الصفحات

الأحد، 11 مايو 2014

أضحى التنائي بديلا من تدانينا شرح و / بصوت ماجد الشبل

ابن زيدون عشق ولاّدة.. فأغرته وصدّته وأشعلت نار غيرته وغيرتها
عرفت الأندلس بعد دخول العرب إليها، وإنشاء دولتهم الأموية فيها، حقبة شعَّت بالإبداع الفني من
شعر وموسيقى وغناء.

وكان ابن زيدون من أهم شعراء الأندلس وأعلاهم شأناً وأشهرهم صيتاً. هو أحمد بن عبد الله واشتهر بلقب ابن زيدون.

وُلد في قرطبة عام 394 هجرية (1003 ميلادية) من عائلة ميسورة، فأبوه عبد الله كان من الرؤساء والأعيان في دولة الخلافة الأموية الأندلسية، وكان بالإضافة إلى ذلك عالماً فقيهاً.

وقد أبدع ابن زيدون في نثره وأجاد في حواراته مع أولي الأمر، خاصة ابن جهور الذي كان على رأس حركة المعارضة التي استطاعت إسقاط آخر خلفاء بني أمية في الأندلس، وهو المستكفي والذي حفلت المراجع بحكايات وقصص الغرام التي كانت بين ابنته ولاّدة والشاعر ابن زيدون. وأما النجاح الذي حققه ابن زيدون مع ابن جهور الذي اصطفاه وجعله من رجال دولته وكلفه بالسفارة بينه وبين الرؤساء، فقد أصبح موضع حسد يحيط به ويطمح إلى المناصب لديه. وحيكت حول ابن زيدون المؤامرات واتهموه بخيانة ابن جهور الذي أبعده عن مقاليد الوزارة ووضعه في السجن لزمن غير قصير. ولكن المصادر والمراجع اهتمت بعلاقة ابن زيدون بولاّدة بنت المستكفي أكثر مما اهتمت بأخبار المؤامرات السياسية التي حيكت ضده.

ولاّدة بنت المستكفي كانت نتاج قصة حب بين أبيها آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس وأمها (سكري)، وكانت جارية من المورة هام بها المستكفي وتزوجها.

أخذت ولاّدة من أمها بياض جلدها وصفرة شعرها، حيث كانت شقراء وضّاءة الوجه جميلة فاتنة.. وأخذت من أبيها العربي فصاحة اللسان وقوة البيان والحس الشاعري. عاشت ولاّدة في بيت أبيها الخليفة قوية الشخصية، تفتح مجلسها للأدباء والشعراء والمبدعين، وتجالسهم وتحاورهم، وتتغلب عليهم بقوة حجتها وسعة ثقافتها.

تهافت الشعراء والأدباء والموسيقيون والمطربون على ولاّدة وحاول كل منهم أن يلفت نظرها إليه ويثير اهتمامها به، ولكنها كانت كالفرس الجموح تغري الناظر إليها بالعطاء.. وتصدمه بالصدود.

زعم بعض من عاصرها وحضر مجلسها أنها كتبت على جانب ثوبها:

أنا والله أصلُحُ للمَعالي

وأمْشي مِشيتي وأتيهُ تيها

وكتبت على الجانب الآخر من الثوب:

أمكِّن عاشِقي مِنْ صَحْنِ خدِّي

وأعطي قبلتي من يشتهيها

وكان من الطبيعي أن تنشأ علاقة الحب بين تلك المرفهة ذات الغنج والدلال وذات العقل الراجح والقلب المرهف، وبين ذلك الشاب المثقف الفقيه والشاعر المجيد ابن زيدون.

بدأ الحب بينهما هادئاً. ثم بدأت ناره تلفح كليهما، خاصة عندما بدأ الحساد يعملون لإثارة المشاكل بين الحبيبين والحض على الجفاء والهجر.

أصغت ولاّدة إلى الحساد الذين أشاعوا أن ابن زيدون لا ينظر إليها كحبيبة، بل كأميرة يريد استغلالها لتحقيق أطماعه ومآربه فهي مجرد وسيلة وليست نهاية المطاف، إن ابن زيدون هذا لا يترك جميلة إلا ويسمعها من شعره ويغريها بالوعود لتستسلم ويقطف من ثمارها، بل إنهم حذروها من عشق ابن زيدون لعتبة جاريتها.

وفي يوم من الأيام، وفي جلسة ود وصفاء جمعت الحبيبين معاً ولاّدة وابن زيدون طلبت ولاّدة من جاريتها عتبة أن تغني.. وكانت عتبة غاية في الجمال، ترنو العيون إليها وتهفو لها القلوب، وتملك بالإضافة إلى جمال الجسد وبهاء الوجه، روعة الصوت وحسن الغناء.

غنّت عتبة فأبدعت.. طرب ابن زيدون.. ودون أن يدري أو ينتبه لوجود ولاّدة صاح منتشياً: الله أكبر.. يا للإبداع.. أعيدي بالله عليك أعيدي.

استجابت عتبة لطلب ابن زيدون، وبدأت بالإعادة دون أن تستأذن سيدتها ولاّدة.. نهبت الغيرة قلب ولاّدة، فقامت إلى جاريتها ثائرة غاضبة.. صفعتها، ومزّقت ثوبها.. فخرجت عتبة باكية، وتركت ابن زيدون في المجلس الفارغ لا يدري ماذا يقول وماذا يفعل.. وفي اليوم التالي تبعث إليه بأبيات تقول فيها:

لو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا

لَمْ تهوَ جاريتي ولم تتخيَّرِ

وتركتَ غصناً مثمراً بجمالهِ

وجَنحْتَ للغصنِ الذي لمْ يُثمِر

ولقد علمتَ بأنني بدرُ السّما

لكنْ دهيتَ لشقوتي بالمُشتري

كانت ولاّدة بنت المستكفي تحاول السيطرة على ابن زيدون وتتبع في ذلك وسيلة الإغراء والصدود.. فمرة تجعله يشعر أنها ملك يديه، جارية لديه.. ومرة تصدُّهُ صدّ العزيز المقتدر والكاره المبغض.. وما بين القبول والرفض والرفض والصد عاش ابن زيدون ذلك الحب الخالد الذي كان شعره سجلاً له.

أحب ابن زيدون ولاّدة حباً حقيقياً.. وأحبّته ولاّدة على طريقتها.. وأشعلت نار الغيرة في قلبه حين وطدت صلتها بالوزير ابن عبدوس وكان ابن عبدوس خصم ابن زيدون، وهو الذي أوغر صدر ابن جهور حين اتهم ابن زيدون بأنه يسعى إلى الانقلاب على الحكم.. ونتيجة لهذه المؤامرة الرهيبة وُضع ابن زيدون في السجن ولم تُفِدْ جميع محاولاته لرد الاتهام وتأكيد الولاء.

ذاق ابن زيدون مرارة السجن، وعانى فقد الحرية، ولكنه لم ينس ولاّدة.. ولم ييأس من عفو أبي الحزم ابن جهور.

أخيراً فاز برضا ابن جهور بعد وساطة ابنه أبو الوليد ابن جهور الذي أصبح حاكماً بعد أبيع وكافأ ابن زيدون بمنصب الوزير.. وعاد الزمن يبتسم من جديد في وجه ابن زيدون.. ولكن لم يبتسم له الحب، ولم يتمكن من قلب ولاّدة. جعله أبو الوليد ابن جهور سفيراً لدولته بين قرطبة وسائر إمارات الأندلس، فقضى زمناً طويلاً راحلاً إلى بطليوس ومالطة وبلنسية، ولكن الحنين إلى الوطن وإلى الحبيب في الوطن ظل هاجسه الذي لا يفارق ولا يرحم..

في تلك الفترة الصعبة نظَّم ابن زيدون أجمل قصائده.. ومن هذه القصائد، تلك القصيدة الخالدة، التي تغنت بها أجيالنا العربية جيلاً بعد جيل، والتي انبثقت من قلب شاعر محب، وجعلت جميع من درسوا شعره وحياته يتوقفون عند هذه القصيدة.. وكأنه لم ينظِّم غيرها.

يقول في  القصيدة


 أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
 
ونابَ عنْ لُقيانا تَجافينا(1)
 
ألا وقد حانَ صُبحُ البينِ، صبّحنا
 
حينٌ فقام بنا للحَيْنِ ناعينا(2)
 
من مُبلغُ المُلبسينا بانتِزاحهم
 
حزناً مع الدّهر لا يَبْلي ويُبْلينا(3)
 
إن الزمان الذي ما زال يُضحكنا
 
أُنساً بِقربهم، قد عادَ يبكينا(4)
 
غيظَ العدا من تساقينا الهوى فدَعوا
 
بأنْ نغصَّ فقال الدهر آمينا(5)
 
فادخل ما كان معقوداً بأنفسنا
 
وانْبَتَّ ما كان موْصولاً بأيدينا(6)
 
وقد نكون، وما يُخشى تفرقنا
 
فاليوم نحن، وما يُرجى تلاقينا(7)
 
يا ليت شِعري ولم نُعتبْ اعاديكم
 
هلْ نالَ حظّاً من العتبى أعادينا(8)
 
لم نعتقدْ بَعْدَكم إلا الوفاء لكُم
 
رأياً، ولم نَتَقَلّد غيره دينا(9)
 
ما حَقّنا أن تُقرّوا غير ذي حَسَدٍ
 
بنا، ولا أن تسروا كاشحاً فينا(10)
 
كنّا نرى اليأسَ تُسلينا عوارِضُهُ
 
وقد يئسنا فما لليأس يغرينا(11)
 
بنْتُم وبنّا فما ابتلت جوانِحُنا
 
شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا(12)
 
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا
 
يقضي علَيْنا الأسى لولا تأسِّينا(13)
 
حالَتْ لِفقدكِمُ أيامنا، فغَدَتْ
 
سوداً، وكانت بكُمْ بيضاً ليالينا(14)
 
لِيُسقَ عهدُكم عهدُ السرور فما
 
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا(15)
 
لا تحسبوا نأيكم عنّا يغيّرنا
 
إذْ طالما غيّر النأيُ المُحبّينا(16)
 
واللهِ ما طلبتُ أهواؤنا بدل
 
منكمُ ولا انصَرَفت عنكم أمانينا(17)
 
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ واسق به
 
من كان صِرف الهوى والود يسقينا(18)
 
واسأل هنالك: هل عنّا تذكُّرُنا
 
إلفاً، تذكُّرُه أمسى يُعَنّينا؟(19)
 
ويا نسيم الصَّبا بلِّغ تحيتنا
 
من لَوْ على البعد حيّا كان يحيينا(20)
 
ربيبُ ملكٍ كأنّ الله أنشأه
 
مسكاً وقدَّر إنشاءَ الورى طينا(21)
 
أو صاغه وَرِقاً محْضاً وتوّجهُ
 
من ناصعِ التِّبرِ إبداعاً وتحسينا(22)
 
إذا تأوّدَ آدَتْهُ رفاهيةً
 
تومُ العقودِ، وأدمَتْهُ البرى لينا(23)
 
ماضرّ أن لم نكنْ أكفاءهُ شرفاً
 
وفي المودّةِ كافٍ من تكافينا؟(24)
 
يا روضةً طالما أجنَتْ لواحظنا
 
ورداً جلاهُ الصِّبا غضاً، ونسْرينا(25)
 
لسْنا نسميكِ إجلالاً وتكرمةٍ
 
وقدرُكَ المعتلي عن ذاك يُغنينا(26)
 
إذا انفردت وما شوركت في صفةٍ
 
فحسبُنا الوصفُ إيضاحاً وتبيينا(27)
 
يا جنّةَ الخُلد أُبْدِلنا بسلسلها
 
والكوثر العذب زقوماً وغِسْلينا(28)
 
كأننا لم نَبِتْ، والوصل ثالثنا
 
السعدُ قد غضّ من أجفانِ واشينا(29)
 
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء بكم
 
في موقفِ الحشرِ نلقاكُم وتلقونا(30)
 
سِرّانِ في خاطر الظلماء يكتمنا
 
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا(31)
 
إنا قرأنا الأسى، يوم النوى، سوَراً
 
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا(32)
 
أما هواك فلم نَعدلْ بمَنهلهِ
 
شرباً وإن كان يروينا ويظمينا(33)
 
لَمْ نَجْفِ أفْقَ جمالٍ أنت كوكبُهُ
 
سالين عنه، ولم نهجُرهُ قالينا(34)
 
نأسى عليكِ إذا حُثّتْ، مُشعشعةً
 
فينا الشمولُ، وغنّانا مُغنّينا(35)
 
لا أكؤُسُ الراحِ تبدي منْ شمائلنا
 
سيما ارتياحٍ، ولا الأوتار تلهينا(36)
 
دومي على العهد ما دُمنا، محافظةً
 
فالحرُّ من دانَ إنصافاً كما دينا(37)
 
أبكي وفاءً، وإن لم تَبْذُلي صَلةً
 
فالطيفُ يُقْنِعُنا، والذكرُ يكْفينا(38)
 
وفي الجوابِ متاعٌ، إن شفعتِ به
 
بيض الأيادي التي ما زِلتِ تولينا(39)
 
عليكِ منّا سلامُ اللهِ ما بقيتْ
 
صبابةٌ بكِ نخفيها، فتُخفينا(40)
 
شرح المفردات:
1 - التنائي: التباعد. التداني: القرب . التجافي: الجفاء والصدود
2 - البين: الفراق. الحَيْن: الموت والهلاك
3 - الانتزاح: النزوح والهجر
5 - غص بالماء: شرق ويقال شرق بالماء أو بالدمع
6 - انبتّ: انقطع
8 - نعتب: نرضي. العتبى: الرضى
10 - قرت العين بردت سروراً وجف دمعها - الكاشح: المبغض، العدو
12 - بنتم: بعدتم. جفت المآقي: نضبت دموعها
13 - الأسى: الحزن . التأسي: الجلد والتصبر والتعزي
16 - النأي: البعد والفراق
18 - غادة القصر: باكره. صر الهوى: الهوى الخالص
19 - يغنينا: يشغلنا
20 - يحيينا: ينعشنا ويجدد حياتنا
22 - الورق: الفضة. المحض: الخالص. التبر: الذهب
23 - تأود: تثني وتمايل. آدته: أثقلته. توم العقود: جمع تومة حبات الدرر في العقد
25 - أجنت لواحظنا: جعلت عيوننا تجني أي تقطف. النسرين: الورد الأبيض والزهر المعطر
28 - السلسل: الماء العذب البارد. الكوثر: نهر في الجنة. الزقوم والغسلين: من أطعمة أهل النار
33 - لم تعدل: لم نساوِ أو نجعل شيئاً يوازيه
34 - قالين كارهين من قلى: كره
35 - حثت مشعشعة: الخمر ممزوج بالماء. الشمول: الخمر البارد
36 - الراح: الخمر. الارتياح: الاطمئنان. الأوتار: آلات الطربُ والغناء
38 - الصلة: الوصل
40 - الصبابة: صبابة الكأس، بقية الخمر في الكأس. نخفي: نستر. تخفينا: تفضحنا

د. عارف الكنعاني




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(    من أوراق الورد )ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

هناك تعليق واحد:

  1. أريد ملف PDF شرح القصيدة بالكامل

    ردحذف

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..