الصفحات

الاثنين، 1 ديسمبر 2014

أحمد زكي يماني.. التاريخ يتكرر

 المملكة اليوم تقود خفض أسعار النفط بسبب مزاحمة النفط الصخري، لأن ارتفاع الأسعار ليس من
مصلحة الدول المنتجة، وهو الرأي ذاته الذي ردده زكي يماني قبل 30 عاما
فاجأني المفكر السياسي المعروف د. عبدالله النفيسي وقتما أتى على ذكر معالي الشيخ أحمد زكي يماني في لقائي الفضائي معه، وأسبغ عليه الثناء العريض، وكال -بكل الإعجاب- المديح لما قدّم لبلاده والدول العربية إبّان وزارته، وقال إن يماني كان مهندس حظر البترول على الولايات المتحدة، وإن الرجل عقلية فذة من المفترض أن نفيد منها.
المفاجأة ليست بما أسبغ على وزيرنا الأسبق للبترول من ثناء وتقدير لأدواره، بل لأنني لم أتصور أن مفكرا كويتيا بحجم النفيسي يستذكر مواقف وزيرنا الشهير، والحق أن شريطا سريعا مرّ أمامي وأنا في تلك الحلقة، أعادني إلى طفولتي في مدينة "الطائف" العروس في منتصف التسعينات الهجرية، وقتما كانت العائلات تمضي أصايل أيام الجمعة في منطقة "الهدى"، وكان لمعالي الشيخ يماني قصر شهير هناك، وكنا نهتف جميعا –كأطفال- باسمه عندما نمرّ بذلك القصر، من فرط شهرته الطاغية إبان تلك الحقبة.
ترسخت تلك الصورة الذهنية عن أحمد زكي يماني في مراحل عمري التالية، وكنت طالبا في جامعة الملك عبدالعزيز وقت إقالته، وانقطعت أخباره عنا، حتى أكرمني الصديق نجيب يماني باصطحابي إلى دار معاليه في جدة قبل عشرة أعوام تقريبا.
أتذكر تماما وقوفي أمامه وقد تملكتني الرهبة، فالرجل ذو شخصية وقورة ويتوافر على كاريزما عالية، وانثالت ذكريات الطفولة، وسطعت الصورة الذهنية الزاهية عنه. وعندما بدأ الحديث في مجلسه، الذي يغشاه ثلة من فضلاء وكبار مثقفي جدة، أتذكر منهم الراحل محمد صلاح الدين ـ يرحمه الله ـ ومحمد سعيد طيب وعاصم حمدان ومحمد خضر عريف والصديق عبدالله فدعق، كنت أرهف السمع وأحرص على سماع ما يقوله، وألفيت معاليه ملمّا بفنون وعلوم شتى، خصوصا في مسائل الشرع، وسألته لاحقا عنها، فأرجعها إلى تربية المسجد الحرام، حيث حفظ القرآن وبعض الصحاح على يد والده يرحمه الله، الذي كان مفتي الشافعية في الحجاز.
كان معاليه في مجلسه الرمضاني الذي نتقاطر إليه بُعيد الإفطار مباشرة، ونصلي العشاء والتراويح عنده، يسألني عن مواقف علمائنا الكبار من بعض المسائل التي تكون حديث الساعة، بحكم أنني أميل إلى المدرسة السلفية، وكان كبيرا جدا في رقيه وتعامله، وكنت أحرص كثيرا على سؤاله عن بعض الأمور الخاصة التي أحببت سماعها منه، وكان رحب الصدر، دائم الابتسامة، ويجيب بكل أريحية، ويرمقني بأبوّة مُثلى تسحرني قبل أن يجيب.
لشدّ ما كان يلّح عليّ سؤال حول ظروف اختطافه عام 1975 من قبل إيليتش راميريز سانشيز، الإرهابي العالمي المعروف باسم: كارلوس، وبادرته في إحدى المرات: "أريد أن أعرف بالضبط ما الذي دار في خلدك معالي الشيخ لحظة أن وجّه الإرهابي كارلوس فوهة رشاشه إليك، وأنت بالطائرة محتجز عنده، وهدد بقتلك"؟ صعّد معاليه نظره عاليا ليتذكر تلك اللحظات العصيبة، وأجابني: "يا ابني عبدالعزيز، تستغرب مني أنني لم أتذكر الموت أبدا، بل تذكرت والدتي. واستمهلت كارلوس لأكتب وصيتي، حيث كان يهدد صادقا بقتلي إن لم تذع الإذاعة النمساوية بيانا له، وجيء لي بالقلم والورق، واستغرقت في الكتابة، وأنا مؤمن بأنني سأقتل حال انتهائي من وصيتي، وتوقف الزمان والمكان حولي، وسافرت إلى والدتي وزوجتي وأبنائي، وبتّ أفكر في تلك الأشياء التي تمنيت أن أقوم بها ولم يسعفني الوقت لتحقيقها، وكتبت وكتبت، ولم أفق إلا على كارلوس يخبط على طاولتي برشاشه، فبادرته محتجا -بعد أن نظرت إلى ساعتي- أن بقي وقت لدي، فقال: لقد تمّت إذاعة البيان في الإذاعة النمساوية، فتنفست الصعداء، وهمهمت في نفسي إن ثمة وقتا لأجلي لا يزال أمامي".
والحقّ أن لوالدة الشيخ أحمد مكانة كبرى وتأثيرا عظيما عليه، ولطالما ردّد في مجلسه أنه في كل أسفاره إلى شتى دول العالم، وقبل أن ينام، لا بد أن يتصل بها ويسلم عليها، ويطمئنها أو يطمئن هو عليها.
مما علق بذاكرتي عن معالي الشيخ أحمد زكي يماني حادثة كادت تتطور إلى ما لا يحمد عقباها، فإبان إشرافي على ملحق "الرسالة" كتب معاليه مقالة عندي، وذكر أنه زار "الفاتيكان" ودخل مكتبتها النفيسة، واطلع -بشكل خاص- على أوارق قديمة جدا، كُتب فيها القرآن الكريم بخط اليد، وأنه لم ير مثلها. ووهم بعض الكتاب أن معاليه يقصد أن تلك التي اطلع عليها هي آيات غير موجودة في القرآن الكريم، ورموا الرجل بأنه يقول إن القرآن ناقص وغير كامل، وبدأت القضية تتصاعد في الساحة الشرعية بشكل كبير، حتى إن بعض الشرعيين الغيورين قام برفع الموضوع إلى سماحة مفتي المملكة، ليقول برأيه، وهناك من عزم على التوجه إلى القضاء لمحاكمته.
رجوت معاليه أن يوضح موقفه، فأنا الملمّ تماما بما يحاك، وما يتقوّل به خصومه، وما ينوون فعله، وكان متعاليا ومتأبيا بسبب سخف القول والتهمة، وأحمد الله تعالى أن وافق أخيرا، وسارعت بإجراء حوار معه، وعبر بكثير من الألم عن استغرابه من هذا الفهم البعيد لما أراده، بل جزم وقال إن إيمان المسلم لا يكتمل إن ظن أن القرآن الكريم ناقص، لأنه نقيض قول الله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، والحمد لله أن ذلك التوضيح أطفأ كل الحريق الذي اشتعل.
أعود للدكتور عبدالله النفيسي والحديث الذي جرّنا للشيخ يماني، ذلك أن المملكة اليوم تقود خفض أسعار النفط، بسبب مزاحمة النفط الصخري، لأن ارتفاع الأسعار ليس من مصلحة الدول المنتجة، وهو ذات الرأي الذي ردده وزيرنا الأسبق يماني قبل 30 عاما، لأن البترول ارتفع وقتها إلى 36 دولارا، وكان يقف ضد ارتفاع الأسعار، لأن لها دورات، ما تلبث أن تتهاوى، وهو ما حصل لاحقا، ووصل البترول إلى ثمانية دولارات فقط، دخلنا بعدها في دوامة وأزمة مالية حادة، وها هو التاريخ يتكرر اليوم.
معالي الشيخ أحمد زكي يماني جزء من تاريخ بلادنا، اتفقنا معه أم اختلفنا، والرجل يخطو اليوم إلى منتصف ثمانينات عمره، ونحن وطن ومجتمع يحفظ للرجال أقدارهم وما قدموه، فحسناتهم الكبيرة ترجح على ما قد نخالفهم فيه، وما أروع تلك المشاعر التي تتلبس الإنسان حال تكريمه من وطنه في هذا العمر، وثمة رجالات خدموا الوطن، يستحقون منا هذا التكريم والاحتفاء، وإطلاق أسمائهم على قاعات الجامعات وكبريات المدن.
شكرا أحمد زكي يماني، فما عملته للوطن حفظه التاريخ.
عبدالعزيز قاسم        2014-11-30 11:33 PM

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..