؤالَ مُعاد فيه، فإنْ كان السؤال عامًّا فعام، وإنْ كان خاصًّا فخاص.

مثال خُصوص السؤال قوله - تعالى -: ﴿ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ﴾ [الأعراف: 44][33]، وقوله في الحديث: ((أينقص الرطب إذا جفَّ))، قالوا: نعم، قال: ((فلاَ إذًا))، وكقول القائل: وطئتُ في نهارِ رمضان عامدًا، فيقول: عليك الكفارة، فيجب قصْر الحُكم على السائل، ولا يعم غيره إلا بدليل مِن خارج يدلُّ على أنَّه عام في المكلَّفين أو في كلِّ مَن كان بصفته.

ومثال عمومه ما لو سُئِل عمَّن جامَع امرأتَه في نهار رمضان، فقال: "يعتق رقبة"، فهذا عام في كلِّ واطئ في نهار رمضان.

وقوله: "يعتق" وإنْ كان خاصًّا بالواحد، لكنَّه لما كان جوابًا عمَّن جامَع امرأته بلفظٍ يعمُّ كلَّ مَنْ "جامع" كان الجواب كذلك، وصار السؤال معادًا في الجواب.

قال الغزالي: وهذا يشترط فيه أن يكونَ حالُ غيرِ المحكوم عليه كحالِه في كلِّ وصْف مؤثر للحكم، وجعَل القاضي في "التقريب" مِن هذا الضرب قولَه: "أنتوضأ بماء البحر؟ فقال: ((هو الطهور ماؤه))، قال: لأنَّ الضمير لا بدَّ له من أن يتعلَّق بما قبلَه، ولا يحسن أن يبتدأَ به.

قال الزركشي: "وفي هذا نظر؛ لأنَّ هذا ضميرُ شأن، ومِن شأنه صدر الكلام، وإنْ لم يتعلَّق بما قبلَه".

"قال: وقد رجَع القاضي في موضع آخَر، فجعَله من القسم الثاني: وهو الصواب، وبه صرَّح ابن برهان وغيره، وإن استقلَّ الجوابُ بنفسه؛ بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلامًا تامًّا مفيدًا للعموم، فهو على ثلاثة أقسام؛ لأنَّه إمَّا أن يكون أخصَّ، أو مساويًا، أو أعمَّ:
الأول: أنْ يكون الجواب مساويًا له، لا يَزيد عليه ولا ينقص، كما لو سُئل عن ماء البحر فقال: ((ماء البحر لا يُنجِّسه شيء))، فيجب حملُه على ظاهرِه بلا خلاف، كذا قال ابن فورك، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، وابن القشيري، وغيرهم.

الثاني: أنْ يكون الجواب أخصَّ مِن السؤال، مثل أن يسألَ عن أحكام المياه، فيقول: ((ماء البحر طهور))، فيختص ذلك بماءِ البحر، ولا يعمُّ بلا خلاف، كما حكاه الأستاذ أبو منصور وابن القشيري، وغيرهما.

الثالث: أن يكون الجواب أعمَّ مِن السؤال، وهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أعمَّ منه في حُكْم آخَر غير ما سُئِل عنه، كسؤالهم عن التوضُّؤ بماء البحر، وجوابه - صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم - بقوله: ((هو الطهور ماؤه، والحِلُّ ميتته))، فلا خلاف أنه عامٌّ لا يختص بالسائل، ولا بمحلِّ السؤال مِن ضرورتهم إلى الماء وعطشهم، بل يعمُّ حالَ الضرورة والاختيار، كذا قال ابنُ فورك وصاحب "المحصول" وغيرهما.

وظاهِر كلام القاضي أبي الطيِّب وابن بُرْهان أنَّه يجري في هذا الخِلاف الآتي في القِسم الثاني، وليس بصوابٍ - كما لا يخفى.

القسم الثاني[34]: أن يكونَ الجواب أعمَّ مِن السؤال في ذلك الحُكم الذي وقَع السؤال عنه، كقوله - صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم - لَمَّا سُئل عن ماءِ بئر بضاعة: ((الماء طهور لا يُنجِّسه شيء))، وكقوله لَمَّا سُئل عمَّن اشترى عبدًا، فاستعملَه، ثم وجَد فيه عيبًا: ((الخَرَاج بالضمان))، وهذا القِسم محلُّ الخلاف، وفيه مذاهب:
الأول: أنَّه يجب قصرُه على ما خرَج عليه السؤال، وإليه ذهَب بعضُ أصحاب الشافعي، وحكاه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وسليم الرازي وابن برهان، وابن السمعاني عن المزني، وأبي ثور والقفال، والدقَّاق، وحكاه أيضًا الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري، وحكاه أيضًا بعضُ المتأخِّرين عن الشافعي، وحكاه القاضي عبدالوهاب، والباجِي عن أبي الفرج مِن أصحابهم، وحكاه الجويني في "البرهان" عن أبي حنيفة، وقال: إنَّه الذي صحَّ عندنا مِن مذهب الشافعي، وكذا قال الغزالي في "المنخول"، وتبعه فخر الدين الرازي في "المحصول"، قال الزركشي: والذي في كُتب الحنفية، وصحَّ عن الشافعي خلافُه.

ونقل هذا المذهب القاضي أبو الطيِّب والماوردي، وابن برهان وابن السمعاني عن مالك.

المذهب الثاني: أنَّه يجِب حملُه على العموم؛ لأنَّ عدول المجيب عن الخاصِّ المسؤول عنه إلى العامِّ دليلٌ على إرادة العموم، ولأنَّ الحُجَّة قائمةٌ بما يفيده اللفظ، وهو يقتضي العمومَ، ووروده على السبب لا يصلح معارضًا، وإلى هذا ذهَب الجمهور.

قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي، وابن برهان، وهو مذهب الشافعي، واختاره أبو بكر الصيرفي وابن القَطَّان.

قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن القشيري وإِلْكيا الطبري، والغزالي: إنه الصحيح، وبه جزَم القفَّال والشاشي. قال: والأصْل أنَّ العموم له حُكمه إلا أن يخصَّه دليل، والدليل قد يختلف، فإنْ كان في الحال دَلالةٌ يعقل بها المخاطب أنَّ جوابه العام يقتصِر به على ما أُجيب عنه، أو على جِنْسه فذاك، وإلا فهو عامٌّ في جميع ما يقع عليه عمومُه، وحكَى هذا المذهبَ ابن كج عن أبي حنيفة والشافعي.

وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثرِ الشافعية والحنفية، وحكاه القاضي عبدالوهاب عن الحنفية، وأكثر الشافعية والمالكية، وحكاه الباجيُّ عن أكثرِ المالكية والعراقيِّين.

قال القاضي في "التقريب": وهو الصحيح؛ لأنَّ الحُكم يتعلق بلفظ الرسول، دون ما وقَع عليه السؤال، ولو قال ابتداءً لوجب حملُه على العموم، فكذلك إذا صدر جوابًا؛ (انتهى).

وهذا المذهَب هو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه ولا شُبهة؛ لأنَّ التعبُّد للعِباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارِع وهو عامٌّ، ووروده على سؤال خاصٍّ لا يصلح قرينةً لقصره على ذلك السبب، ومَن ادَّعى أنَّه يصلح لذلك فليأتِ بدليل تقوم به الحُجَّة، ولم يأتِ أحدٌ مِن القائلين بالقصر على السبب بشيءٍ يصلح لذلك.

وإذا ورَد في بعضِ المواطن ما يَقتضي قصْر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محلَّه، بل يقصر عليه، ولا جامعَ بيْن هذا الذي ورَد فيه دليل يخصه، وبين سائرِ العمومات الواردة على أسباب خاصَّة، حتى يكونَ ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملاً لها.

المذهب الثالث: الوقْف، حكاه القاضي في "التقريب"، ولا وجهَ له؛ لأنَّ الأدلَّة هنا لم تتوازنْ حتَّى يقتضيَ ذلك الوقف.

المذهب الرابع: التفضيل بيْن أن يكونَ السبب هو سؤالَ سائل، فيختص به، وبيْن أن يكونَ السبب مجرَّدَ وقوع حادثةٍ، كان ذلك القول العامُّ واردًا عندَ حدوثها، فلا يختص بها؛ كذا حكاه عبدالعزيز في "شرح البزدوي".

المذهب الخامس: أنَّه إنْ عارض هذا العام الوارد على سببِ عموم آخَر خرَج ابتداءً بلا سبب، فإنَّه يقصر على سببه، وإنْ لم يعارضْه، فالعِبرة بعمومه، قال الأستاذ أبو منصور: هذا هو الصحيح؛ (انتهى).

وهذا لا يصلح أن يكون مذهبًا مستقلاًّ، فإنَّ هذا العامَّ الخارِجَ ابتداءً من غير سبب، إذا صلح للدَّلالة، فهو دليلٌ خارج يوجِب القصر، ولا خلافَ في ذلك على المذاهب كلها[35].


[1] "الموسوعة الفقهية الكويتية"، مادة (عام).
[2] "المغني في أصول الفقه"، ص99 وما بعدها.
[3] أي: ابن الحاجب.
[4] ص483 من "بيان المختصر".
[5] "من علم أصول الفقه"، تأليف عبدالوهاب خلاف ص182.
[6] "من علم أصول الفقه"، عبدالوهاب خلاف، ص183.
[7] "أصول السرخسي"، الجزء الأول، ص146 وما بعدها، و"الرسالة"، للإمام الشافعي.
[8] "الموجز في أصول الفقه"، (ص: 188 وما بعدها).
[9] "من علم أصول الفقه"، الأستاذ عبدالوهاب خلاف، ص181.
[10] "أصول السرخسي" (ص: 185)، وما بعدها، الجزء الأول.
[11] "المسودة" ص104 وما بعدها.
[12] "روضة الناظر" ص124.
[13] "المستصفى في أصول الفقه" ص255.
[14] "الإحكام" للآمدي، ص412.
[15] انظر: المسألة من "شرح الكوكب" (3/160)، و"كشف الأسرار" للبزدوي.
[16] بيان المختصر وهو شرح "مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه"، ص495 وما بعدها، المجلد الثاني.
[17] "كشف الأسرار" ص185، وما بعدها.
[18] "كشف الأسرار" ص186.
[19] وعند الشافعي: لا يثبت التحريم بما دون خمس رضعات؛ انظر: "المهذب" (2/157)، و"الوجيز" (2/105)، و"بداية المجتهد" (2، 27)، و"أحكام القرآن"، للجصاص (2/124).
[20] "المغني" (ص: 100)، وما بعدها.
[21] "أصول السرخسي": 1/133، 142.
[22] أي عن المذكورين في كلام الرازي في "المحصول"، والباحث قد نقل كلام الرازي سابقًا فلا حاجة للإعادة.
[23] ص567 من "إرشاد الفحول" للشوكاني.
[24] انظر: آراء العلماء وأدلتهم في هذه المسألة في "إرشاد الفحول" (2/687)، و"العضد على ابن الحاجب" 2/148، و"المحصول" جـ1، ق3، 131، و"الإحكام" للآمدي 2/319.
[25] مِن "علم أصول الفقه"، عبدالوهاب خلاَّف (ص: 185).
[26] الشوكاني في "إرشاد الفحول".
[27] وهو ما لم يعلم قائله. يراجع فواتح الرحموت (1/258).
[28] انظر بيانَ الفروق بين المجاز والحقيقة كُتبَ البلاغة [أسرار البلاغة]، و"منع جواز المجاز"، و"الصواعق المرسلة"، و"مجموع الفتاوى" وغيرها.
[29] وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي بكر الرازي، وقال البعلي: إنه الصحيح (مختصر البعلي)، ورجحه ابن نجيم في "فتح الغفار" (1/84)، واختاره ابن عبدالشكور والكمال ابن الهمام.
[30] (ص: 243) من المذكرة.
[31] "أصول الفقه"، د/ محمد أبو النور زهير، الجزء الأول، المكتبة الأزهرية.
[32] "إرشاد الفحول"، ص230 وما بعدها، ط مؤسسة الكتب الثقافية.
[33] سورة الأعراف، الآية 44.
[34] وانظر: "الفروع"، لابن مفلح، كتاب الأيمان.
[35] "إرشاد الفحول"، المجلد الثاني، ص233، و"نيل الأوطار".

محمود محمد عراقي 


 
_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..