الصفحات

السبت، 24 أكتوبر 2015

غالية البقمية.. المرأة الحديديّة

سجلت موقفاً بطولياً في مقاومة جيوش «الباشا» في «تربة» وحركت همم قومها في المعركة حتى تحقق
النصر

إعداد - منصور العساف
    قبل قرنين من الزمان تواترت الأنباء والقصص والروايات بين عدد من مؤرخي «الاستانة» العثمانية وقلعة محمد علي باشا مفادها أن امرأة من وسط الجزيرة العربية قاومت وبضراوة جيوش الباشا بين الحجاز ونجد واستطاعت قبيلتها أن تصد الحملات المتتالية المدججة بأكفأ الأسلحة وأحدثها آنذاك، حتى كتب عنها المؤرخون الفرنسيون والأوربيون، فقد ضربت هذه المرأة الباسلة أروع نماذج الوفاء دفاعاً عن مبادئها وأرضها وبلادها، فكانت محراباً للنضال ومنبر للأنفة والمقاومة، ولم تكن هذه المناضلة إلاّ غالية البقمية التي اشتهرت بدورها البطولي في مقاومة حملات محمد علي باشا على الجزيرة العربية، وبدأت بطولاتها بعدما أخفت خبر وفاة زوجها الشيخ حمد بن عبدالله بن محي، عامل الدولة السعودية الأولى على مدينة تربة البقوم، وأصبحت تصدر الأوامر والتوجيهات لقادة الجيش وللقبيلة على لسانه، وتجتمع بزعماء القبيلة وتناقشهم في الأمر في قصر زوجها حمد بن محي؛ ما سهل مهمتها لتوجيه قادة الجيش والمرابطين، واستطاعت تحريك همم قومها وأبناء بلدتها للقضاء على الجيوش التي غزت المنطقة آنذاك بكامل عدتها وعتادها، ضربت أروع نماذج الوفاء بين سيدات عصرها وكتب عنها المؤرخون والمستشرقون الأوروبيون  حتى قال عنها أعداؤها إنها ساحرة ودجالة ومشعوذة، وهذا ما تناقله كثير من المؤرخين الفرنسيين الذين أرخوا لحروب الباشا في الجزيرة العربية، بينما أطلق عليها في بلادها لقب (الأمير) لعلو مقامها ومكانتها الاجتماعية.
ورد ذكر غالية البقمية في كتابات مؤرخي العراق ومصر والحجاز وكذلك في كتابات الرحالة والمستشرقين، وشبهها الفرنسيون ببطلتهم (جان دارك) التي اشتهرت ببطولتها الخارقة في محاربة الإنكليز الذين احتلوا قديما جزءا من فرنسا، وعلى الرغم مما كتبه مؤرخو أوروبا وبعض البلدان العربية عنها، إلا أن ذكرها في بعض المراجع التاريخية المحلية، بدا شحيحا ونادراً قياساً بما قدمته هذه المرأة المناضلة.
بسالة وشجاعة
هي غالية بنت عبدالرحمن بن سلطان بن غربيط الرميثانية البدرية الوازعية البقمية، من قبيلة البدارا البقوم الساكنة على حدود الحجاز ونجد إحدى أعرق قبائل جزيرة العرب حسباً ونسباً، وهي زوجة حمد بن عبدالله بن محيي، عامل الدولة السعودية الأولى على مدينة تربة البقوم في غرب الجزيرة العربية، وأنجبت منه ابنا اسمه هندي توفي صغيراً، كما أنجبت ابنة أسمتها (زملة) من مواليد عام 1214ه، ثم بعد وفاة زوجها تزوجت "بخيت بن جنيح " أمير الهملة من المودكة عام 1229ه، واشتهرت غالية البقمية ببسالتها وشجاعتها بعد أن أبلت حسنا في مواجهة القوات التي أرسلها محمد علي باشا إلى الجزيرة العربية وذلك في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري)، ويرجح بأنّ ميلادها كان في الربع الأخير من القرن الثاني عشر الهجري، ويشير بعض المؤرخين إلى أنها في متوسط العمر خلال حملة الباشا على تربة، ويقال إن محمد علي باشا قال بعد معاركه الطويلة هناك وأثناء مروره َّ بتربة في طريق رنية وبيشة وأبها مقولته الشهيرة: "أمست دار غالية خالية"، وذلك بعد أن زود بأحدث أنواع الأسلحة لحسم المعارك هناك.
محمد علي باشا
طوسون باشا
الدور البطولي
تتلخص قصة غالية في بطولاتها ومقاومتها لحملات محمد على باشا التي كانت تستهدف القضاء على الدولة السعودية الأولى ويسرد المؤرخ المصري "عبدالرحمن الجبرتي تفاصيل الأحداث ودور غالية البقمية وكيف كانت سدا منيعا حال دون تقدم قوات الباشا وتحقيق مآربهم بمؤازرة بشوات مصر، حيث ذكر أنّه وبعد وفاة الأمير حمد بن عبد الله بن محيي زوج الأميرة غالية، اضطرت إلى إخفاء وفاته عن الجميع بالاتفاق مع هندي بن محيي والشيخ رشيد بن جرشان الفارس المعروف، والذي كانت له مكانة كبيرة في ذلك الوقت حتى لا تثبط معنويات قبيلتها، وبعد فترة قام عثمان المضايفي (أمير الطائف حينها) بإرسال اثنين من الفرسان يخبرون البقوم بأن جيش الباشا قادم إلى تربه، وهم في طريقهم إلى الدرعية، فاجتمع البقوم في قصر الأمير حمد بن محيي لبحث الطريقة التي سيواجهون بها الترك، وبصفة غالية زوجة الأمير حمد بن عبدالله بن محيي، فقد كانت تتحاور معهم وتناقشهم في الأمر، وتبدى آراءها وتستمع إليهم، إضافة إلى ذلك فإن جميع مفاتيح قصور ابن محيي المملوءة بالسلاح وبالتمور في حوزتها، ولديها أعداد كبيرة من الخدم والخيل، وبعد مرور نحو أسبوع من المرابطة وحالة التأهب لم يأت إليهم أحد، وتفرق القوم، ثم إنهم أرسلوا فارسين للوجهة التي يتوقع قدوم الترك منها، فعاد الفارسان بعد ذلك منذرين، يحملون أخباراً مرعبة حيث يتقدم نحوهم جيش جرار تسير صفوفه على وقع الموسيقى العسكرية والتي تجر معها المدافع الضخمة عبر عربات مسطحة تسير على العجلات، وهنا صاح منادي الحرب في أبناء قبيلة البقوم ورددت القصائد والأشعار الحماسية.
واجتمع أبناء القبيل مرة أخرى، وقد تسللت استخبارات الباشا بين أفراد الجيش المدافع ورأوا المناضلة غالية وهي توجه خدمها وتوزع السلاح والتمور على رجال قبيلتها وتشجعهم وتزيد من حماسهم وتدفعهم إلى التحرر من سطوة الجيش الغازي وتمد جيشها بالمال والمشورة، فاعتقدت استخبارات الباشا أن غالية هي رئيسة القوم وأن أمر الجيش بيدها، ولذا فقد كانوا يخافونها ويحيكون القصص والروايات التي تتحدث عن سطوتها وقدرتها على صد الجيوش الغازية، حتى ظن بعض أفراد جيش الباشا أنها ساحرة وخارقة للعادة، لما شاهدوه من طاعة أفراد الجيش المدافع لمشورتها حتى كان مجرد اسمها يثير الرعب بين أفراد الجيش الغازي، الذي عاد أدراجه أمام جيش المدافعين، وهذا ما حكاه الجبرتي الذي كان يتتبع الأخبار حال وصولها إلى مصر عن طريق المراسلات التي تصل من وإلى الباشا ومن الباشا إلى "الإستانة في اسطنبول.
كتابات المستشرقين
وصلت أنباء جيش غالية إلى فرنسا حيث اعتبرها الفرنسيون بطلة قومية، إذ يقول المؤرخ غوان إنّ "غالية كانت في نظر المصريين ساحرة تعطي الجنود سراً يحصنهم من الهزيمة فلا يستطيع أحد أن يغلبهم بينما يغلبون هم كل من يقاتلهم"، كما قال بعض مؤرخي فرنسا "إنها ساحرة وإن الجن في خدمتها بل شبهها الفرنسيون ببطلتهم (جان دارك ) التي اشتهرت ببطولتها الخارقة في محاربة الإنجليز الذين احتلوا قديما جزءا من فرنسا، ويعود اهتمام الفرنسيين بشأن الشرق بعد احتلال "نابليون لمصر وهو الذي اجلي عنها قبل هذه الأحداث بسنوات قليلة.
ويتابع الجبرتي تفاصيل انتصاراتها، ومما قاله "في حوادث صفر 1222ه، وصل مصطفى بك أمير ركب الحجاج إلى مصر، وسبب حضوره أنه ذهب بعساكره وعساكر الشريف من الطائف إلى ناحية تربة والمتأمر عليها امرأة، فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة، فخنق عليه الباشا وأمره بالذهاب إلى مصر مع المحمل، ومما ذكره أيضا في حوادث جمادى الأولى سنة 1229ه، "وصلت هجانة من ناحية الحجاز، وأخبر المخبرون أن طوسون باشا وعابدين بك ركبا بعشائرهما على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية، فوقعت بينهما حروب ثمانية أيام، ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل"، كما وصف بطولتها وشجاعتها محمود فهمي المهندس في كتابه (البحر الزاخر) في حروب سنة 1812م موضحاً أن البقوم في تربة كانوا أكثر جرأة وأشد مقاومة من بين قبائل العرب القاطنين بقرب مكة، ومما قاله ".. وكان قد لجأ إليها معظم عساكر الشريف غالب، وقائد العربان في ذلك الوقت امرأة أرملة، اسمها غالية كان زوجها من أشهر رجال هذه الجهة، وكانت هي في غاية من الغنى، ففرقت جميع أموالها على فقراء العشائر الذين يرغبون في محاربة الترك".
كما تحدث عنها الرحلة السويسري "يوهان لويس بوركهاردت"، الذي زار المنطقة في تلك الفترة، ومما ذكره "أنّه كانت لديها ثروة تفوق ما لدى أية أسرة عربية في منطقتها، فأخذت توزع نقودا ومؤنا على فقراء قبيلتها الذين كانوا على استعداد لقتال الأتراك، وكانت مائدتها دائما معدة لكل المخلصين الذين يعقد زعماؤهم مجالسهم في بيتها"، ولا غرابة في أن تشتهر غالية البقمية بالبسالة وسداد الرأي والمعرفة بأمور القبيلة وما جاورها من القبائل الأخرى، خصوصا بعد أن لمع نجمها وذاع صيتها منذ انتصارها على مصطفى بك قرب تربة.
تشابه تاريخي
تعددت الروايات حول قصة غالية وبطولاتها، إلا أن مضمونها بالمجمل هو انتصاراتها على جيش الباشا، وهذا لم يختلف عليه أحد، ولا شك أنّها عاصرت في بعض مراحل حياتها فترة توتر وفوضى، ففي عام 1228 ه قام طوسون ابن والي مصر محمد علي باشا بالغارة على مدينة تربة بين الحجاز ونجد ومعه عساكر كثيرون جدا، في هذه الأحداث كان الأمير ابن محيي مريضا، وكانت غالية هي التي توصل خطط المعركة لقادة البقوم في بيت الأمير، وتم النصر للبقوم وانهزم طوسون ومن معه، وقتل أكثر جنده، وفي عام 1229ه عاد مصطفى بك وقيادة طوسون باشا وعابدين بك وغزوا تربة، ووصلت غالية الخطط للقادة زعماء ومشايخ البقوم ودامت المعركة ثلاثة أيام هزم على إثرها طوسون وعابدين بك هزيمة مدوية، وكان زوج غالية قد توفي عند بداية المعركة الثانية سنة 1229ه، فأخفت خبر وفاته عن الجيش، وبدأت تصدر الأوامر على لسانه حتى تم النصر للبقوم.

نخيل القصر كانت قوت جنود غالية
وهذا شبيه إلى حد التطابق مع ما حدث للسلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي دخل المعركة الفاصلة مع لويس التاسع الذي غزا مصر في الحملة الصليبية السابعة فوقف له الملك الصالح نجم الدين أيوب بجيوش المسلمين وفي خضم أحداث المعركة وافت المنية السلطان نجم الدين الذي كان حينها مريضاً فأخفت زوجته شجرة الدر خبر وفاته واستمرت ترسل الأوامر والمراسيم من خيمة السلطان وتدير الأمور باسمه وتوقيعه نظراً لصعوبة الإعلان عن وفاته حينها الذي ربما يحد من عزيمة الجيش في مواصلة القتال وهو شبيه بما حدث لغالية البقمية مع قومها حيث أخفت خبر وفاة زوجها ومن خيمته كانت تصدر الأوامر والمراسيم لقيادات الجيش والقبيلة.
وذكر الأستاذ عمر رضا كحالة في الكتاب الحافل أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام أن غالية كانت (سيدة من البقوم من بادية ما بين الحجاز ونجد، واشتهرت بالشجاعة ونعتت بالأميرة، كانت أرملة رجل من أغنياء البقوم من سكان تربة على مقربة من الطائف من جهة نجد، ولأهل تربة مواقف معروفة بين النجديين.
تجاهل المؤرخين
وذكر(بركهارت): "إن عرب البقوم -سكان تربة- بدو فلاحون، وكان الشيخ (خرسان) رئيسهم اسما، ولكن زعيمتهم الحقيقية كانت (غالية) أرملة أحد كبار تربة وكانت هذه المرأة، لعقلها وحكمتها وكمال معرفتها بشؤون العشائر، مسموعة كلمتها، مطلوبة مشورتها، وكانت تحكم قبيلة البقوم وتوجهها وقال عنها: إنها لم تكتف بالدفاع عن بلدتها عندما هاجمها- رجال الترك عام 1228ه بقيادة طوسون وهم في طريقهم للدرعية-إنما خرجت على رأس فريق من رجالها، بعد أن خطبت فيهم واستثارت نخوتهم، فقاتلت العساكر ووصف القتال بأنه قتالا شديدا حتى انهزموا هزيمة منكرة، وهربوا لا يلوي أحد على أحد تاركين خيامهم وأمتعتهم وأكثر مدافعهم".
وقال الباحث والمؤرخ محمد بن عبد الرزاق القشعمي: ومعروف أن زوجها الأمير هندي بن محيي شيخ محاميد البقوم كان مريضا ومات أثناء المعركة، فأخفت خبر وفاته من أجل ألا يتسرب اليأس إلى قومها فينهزمون، فكانت تصدر الأوامر كأنها من أميرهم المتوفى، مستشهداً بقول المؤرخ الفرنسي "دريو" إن هزيمة المصريين في تربة أمام "غالية كانت ضربة قاصمة لسمعة محمد علي وابنه طوسون؛ لذلك أسرع محمد علي في السفر من مصر إلى الحجاز لتدارك الأمر وربما أن "دريو أغفل جانباً أو سبباً مهماً لعودة محمد علي باشا إلى مصر وتركة جيوشه في الجزيرة العربية على أنه أقرب للأحداث فهو فرنسي يدرك ما كانت تمر به فرنسا إذ ترتبط عودة محمد علي بأسباب لعل من أهمها عودة "نابليون من منفاه في جزيرة " ألبا إلى فرنسا وإسقاطه حكم "آل بربون مرة أخرى بعد أن أسقطته الثورة الفرنسية ليتأهب "نابليون لمحاربة الحلفاء الذين هزموه في معركة "وتربوالشهيرة فكانت قاصمة الظهر له واستسلم حينها للعرش الإنجليزي، موضحاً أنّ المؤرخ الفرنسي الآخر (غوان) قال عنها: "إن غالية كانت في نظر المصريين، ساحرة تعطي الجنود (سرا) يحصنهم من الهزيمة، فلا يستطيع أحد أن يغلبهم.. ولهذا شبهوها ببطلتهم (جان دارك) التي اشتهرت ببطولتها الخارقة في محاربة الإنكليز الذين احتلوا قديما جزءا من فرنسا، ويرى القشعمي أهمية إضافة مادة للمقررات الدراسية عن دور هذه البطلة التاريخي، موضحا أن من كتب عن هذه المرأة هم قلة (مناحي القثامي، والدكتورة دلال الحربي، وبعدهم الكاتب مشعل السديري، وقبلهم الأستاذ منير العجلاني في كتابه عن العهد السعودي الأول)، مبيّناً أن هناك شارعاً فرعياً صغيراً منزوياً لا يزيد على 200م في (حي الروضة) بمدينة الرياض يحمل اسمها، متسائلاً: "ألا يجدر بنا أن نعطيها حقها وننزلها منزلتها اللائقة بها".
غالية في كتاباتهم
وفي إطار الحديث عن غالية البقمية جاء للدكتور فهد السماري في مقالة له عن صلة المؤرخ عبدالله بن خميس بالتاريخ وأبرز مؤلفاته، وذلك بمناسبة تكريمه في المهرجان الوطني للتراث والثقافة، ويشير فيها إلى مقالة تاريخية للأديب ابن خميس عن غالية البقمية ومما قاله: "يظهر ابن خميس جانباً مهماً في تاريخنا لم يحظ بالاهتمام المطلوب والكافي وهو دور المرأة في أحداث تاريخ الجزيرة العربية وذلك عندما كتب عن غالية البقمية وقصتها في دحر جيوش طوسون بن محمد علي التي جاءت للقضاء على الدولة السعودية الأولى والدعوة السلفية.
وأضاف "وأورد ابن خميس ما كتبه بعض المؤرخين المصريين عن قصة غالية وشدة بأسها وشجاعتها حتى تمكنت من التأثير على رجال قبيلتها لصد جيوش طوسون الغريبة على المنطقة عدداً وعتاداً، وأطلق ابن خميس على هذه المرأة اسم "غالية الوهابية مخاطباً أولئك الذين ينعتون الدعوة وأتباع الدولة السعودية بالوهابية سلباً، مشيراً إلى تأثر هذه المرأة ورجال قبيلتها بالدعوة السلفية ودفاعهم عنها بالنفس والنفيس.

سوق رمادان في تربة البقوم
وتابع السماري في مقالته "يقول ابن خميس: "تلكم هي غالية الوهابية وهذا طرف من خبرها.. إنها المرأة العربية المؤمنة نزعت إلى أصالة أخواتها ومجدهن في القرون المفضلة الأولى فأعطت الصفة الحقيقية والنموذج الأمثل وصدقت ما خلده التاريخ ورددته الأمم، وللمؤرخ خير الدين الزركلي إفادة جميلة عن بطولة هذه المرأة العربية وكان مما ذكره غالية البقمي، التي قادت جيش ضد الأتراك في ثلاث معارك عامي 1228 و1229، بما عرفت به من القوة والشجاعة والحزم والذكاء، منذ 200 عام!.
قال محمد علي باشا عندما مر بتربة في طريقه إلى رنية وبيشة وأبها: "أمست دار غالية خالية، كما جاء في "تاريخ القبائل والأسر العربية أنّ غالية من بادية ما بين الحجاز ونجد، اشتهرت بالشجاعة، ونُعتت بالأميرة. كانت أرملة رجل من أغنياء البقوم من سكان تَربة على مقربة من الطائف، من جهة نجد، إلى ذلك فقد وصف هذه المرأة الشجاعة محمود فهمي المهندس في كتابه البحر الزاخر ومما قاله لم يحصل من قبائل العرب القاطنين بقرب مكة مقاومة أشد مما أجراه عرب البقوم في تربة، وكان قد لجأ إليها معظم عساكر الشريف غالب، وقائد العربان في ذلك الوقت امرأة أرملة، اسمها غالية كان زوجها أشهر رجال هذه الجهة وكانت هي على غاية من الغنى، ففرّقت جميع أموالها على فقراء العشائر الذين يرغبون في محاربة الترك.
مؤلف خاص
وذكرت د. دلال بنت مخلد الحربي في مؤلفها (غالية البقمية: حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة) الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز، والحاصلة على جائزة الكتاب والمقالة العلمية ومنحة الملك سلمان بن عبدالعزيز لدراسات تاريخ الجزيرة العربية، في دارة الملك عبد العزيز ضمن أسماء الفائزين والفائزات بالجائزة والمنحة في دورتها الثالثة عام 2008م. وما ذكرته في كتابها عن هذه المناضلة "أن غالية البقمية لم تكن في سن متقدمة وقت الحملة المصرية/ العثمانية على تربة، كما يشير بعض المؤرخين.
كما رجحت الدكتورة دلال أن تكون غالية البقمية زوجة لأحد شيوخ البقوم فتوفي، وخلفه ابنه، وتشير إلى أنها بعد معركة بسل وسقوط تربة 1230ه لجأت إلى البدو في حرة البقوم لوعورتها وصعوبة مسالكها التي جعلتها بعيدة عن غارات حملة محمد علي، فلما هدأت الأوضاع وانسحب محمد علي من شبه الجزيرة عادت للإقامة مع ابنتها (زملة) في وادي كراء. وذكرت دارة الملك عبد العزيز"أن هذا الكتاب يمهد بالتعريف بغالية البقمية ويحاول تحديد تاريخ ميلادها المجهول ويشير إلى نشأتها وصفاتها وزواجها وحياتها قبل الحملة المصرية العثمانية، ويبين إسهاماتها العسكرية في التصدي لحملة مصطفى بك سنة (1228ه / 1813م) في تربة غرب المملكة، حيث اتخذت من منزلها مقراً للقيادة العامة تعقد فيه الاجتماعات. وأسهم ذلك في هزيمة تلك الحملة، كما تصدت لحملة أحمد طرسون في السنة التي تليها على تلك المدينة، إلى أن سقطت تربة بعد معركة بسل، وقال محمد علي قولته المشهورة: أمست دار غالية خالية، فيما تشير المصادر إلى أن الإمام عبدالله بن فيصل آل سعود كان يعرف قدر غالية البقمية، ويعلي شأنها وذلك لأثرها البارز في التصدي للحملات العسكرية العثمانية المصرية.
حزم منيف
كما تناولت سيرتها الكاتبة حنان بنت عبد العزيز آل سيف، مبينة أن "هذه المرأة استطاعت القضاء على جيش كامل العدة، مكتمل العتاد، وأعطيت لقب (الأميرة)، والأمير في عرف الأقدمين هو لقب رئيس الجيوش، موضحةً أنّ غالية البقمية كانت في قمة الغنى والثراء وكان قصرها المعروف باسم (قصر غالية) والذي ما زال طلله متسامياً متطاولاً قبل سنين عدة وأسمته (حزم منيف) مقصد خواص الناس وعوامهم، بل كان قلب وبؤرة القاعدة السلفية السياسية العسكرية، حيث يجتمع فيه زعماء الدولة السلفية ويناقشون مهامهم الحربية وكانت في مقدمة الصفوف لحكمتها وحنكتها ورويتها وتعقلها".
معركة بسل
وقعت هذه المعركة بين قوات الدولة السعودية الأولى بقيادة الأمير فيصل بن سعود ومعه البقوم بقيادة رشيد ابن جرشان وبن شكبان بأهل بيشه وغامد وزهران وغيرهم، وبين قوات الترك بقيادة محمد علي باشا وكان النصر حليف القوات السعودية في البداية ولكن احتال القائد محمد علي، حيث استخدم مدافع جديدة وكانت الهزيمة وتفرق جيش الأمير فيصل بن سعود واتجه إلى تربه ولكن الناس تفرقت كل لناحيته، -كما ذكر ذلك الدكتور منير العجلاني في الجزء الرابع من كتابه (الدولة السعودية الأولى عهد الأمام عبدالله بن سعود)-، وقد أظهرت الأميرة غالية -رحمها الله- شجاعة فائقة ومواقف بطولية فذة، حيث قامت بتفريق أموالها، على رجال العشائر والقبائل الراغبين في القتال ضد العدو وزودتهم بالأسلحة ومقتنيات الحرب، وهزموا الغازي، وكان تاريخ هذه المعركة في شهر ذي الحجة من عام (1228ه-1813م).
وعندما بلغ محمد علي باشا خبر هزيمة ابنه طوسون، وفشل قواد جيشه من أمثال: مصطفى بك، وتوماث كث الإسكتلندي، قرر قيادة المعركة بنفسه فجهز جيشاً كبيراً على مستوى عالٍ من العدة والعتاد، فأرسلت غالية رسالة للإمام (عبد الله بن سعود) حاكم الدرعية آنذاك، مفادها أن محمد علي باشا والي الدولة العثمانية على مصر، قد جهز جيشاً كبيراً لا طاقة لنا به، وهو في طريقه إلينا على رأس مئة ألف مقاتل، وعلى الفور فقد أرسل الإمام عبدالله بن سعود شقيقه فيصل بن سعود الكبير على رأس جيش محارب، ويتكون هذا الجيش من عشرين ألف مقاتل من أهل تربة الفوارس الشجعان، ومن عشرين ألف مقاتل من أهل الجنوب وتهامة البواسل الفرسان، ووقعت المعركة، وتمت الهزيمة في معركة (بسل) الشهيرة، وكان ذلك في عام (1230ه).
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها فقد اختلف المؤرخين في مصير غالية وما آل إليها أمرها، منهم من قال إنها ذهبت إلى الدرعية وأقامت بها، وسارت قافلتها على ثمانية وعشرين جملاً محملين بالزاد والذهب والفضة، ومنهم من قال إنها عادت إلى مسقط رأسها تربة وأقامت في قصرها الواقع على طريق تربة الطائف، وهكذا تنتهي الأخبار المتواترة عن المرأة الحديدية التي ملأت قلوب خصومها رهبةً وخوفاً بعد أن جندلت الكتائب الغائرة والجيوش الغازية.




------------------------------------------
الاربعاء 09 محرم 1435 هـ - 13 نوفمبر 2013م - العدد 16578
معيار
غالية البقمية
قاسم الرويس
    امتداداً لاهتمامها بتاريخ المرأة في الجزيرة العربية بصفة عامة، وفي المملكة العربية السعودية بصفة خاصة، يأتي مؤلَّف الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي (غالية البقمية: حياتها ودورها في مقاومة حملة محمد علي باشا على تربة) الصادر عن دارة الملك عبدالعزيز مؤخراً ضمن سلسلة من أعمالها العلمية التي تجذّر لدور المرأة الفاعل في المجتمع وإسهاماتها في مكوناته الثقافية الضاربة في أعماق التاريخ وقد سبق لي قبل حوالي سنتين الحديث في هذه الزاوية عن كتابها "المرأة في نجد: وضعها ودورها» عند صدوره مثنياً على منهجها حينما استعانت بالشعر النبطي لتوثيق جانب من جوانب الحياة الاجتماعية في نجد مؤكدة على أهميته كمصدر تاريخي لا يمكن الاستغناء عنه.
وغالية البقمية من نساء الجزيرة العربية القلائل في القرن الثالث عشر الهجري اللائي ورد ذكرهن في كتابات مؤرخي العراق ومصر والحجاز وكذلك في كتابات الرحالة والمستشرقين؛ في حين تساءلت في مقالة نشرتها في ٢٠٠٤م عن سرّ تجاهل مؤرخي نجد قديماً لذكر هذه المرأة العظيمة!!
فشهرة غالية نبعت من دورها المشهود في مقاومة حملات محمد علي باشا على الجزيرة العربية التي كانت تستهدف القضاء على الدولة السعودية الأولى لدرجة أنها تسمى (غالية الوهابية) وعلى الرغم من الاتفاق على هذا الدور الذي تجلّى أثناء الحملات على تربة خلال الفترة 1228 1230ه إلا الغموض يكتنف تفاصيل حياتها وهو ما حاولت الدكتورة دلال تسليط الأضواء عليه معتبرة دراستها أول دراسة تفصيلية شاملة عن غالية البقمية.
فكشفت أن اسمها هو غالية بنت عبدالرحمن بن سلطان الغرابيطي الرماثيني البدري الوازعي البقمي ورجّحت بأن ميلادها كان في الربع الأخير من القرن الثاني عشر الهجري وأنها لم تكن في سن متقدمة وقت الحملة المصرية/ العثمانية على تربة كما يشير بعض المؤرخين ، كما رجّحت أن تكون زوجة لأحد شيوخ البقوم فتوفي وتولى ابنه الذي كان صغير السن فقامت والدته غالية بدورها الذي أبرزها من هذا الباب، ولذا كان لرأيها وتدبيرها قيمة عند رجال قومها، وتميل إلى أنها بعد معركة بسل وسقوط تربة 1230ه لجأت إلى البدو في حرة البقوم لوعورتها وصعوبة مسالكها التي جعلتها بعيدة عن غارات حملة محمد علي فلما هدأت الأوضاع وانسحب محمد علي من شبه الجزيرة عادت للإقامة مع ابنتها (زملة) في وادي كراء.
في هذا الكتاب قامت المؤلفة مشكورة بالتقاط المعلومات القليلة المتناثرة في كتب التاريخ والرحلات وأخضعتها للمقارنة والتحليل واستعانت بالرواية الشفهية كما اعتمدت على روايات مبثوثة في شبكة الأنترنت مما جعلها تواجه مشكلات منها ضعف الروايات وتناقض المعلومات وخلوها من مضمون مفيد ومباشر عن غالية، الأمر الذي يؤدي عادة إلى تداخل الحقيقة والخيال في هذه الروايات، ولكنها اجتهدت في تتبع القرائن ورصد المتشابه من الأخبار وتحليلها للخلوص برؤيتها في هذه الدراسة.
ولا زلنا بانتظار دراسة أكثر عمقاً عن هذه الشخصية الاستثنائية الشهيرة يكون فيها للوثائق حضوراً يجلّي التباس التاريخي بالأسطوري الذي يكرّسه كثير من المنتديات والساحات والمجالس الانترنتية بكتابات المجاهيل والمقنعين التي لا يعتد بها.
الجدير بالذكر أن للدكتورة دلال دراسة عن غالية البقمية نشرتها في مجلة الخليج للتاريخ والآثار2008م نالت بها جائزة الأمير سلمان بن عبدالعزيز لدراسات تاريخ الجزيرة العربية في فرع المقالة العلمية ولعلها هي التي تضمنها هذا الكتاب إلا أنه لم يرد أي إشارة لذلك!!

المصدر



مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..