الصفحات

الخميس، 20 نوفمبر 2014

الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم 1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
تمهيـد
وبعد؛ فهذا بحث بخصوص "الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم"، ألخص فيه مفهوم النسخ في القرآن
كعلم من علوم التفسير، وأنواعه، ومذاهب المفسرين فيه، عسى أن يعكس صورة واضحة لهذا الباب من أبواب علوم التفسير، الذي أصبح – نظرا لتوسع العلماء فيه – علما مفردا، له قواعده وتفاصيله، بحيث أفردت فيه عدة مصنفات، أذكر من بينها:

- "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 224).

- "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر أحمد بن محمد النحاس (ت 338).

- "ناسخ الحديث ومنسوخه" لعمر بن أحمد ابن شاهين (ت 385).

- "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" لأبي بكر الحازمي (ت 584).

- "نواسخ القرآن" لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي (ت 587).

وكما تكلم العلماء عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، فقد تكلموا عن الناسخ والمنسوخ في الحديث النبوي، وفي نسخ القرآن بالقرآن والسنة، ونسخ السنة بالسنة والقرآن. وسأحاول في هذه العجالة رسم صورة واضحة عن علم "الناسخ والمنسوخ" وذكر أهم محطات هذا العلم الشريف.

خطة البحث:


ونظرا لاشتراط أي بحث أن يقوم على خطة متجانسة البناء، محكمة الصياغة، فقد آثرت أن تكون خطتي كالتالي:

- المقدمة: أستعرض فيها تعريف النسخ، ومشروعيته، ومكانته في علم التفسير.

- الفصل الأول: شروط ثبوت النسخ.

- الفصل الثاني: ما يقع به النسخ.

- الفصل الثالث: طريق معرفة النسخ.

- الفصل الرابع: أنواع النسخ في القرآن.

- الفصل الخامس: الحكمة من النسخ.

- الخاتمة.

- فهرس المصادر.

- الفهرس العام.

وأسأل الله تعالى أن يوفقني فيما رمت إليه، ويجعل لي سبيلا إلى التوفيق والسداد، فما كان من التوفيق فهو من الله وحده، وما كان من غيره فهو مني ومن الشيطان. وصلى الله وسلم على نبينا سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.



المقدمة
تعريف النسخ:


النسخ لغة: الرفع والإزالة. ومنه يقال: نسخ الكتاب. أي: رفع منه إلى غيره. ونسخت الشمس الظل: أزالته.

قال الزجاج: "النسخ في اللغة: إبطال شيء وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخَت الشمس الظل: إذا أذهبته وحلت محله"(1). ومثاله : آية: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}. [الجاثية/ 29].

كما يطلق على إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر(2)، ومثاله: آية: {ما ننسخ من آية أوننسها نأت بخير منها أو مثلها}. [البقرة/ 106].

أما اصطلاحا: فقد اختلف المفسرون والأصوليون في تعريفه، ولعل تعريفه المستقر اصطلاحا أول من أظهره هو الإمام الشافعي في "الأم"، ولم يكن مطردا قبله وإن كان موجودا(3).

وحدُّه عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه(4).

ومجموع ما يمكن أن يعرف به أنه: رفع حكم شرعي عملي جزئي، ثبت بالنص بحكم شرعي عملي جزئي ثبت بالنص وورد على خلافه، متأخر عنه في وقت تشريعه، ليس متصلا به(5).

أما مواضيعه وصوره فقد لخصها الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى بقوله: "وصور النسخ تختلف؛ فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين".

"وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل؛ كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان".

"وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة. كالقبلة. وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل؛ كصدقة النجوى"(6).

مشروعية النسخ:

والنسخ جائز على الله تعالى عقلا؛ لأنه ليس يلزم عنه محال (البداء مثلا)، ولا تغيير صفة من صفات الله (العلم الخالي عن الشك مثلا)، وليست الأوامر معلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تبدلت، ولا النسخ لطرو علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني(7).

فقد وردت دلائل النسخ في الكتاب والسنة؛

فمن الكتاب الكريم: قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}. [البقرة/ 106].

وقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما يُنزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}. [النحل/ 101، 102].

وقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. [الرعد/ 39]. وصح عن عكرمة مولى ابن عباس قال: "{يمحو الله ما يشاء ويثبت} قال: ينسخ الآية بالآية فترفع، {وعنده أم الكتاب}: أصل الكتاب"(8).

وقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي}. [يونس/ 15]. ودلالة هذه الآية على المقصود في قوله: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي}..الآية، ففيها برهان على أن الله عز وجل هو الذي يبدل الآية بالآية، لا سبيل إلى ذلك إلا بوحيه وتنزيله.

ومن السنة: تضافرت الروايات الثابتة من جهة النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن النسخ قد وقع لبعض القرآن والأحكام المنزلة كما سيأتي التمثيل له بطائفة منه.

وتواتر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النسخ والقول به.

كما ذهب إلى القول به عامة أئمة الإسلام من السلف والخلف، إلى أن قال ابن الجوزي: "انعقد إجماع العلماء على هذا، إلا أنه قد شذ من لا يُلتفت إليه"(9).

قال أبو جعفر ابن النحّاس: "من المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ. وكابر العيان، واتبع غير سبيل المؤمنين"(10).

ورأى بعض العلماء أنه: لم يخالف في ثبوت النسخ أحد من أهل الإسلام، وأن ما نُسب إلى بعض المتأخرين فهو – على ندرته، كما أفتى به أبو مسلم الأصفهاني المعتزلي – خلاف منهم في اللفظ لا المعنى(11).

وقال جدنا الإمام محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي الكتاني رحمه الله في تفسيره: "وأنكره – النسخ – في القرآن أبو مسلم الأصفهاني المفسر، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع فيه؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكمدة العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر. قال ابن كثير: وقوله ضعيف مردود".

"والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه"(12).

مكانة النسخ في علوم التفسير:


لا شك أن علم الناسخ والمنسوخ من أساسات علوم التفسير، ومن العلوم التي لا يقوم إلا بها، كما أنه لا يمكن معرفة الأحكام الشرعية الاستنباطية، وتفسير تعارض النصوص إلا بمعرفته، ولذلك أفرد له علماء أصول التفسير وعلماء أصول الفقه مصنفات قديما وحديثا.

قال الإمام القرطبي رحمه الله: "معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء؛ لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البَخْتَري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس؛ قال: ما هذا؟. قالوا: رجل يذكر الناس. فقال: ليس برجل يذكّر الناس، لكنه يقول: أنا فلان بن فلان اعرفوني. فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟. فقال: لا. قال: فاخرج من مسجدنا ولا تُذكّر فيه. وفي رواية أخرى: أعلمتَ الناسخ والمنسوخ؟. قال: لا. قال: هلكت وأهلكت. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما"(13).


الفصل الأول: أقسام النسخ


وينقسم النسخ إلى قسمين:

- نسخ عام. حيث ينسخ الحكم كليا، ويستبدل بحكم آخر، كما سيأتي في بقية الفصول إن شاء الله تعالى.

- نسخ جزئي، وهو ينقسم إلى خمسة أقسام:

1- تخصيص العام:


وذلك بورود النص بلفظ يدل على استيعاب جميع ما يتناوله ذلك اللفظ، ثم يأتي التخصيص فيخرج به بعض أفراد ذلك العام، ويبقى ما سواه مرادا باللفظ.

ومثال ذلك: خبر ابن عباس رضي الله عنهما قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا}...الآية [النور/ 27]، ثم نُسخ واستثنى من ذلك: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم}. [النور/ 29] (14).

2- تقييد المطلق:

وذلك بورود النص بلفظ يتناول شيئا أو شخصا غير محدد، فيأتي في موضع آخر ما يحدده.

مثاله: قول قتادة وغيره من السلف في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}. [آل عمران/ 102]، قالوا: نُسخت بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}. [التغابن/ 16] (15).

3- تبيين المجمل وتفسيره:

كما وقع عند نزول قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}. [البقرة/ 284]. لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، اشتد ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم، فنزلت آية: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت...}...الآية [البقرة/ 286](16).

4- ترك العمل بالنص مؤقتا لتغير الظرف:

والمراد به: الإزالة الوقتية للعمل بالنص الأول، لا إسقاط العمل به مطلقا، فاستعماله لم يزل قائما، لكنه موقوف حتى يكون الوقت الذي يناسبه، وليس هكذا النسخ بمعناه الاصطلاحي؛ لأن هذه الصورة ليست معارضة بين نصين نفى المتأخر منهما المتقدم.

ومثاله: جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصفح أو الإعراض عن المشركين والكفار، مع الآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم، فقد زعم بعض السلف أن القتال أو أخذ الجزية قد نسخ الحكم الأول(17).

5- نقل حكم الإباحة الأصلية:

والمراد: ما كان مسكوتا عنه من الأشياء؛ كالمآكل والمشارب والملابس، وشبه ذلك، فكان حكمه قبل ورود الناقل على الإباحة، وهي: حكم مستفاد من مجرد سكوت الشارع عنه. فوقع في كلام بعض السلف إطلاق اسم "النسخ" على تغيير تلك الإباحة إلى حكم جديد بالنص.

ومثاله: ما وقع في شأن تحريم الخمر؛ فإن النصوص جاءت فيه على النحو الذي ورد في حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء". فنزلت آية البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر...}. الآية [البقرة/ 219].

فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: "اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء"، فنزلت آية النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل}. [النساء/ 43].

فدعي عمر، فقرئت عليه، ثم قال: "اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء". فنزلت آية المائدة: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطن أن يوقع بينكم العدوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون}. [المائدة/ 90، 91]، فدعي عمر، فقرئت عليه، فقال: "انتهينا انتهينا"(18).

وهذه الوجوه الخمسة من "النسخ الجزئي" إنما أطلق عليها اسم "النسخ" ليست في التحقيق من باب النسخ الذي استقر معناه عند أهل العلم من بعد، إنما كانت متعارفا عليها لدى السلف، أما عند المتأخرين فإنما يطلق النسخ على النسخ العام.

قال الإمام الشاطبي في "الموافقات": "لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو: أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد: ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به...فلما كان كذلك؛ استُسهل إطلاق لفظ "النسخ" في جملة هذه المعاني؛ لرجوعها إلى شيء واحد"(19).
----------------------------------------------------------
(1) "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (ص80).
(2) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 62)، "المحرر الوجيز" (ص120).
(3) "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" (ص207).
(4) "المحرر الوجيز" (ص120).
(5) "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" (ص207).
(6) "المحرر الوجيز" (ص120).
(7) "المحرر الوجيز" (ص120).
(8) أخرجه ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص86) بسند صحيح.
(9) "نواسخ القرآن" (ص84).
(10) "الناسخ والمنسوخ" لابن النحاس (ص40).
(11) "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (4/ 70)، "الموافقات" (3/ 108، 109)، "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" ص225.
(12) تفسير الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني (ج1 ص79 مخطوط).
(13) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 61).
(14) أثر حسن، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم: 1056)، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص407)، واللفظ له.
(15) هو صحيح عن قتادة، أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 128)، وابن جرير في "تفسيره" (4/ 29، 28/ 127)، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص242).
(16) حديث صحيح، أخرجه مسلم (رقم 125)، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(17) "المقدمات الأساسية" (ص212).
(18) حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 332، رقم: 378)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم: 254)، وأبو داود في سننه (رقم 3670)، والترمذي في سننه (رقم: 3049)، والنسائي في سننه (رقم: 5540)، وغيرهم.
(19) "الموافقات" (3/ 108-109).




الفصل الثاني: شروط ثبوت النسخ


النسخ بمفهوم أنه: القول بانتساخ حكم الله في مسألة وإبداله بحكم آخر، من الخطورة بمكان، وادعاؤه يحتاج إلى بينة واستدلال وشروط، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}. [يونس/ 15]، فدل على أن النسخ إنما هو لله وحده، كان ذلك في كتاب أو سنة.

وعليه؛ امتنع ادعاء النسخ بالاحتمال، والأصل: وجوب العمل بجميع الأحكام الثابتة بنصوص الكتاب والسنة، واعتقاد أنها محكمة، حتى نتيقن النسخ(1).

قال أبو جعفر النحاس: "لا يقال "منسوخ" لما ثبت في التنزيل وصح فيه التأويل إلا بتوقيف أو دليل قاطع"(2).

وقال الحافظ ابن حزم: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ. إلا بيقين"(3).

وقال الحافظ ابن الجوزي: "إطلاق القول برفع حكم آية لم يُرفع؛ جرأة عظيمة"(4).

ويمكن إجمال شروط القول بالنسخ فيما يلي:

1- أن يكونا ثابتين بالنص:

أي: أن يكون كل من الناسخ والمنسوخ إما آية من كتاب الله تعالى وإما سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصح أن تنسخ الآية الآية والسنة، كما يصح أن تنسخ السنة الآية والسنة على خلاف كما سيأتي بحول الله تعالى.

2- أن يأتيا على صيغة طلب أو ما يفيده:

إذ النص يأتي إما على صيغة طلب؛ كالأمر والنهي، ومثاله: قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام}. [البقرة/ 144].

أو صيغة خبر معناه الطلب؛ كقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}. [البقرة/ 234].

قال القرطبي: "قيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه؛ كقوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا}. [النحل/ 67]" (5).

أما ما لم يرد على صيغة الطلب، كالنصوص المتحدثة عن أخبار الأمم الأخرى، والإخبار عما سيكون؛ كأشراط الساعة، وما هو من جنس ذلك؛ لا يكون فيه نسخ إجماعا، لأن الخبر الصادر يستحيل الرجوع عنه، لما يقتضي من الخطأ في أحد الخبرين، والحق تعالى منزه عنه(6).

3- أن يكونا ثابتين نقلا:

وهذا الشرط معتبر عندما تكون السنة طرفا في النسخ، أما بالنسبة للقرآن الكريم فقد وصل إلينا بالتواتر القطعي الذي لا يحوم به شك.

قال أبو بكر ابن خزيمة: "لا يجوز ترك ما قد صح من أمره صلى الله عليه وسلم وفعله في وقت من الأوقات إلا بخبر صحيح عنه ينسخ أمره ذلك وفعله"(7).

وهل يشترط فيه التواتر؟؛ خلاف. قال القرطبي وابن عطية: "والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا؛ فذهب فذهب أبو المعالي (الجويني) وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء، في التحول إلى القبلة، وأبى ذلك قوم"(8).

4- أن يكونا حكمين شرعيين:

والمقصود: أن يكون الحكم ثابتا بخطاب الشرع لا بدليل العقل، مثل ما يثبت بطريق الاستصحاب، كالإباحة الأصلية، والبراءة الأصلية.

فقد ثبت في العقول أن ما خلقه الله في الأرض مباح للإنسان حتى يرد خطاب الشرع بنقله عن تلك الإباحة، كما ثبت في العقول أن الذمم بريئة حتى يرد خطاب الشرع بإيجاب الواجبات، فورود النص بذلك لا يعتبر نسخا، لأن الإباحة لم يُحتج إلى معرفتها بدليل الشرع، إنما عرفت بعدم الخطاب(9).

5- أن يكونا عمليين:

أي: يتصلا بأحكام كسب الجوارح؛ كالصلاة والصوم، مثل: نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة باستقبال القبلة، ونسخ فرض قيام الليل في أول سورة المزمل بما أنزل في آخرها...إلخ.

أما أعمال القلوب؛ كالتوحيد والإيمان والإخلاص، والخوف والرجاء...وشبه ذلك؛ فلا يقع فيها نسخ.

6- أن يكونا جزئيين:

فيمتنع النسخ في القواعد ومقاصد التشريع؛ لأنها كليات، ولم يقع في جميع ما يذكر فيه النسخ من نصوص الكتاب والسنة نسخٌ لقاعدة كلية، إنما جميع أمثلة النسخ واردة في جزئيات الأحكام؛ رعاية للمقاصد الكلية(10).

وتستثنى من النسخ كذلك: أحكام جزئية اقترن تشريعها بما دل على تأبيدها(11)؛ وذلك مثل قوله تعالى في حديث فرض الصلوات ليلة المعراج: "هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي"(12).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"(13).

7- أن يكونا متعارضين في المعنى:

بمعنى أنه لا يوجد سبيل لإعمال النصين جميعا، وإنما يأتي أحدهما على ضد الآخر في دلالته ومعناه، فكل نصين أمكن التوفيق بينهما يقدم التوفيق على النسخ.

كأن يكون أحدهما خاصا والآخر عاما، والمطلق مع المقيد، والمجمل مع المفسر، والتشريعين المختلفين لاختلاف الظرف، فكل منهما معمول به في وقته أو معناه.

قال ابن جرير الطبري: "وإنما يكون الناسخ ما لم يُجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة...فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر؛ فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء"(14).

ومما يمتنع فيه النسخ مطلقا من نصوص التكليف: جميع ما لا يتصور فيه التضاد بين تكليفين؛ كالنصوص الآمرة بالتوحيد وسائر العقائد، ونصوص مكارم الأخلاق والفضائل، فهذه لا يجوز أضدادها في دين الإسلام، ومن شرط صحة النسخ: التقابل بين التكليفين(15).

8- أن يكون الناسخ متأخرا في زمن الشريعة عن المنسوخ:

والمراد به: أن يكون الحكمان قد انفصل أحدهما عن الآخر بزمان أمكن فيه امتثال الحكم المنسوخ قبل تبديله بالناسخ.

كما تراه في آية: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود}. [البقرة/ 187]. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس، حتى نزلت هذه الآية"(16).

قال القرطبي: "وقيد بالتراخي؛ لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله؛ كقولك: قم؛ لا تقم"(17).


الفصل الثالث: ما يقع به النسخ


يقع النسخ في واحد من الأمور الأربعة التالية:

1- نسخ القرآن بالقرآن:

ولا يختلف أهل العلم في أن هذه الصورة من النسخ واقعة في مواضع في القرآن الكريم، تتفاوت أقوالهم في عددها، والتحقيق أنها قليلة(18).

ومثاله: نسخ التخيير للقادر على الصوم بين أن يصوم أو يفتدي بالصوم دون الفدية. فالحكم المنسوخ في قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم}. [البقرة/ 184].

والناسخ له: قوله تعالى في الآية بعدها: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. [البقرة/ 185].

2- نسخ سنة بسنة:

ووقوع هذا النوع لا خلاف في صحته(19).

ومثاله: حكم التطبيق في الركوع. فالمنسوخ: ما حدث به علقمة بن قيس والأسود بن يزيد أنهما: دخلا على عبد الله – أي: ابن مسعود – فقال: "أصلى مَن خلفكم؟". قالا: "نعم". فقام بينهما، وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا، فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا، ثم طبق بين يديه، ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: "هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"(20).

والناسخ له: ما حدث به مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: "صليت إلى جنب أبي، فلما ركعتُ شبكت أصابعي وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا، ثم أُمِرْنا أن نرفع إلى الركب"(21).

3- نسخ قرآن بسنة:

وهذا قد اختلفوا فيه على مذهبين:

المذهب الأول: امتناع نسخ الآية بالسنة. وهذا مذهب الأئمة سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب مالك.

المذهب الثاني: صحة نسخ الآية بسنة. واختاره بعض أعيان الشافعية؛ كإمام الحرمين الجويني، والغزالي، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، واختيار ابن حزم الظاهري(22).

قال القرطبي: "وحذاق الأئمة على أن القرآن يُنسخ بالسنة، وهو ظاهر مسائل مالك، وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومِن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وأيضا؛ فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يُرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا بيّن"(23).

ومثال المنسوخ حكمه من القرآن الكريم بالسنة النبوية: قوله تعالى: {كُتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين}. [البقرة/ 180]. وناسخه حديث: "إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"(24).

4- نسخ سنة بقرآن:

وجمهور أهل العلم على صحة نسخ حكم ثبت بالسنة بآية من كتاب الله، وخالف الشافعي رحمه الله في ذلك، بحجة أن السنة مبينة للكتاب، فكيف يُنسخ المبين؟(25).

قال القرطبي: "والحذاق – أيضا – على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة؛ فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى"(26)، وبمثله قال ابن عطية.

ومثاله: فرض استقبال بيت المقدس في الصلاة أول الإسلام، وذلك ما دل على إثباته قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}. [البقرة/ 143].

والناسخ له: قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}. [البقرة/ 144].
-------------------------------------------
(1) "المقدمات الأساسية" (ص212).
(2) "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص355).
(3) "الإحكام" (4/ 83).
(4) "نواسخ القرآن" (ص75).
(5) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 64).
(6) "المقدمات الأساسية" (ص235).
(7) صحيح ابن خزيمة (3/ 57).
(8) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 65)، "المحرر الوجيز" (ص120).
(9) "المقدمات الأساسية" (ص241).
(10) "المقدمات الأساسية" (ص242).
(11) "البرهان" (2/ 1298).
(12) حديث صحيح، متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم: 342، 3164)، ومسلم: (رقم: 163) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(13) حديث صحيح، أخرجه الإمام أحمد (28/ 111، رقم: 16906)، وأبو داود (رقم: 2479)، والنسائي في "السنن الكبرى" (رقم: 8711)، والدارمي في مسنده (رقم: 2418)، وآخرون من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
(14) "تفسير ابن جرير" (3/ 120).
(15) "المقدمات الأساسية" (ص244).
(16) حديث صحيح: أخرجه الإمام أحمد (30/ 573- 575، رقم: 18611، 18612)، والبخاري (رقم: 1816)، وأبو داود (رقم: 2314)، والترمذي (رقم: 2968)، والنسائي (رقم: 2168)..
(17) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 64).
(18) "المقدمات الأساسية" (ص246).
(19) "المقدمات الأساسية" (ص247).
(20) حديث صحيح أخرجه مسلم (رقم: 534).
(21) حديث صحيح أخرجه البخاري (رقم: 757)، ومسلم (رقم: 535).
(22) "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص98- 100)، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص53)، "الإحكام" لابن حزم (4/ 107، 108)، "المقدمات الأساسية" (ص247- 250).
(23) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 65).
(24) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد (5/ 267)، وأبو داود (رقم 2870، 3565)، والترمذي (رقم: 2120)، وابن ماجه (رقم: 2713)، من طرق إلى أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(25) "الرسالة" (ص: 108، 111، 222).
(26) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 65)، "المحرر الوجيز" (ص120).





الفصل الرابع: طريق معرفة النسخ


قال الإمام القرطبي: "لمعرفة الناسخ طرق؛ منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، ومنها: أن يذكر الراوي التاريخ، مثل أن يقول: سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله. أو يقول: نُسخ حكم كذا بكذا. ومنها: أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ، وأن ناسخه متقدم". باختصار(1).

ويمكن تلخيص معرفة النسخ بالطرق التالية:

1- أن يأتي في لفظ النص ما يفيده صراحة:

ومثاله في لفظ الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون}. [الأنفال/ 65].
فقد نسخت بقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}. [الأنفال/ 66].

2- أن يأتي في سياق النص قرينة تدل عليه:

كالذي ورد به قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلدُ مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"(2).

فأشار صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث إلى نسخ حكم حبس الزواني في البيوت الوارد في قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأسكنوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}. [النساء/ 15].

3- أن يعرف تاريخ المتقدم والمتأخر:

فالمتأخر في تشريعه ناسخ للمتقدم، كما هو الشأن في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

ومما يفيد في هذا: تمييز المتقدم في نزوله بمعرفة المكي والمدني.

كما مما ينبغي أن يُستفاد مما يتصل بالنسخ في السنة: أن ما وجدناه من الأحكام غير معلوم التاريخ معارضا لأحكام جاءت في حجة الوداع أو بعدها إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فما جاء من تلك الأحكام في الحجة أو بعدها ناسخ لما لم يُعلم لنا تاريخه، لأننا نعلم أن تلك الشرائع بها قد خُتم الدين(3).

ومثال ذلك: حكم الشرب قائما؛ صح نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما من وجوه؛ منها: حديث أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك رضي لله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: زجر عن الشرب قائما(4).

وجاء الفعل على خلافه في حجة الوداع؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم"(5).

4- الإجماع:

وذلك بأن يجمع المسلمون على نسخ النص، وله شروط وتفصيل. قال القرطبي: "إذا وجدنا إجماعا يخالف نصا، فيُعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نُسخ وبقي سنة يقرا ويروى، كما آية عدة السَنة في القرآن تتلى – يعني آية: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج}. [البقرة/ 240] – فتأمل هذا فإنه نفيس. ويكون من باب: نسخ الحكم دون التلاوة، ومثله: صدقة النجوى". يعني آية: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}. [المجادلة/ 12] (6).


الفصل الخامس: أنواع النسخ في القرآن


أنواع النسخ في القرآن الكريم من حيث بقاء نص التلاوة، وبقاء الحكم، أو رفعهما.

قال ابن عطية: "والنسخ التام: أن تنسخ التلاوة والحكم، وذلك كثير، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة. والتلاوة والحكم حكمان؛ فجائز نسخ أحدهما دون الآخر"(7).

وبذلك يمكن تقسيم أنواع النسخ في القرآن من حيث هذه الوجهة إلى ثلاثة أقسام:

1- نسخ الحكم مع بقاء التلاوة:

وذلك بأن ينسخ الحكم الشرعي المتضمن في الآية الكريمة، مع بقاء نص الآية يتلى ويكتب في المصحف. وهذا النوع من النسخ فرض على الفقيه تمييزه في نصوص الكتاب والسنة، وذلك لما له من الأثر في الأحكام العملية، وورود الخلاف عن طريق الاشتباه فيه، وهو الذي اجتهد المصنفون في باب النسخ على تتبعه وجمعه.

ومثاله: قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}. [النساء/ 15].

نسخ بقوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}. [النور/ 2]. كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما(8).

2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم:

وهو قليل الوجود في النصوص المنقولة إلينا، وثبوت حكمه مع نسخ تلاوته إنما عرف من طريق النقل الثابت(9).

ومن الناس من رد وجود هذا النوع من النسخ، وتعرض لبعض الأحاديث الواردة فيه بالتضعيف، ولأخرى بالتأويل، غير أنه لم يتعرض لطائفة منها صحيحة.

ومثاله: ما روي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "لقد كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة؛ لابتغى إليهما آخر، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"(10).

3- نسخ التلاوة والحكم:

وهو نوعان:

الأول: ما بلغنا لفظه أو موضوعه؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نُسخت بخمسٍ معلومات"(11).

الثاني: ما بلغنا مجرد الخبر عنه ورُفع منه كل شيء، كما في حديث زر بن حُبيش رضي الله عنه قال: "قال لي أبي بن كعب: كأيّن تُقرأ سورة الأحزاب؟، أو: كأين تعدُّها؟. قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قط؟، لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة"(12).


الفصل السادس: الحكمة من النسخ


النسخ جار مع مقاصد الشرع لتحقيق مصلحة المكلف:

1- فتارة ينزل الوحي بالحكم الشاق على المكلّفين لأجل اختبارهم وامتحان صدق إيمانهم. كما مضى في آية: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}. ونسخها بآية: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}...الآية. فخفف الله تعالى عن الأمة ولم يؤاخذهم بما لا طاقة لهم به.

2- وتارة لتدرج الناس بالتشريع، لحداثة الناس بالجاهلية، ولا يخفى ما فيه من تأليف قلوبهم بالإسلام، وتهيئتهم لما أريدوا له من نصر دين الله.

ومثاله: التدرج في تحريم الخمر، وكذا التدرج في عدد الصلوات المشهور في حديث الإسراء والمعراج. وقد مضى ذلك.

3- كما أنه من حكم النسخ: إظهار نعمة الله عز وجل بما يرفع به من الحرج والضيق بنوع سابق من أنواع التكليف، ومن مثال ذلك زيادة على ما مضى: عدة المرأة، فقد كان بداية عاما كاملا، كما في الآية: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج}. [البقرة/ 240].

فنسخ الله تعالى ذلك بقوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا}. [البقرة/ 234].

4- كما يقع بالنسخ تطييب نفس النبي صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه بتمييز هذه الأمة على الأمم وإظهار فضلها. ومثاله تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة كما مضى بيانه.

وبالجملة؛ فقد قال الإمام الشافعي: "إن الله خلق الخلق لما سبق في علمه مما أراد بخلقهم وبهم، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، وأنزل عليهم الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه فرائض أثبتها وأخرى نسخها، رحمة لخلقه بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه، وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم جنته والنجاة من عذابه، فعمتهم رحمته فيما أثبت ونسخ، فله الحمد على نعمه"(14).


الخاتمة ختم الله لنا بالحسنى وزيادة

تبين لنا مما سبق في هذا البحث الملخص المختصر أن علم "الناسخ والمنسوخ" من العلوم الشرعية الأساسية التي تقوم عليها علوم القرآن والسنة، وأن مشروعيته ثبتت بالقرآن والحديث الشريف، وإجماع من يعتد بإجماعهم من الأمة، خلا غلاة الرافضة.

وأن النسخ كما يتعلق بالقرآن الكريم فهو متعلق بالسنة النبوية، وأن القرآن ينسخ القرآن كما ينسخ السنة، وأنه على الصحيح كما أن السنة تنسخ السنة فهي تنسخ القرآن الكريم. وأن للنسخ دلالات وعلامات تشترط لوقوعه، وأنه لا يقع إلا في الأحكام العملية بخلاف الاعتقاد والأخبار المجردة.

كما أنه اتضح لنا أن الله انتهج النسخ في شريعة نبينا تخفيفا عنا، وامتحانا لإيماننا، وتدرجا في الدعوة والإرشاد للطريق السوي، مراعاة لقوم انتقلوا من الجاهلية للإسلام، وأن هذا النسخ معلوم النص والحكم، ومنه ما ليس معلوما لا نصا ولا حكما إنما وردت الإشارة إلى وجوده ثم نسخه، كما سبق حول سورة الأحزاب.

ومن هنا تتضح أهمية "الناسخ والمنسوخ" في علوم الشريعة، وأنه علم أساس لمعرفة تفسير القرآن الكريم، وشرح السنة النبوية، واستنباط الأحكام الشرعية، وفك التعارض بين النصوص.

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

فهرس المصادر
1. "الإحكام في أصول الأحكام" لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي القرطبي. نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت (سنة 1980م).
2. "الأدب المفرد". لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (مع شرحه "فضل الله الصمد") نشر المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة (1388 هــ).
3. "البرهان في أصول الفقه". لأبي المعالي الجويني. تحقيق د. عبد العظيم الديب، نشر دار الأنصار، القاهرة (1400 هـ).
4. تفسير الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني. مخطوط بخط المؤلف.
5. "التفسير" ابن جرير المسمى "جامع البيان عن تأويل القرآن". لأبي جعفر الطبري. نشر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر (1968م).
6. "تفسير القرآن" لعبد الرزاق الصنعاني. تحقيق د. مصطفى مسلم محمد. نشر مكتبة الرشد، الرياض (1989م).
7. "الجامع الصحيح" لمحمد بن إسماعيل البخاري. تحقيق د. مصطفى ديب البُغا. نشر دار القلم، دمشق، بيروت (1981م).
8. "الجامع لأحكام القرآن" لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. تحقيق عبد الرزاق المهدي. نشر دار الكتاب العربي. بيروت (1997م).
9. "الرسالة" لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق أحمد محمد شاكر (دون تسمية الناشر).
10. "زاد المسير في علم التفسير" لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، نشر المكتب الإسلامي، دمشق بيروت (1964 م).
11. "السنن الكبرى" لأبي عبد الرحمن النسائي، تحقيق د.عبد الغفار البنداري، وسيد كسروي حسن، نشر دار الكتب العلمية، بيروت (1991م).
12. "السنن" لعثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق مصطفى ديب البغا، نشر دار القلم، دمشق (1991م).
13. "السنن" لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. اعتناء عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب (1986م).
14. "السنن" لأبي عيسى الترمذي. تحقيق د.بشار عواد معروف، نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت (1998م).
15. "السنن" لأبي عبد الرحمن النسائي، اعتناء عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب (1986م).
16. "الصحيح" لأبي بكر ابن خزيمة، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي، نشر المكتب الإسلامي، بيروت (1979م).
17. "الصحيح" لمسلم بن الحجاج النيسابوري. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. نشر المكتبة الإسلامية. استانبول. بدون تاريخ.
18. "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز". لأبي محمد عبد الحق ابن عطية الأندلسي. طبعة دار ابن حزم، بيروت (2002م).
19. "المسند المسمى: البحر الزخار" لأبي بكر البزار، تحقيق محفوظ الرحمن رزين الله، نشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة (1988-1996م).
20. "المسند" لأبي داود الطيالسي، نشر دار الكتاب اللبناني، دار التوفيق، بيروت. مصورة عن نشرة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد - الهند.
21. "المسند" للإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني. مصورة المكتب الإسلامي، بيروت (1978م).
22. "المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني. تحقيق عبد الرحمن الأعظمي، نشر المجلس العلمي، باكستان – الهند (1970 – 1972م).
23. "المعجم الكبير" لأبي القاسم الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف، بغداد (1978 – 1983م).
24. "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" تأليف د. عبد الله بن يوسف الجديع. نشر وتوزيع مؤسسة الريان، بيروت (2001م). (وقد اعتمدت عليه وعلى نقوله وتخريجاته كثيرا).
25. "الموافقات في أصول الشريعة" لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق محمد عبد الله دراز، مصورة دار الباز، عن طبعة المكتبة التجارية الكبرى، مصر. من دون تاريخ.
26. "الموطأ" للإمام مالك بن أنس الأصبحي، رواية يحيى الليثي، تحقيق بشار عواد معروف، نشر دار الغرب الإسلامي، بيروت (1996م).
27. "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، تحقيق محمد بن صالح المديفر، نشر الرشد، الرياض (1990م).
28. "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر ابن النحاس، تحقيق د. محمد عبد السلام محمد، نشر مكتبة الفلاح، الكويت (1988م).
29. "نواسخ القرآن" لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق د. محمد أشرف الملباري، نشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. (1984م).
-------------------------------------------------
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 66).
(2) حديث صحيح، أخرجه مسلم (رقم: 1690).
(3) "المقدمات الأساسية" (ص257).
(4) حديث صحيح: أخرجه مسلم (رقم: 2025 عن أبي سعيد، و2024 عن أنس رضي الله عنهما).
(5) حديث صحيح متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 1556، 5294)، ومسلم (رقم: 2027).
(6) "الجامع لأحكام القرآن" (1/ 65).
(7) "التحرير الوجيز" (120).
(8) حديث حسن: أخرجه أبو داود (رقم: 4413).
(9) "المقدمات الأساسية" (ص261).
(10) حديث صحيح: أخرجه أحمد (32/ 31، رقم: 19280)، والبزار (رقم: 3639 – كشف الأستار)، والطبراني في "الكبير" (5/ 207، رقم: 5032).
(11) حديث صحيح: أخرجه مالك في "الموطأ" (رقم: 1780)، ومسلم (رقم: 1452).
(12) حديث صحيح: أخرجه الطيالسي في مسنده (رقم: 540)، وعبد الرزاق في "المصنف" (رقم: 5990)، والنسائي في "السنن الكبرى" (رقم: 7150) وغيرهم).
(13) "الرسالة" (ص106).


-------------------------------
سؤال:
بحسب معرفتي المتواضعة بهذا العلم فإني أحببت أن أنبه على أمر وهو أن بعضهم وعلى الأقل المتأخرين منهم وأخص بالذكر مناع القطان و صبحي الصالح قد نبها على أن إدخال كل من مباحث العام والخاص والمطلق والمقيد وغيره من المباحث التي أدخلتها تحت هذا العلم بل جعلتها من أقسامه هو غلط عظيم في هذا الفن إذ هذه المباحث لا تدخل قطعا في علم الناسخ والمنسوخ ..فإذن أقسامه ستنحصر فقط في القسم العام كما أسميته وليس في غيره..

فما تعليقكم بارك الله فيكم؟؟؟
الجواب
المعروف عند علماء التفسير أن ثمة مفهومين للنسخ، مفهوم متقدم، ومفهوم "خاص" أو متأخر، أما مفهوم المتقدمين فيدخل فيه كل نص أثر على النص الأول، ولذلك قالوا بنسخ السنة للقرآن، وقال بعضهم إن جل أحكام القرآن طرأ عليها النسخ، فذلك بهذا المفهوم..

أما المفهوم الأخص، أو مفهوم المتأخرين، النسخ يرد بمعنى الإبطال، بمعنى أن يأتي نص ويبطل مفهوم النص الأول، ويأتي بحكم جديد، كآيات الخمر مثلا، فقد وردت الأولى بالنهي عن قرب الصلاة أثناء السكر، ووردت الأخيرة بالنهي عن السكر مطلقا...إلخ...

فعلى المفهوم الثاني كلام من ذكرتم صحيح، وعلى المفهوم الأول وهو المعتمد عند علماء القرآن، لا يصح قولهم بعدم إيراد التخصيص والتعميم، والتقييد والإطلاق...لأنه لمن دقق النظر يشمله من حيث المفهوم معنى النسخ، بل جل النسخ من ذلك النوع...والله أعلم..

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :


الناسخ و المنسوخ

الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم 2


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..