الصفحات

الجمعة، 20 يونيو 2014

داعش في العراق: مفاتيح طهران وأقفال واشنطن!

 ميدل ايست أونلاين
في علم المنطق لا يستطيعُ تنظيم داعش، المؤلّف من بضعة آلاف من المقاتلين، أن يُسقطَ محافظات
ومدن عراقية على ما شهدنا في الأيام الأخيرة. وفي علم المنطق لا ينهارُ الجيش العراقي، المؤلّف من بضعة مئات من آلاف الجنود، بعد بضعة ساعات على هجوم تنظيم أبو بكر البغدادي. لكن حتى الآن، فإن الرواية الرسمية الصادرة عن حكومة المالكي وإعلامه، كما عن عواصم القرار في العالم وإعلامها لا يفيدُ بغير ذلك.

داعش عنوان مريح لأكثر اللاعبين. قيل الكثير عن تواطؤ مزعوم بين نظام المالكي وداعش العراق، كما عن تواطؤ بين نظام الأسد وداعش سوريا. فُتحت سجون البلديّن بشكل مباشر (افراج جماعي في سوريا) أو غير مباشر (فرار جماعي في العراق) لاطلاق القيادات الجهادية ودفعها لتنشيط تشكيلات اصولية جهادية طائفية تحمل ماءً إلى طاحونة نظاميّن طائفيّن. إنزلق الصراع في البلديّن إلى ما هو طائفي يَسهلُ تعامل دمشق وبغداد معه. تولى تنظيم داعش في سوريا ضرب المعارضة السورية، فيما وفّر التنظيم للمالكي مسوّغاً مذهبياً يمحضه بدعم الشيعة في العراق.

قيل الكثير أيضاً عن دور إيران في دعم داعش. تواطأت طهران مع فلول القاعدة بعد هزيمة أفغانستان وأوت بعضاً من عائلة بن لادن، ثم أعادت ودمشق سوّق الجهاديين باتجاه العراق لمشاغلة الاميركيين وانهاك خططهم. في حيوية القاعديين منذ أبو مصعب الزرقاوي انتهاء بداعش، باتت طهران تسيطر على الموالاة في العراق كما على معارضته المسلحة، وأصبح بإمكانها مقارعة العالم بكأسيّن عراقيين أحلاهما مرّ (كان لافتاً تصريح أبو محمد العدناني المتحدث بإسم داعش منذ شهر من أن داعش "كظمت غيظها كل هذه السنين تتحمل التهم بالعمالة لألَدِ أعدائها إيران لعدم استهدافها، تاركةً الروافض ينعمون فيها بالأمن امتثالاً لأمر القاعدة للحفاظ على مصالحها وخطوط إمدادها في إيران").

نعرف الآن أن فصائل عديدة تحركت في الانبار وصلاح الدين ونينوى. الحراك عشائري سني بعثي... إلخ، لكن المالكي اكتفى بتظهير داعش واهمال المكوّنات الأخرى، واعلان النفير العام مستعينا بفتوى السيستاني الغريبة لحمل السلاح، مستوحياً تصريحا سابقا له في ظروف مشابهة يكشف فيه أن "الصراع مستمر بين أنصار علي وأنصار يزيد".

إيران لم تر في حراك العراقيين إلا ارهاباً يعبّر داعش عنه خير تعبير. في ذلك أن الشيعة يذهبون للالتصاق أكثر بدولة ولاية الفقيه، وفي ذلك أن إيران تبرر تورطها في سوريا لتمهد لآخر في العراق بالتفاهم والشراكة مع واشنطن، على ما تعكسه تصريحات طهران وعلى رأسها تلك للرئيس روحاني.

يستمرُ اعلام المالكي واعلام حلفائه في العراق والمنطقة بالحديث عن هجمة ارهابية يتعرض لها البلد من قبل داعش. الاعلام الدولي كذلك، رغم أن تقارير باتت تفصح عن أبعاد أخرى للصراع. بعض الاعلام العربي بات يتحدث عن داعش والثوار، في إشارة إلى شركاء آخرين، وربما أساسيين، في حراك تتعقدُ تفاصيله وهوية أبطاله (حديث عن فصائل تحت ظل "المجالس العسكرية الموحدة" منها: الجيش الإسلامي، وكتاب ثورة العشرين، وجيش النقشبندية، وكتائب سعد، ومتطوعون من العشائر، وحركة ضباط الجيش السابق... إلخ).

وإذا ما تتبعنا منطق رواية المالكي والغرب، فإن سلاح الجيش العراقي، الأميركي المصدر، يقع في يدّ الجماعات الارهابية، على ما كانت واشنطن تحذّر من احتمالاته في الحالة السورية. هذا المنطق يعني فشل ما صنعته واشنطن في العراق منذ غزو عام 2003، ويستدعي تحركاً أميركياً غربياً للرد على خط أحمر انتهك. أطلت إشارات ذلك من خلال تحريك سفن أميركية في الخليج، وإبعادها، للمفارقة، قبل ذلك عن شواطئ سوريا رغم تماثل الحالتين.

على أن أمر الحالة العراقية قد يرفعُ أسعار البنزين في الولايات المتحدة حسب ما يفيدنا السناتور ليندسي غراهام. وحين تفوحُ رائحة النفط تتحرك الآلة العسكرية الأميركية بموازاة انكباب الرئيس اوباما على "درس كافة الخيارات"، فيما يرتفع صوت طوني بلير داعياً إلى تدخل غربي في سوريا لوقف التدهور في العراق. فجأة تعود الحالة السورية لتطل من النافذة العراقية بصفتها سبباً للفعل ومكمن لعلاج محتمل.

بعض المرجعيات السنية في العراق يستيقظون على حدث داعش ليتحدثوا عن انتفاضة أهل السنة ضد المظلومية والتهميش (واشنطن بوست استخدمت تعبير "ثورة السنة" وهو تعبير استخدمه يوسف القرضاوي أيضاً). ما يراه المالكي والسيستاني والحكيم والصدر ارهابا تكفيريا، يراه طارق الهاشمي والعشائر وهيئة العلماء المسلمين وغيرهم "ربيع العراق" وثورة ضد الطغيان. في الروايتين وصفة جاهزة لحرب مذهبية لا ينتصر فيها السنة ولا ينتصر فيها الشيعة. وحدها دول الخارج ستحصد محصول هذه المطحنة التي تظهر عراضات المتطوعين جهوزية العراقيين للاستسلام لمخارطها.

وبغض النظر عن عدالة حراك المهمشين، ومسؤولية نوري المالكي شخصياً عن الاختلال في علاقة العراقيين بالدولة، وبالتالي تمذهب النظام السياسي لصالح هيمنة شيعية، فإن منطق الأمور يذهب باتجاه ما تسرّب قبل سنوات عن خطة كان جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي حالياً، قد اقترحها لتقسيم العراق إلى ثلاث دول: كردية، سنية، شيعية. وربما في سيطرة البشمركة على كركوك المتنازع عليها أصلاً، الارهاصات الأولى للمخاطرة في ذلك الخيار.

يجري الحدث العراقي وكأنه ضرورة ولوازم للمفاوضات الجارية بين طهران ومجموعة الخمسة + واحد. ففيما تفاصيل المفاوضات تقنية تختصُ بالملف النووي، تتقدم طهران مكررة تطوعها لمكافحة الارهاب، هذه المرة في العراق، بالشراكة مع واشنطن. فكلما لاحت علامات الاتفاق على ما هو نووي لاح معها شكل الصفقة الأكبر التي تطمع إيران إليها، بحيث يعترف العالم، والولايات المتحدة في المقدمة، بدورها الإقليمي الأساسي.

يعود الجيش العراقي لردّ الهجوم والسعي لاستعادة المحافظات التي خسرها المركز في بغداد، على نحو لا تعوزه جحافل المتطوعين الزاحفين دفاعا عن العراق وفق هتاف "لبيك يا حسين"! وتقوم الطائرات الحربية السورية بقصف مواقع داعش في الرقة لأول مرة. في ذلك أن النظاميّن في دمشق وبغداد وطهران من ورائهما يقدمون للعالم أوراق اعتماد لزوميتهم لضرب الارهاب الداعشي في المنطقة. في ذلك أيضا أن إيران ترسل عنوانها كموقع وحيد يمكن للعالم التفاهم معه لادارة شؤون ما أسماه ملك الاردن بالهلال الشيعي.

حدث داعش في العراق صبّ زيتا على نار كان يمكن للغرب الإدعاء أنها خامدة لا تستدعي عجالة، على ما درج عليه مع الحالة السورية. الامر بات يقلق العالم يلعب بالتوازنات ويخترق محرمات (السناتور غراهام يتوقع أن يصبح العراق وسوريا "منطقة الاعداد لـ 11 ايلول/سبتمبر المقبل"). التعامل مع ذلك يستدعي مقاربة دولية أخرى تأخذ العامل الإيراني (لماذا إيران فقط؟) بعين الاعتبار وفق ما توحي به تصريحات جون كيري.

لكن إيران أضحت مدركة أنها، وهي القادرة على اضرام النيران وتسعير لهبها، لم تعد تستطيع السيطرة على تلك النيران وضبط مزاجها، فيما يشبه، في حالة داعش، المارد الذي خرج من قمقمه وبات يعمل وفق أجندته الخاصة أو أجندات آخرين (عملاء لأميرکا واوروبا والرجعية في المنطقة حسب أحد مسؤولي شؤون الاعلام الدفاعي الإيراني العميد مسعود جزائري). وبالتالي فإن طهران أضحت بدورها تحتاج لتسوية مع العالم مكمَلة للتسوية النووية.

لا يعترف أوباما (والغرب عموماً) إلا بداعشية الحدث العراقي دون إكتراث بجانبه السني العراقي، لكنه يشترط مقابل تدخل أميركي محتمل حلولا سياسية عراقية. واشنطن تعتبر العلّة في بغداد، وهو ما لا تراه طهران. الموسم موسم تسويات، ومن يريد التسويات الكبرى مضطر لتقديم التنازلات، وإذا ما كانت إيران مزهوة بإمتلاكها جلّ الأوراق في ذلك الهلال المزعوم، فأنها غير مستعدة لمواجهة "ثورة السنة" فيه (لاحظ الموقف السعودي الأخير المنتقد للنظام السياسي العراقي). في السعي للتسوية تنازلات كثيرة قد لا يكون أولها التخلي عن المالكي في العراق وقد لا يكون آخرها تنازلات أخرى في ميادين أخرى.

في هذه الأيام تخسر إيران احتكارها في العراق ويعود العراق إلى لحظة نيسان/أبريل من عام 2003 رواية أميركية إيرانية مشتركة!


First Published: 2014-06-20
محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..