الصفحات

السبت، 9 نوفمبر 2013

إبراهيم البليهي.. مثقف لا يسأم من التكرار

لم أر في العالم العربي، من محيطة إلى خليجه، ومن رفاعة رافع الطهطاوي إلى آخر موديل ثقافي في
يومنا هذا، مثقفا جادا يكرر أفكاره بالقدر الذي يفعله المثقف السعودي الجاد إبراهيم البليهي، وهي الأفكار التي صار يصرح بها تدريجيا، ابتداء منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بسنتين وبضعة أشهر، في مقالاته وفي محاضراته وفي مقابلاته الإعلامية، رغم أن اشتغاله بالكتابة يعود إلى تاريخ أبعد من ذلك التاريخ!
إننا نعلم أن التكرار في خطب الدعاة وعظات المبشرين مستحب عند أتباع الدعاة المسلمين، ومستطاب عند رعايا المبشرين المسيحيين، ويرتشفونه كما الماء الزلال. وإننا نعلم أن هناك فئات هي ليست من الجماهير الإيمانية لا يضيق صدرها به، وقد تتقبله منهم ولا تتشدد في الحكم عليه، لإدراكها أن التكرار خلق الداعية وجبلة المبشر. في حين أنه غير مستساغ وغير مقبول صدوره من المثقفين، ففضلا عن أنه في ملتهم ممل ومضجر، فإنه يعد علامة لا تخطئها العين على النضوب والأمحال.
ومما يزيد الإملال إملالا والضجر ضجرا، أن ما ألف المثقف إبراهيم البليهي تكراره، والذي بسببه قيل ويقال عنه عند البعض من اتجاهات فكرية مختلفة، سعوديين وغير سعوديين، إنه «مفكر» و«فيلسوف» و«نهضوي» و«تنويري» و«ذو عقل نقدي» و«سابق لعصره»، وإنه «لم يكن ابن حاضرنا، لكنه ابن مستقبلنا»، إلى غير ذلك من الهبات السخية ليس إلا لوكا لآراء رينان الشهيرة التي أطلقها في منتصف القرن التاسع في أكثر من كتاب ومن مقالة له. وهي الآراء التي حكمت على العقل السامي والحضارات الشرقية على نحو عام، وعلى العرب والعقلية والثقافة العربية على نحو خاص، بالدونية والمحدودية والقصور الطبيعي أو الفطري، وقضت بأن الحضارة اليونانية والحضارية الرومانية والحضارة الغربية حلقات عضوية متصلة من الإعجاز والفرادة والاستثناء في التاريخ الحضاري والتاريخ البشري.
ومثل هذه الآراء كانت هي السائدة في مرحلة من تاريخ الاستشراق، مرحلة تتصف بالتفسير العنصري للتاريخ والحضارات، والذي كان منشأه وأساسه علم اللغة، وتتسم بالروح القومية الاستعمارية التي لا تخلو في التنظير من صبغة دينية مسيحية غربية، رغم علمانية هذا التنظير.
وما ألف تكراره هو أيضا ليس إلا لوكا لما قاله مثقفون مصريون كثر خلال المنتصف الأول من القرن الماضي. ذلك أن آراء رينان تلك كانت متبناة عند كثرة من المثقفين المصريين (أدباء وصحافيين ونقادا وأكاديميين وسياسيين ومؤرخين وفنانين، كبارا ومتوسطين وصغارا، مؤسسين ومقلدين، أساسيين وثانويين وهامشيين، ومشاهير ومغامير، ملاحدة ومؤمنين، علمانيين وطائفيين، مسلمين ومسيحيين، متحررين وتقليديين، ثوريين ومحافظين، متطرفين ومعتدلين)، طيلة سنوات العشرينات والثلاثينات والأربعينات إلى أوائل الخمسينات ومنتصفها، مع الإشارة إلى أنه طيلة تلك الفترة ولأسباب مختلفة حصل عند بعضهم شيء من التراجع عن تبنيها في بعض وجوهها، ومع الإشارة أيضا إلى أنه كان ثمة اتجاه وأعداد من المثقفين المصريين يعارضونها لكنهم كانوا قلة.
كما أن آراء رينان كان لها في لبنان منذ وقت مبكر من القرن الماضي معتنقون ودعاة، كاليسوعيين الكاثوليك والكيانيين اللبنانيين الداعين إلى القومية الفينيقية وشيع اليمين المسيحي الانعزالي. وكان يعلن عنها - قبل فترة استقلال لبنان وبعد فترة استقلاله - في بعض المدارس وفي بعض الجامعات وفي بعض المؤلفات والندوات الأدبية والثقافية العامة، بلغة أكاديمية رصينة وهادئة وناعمة. وفي سنوات الحرب اللبنانية الأهلية كان يعلن عنها بصوت عقائدي زاعق وأسلوب خشن يستفز العروبة السياسية، والعروبة الثقافية، ويستفز الكينونة الإسلامية، معتقدا ولغة ووجودا وتاريخا.
ومما يجدر ذكره أن ما قاله كثرة من المثقفين المصريين في الفترة الزمنية المشار إليها آنفا، خاصة في عقدي العشرينات والثلاثينات، مع تعاظم الآيديولوجيا المعادية عنصريا للعرب والمعادية ثقافيا للتراث العربي الإسلامي، هو إعادة حرفية لآراء رينان وتنويع عليها، وترديد لآراء ابن خلدون في العرب والاقتصار في ترديدها على ما كان شائنا وإغفال ما كان إيجابيا عنهم، واستعادة لكلام الشعوبيين القديم المتناثر في كتب الأدب وكتب الثقافة العربية الكلاسيكية (راجع كتاب «هوية مصر بين العرب والإسلام»، تأليف ج. جانكوفسكي وأ.جرشوني، ترجمة: بدر الرفاعي).
وكان هؤلاء يعتمدون منهج هيبولت تين القائم في تفسير العمل الأدبي والفني على ثلاثية (العرق – البيئة - العصر)، وهو المنهج الذي استمر الأخذ به عند جمهرة من النقاد المصريين في أجيال متتالية لأغراض تختلف عند بعضهم عن بعض الغايات السياسية والآيديولوجية التي استخدم فيها ذلك المنهج عند جيل ثورة 1919 كالتنظير للقومية المصرية الفرعونية والتنظير لإقليمية الأدب العربي.
وبالاعتماد على منهج تين، ومن خلال توظيفه توظيفا سياسيا وآيديولوجيا دعائيا، كان المنظرون للقومية المصرية الفرعونية يمجدون العرق والبيئة المصرية، ويعظمون الأدب والفن والحضارة الفرعونية، وفي المقابل يحطون من العرق والبيئة العربية البدوية الصحراوية، ويزرون من الأدب والفن والثقافة والحضارة العربية الإسلامية.
فمن هذا المصدر الأخير تعرف إبراهيم البليهي على آراء رينان وعلى منهج تين. ومن منهج تين نزلت إليه «الحتمية البيئية» وهبط عليه «التفسير العرقي» مؤخرا، فراح يستخدمه أو بالأحرى يلوك ما سبق أن قاله مثقفو القومية المصرية الفرعونية منذ قرابة قرن من الزمان، انطلاقا من منهج تين، وصدورا عن نظرية رينان وعن نظريات الاستشراق العنصري، عن انحطاط العرب الأبدي وضعة شخصيتهم الأزلي وانحدار ثقافتهم السرمدي.
وأحسب أنه لا يخفى على القارئ الذي له أدنى اطلاع على تاريخ المذاهب الأدبية وعلى مناهج الدراسات الأدبية في الغرب، وله أدنى معرفة بتاريخ النقد الأدبي ونشأته الحديثة في مصر، أن منهج تين (وآخرين ممن ينتظمهم المذهب الطبيعي أو النقد العلمي الصرف للأدب)، كان بدايات المنهج التاريخي المادي في دراسة الأدب، وكان بدايات ما يصطلح على تسميته بالواقعية في الأدب. وأن هذا المنهج في مصر والعالم العربي، كان بداية الانتقال من الطريقة التقليدية في دراسة الأدب إلى المنهج العلمي الحديث المقتبس من الغرب.
وأحسب أن ذلك القارئ لا يخفى عليه أيضا أن منهج تين والمذهب الطبيعي برمته لم يعمر طويلا في الغرب، فقد ذوى في أوائل القرن العشرين وتراجع الأخذ به في العالم العربي بشكل كبير بعيد خمسينات القرن الماضي.
ربما يخفى على عدد من المتحررين في الثقافة والفكر من منازع متباينة وعلى جموع من الحداثيين، ويخفى على مجاميع من الذين ينشدون التحرر في السنوات المتأخرة بالسعودية، أن منهج تين الذي اختصر القوانين الطبيعية التي يخضع لها الإنسان - ويخضع بالتالي لها أدبه وفنه وفكره - بالعرق (أو الجنس) وبالبيئة (أو الوسط أو المحيط) وبالعصر (أو اللحظة أو الزمن) منهج مستخدم في كتب مدرسية تعليمية تتناول موضوعات في التراث الأدبي العربي ألفها أكاديميون ودارسون مصريون مصنفون لدى أجيال متحررة سالفة معاصرة لهم ضمن تيار التقليدية الفكرية والمحافظة الثقافية.
يؤسفني على ضوء ما تقدم أن أقول: إن المثقف إبراهيم البليهي يلوك ما يلوك على نحو – جد - متأخر: متأخر بالنسبة لسنه، ومتأخر بالنسبة لعمر تجربته الثقافية، ومتأخر بالنسبة لزمن الأفكار التي لم يسأم - في السنوات الأخيرة - من الإسراف في علكها، إذ يعود تاريخها في أوروبا إلى القرن التاسع عشر، ويعود تاريخها في مصر ولبنان إلى أوائل القرن الماضي، وهي على الإجمال أفكار لا يختص بها لا الانعزاليون المصريون ولا الانعزاليون اللبنانيون (الذين أميل أنه لم يتعرف على أدبياتهم)، وإنما كانت تتردد في جنبات الفكر العربي الحديث منذ عصر النهضة إلى مشارف ستينات القرن الماضي، وهي جزء لا يتجزأ من «تراث» هذا الفكر، رغم أن مصدرها مصدر غربي.
وإذا كانت الحداثة - بمختلف مستوياتها - هي مرجعيتنا في النظر والحكم والتزمين، فنحن إزاء أبعاد متعددة للتأخر اجتمعت في فكر رجل واحد. لعل أهونها مسألة السن ومسألة العمر الثقافي، وأشدها وطأة هو التأخر بمعناه الآيديولوجي وبمعنييه المنهجي والفلسفي.
والاختلاف هنا - هذا إذا ما تجاوزنا قضية التكرار الممل والمضجر - ليس قائما على أنه يلوك شيئا من «تراث» الاستشراق الكلاسيكي وشيئا من «تراث» القوميات الإقليمية في العالم العربي، وعن طريق التراث الأخير يلوك شيئا من «تراث» علموية الغرب في القرن التاسع عشر، وإنما الاختلاف قائم وينطلق من أنه يردد أفكارا هي من «أدبيات» الاستشراق ومن «أدبيات» عصر النهضة العربي ومن «أدبيات» المثقفين المصريين في المنتصف الأول من القرن الماضي، ولا يقدمها بصفتها تلك، وإنما بوصفها من بُنيّات أفكاره وخطير إضافاته.
والاختلاف قائم وينطلق من أن الأفكار التي يرددها نقلا عن تلك الأدبيات على أنه صاحبها، إذا ما وضعت في سياقها المنهجي والآيديولوجي المتسق والصحيح، تتناقض تماما ونمط تفكيره الديني المحافظ، وتتناقض وتوجهه السياسي والفكري المعادي للقومية، أيا كانت ومتى كانت، عداء مطلقا. وذلك لأنه في نظرته لمسألة القومية وغيرها من المسائل أسير لتنظيرات المودوي وأبي الحسن الندوي وسيد قطب ولمحمد المبارك ولكتاب محمد مصطفى رمضان «الشعوبية الجديدة» ولأقاويل قافلة من الكتاب والمثقفين الإسلاميين الحركيين.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني أراه شعوبيا شعوبية فجة ناحية العرب، بوصفها مقولة سياسية وثقافية وآيديولوجية في العصر الحديث، والعرب جنسا وثقافة وعقلية وقيما عبر التاريخ، تاريخ الإسلام وتاريخ ما قبله.
والاختلاف قائم وينطلق من أنه وهو الذي لا يكف عن تلاوة الهجائيات عن أمة بأكملها، هي الأمة العربية، في ماضيها (الإسلامي وما قبل الإسلامي) وحاضرها، ما زال يعتذر لتطرف وغلو فرد واحد من هذه الأمة، اسمه سيد قطب!!.. يعتذر لتطرفه وغلوه بكلام مردد منذ أوائل سبعينات القرن الماضي وأواسطه. وهذا الكلام ليس سوى أباطيل نمقها «الإخوان المسلمون» وروجها بعض الليبراليين الغربيين وبعض الليبراليين العرب الذين تعرضوا لحياته وفكره إما بالدراسة وإما بالكتابة الصحافية، بتواطؤ حينا وبغفلة حينا آخر.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني أراه يمارس تضليلا متعمدا، يتعدى تاريخه الآيديولوجي الشخصي إلى تاريخ الثقافة العربية الحديثة، وإلى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية وحضارتها الكبرى.
والاختلاف قائم وينطلق من أن آراءه وتفسيراته يكتنفها اعتباط وتعسف ومنطق مرتبك وتناقض ركيك لا يليق أن يقع به مثقف مصقول، ناهيك عن أن يكون هذا المثقف حامل لواء الفلسفة اليونانية ولواء الفلسفة والثقافة الغربية ورافع راية العقل والعقلانية والعقل والتفكير النقدي التي ما انفك يلوح بها ما بين مقال ومقال ومحاضرة وأخرى.
والاختلاف قائم وينطلق من أنه على خلاف ما يرى كثيرون، أراه يمثل تركة ثقافية محلية، هي عنوان ضعفنا العلمي والمنهجي في السعودية.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني لا أرى علاقة مستترة ولا علاقة ظاهرة بين ما صار يردده منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر بسنتين وبضعة أشهر، وما بين الأزمة السياسية والأمنية والثقافية العالمية التي نشأت عن إرهاب الحادي عشر من سبتمبر.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني أعتبره حالة معبرة عن ذاك المثقف المتأزم والمحتدم والغاضب، لا بسبب أوضاع واقعنا العربي والإسلامي وأحوال ماضينا البعيد، وإنما – أساسا - بسبب خطل تصوراته حول هذا الواقع وذلك الماضي، وحول التاريخ إجمالا وحركته، وإن ادعى هو غير ذلك.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني لا أرى أن لديه فكرة أو ملحوظة خاصة به، وأن ما ينسب له وينسبه هو لنفسه، هو - حقيقة - لغيره وليس له، هذا إضافة إلى أن الفِكَر التي اشتهرت عنه واحتفى بها كثيرون في السعودية، لم يحسن عرضها وقدمها بصورة مشوشة ومهزوزة.
والاختلاف قائم وينطلق من أنني لا أرى في كل ما كتبه منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر وبضعة أشهر عن قضية سياسية أو قضية ثقافية أو قضية تاريخية أو قضية إسلامية، طرحا ذا قيمة، فما يقوله بصدد هذه القضايا كليشيهات من التعليلات معدودة، يستخدمها في العويص من هذه القضايا والبسيط. وكنت ألاحظ أنه لا يتحدث في المشكلة والأزمة الإسلامية ابتداء، وإنما يضطره إلى الحديث فيها صحافي في مطبوعة أو إذاعي في إعلام مرئي أو أعضاء في منتدى إنترنتي، فيحرف الإجابة عن أسبابها ومسبباتها وما هو من صميمها إلى عزف لا يكل على تلك التعليلات المعدودة.
وهنا أدلف إلى صلب مضمون الاختلاف تحت هذا العنوان:
مقدمة قديمة تهدم مقدمة جديدة
منطلقات الاختلاف هذه والملحوظات التي سبقتها، لا يسعني الوقوف عند كل واحدة منها بالشرح والمناقشة، لأنني إن فعلت ذلك فإن الشرح والمناقشة سيطولان، وإنما سأكتفي بالوقوف عند بعضها. ولنبدأ مما سميته التضليل المتعمد لتاريخه الآيديولوجي الشخصي الذي سأعتمد فيه على مقتطفات من تقديم أحد تلامذة إبراهيم البليهي لأستاذه، عارضا بعض ما جاء في التقديم للمناقشة.
يقول عبد الله المطيري معد ومقدم كتاب «البليهي في حوارات الفكر والثقافة»:
- «كثيرا ما يثير خروج مفكر تنويري من نجد أسئلة متعجبة أبرزها تتساءل: كيف استطاع هذا الفرد الخروج من ثقافته التقليدية وهو يقبع جسديا في عمق عمقها؟.. نتحدث هنا عن عصر لم يكن الانفتاح الحالي موجودا فيه، نتحدث عن الخمسينات والستينات من القرن الماضي في قلب نجد، في بريدة، حيث عاش البليهي طفولته في أسرة اشتهرت بالعديد من الفقهاء والقضاة على المذهب الحنبلي ومن المدرسة الوهابية».
- «اعتمد البليهي على ذاته في عملية خروجه من بيئته التقليدية أو كما يسمي هذه العملية (الانعتاق من البرمجة الثقافية)، فهو يؤكد أنه ليس مدينا لمعلم بعينه ولا لأي شخص بذاته لتوجيهه أو مساعدته على هذا الانعتاق. كما أنه لم يسافر للدراسة خارج الوطن، لكن البليهي يحكي دائما عن الكتب، رفيقة دربه وملاذه الدائم وبالذات الكتب التي تتناول الفكر الفلسفي الغربي والتاريخ الأوروبي والحضارة الغربية وتجربة اليابان وسنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية».
- «لا يرى البليهي في مسيرته الفكرية انقطاعا وتحولا حادا من توجه معين أو آيديولوجية محددة إلى نقيضها، وبالفعل، فإن البليهي لم يتبن آيديولوجية محددة.. حدث هذا في أوج وعنفوان الآيديولوجيات القومية والماركسية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي. وهي الآيديولوجيات التي قل أن انعتق منها مفكر عربي، كما أنه لم يقع في شرك الآيديولوجيات الإسلامية صاحبة الحضور الواسع والعريض في الثمانينات والتسعينات».
قبل أن أشرع في نقاش المقتطفات هذه، يجب أن أنوه بأن مقدمة الكتاب لا تمثل رأي المطيري وحسب، وإنما – أيضا - تمثل رأي البليهي في تاريخه الفكري، فالمقدمة كتبت بالتشاور معه، لأن كاتبها تلميذ له وقريب منه. كما أنها ارتكنت على انتقاء شيء من إجاباته في اللقاءات التي أجريت معه، وعددها أحد عشر لقاء، ضمها الكتاب.
على عكس ما يقول عبد الله المطيري في مفتتح مقدمته، وبالمعنى الذي يقصده بتعبير «مفكر تنويري»، كان البليهي في طليعة الأشخاص من السعودية ككل وليس من منطقة نجد وحسب، الذين تبلورت لديهم الآيديولوجية الإسلامية المحدثة وعلى الأخص فكر «الإخوان المسلمين» بشقيه التقليدي والقطبي، وصنعوا عملا ثقافيا يندرج في ما يصطلح على تسميته بالكتاب الإسلامي المعاصر (هذا إذا ما استثنيا منطقة الحجاز لأن فيها اسمين أو ثلاثة من جيل سبقه من الأدباء والكتاب، كانوا متشربين قبله للفكرة الإسلاموية المحدثة، وقفزنا على اسم الشيخ عبد الرحمن الدوسري، نظرا إلى أن نشأته الفكرية كانت في الكويت رغم أنه من منطقة نجد، ومن القصيم تحديدا). والبليهي هو ثاني شخص في العالم العربي والعالم الإسلامي والعالم أجمع (أقول العالم أجمع بحكم أن هناك دراسات أجنبية توالت وتتوالى عن سيد قطب وبحكم أنه محل اهتمام عالمي في دنيا الأكاديميين والباحثين والصحافيين من قارات مختلفة) كتب عن سيد قطب.
هاتان الريادتان، الريادة المحلية، والريادة الإقليمية والدولية، هي عند المؤرخ البعيد عن المزايدات الفكرية السطحية محل تقدير وتثمين. فبالنسبة للأولى يعتبر الفكر الإسلامي المحدث (وفكر «الإخوان المسلمين» ضمنه) في عقدي الخمسينات والستينات وعقد السبعينات فكرا معاصرا وجديدا وحديثا على الساحة الدينية في السعودية ودول الخليج. وبالنسبة للأخرى، يسجل له أنه ارتاد موضوعا، كان في التصدي له من السابقين.. موضوعا تراكمت فيه دراسات شتى والكتابة فيه - على صعيد الدراسة والبحث والكتابة الصحافية - لم تنقطع إلى الآن. ومن المؤكد أنها لن تنقطع في المستقبل، للتأثير الهائل والمخيف الذي أحدثه سيد قطب في الوعي الإسلامي.
في البحث الذي قدمه البليهي لنيل درجة البكالوريوس من كلية الشريعة بالرياض في العام الدراسي 1390 - 1391هـ وطبع في بحر ذلك العام في مطابع الرياض، وكان البحث عن سيد قطب وتراثه الأدبي والفكري، يورد معلومات في مقدمة البحث تتناقض تماما مع المعلومات التي وردت في المقتطفات الثلاثة من مقدمة عبد الله المطيري. هذه المعلومات هي:
- أنه إلى قرابة سن العشرين لم يكن يقرأ في الكتاب الإسلامي الحديث، وكانت قراءته في الكتب الدينية السلفية التي ألفها المسلمون الأقدمون. وعند تركه الانتظام في الدراسة بعد نيله الشهادة المتوسطة (أو الإعدادية) ببريدة، وانتقاله إلى الرياض للالتحاق بالعمل الحكومي، التقى بالإنتاج الإسلامي الجديد، وكان من أوائل الكتب التي قرأها آنذاك مؤلفات محمد أسد (ليوبولدفايس). ويختم هذه المعلومة بالقول «إنها كانت قوية الجاذبية، شديدة التأثير، ثم صرت أتابع كل ما ينشر من إنتاج جديد حول الإسلام».
- يؤرخ لبداية قراءته كتب سيد قطب، بسنة 1384هـ (وكان وقتها موظفا حكوميا بالبلدية ومنتسبا في الوقت نفسه إلى معهد علمي) قائلا «قرأت كتابه (السلام العالمي والإسلام) فتعلقت به تعلقا شديدا، وصرت أبحث عن مؤلفاته بشوق وأقرأها بنهم، وأتابعها باندفاع، وكنت كلما قرأت له كتابا جديدا، تمنيت لو أستطيع أن أقنع شباب الإسلام بما يحتويه».
- أنه منذ أن عرف سيد قطب وهو «معني بالتعريف به مهتم بدعوة الناس إلى قراءة مؤلفاته والتعريف بحقيقة أمره».
- أنه ألقى محاضرة في إحدى دور العلم، تحدث فيها عن الفكر الإسلامي المعاصر، وعن عدد من أعلامه، وكان سيد قطب في طليعة الذين تحدث عنهم، ومن تلك المحاضرة تولدت عنده فكرة إعداد كتاب عن سيد قطب.
- البحث الجامعي المكلف به حينما كان طالبا منتسبا للسنة الرابعة من كلية الشريعة سنة 1390هـ، كان عن الإمام الطبري، ولما كان مسبوقا إلى الكتابة عن هذا الإمام، وأنه لن يكون لبحثه عنه أي قيمة إلا الاجتياز المرحلة، بينما اعتبر أن الكتابة عن سيد قطب ما زالت بكرا بحيث يتسنى له أن يقدم شيئا نافعا، فإنه عرض على أستاذ مادة البحث مناع القطان الفكرة، فوافق على ذلك، ومن ثم شرع في التحضير للموضوع.
- عبر عن اندهاشه وحيرته عندما علم أن سيد قطب كان من مدرسة طه حسين ثم من رجال العقاد (سيد قطب لم يكن يوما ما من مدرسة طه حسين، فقد كانت صلته به صلة وظيفية وإدارية. ولقد جاءت صلته به بعد انقطاعه عن العقاد الذي كان أستاذه والمؤثر الأوحد فيه لسنين عدة منذ انتقاله من قريته إلى القاهرة)، يقول عن هذه اللحظة أو لنقل الصدمة الصحوية «كنت أحسبه أول الأمر أقدم وأكبر وأرسخ قدما من هؤلاء، وظننت أن الأدباء أهملوه جريا مع الموضة الجديدة في الابتعاد عن الدين تشبثا بالتحرر واندفاعا مع التيار الجارف». فلم يتصور أن صاحب «في ظلال القرآن» حديث عهد بالدراسات الإسلامية، بل كان يعتقد أنه قد أنفق عمرا مديدا في التعمق في الإسلام والتوسع في الثقافة العامة ذات المصادر المتنوعة. وبعد البحث تبين له أنه من أبناء القرن العشرين، بينما كان طه حسين والعقاد كلاهما من أبناء القرن التاسع عشر، فقد سبقاه إلى الحياة بمدة طويلة.
- من الدوافع التي حملته على تأليف كتاب عن سيد قطب أنه رأى أن الفكر الإسلامي المعاصر قد تكامل واستوى على سوقه، فاشتدت حاجته إلى «الترويج» و«التسويق»، فأضحى من الواجب إذاعته ونشره بكل السبل وفي جميع المجالات. هذا الأمر أعاد الحديث عنه في خاتمة الكتاب، فقال «إنه كان من بواعث إعداد هذا البحث أنني التقيت بالكثيرين من (طلبة العلم) ومن (الأدباء) و(المتأدبين)، فألفيت جلهم لم يقرأ شيئا لسيد قطب، ووجدتهم يعللون التقصير بانشغالهم بأعمالهم اليومية وعدم اتساع وقتهم لمتابعة ما يكتبه هو أو غيره. فخطر في نفسي أن الفكر الإسلامي اليومي ليس بحاجة إلى الإضافة بقدر ما هو بحاجة إلى الترويج».
هذه المعلومات المنقولة من مقدمة كتابه الأول وهوامشها، ومن هامش الصفحة الأولى من خاتمته، عدا أنها تتناقض مع المقتطفات التي أوردناها من الكتاب الذي أعده وقدم له عبد الله المطيري، وتتناقض مع أحكام أخرى لم نوردها في هذا المقال، فإنها تمدنا بصورة تاريخية أخرى عن البليهي وعن البيئة والمناخ الذي عاصره في صباه وفي أول شبابه وفي أوجه. على الأرجح هي في كثير منها أقرب للتاريخ الصحيح..
أولاها، أن تعرفه على الكتاب المعاصر، أيا كان هذا الكتاب دينيا أو دنيويا، لم يكن في مرحلة الصبا والمراهقة، ولم يكن في مدينة بريدة، بل تعرف عليه وهو يناهز سن العشرين في مدينة الرياض.
ثانيتها، أن الكتاب الإسلامي المعاصر لم يكن في مرحلة صباه وفي أول شبابه متوفرا في بريدة عاصمة منطقة القصيم، وإنما كان متوافرا في الرياض عاصمة السعودية، وربما في مدن أخرى كبرى، كبعض مدن الحجاز. وهذا أمر متوقع، فعواصم الدول، وكذلك المدن الكبرى فيها، تتوافر فيها عادة أصناف من الكتب لا تتوافر في سائر مدنها.. ومتوقع لأن الكتاب الإسلامي المعاصر في فترة الخمسينات والستينات وحتى أوائل السبعينات، يعد في السعودية كتابا ناشئا وجديدا.
ثالثتها، أن الكتاب الإسلامي المعاصر في تلك الفترة التي حددتها لم يكن يحظى بإقبال من القراء، ولم يكن كثرة من المتعلمين على قناعة بما يحويه، لهذا كان البليهي يؤكد على المطالبة بالترويج له، ويتحرق شوقا لو كان بإمكانه أن يهدي المسلمين إلى ما ضم ما بين دفتيه.
والتعليل الذي أبداه له طلبة العلم «الأدباء» و«المتأدبين»، سواء أكان التعليل منهم أو منه، تعليل غير مقنع، لأنهم يقرأون ما سواه من الكتب، وإلا لما استحقوا صفة «طلبة العلم» وصفتي «الأدباء» و«المتأدبين».
المقنع أن طلبة العلم في عقود سالفة كانوا يزهدون في قراءة الكتاب الإسلامي المعاصر لجدة مضامينه وجدة طرائقه وأساليبه، فهم متعلقون بمضامين وطرائق وأساليب الأقدمين في ما ألفوه من كتب دينية، والتأليف على منوالها، ولا يبغون عن ذلك حولا.
أما الأدباء والمتأدبون فكانوا ينفرون من قراءة الكتاب الإسلامي إما لأسباب سياسية وفكرية وإما لأسباب ذوقية ومزاجية، وكانت تستهويهم قراءة كتب أدباء العرب الأقدمين والمعاصرين وقراءة بعض الآداب المترجمة.
فالكتاب الإسلامي لم يتحقق له الانتشار الكاسح إلا بدعاية ضخمة عبر وسائط مختلفة، وتعززت هذه الدعاية ابتداء من سنة 1980، وهذا ما كان يطالب به البليهي منذ أواخر الستينات.
هناك فكرة تملكت البليهي منذ أواخر الستينات أفصح عنها في مقدمته، أظنها تحتاج إلى تدقيق. هذه الفكرة هي قوله «إن الفكر الإسلامي المعاصر قد تكامل واستوى على سوقه، فاشتدت حاجته إلى الترويج والتسويق».. وهي التي كررها في خاتمة كتابه، فقال «إن الفكر الإسلامي اليوم ليس بحاجة إلى الإضافة بقدر ما هو بحاجة إلى الترويج».
التدقيق هو أن الكتاب الإسلامي المعاصر في الوقت الذي تحدث فيه، من حيث أعداده، ومن حيث المجالات التي غطاها، كان كتابا محدود العدد، وكتابا محدودا في مجالات بعينها. ولم يكتمل بناء الفكر الذي يحمله إلا مع أوائل الثمانينات الميلادية وأواسطها، وقد جأر بشكوى هذا النقص أعلام في الإسلام الحركي الملتزم بندوات في أواسط السبعينات الميلادية وأواخرها.
رابعتها، أن أول كتب إسلامية معاصرة، قرأها في الرياض، هي كتب محمد أسد (ليوبولدفايس). ومحمد أسد في فترته الإسلامية الأولى كان أصوليا، بل إن أحمد صلاح الدين الموصلي - وهو متخصص في الإسلام المعاصر وإسلامي التوجه - يرجع كثيرا من أفكار الأصوليين إلى محمد أسد، ويعتبره بمثابة الأب للأصولية الحديثة لسببين.. الأول: أنه كتب قبل المودودي وقطب والبنا.. والثاني: أن الأصوليين قد تأثروا به وذكروه في كتبهم، كما أن بعضهم اقتبس من كتاباته كسيد قطب وأبو الأعلى المودودي.
كتب محمد أسد التي كانت فاتحته للقراءة المعاصرة عموما، لم تكن قراءته لها قراءة عادية أو عابرة، بل كانت «قوية الجاذبية، شديدة التأثير» عليه، بحيث حددتا مسار واتجاه قراءته بعد إتمام قراءته لها. هذه الكتب هما كتاباه الأصوليان «الإسلام على مفترق الطرق»، و«منهاج الإسلام في الحكم»، وكتاب ثالث لا يدخل ضمن دائرة تصنيف التنظير للأصولية الإسلامية هو كتاب «الطريق إلى مكة» (أو «الطريق إلى الإسلام» في ترجمته إلى العربية). هذان الكتابان أو الكتب الثلاثة، قادته إلى قراءة كتب سيد قطب الذي لم تكن قراءته لكتبه هو الآخر قراءة عادية أو عابرة، إذ إنه تعلق بها - كما حدثنا - (تعلقا شديدا) وصار يبحث عن مؤلفاته (بشوق) ويقرأها (بنهم)، ويتابعها (باندفاع). وكان كلما قرأ له كتابا جديدا تمنى لو استطاع «إقناع» شباب الإسلام بما يحويه.
خامستها، أنه في تلك المرحلة المبكرة، التي سبقت شروعه في إعداد كتابة عن سيد قطب، اعترف بأنه لم يكن يعرف بأن (الإسلامية) مرحلة تالية وأخيرة في حياته، وأنه لم يكن يعرف بصلته بالعقاد وبطه حسين وبأشياخ الأدب في عصره، ولا أنهم أسن وأقدم منه باعا في النقد والثقافة.
إن هذا الاعتراف يشير بوضوح إلى أنه لم يمر بالطريق الاعتيادي الذي مر به المثقف السعودي والمثقف من أي بلد عربي من جيله ومن أجيال سبقته، وهو القراءة لما كتبه الأدباء والنقاد والمثقفون المصريون من أوائل القرن إلى ما بعد منتصفه، ولما كتبه المهجريون وما كتبه أدباء ونقاد ومثقفون من سوريا ولبنان والعراق في تلك العقود. فما كتبه هؤلاء، وبدرجة أساسية ما كتبه المصريون، كان عدة المثقف السعودي في جيل الرواد والجيل الذي تلاهم، وعدة القارئ المحترف في السعودية إلى وقت متأخر.
هذا الطريق الاعتيادي أو التكوين الكلاسيكي للمثقف وللقارئ السعودي حصل فيه تغير عند قسم من المثقفين والقراء مع إطلالة تيارات سياسية وفكرية (لنقل علمانية) على بلدهم ابتداء من أول الخمسينات، فمع هذه الإطلالة والتأثر بتلك التيارات اتجهوا إلى طريق آخر في القراءة، كالقراءة في التنظيرات الماركسية والقومية وما يحف بهما من تيارات أخرى، وللآداب المعبرة عنها، سواء كتبها مصريون أو سواهم من العرب، أو كانت مترجمة إلى العربية. فانصرفوا بالتالي عما كتبته أجيال ما قبل منتصف القرن الماضي. وزاد هذا الانصراف مع صعود حركتي الحداثة والصحوة المحليتين. وبطريقة مشابهة بعض الشيء حدث مثل هذا الأمر في بقية البلدان العربية.
ويدل الاعتراف دلالة قاطعة على أنه كان منغلقا على قراءة الكتاب الإسلامي المعاصر، وأنه لم يكن في ثقافته «معاصرا» لجيله ولأجيال سبقته من الأدباء والمثقفين والقراء السعوديين. فمعاصرته في ذلك الوقت كانت تقتصر على جانب واحد ضعيف، هو الاستغراق في قراءة الكتاب الإسلامي المعاصر.
ولو أنه مر بالطريق الاعتيادي الذي سلكه جيله والجيل الذي سبقه - جيل الرواد - وكان معاصرا في ثقافته بالمعنى الذي أقصده، لما خفيت عليه تلك المعلومات.
فعلى الأقل اسم سيد قطب كان اسما نقديا مشهورا من جيل الشباب الذين كانوا يكتبون في مجلة «الرسالة»، واسما ذائعا بسبب المعارك الأدبية التي نشبت ما بين مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد والتي تمخض عنها تسمية الرافعيين والعقاديين، وكان سيد فيها المدافع المتطرف عن العقاد والمهاجم الشرس للرافعي، وبسبب معارك أدبية أخرى خاضها مع آخرين، ومن أشهرها معركته مع محمد مندور حول الشعر المهموس، ومعركته مع شعراء مدرسة «أبوللو» وزعيمها أحمد زكي أبو شادي. وتلك المعارك الأدبية كانت جزءا أساسيا من تراث تلك المرحلة، تراث يعرف هذا الجزء منه، الملم وليس بالضرورة المتعمق فيه.
وما خفي عليه في هذا الشأن يدل أيضا على أن اطلاعه على أعمال سيد قطب اقتصر على أعماله الإسلامية ولم يتجاوزها إلى أعماله الأدبية، رغم غرامه المشبوب بسيد قطب من بداية تعرفه عليه.
قد يشاركني القارئ الآن في أن ثمة مقدمة قديمة كتبها إبراهيم البليهي تهدم مقدمة جديدة كتبها عبد الله المطيري عنه. فلا البليهي كان السؤال المحوري في مسيرته الفكرية - كما قال المطيري - هو «لماذا تقدم آخرون (من هم الآخرون في هذا السؤال)، وتخلفنا نحن (من هم نحن.. عرب أم مسلمون أم شرق أوسطيون أم عالم غير غربي..)؟!.. أو كما يعبر عنه - المعبر هنا البليهي لا المطيري - بقوله: السؤال رافقني منذ البداية وهو لماذا بقي التطور الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورا بمجتمعات قليلة بينما طوفان التخلف ما زال يغمر أكثر مجتمعات الدنيا (لاحظ هنا الأولية لمجتمعات الدنيا لا لمجتمعات المسلمين)؟!.. ولماذا ظللنا نحن المسلمين ضمن المجتمعات المتخلفة؟».
السؤال النهضوي لم يكن محوريا في مسيرته الفكرية، لأنه لم يكن متأثرا بدرجة أساسية بالإسلاميين النهضويين من أمثال شكيب أرسلان الذي صاغ السؤال الإسلامي النهضوي على نحو محدد «لماذا تأخر المسلمون.. ولماذا تقدم غيرهم؟» (قارن بين صياغته هذه وإعادة المطيري والبليهي للصياغة، أثر تحولهما اللاحق لليبرالية). فالسؤال الذي كان يشغله في ما مضى من مسيرته الفكرية هو سؤال قطبي - مودودي أصولي، وليس سؤالا إسلاميا نهضويا.
ولا البليهي - كما ادعى المطيري - لم يتبن آيديولوجية محددة طيلة حياته الفكرية. فهو كان متبنيا آيديولوجية «الإخوان المسلمين» على نحو عام، وآيديولوجية سيد قطب على نحو خاص. وما زالت آثارها باقية إلى الآن في كتاباته.
ولا البليهي - كما ادعى هو نفسه - لم يحصل في مسيرته الفكرية انقطاع وتحول حاد من توجه معين أو آيديولوجية محددة إلى نقيضها، وهي الدعوى التي أقرها المطيري في الجملة السابقة.
ما هو صحيح في هذه الدعوى هو أنه لم يحصل عنده انقطاع ولا قطيعة مع تكوينه الثقافي الأصلي، فصار يجمع الآن ما بين فكريات متناقضة، وفق رؤى مضطربة.
رفضه الإقرار بأنه حصلت في مسيرته الفكرية تحولات واضحة وحادة يأتي للزعم بأنه من الأصل منعتق من البرمجة الثقافية (هذه المقولة تصحبه في كثير مما يكتبه ويفسر بها جليل الأمور وصغيرها) ومنفتح على الفكر العالمي، وأن ما يطرحه الآن هو ما كان عليه منذ حزمة طويلة من العقود، أي أنه يقوم بعملية تأصيل لليبرالية لاحق في تاريخ شخصي سابق.
وفي ظني أن هذا ربما يعود إلى أنه اعتنق الفكر الغربي والليبرالية بالطريقة الدينية الصحوية، فهو يعسر عليه ويؤلمه أن يتصور نفسه أنه أمضى أغلب شطر عمره، وهو «ضال» عن الفكر الغربي و«زائغ» عن الليبرالية. مثلما عسر عليه وآلمه حينما كتب كتابه عن سيد قطب أن يتقبل حقيقة أن سيد قطب لم يكن إسلاميا أو كاتبا دينيا من الأصل، فاتجه إلى نفي تحوله وإلى تأصيل إسلاميته منذ بداياته الكتابة، فأكد أنه «لم يحصل لسيد قطب رحمه الله أي انحراف فكري (يجب على القارئ أن يأخذ الانحراف الفكري بمعيار الصحوة)، لكنه لم يتميز كمفكر وكاتب إسلامي إلا بعد عام 1947، حيث شرع في تأليف كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وهو أول مؤلفاته بعد وضوح نهجه الإسلامي الصريح. ويخطئ الذين يظنون أنه حصلت له صبوة فكرية. فلقد بدأ اهتمامه بالدراسات القرآنية منذ عام 1939 حيث نشر بحثا في مجلة (المقتطف) تحت عنوان (التصوير الفني في القرآن).. وبعد مرور خمسة أعوام ألف كتابه الإسلامي الأول (التصوير الفني في القرآن)».
ويتم هذا التأصيل بعد ما يزيد على الصفحة بأسطر ثلاثة، بالقول إنه «لم يبلغ ما بلغه طفرة، بل كان يقترب من غايته خطوة خطوة منذ عرف كيف يقرأ. كان يوسع ثقافته ويعمقها لإعداد نفسه - من حيث يدري أو لا يدري - ليكون صاحب (الظلال)».
لا أرى فارقا بين تأصيل البليهي لليبرالية في تاريخه الشخصي، وتأصيله لإسلامية سيد قطب. الفارق فقط هو أنه في تأصيله لليبراليته لا يقدم بينة، وفي تأصيله لإسلامية سيد قطب قبل تحوله إلى الدين يذكر سندا واهيا، وهو أن مقالة الأخير «التصوير الفني في القرآن» المنشورة في مجلة «المقتطف»، والكتاب الذي ألفه في ما بعد تحت هذا العنوان، وكتابه الآخر «مشاهد القيامة في القرآن»، هي من ضمن ما كتبه في الدراسات الإسلامية.
واعتبره سندا واهيا لأن المقالة والكتابين تمثل مرحلته الأدبية وليس مرحلته الإسلامية، فلقد غمض على البليهي حينها أن موضوع الكتابين يدخل في نطاق الدراسات الأدبية والبلاغية، وليس الدراسات الإسلامية.
إن ما ذهب إليه عبد الله المطيري من أن البليهي في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي لم يقع في أسر الآيديولوجيات القومية والماركسية التي قل أن انعتق منها مفكر عربي كما قال، وأنه «لم يقع في شرك الآيديولوجيات الإسلامية صاحبة الحضور الواسع والعريض في الثمانينات والتسعينات»، قول مرسل.
فالبليهي كان منتميا لفكر «الإخوان المسلمين» منذ أن كانت القومية والماركسية - كما عبر المطيري - في أوجهما وعنفوانهما، وكان معاديا لهما ولغيرهما من آيديولوجيات غربية أشد العداء، وعداؤه للقومية والماركسية لم يكن من منطلقات ليبرالية ولا من فهم سياسي وفكري موضوعي بعد الاطلاع على أدبياتهما مباشرة من دون اللجوء إلى ما كتبه عنهما الإسلاميون، وإنما من منطلقات وفهم ديني - تقليدي محافظ، ومن منطلقات هي أشد انشغالا وتعبئة وتحريضا دعائيا ضد القومية والماركسية وهي منطلقات فكر «الإخوان المسلمين».
وقد ظل هذا الانشغال يلازمه إلى عقد قريب، ويمكن للمطيري أن يراجع بعض ما كتبه أستاذه في جريدة «عكاظ» في الثمانينات قبل أن ينتظم في الكتابة الأسبوعية في جريدة «الرياض».
إن ما ذهب إليه المطيري يستلفت النظر إلى الكلمتين التي استخدمهما، وهما «الانعتاق» وهو يتحدث عن القومية والماركسية، و«الشَرَكْ» وهو يتحدث عن الآيديولوجيات الإسلامية. استخدامه لهاتين الكلمتين إزاء هذه الآيديولوجيات في هذا السياق بالذات، يشير إلى أنه يقف منها موقف المتحفظ والمتعالي، إذ يعتبر الآيديولوجية الأولى والثانية بحسب الكلمة التي استخدمها إزاءهما أسرا وعبودية، والآيديولوجية الثالثة بحسب الكلمة المستخدمة إزاءها أيديولوجية صيد وقنص، ومعتنقوها هم فرائس.
ويشير إلى أنه يعد من كان قوميا ومن كان ماركسيا في الخمسينات والسبعينات وإسلاميا في الثمانينات والتسعينات تاه عن الحق وضل عن الصواب الذي يتمثل في ليبرالية مستجدة على بعض كتابنا ومثقفينا وبعض تياراتنا الثقافية.
لا بأس أن يكون لكل واحد منا موقف متحفظ أو نقدي أو حتى كاره لآيديولوجيات بعينها أو لكل الآيديولوجيات، فكل إنسان حر في معتقداته الخاصة والعامة وفي عواطفه وميولاته وانحيازاته، لكن هذا الحق البسيط لا يسوغ لنا أن نخفض من قيمة مثقف لمجرد انتمائه لهذه الآيديولوجية أو تلك، انتماء شاملا أو لانتمائه لمستوى من مستوياتها.
وعلينا أن نعلم أن كل الآيديولوجيات (ومنها الليبرالية) وكل الدعوات في التاريخ البشري يمكن أن تكون أسرا وعبودية، وأنها معرضة للإصابة بالجمود والتصلب والتزمت والتطرف. فهذه العوارض ليست حصرا على القومية والماركسية، ولا حكرا على تيارات الإسلام المعاصر.
استنادا إلى منطلقات المطيري الليبرالية ومعه أستاذه البليهي، أسأله: ما الضير في أن يكون المرء قوميا أو ماركسيا في الخمسينات والستينات والسبعينات أو إسلاميا في الثمانينات والتسعينات؟
ربما فات المطيري أن القومية والماركسية في العقود التي أشار إليها وعقود مديدة قبلها هي في العالم العربي وغير العربي وجه من وجوه الحداثة السياسية والثقافية والفكرية، وأن آيديولوجيا «الإخوان المسلمين» من عقود ثلاثينات القرن الماضي في العالم العربي ومن منتصفه تمثل الحداثة بمعناها الأدواتي.
إن البليهي لو كان قوميا أو ماركسيا في الفترة الزمنية التي حددها المطيري لسهل عليه أن يؤصل لحداثة أستاذه في مقدمته ذات الاستهلال الغرائبي المفتعل التي يمكن التساهل معها كثيرا لو أن الذي خطها مستشرق.
أقول ردا على استهلاله الغرائبي:
إن فكر «الإخوان المسلمين» والكتاب الإسلامي المعاصر في فترات بعيدة خلت بمنطقة نجد وبمدينة بريدة التي صورها ككهف منعزل لم تكن له جماهيرية، فالتأثير الأقوى عند المتعلمين في تلك الآونة كان لأفكار وكتب أخرى. وهكذا كان الحال في معظم البلاد العربية.
إن من جيل البليهي في منطقة نجد من مالوا وتشكل وعيهم من خلال تيارات سياسية وفكرية، كانت هي السائدة في ذلك الوقت، وأن في بريدة منذ الستينات مكتبة أهلية تضم كتبا، أفرط البليهي – على نحو متأخر- في قراءة بعض منها.
كما أن في بريدة في تلك الآونة وعيا إسلاميا حركيا في معهد بريدة العلمي، وفيها مكتبة دينية تجارية، اختارها أصحاب هذا الوعي لرفدها ببعض الكتاب الإسلامي المعاصر.
وقد أشار الشيخ السوري محمد سرور بن نايف زين العابدين الذي ينسب إلى اسمه الأول التيار السروري - وهو يروي سيرة حياته في قناة «الحوار» - إلى تأثر بعض شباب بريدة في الستينات بتيارات سياسية وفكرية معينة. وهذا التأثر - بالمناسبة - كان ممتدا إلى طلبة المعهد العلمي. فكان الملتصقون والمشاركون بالنشاط التوعوي الديني الذي يشرف عليه الشيخ محمد سرور أقل من الملتصقين والمشاركين بنشاط أدبي ومسرحي كان يستلهم روح تلك الفترة.
وعلينا أن نعلم أن الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية (التي سميت بجامعة محمد بن سعود الإسلامية لاحقا) بالرياض لم تقر تدريس مادة الثقافة الإسلامية بوصفها مادة أساسية إلا بعد أن همس نخبة من أكاديميي «الإخوان المسلمين» السوريين في أذن جهات سعودية عليا بأن في طلبة الكليات والمعاهد من هو متأثر بتلك التيارات، فأقر تدريسها في كلية اللغة العربية سنة 1969. وهي السنة التي أنهى البليهي فيها كتابته لبحثه الجامعي عن سيد قطب بحسب ما ذكر هو في لقائه بمنتدى دار الندوة الإلكتروني.
فلقد كان هناك في الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية اعتراض وممانعة سلفية تقليدية على اسم المادة (الثقافة الإسلامية) وعلى محتواها (التنظير لمعاملات الإسلام وعباداته والعناية القصوى بمجادلة المذاهب الوضعية المعاصرة) لجدة هذه التسمية وهذا النهج عليهم في تقديم الإسلام والدفاع عنه، ولأن علماء السلف الأقدمين لم يعرفوا هذه التسمية، والمذاهب بالنسبة لهم هي الفرق الإسلامية المنقرضة والمستمرة، المذكورة في كتب عقائد السلف القديمة. ولقد ظل نفر من هؤلاء إلى سنوات متأخرة لا يستسيغون تسمية الثقافة الإسلامية ولا تسمية الفكر الإسلامي، ويعتبرون الانشغال بما تحويه مادة الثقافة الإسلامية انشغالا بعلم غير مفيد، وهذا ما يفسر لنا تأخر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عن جامعة الملك سعود في إقرار تدريس مادة الثقافة الإسلامية بخمس سنوات، وتأخرها عنها في إنشاء قسم للثقافة الإسلامية بثلاث سنوات.
ولعل من المفيد في هذه الإلماحة أن نشير إلى أن أول بلد عربي دُرست فيه مادة الثقافة الإسلامية هو سوريا، وأن الأسماء التي كانت وراء تدريسها في سوريا هي الأسماء نفسها التي كانت وراء إقرار تدريسها في الجامعات السعودية وجامعات أخرى في بلدان عربية.
إننا لو سايرنا عبد الله المطيري على ما جاء في استهلاله، من أن منطقة نجد في عقود سلفت منعزلة ومعزولة عن العالم الخارجي، وأن مدينة بريدة هي عمق العزلة والانعزال في هذه المنطقة عن أي مؤثرات إقليمية عربية، فما الفضيلة التي سجلها البليهي بأنه لم يتبن في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، القومية أو الماركسية، وما علاقته بمرحلة «أوجهما» و«عنفوانهما» ما دامت المدينة - مدينة بريدة - والمنطقة - منطقة نجد - التي عاش فيها مضروبة عليها العزلة ومنقطعة عن أي مؤثر عربي خارجي؟
وما صلة البليهي بـ«المفكر العربي» الذي قل أن انعتق من القومية والماركسية بسبب «أوجهما وعنفوانهما»؟.. هل هو زميل له أو من لداته في بلدان الشام أو في العراق أو في مصر أو السودان أو بلاد المغرب العربي؟!
ثم إنني لم أفهم في خاتمة استهلاله ذي الطابع الغرائبي، مسوغ تعجبه من خروج البليهي من ثقافته التقليدية، رغم أنه - كما قال - عاش طفولته في أسرة اشتهرت بالعديد من الفقهاء والقضاة على المذهب الحنبلي ومن المدرسة الوهابية.
إن هذا الأمر حتى لو افترضنا أنه أمر صحيح (وهو غير صحيح)، أي أن الرجل - بالفعل - كان متحررا في الأفكار الدينية وغير الدينية في مجتمعه، فما العجيب والغريب والنادر والشاذ في هذا؟!
إن أعدادا كبيرة من المثقفين والأدباء والساسة العرب الذين وفدوا إلى الفكر العلماني التحرري بصيغه المختلفة، كانت خلفياتهم الاجتماعية والأسرية والحزبية والعلمية دينية، وبعض منهم ينتمي إلى أسرة علماء دين، وبعض آخر كانوا هم أنفسهم رجال دين وطلبة علم ديني.
وما لنا نبعد؟.. فرينان المولع أستاذه البليهي بترديد بعض آرائه كان رجل دين، وتلقى تربية دينية متزمتة في المدارس الدينية التي تلقى فيها تعليمه، ومع هذا في طور من حياته مال إلى التحرر الديني إلى حد وصفه بالزندقة والإلحاد عند مسيحيي عصره.
إن الذي يحرن أمام هذا الأمر ويطيل التفكير فيه بحيث يكون قضية بذاتها، محاطة بالتعجب ومملوءة بالعجب، هم عادة أصحاب الفكر التقليدي، سواء أكان هذا الفكر دينيا أو غير ديني.
وللحديث صلة ...

علي العميم
المصدر
السبـت 12 ربيـع الاول 1433 هـ 4 فبراير 2012 العدد 12121

------------------------------
اضافة:




_______
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..