الصفحات

الجمعة، 1 يناير 2016

محاكمة سقراط : من كتاب اشهر المحاكمات

  محاكمة سقراط .. يوري فانكين
    سقراط  فيلسوف اغريقي عاش بين 399 و 470 قبل الميلاد .. وأول من أعدم في التاريخ بسبب أفكاره..

    اتهم باللاوطنية وبإفساد عقول الشباب بتعاليمه وعدم احترامه لدين ومعتقدات قومه.

    رفض الهرب لأن هربه سيكون عملاً مناقضاً للمبادئ السقراطية، فهو عندما وافق على العيش وفقاً لقوانين المدينة قد ألزم نفسه باحترامها حتى وإن كان على حساب حياته.

    كما رفض النفي بدلاً من الإعدام لأن النفي بالنسبة له أشد ألماً من الإعدام:

    " لن أغادر أثينا! ليس من عادة الثور العجوز تغيير زريبته المعتادة".

    شخصية هذا الفيلسوف تعتبر لغزاً تاريخياً. فحتى لو كان قد كتب حرفاً واحداً فلم يصلنا منه شيء. وكل ما يعود لسقراط يستقى من أعمال تلميذه أفلاطون وأرسطو وأريستوفان وزينوفون ولهذا كل المعلومات المتوفرة عنه يمكن أن تعتبر احتمال وليس حقيقة مطلقة:

    "استيقظ أفلاطون، أخذ يتنفس يتقطع تماما كالمريض. شعر أن الموت يهدده هو وليس سقراط. بدأ يتذكر، مرهقاً نفسه، مناقشات وجدل سقراط مع السفسطائيين الآثينين والعابرين. لقد اعترف يوماً ما أنه يرغب في تسجيل مناقشات سقراط لكي يعطيها حياة أخرى. اعترض الحكيم على ذلك: إن الكتب تهترئ يا عزيزي افلاطون. يجب الكتابة في نفوس البشر وقلوبهم بالحبر الأزلي، وليس بالحبر الذي يجف كينبوع ماء ربيعي."

    متزوج من كسانتيبا ولديه ثلاثة أولاد. يصف زينوفون زوجة سقراط بالمرأة السليطة وان سقراط يشهد بأن تعوده العيش مع كسانتيبا جعله قادرا على التعايش مع أي كائن بشري آخر، تماما كمروّض اعتاد على خيول برية فأصبح أكثر كفاءة من مروّض اعتاد على خيول أليفة.

    شارك في عدة معارك وكان يتحمل الظروف الصعبة فقد تجده يمشي دون أحذية أو معطف في الشتاء.
    لم يكن لديه عمل محدد وإنما كان يعتقد أن مناقشة الفلسفة وتكريس نفسه لها أهم مهنة. كما كان يرفض المال مقابل ما يبذله من تعليم وتربية.

    عاش سقراط في الفترة بين ازدهار الامبراطورية الآثينية وهزيمتها على يد اسبارطة، وفي الفترة التي كانت فيها أثينا تحاول استعادة توازنها بعد تلك الهزيمة المشينة. قام ثلاثة من الوجهاء بتحريض الحكومة الأثينية على سقراط واتهامه بعدم التقوى وإفساد عقول الشباب. في تلك الفترة التاريخية كان الإغريقيون يؤمنون بتعدد الآلهة ويعتقدون أن لكل مدينة إله يحميها ، وأن الآلهة التي تحمي مدينتهم والتي سميت المدينة باسمها (أثينا) قد تخلت عن حمايتها لفقدان التقى والورع منها ولذلك هزموا في الحرب.

    سأل سقراط الاثنينين عن معنى الخير والجمال والفضيلة فوجد أنهم لا يعرفون شيئا عنها بينما يعتقدون أنهم يعلمون الكثير، ومن هنا استنتج سقراط أنه كان حكيما فقط لأنه يعرف أنه لا يعرف شيء.
    رغم دفاع سقراط عن نفسه وحديثه الشهير إلا أنه اعتبر مذنباً وحكم عليه بالموت بشرب السم.

    كان موته هادئاً ، تحمل تنفيذ الحكم بجلد وصبر:

    "لا تحزن يا كريتون. فالإنسان يبدأ بالموت منذ أن يولد. والبكاء اليوم يعادل البكاء يوم الميلاد."



    أهم ما قدمه سقراط للفكر الغربي هو ما يسمى بالمنهج السقراطي حيث أخضع للتساؤل المفاهيم الأخلاقية العامة كالخير والعدالة وغيرها من المفاهيم المستخدمة بشكل مستمر دون أن يكون لها تعريف حقيقي.
    يعتبر سقراط أب الفلسفة السياسية والأخلاقية.

    ومنهج سقراط لا يقوم على التلقين والوعظ وإنما يعتمد على طرح مجموعة أسئلة تدفع محدثه إلى تحديد معتقداته ومدى معرفته ويجبره على إعادة النظر بصحة ومصداقية ما يعتقد به وبالتالي التخلص من الفرضيات التي تؤدي لنتائج متناقضة لتحل محلها فرضيات أكثر صحة وثبات..


    . In fact, Socrates once said, "I know you won't believe me, but the highest form of Human Excellence is to question oneself and others"



    يكمن تفوق الإنسان في مقدرته على طرح الأسئلة على نفسه وعلى الآخرين.


    كان سقراط يعلن دائماً أن حكمته نتجت عن معرفته بجهله. ويعتقد أن الشر هو نتيجة الجهل، وأن أولئك الذي يمارسون الأذى والضلال لا يعرفون شيء أفضل لفعله.

    كما يعتقد أن أفضل أسلوب للحياة أهو ن يسعى الانسان لتطوير ذاته بدلا من السعي وراء المكاسب المادية.
    والفضيلة من أثمن الممتلكات والحياة المثالية هي التي تستثمر في البحث عن الخير. ومهمة الفيلسوف أن يري البقية أن ما يعلمونه قليل جدا..

    الفضيلة هي المعرفة، إذا عرف الانسان الخير فإنه سيمارسه دوماً. ولذلك فإن من يمارس الشر لا يعرف أصلاً ما هو الخير لكي يمارسه.

  
    محاكمة سقراط
    يوري فانكين ترجمة
    د. ماجد علاء الدين
    د. محمد مخلوف
    الطبعة الخامسة: 2002
    منشورات دار علاء الدين

    هذا الكتاب

    ينقل مؤلف هذه الرواية الكاتب فانكين
    للقراء قصة محاكمة سقراط بأسلوب روائي
    شيق، ويعتمد في تأليفه على الكثير من الوثائق
    التاريخية المتعلقة بهذا الموضوع.
    وصور المؤلف مسألة الصراع الأبدي بين
    قوى الخير المتمثلة بالحكمة والعقل والمعرفة
    وممثلها في هذه الرواية سقراط وتلاميذه، وبين
    قوى الشر والتلفيق والكذب والخديعة المتمثلة
    بأولئك الذين حاكوا المؤامرة لإصدار قرار إعدام
    سقراط، في تلك الحقبة من حياة المجتمع
    الاغريقي.
    الرواية تاريخية وعصرية بآن واحد، إذ
    أن مسألة الصراع المطروحة مسألة أبدية.





    ... ومن بين جماهير الناس، خرج رجل في رداء أحمر. وعلى رأسه إكليل من ورق الحور الأخضر ، بينما بدا شعره المصفف والمدهون بزيت الزيتون لامعاً، جداً، مما يدل على أنه قدم أضحية. كان هذا – تيرسيه، أحد المسؤولين عن سجون أثينا.. أما القتلة الجلادون فلم يهتموا بجوهر الاتهامات، إذ أنه قد تأكد خلال فترة خدمته الطويلة أنه بالإمكان توجيه أية تهمة كانت من الجهات العليا لإدانة أي مواطن مثالي، دون أن يرتكب أي خطأ كان: في قسم كاذب أو في سرقة أو تزوير أو إهانة الآلهة.. أما تيرسيه نفسه فقد كان يتجنب الفسدة المحترفين، ونادراً ما كان يتناول الطعام عند أحدهم، وإذا تحدث مع أناس غير معروفين من قبله جيداً، فإنه كان يغربل كل كلمة ينطق بها، وكأنه ينخل طحيناً لقربان الالهة.
    إذن فمن هو هذا ومن يَتَّهم؟ نيقوسقراط ضد فيورا، أوبيلوب ضد تيميا.. فحتى الوقت الحاضر لم يعرف تيرسيه شيئاً عن الأسماء. ولكن الاتهام الأخير، الذي أحضره الفرجيني جعله يتحفز: ميليتوس ضد سقراط.. سقراط! وقرأ تيرسيه الاتهام، دون أن يترك ولو كلمة واحدة.
    " كتب هذا الاتهام ميليتوس وأضاف تحته: ابن ميليتوس، البيفيني، ضد سقراط، ابن سافرونيسكوس من ألوبيكا. ويتهم سقراط أنه لا يؤمن بالآلهة، التي يؤمن بها الشعب، ويقترح عبادة آلهة أخرى، ويتهمه أيضاً بإفساد تفكير الشباب. العقاب المطلوب – هو الموت".
    تصور تيرسيه نفسه مكان سقراط، حافي القدمين بلحيته الشعثاء ، ومعطفه العتيق يغطي جسده نصف العاري. وفجأة ضحك مردداً: العقاب المطلوب – هو الموت. أليس هذا عقاباً شديداً للفيلسوف؟! ومن هو هذا المدعي ميليتوس؟ - فكر حاكم السجن: أليس هو ذلك الشاب الشاعر المؤلف للأماديح؟ - بإمكاني أن أقسم أن هذا الشويعر ميليتوس لشجاع جداً! فبماذا يحلم؟ من الصعب أن تدعم المحكمة دعوته. وإذا رفضت المحكمة هذه الدعوة، فإن ميليتوس سوف يدفع ضريبة، وهل لا يؤسفه أن يقذف في الهواء بعشر ليرات بلا فائدة ترجى؟ ربما أن شخصاً ما قد وضع محفظته في خدمة ميليتوس، عند ذلك يصبح الأمر واضحاً. يا لهذا الوقت الغريب! الابن يحاسب أباه، والأخ أخاه، والمستدين الدائن والمجرم الشاهد. فمن هو المخطئ، ومن الصعب أن تصل أعدل المحاكم إلى نتيجة ما، ومن الواضح أن الحسد هو الموجه الأول لأهل أثينا. إنهم يحسدون بعضهم على كل شيء: المرتبة والثياب، العمل الخير والعقل. وأنصار الحكم الديكتاتوري يكرهون الديمقراطيين، والديمقراطيون يكرهون سلطة المنتخبين. الوقحاء يهجمون لنيل المناصب العليا، وهم يطردون الكرماء الخيرين فمن يفكر الآن بمصير أثينا؟ فالآن يعتنون بالشجرة من أجل ثمارها، ولا يهتمون بجذعها وجذورها إلى ما يقودنا هذا؟ مجانين سكارى يحتلون كراسي السلطة، ولا يعرفون كيف تُمنح الحرية، وإلى جانب التفكير الحر يقف الضياع الفكري، وخلف الكم عن الفائدة الاجتماعية تتجسد المصلحة الذاتية. فما هو خطأ سقراط الذي لا ينتمي لأي حزب من الأحزاب المتناحرة؟ يقولون: إنه يرى في الفلسفة أساساً للحياة، ويحتقر قوانين الدولة السائدة.

    ***

    ثم نتعرف على كثير من الأسماء الغريبة والشخصيات من أصدقاء سقراط وزوجته وأولاده .. وبعض حواراته مع الناس أثناء تجواله في الأسواق:


    العراك مع سقراط سهل! – ابتسم الحكيم، بينما يكون الصراع مع الحقيقة أصعب بكثير.. كي تصل إليها، أيها العزيز، أبولودور، تحتاج، ليس للمعرفة فقط ، بل للاستقامة، وطيب الخاطر أيضاً، الآخرون يضعون أنفسهم ومعارفهم في أعلى المراتب. ولا يجوز أن نوافق أيها الأصدقاء على أن المعارف الكثيرة لا تعني التفكير الكثير..


    أرجو أن تزين طاولتك بأطيب وألذ سمكن، تابع الحكيم، ولكن قل لي يا محب الأطفال فيوفراستوس: أليس من الأفضل أن تخاف من العقل الفاسد، أكثر من أن تخاف من المعدة الفارغة؟
    ضحك شخص ما، بينما تابع فيوفراستوس يقلب السمك، ويشمه بعناية. حافظ سقراط على اتزانه، دون سخرية، وكان تفكيره يجول في عدة مسائل، مر بها في أماكن عديدة. وطرح الفيلسوف بروح مرحة، ونفس طيبة بعض الأسئلة البسيطة، وكلنها ذات معنى عميق: لقد أشار إلى حقيقة الاحتقار والسخرية، وأكد على ضرورة استخدام النقد الساخر من أجل إصلاح العيوب والنواقص وليس من أجل تهديم الذات الانسانية.


    ***

    كان سقراط قد عرف بالشكوى المقدمة ضده قبل يوم من المسؤول عن التحقيق في أمور الالحاد الديني المدعى، "باسيليفس"، إذ ذكر عرضاً اسم ميليتوس، وبهذا أراد أن يقول، إن الشاعر المداح هو شخصية من الدرجة الثانية، وسأل باسيليفس سقراط مباشرة، بأي شيء أساء هو لأنيتوس صاحب المدبغة الثري، والمعروف بتأثيره في وسط الحزب الديمقراطي، فتظاهر سقراط آنذاك بالمزاح وقال: "يبدو أنني لم أحظ بإعجاب أنيتوس، كما لم أعجب الآخرين، إذ أن عيني تشبهان عيني السرطان النهري، وأحاول أن أنظر إلى الأمام فقط، وأسير واجفاً كل حياتي إلى الأمام..

    إن صاحب المدبغة هذا ينظر إلى سقراط ، بكل جدية، إنه متهم بخرق القوانين وإفساد الشبيبة، وليس مصادفة أنه منه ابنه أن يتحدث مع "صياد النفوس البريئة". لقد كانت المرأة العجوز المشرفة عليه في طفولته على حق، عندما كانت تقول: "إذا قلت الحقيقة سوف يكرهك الناس، وإذا كذبت، فستعاقبك الآلهة". وتذكر هذه الكلمات، وتذكر تلميذا من تلاميذه، يدعى الكيفيادوس، الذي قال في لحظة صراحة مخلصة: "إنك إنسان عظيم يا سقراط، وعلى الرغم من ذلك، إني أتمنى أحياناً أن لا تكون في هذا العالم...

    تبدو الغيوم تتلبد باستمرار فوق رأس سقراط، وتعاظمت في الآونة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى. سيتحمل الفيلسوف الحقيقي هذا الخلل في العدالة، ولم يحاول أن يجيب على الظلم بالظلم..


    ***

    " لا تترك الصنعة الوقت الكافي للتفكير بالروح، والعقل ، والحقيقة". هذا ما صرح به ابني قبل وقت قصير.
    هذه هي أفكار معلمنا الكاذب. فلو وافقنا على هذه المقولات، لكان أكثرية الآثينيين يسيرون بدون أحذية، كهذا الفيلسوف..
    لقد آن الأوان، لقتل هذا الحكيم الذي يزرع الشك في كل مكان. فهل عرفت بما قاله في يوم من الأيام عن نكران الآلهة؟ "إني لا أعلم شيئاً عن الآلهة!" وكيف لم يقطع لسانه القذر بأسنانه..


    ***

    "الجنون – مرض العقل!" قال أبولودور.
    ابتسم سيميس بتملق، ناظراً إلى حذائه الأحمر ذي البكل الذهبية. أقترح اعطاء المجنون التعريف التالي.. أعتقد أن هذا التعريف غير قابل للجدل، تماماً كحسن أفروديتا. "المجنون هو الإنسان الذي لا يعرف ما تعرفه الأكثرية".
    ابتسم سقراط، لكنه لم يستعجل المشاركة في النقاش.
    "لكن كيف يجب النظر إلى الناس، ذوي العقول الاستثنائية؟ سأل أفلاطون سيميس. ألم يبدُ غريباً، وقد يكون قد بدا جنوناً، للخادمة الفراكية، وقوع الفيلسوف فاليس في البئر، عندما كان يراقب النجوم؟ إن الإنسان العادي البسيط لن يتحمس أبداً لمثل هذا الشيء لدرجة السقوط في البئر. والإنسان العظيم، كالسكين، مسنون من طرف واحد. ولهذا ليس مستغرباً ألا يعرف العظماء ما قد يكون معروفاً للجميع!"
    " إن تمييز العظيم عن المجنون ليس أصعب من تمييز القيثارة عن بوق الحرب! " دافع سيميس عن نفسه.
    " أوه، لم إزعاج العظماء والمجانين – الواضحي الغباء؟ بدأ سقراط الحديث- هؤلاء وأولئك مساكين. عدد هؤلاء وأولئك قليل جداً. لقد قال أبولودور: "الجنون هو مرض العقل!" لم يعجب ضيفنا بهذا التعريف. أما أنا فقد وجدت في هذا التعريف، الذي يظهر غبياً، للوهلة الأولى، معنى هاماً. إذا ما اعتبر الجنون مرض العقل، فإن هذه الظاهرة يمكن أن تدرس بشكل أكبر، وعلى مستوى الدولة. هل تعتبر الشهوة للربح منطقية؟ هل يقدر الناس العقلاء على الكذب والخيانة والانحلال الخلقي والتخمة من الطعام؟".
    " ماذا تقول يا سقراط؟ غضب سيميس، إنك مستعد على ما يبدو لتسجيل نصف البشرية بل وأكثر من نصفها في جوقة المجانين." نظر السفسطائي إلى حذائه الأحمر من جديد.

    " يتهيأ لي – تابع سقراط حديثه بهدوء – أن علاقة العقل المريض هو الحب اللا محدود والأفكار الشخصية وانعدام الرغبة في فهم الآخرين. ويكون مثل هؤلاء الناس عادة مجانين حاقدين. وإذا ما قلدوا أمور السلطة فإنهم سيقطعون الرؤوس يميناً ويساراً. إن إرغام أحداً على فعل شيء ما، دون قناعة – يعتبر في رأيي شيئا غير قانوني.

    أمسك سيميس مطرقة صغيرة، وبدأ يكسر الجوز غاضباً متنفساً بصعوبة.
    " هناك من يعتبر أننا يجب أن نولد بأفكار جاهزة – قال أفلاطون. لا داعي للبحث والشك: لأن الآراء في الحياة موضوعة في سلتنا الطفولية مع أدواتنا.

    "إنك تتحدث عن المجانين مثلي! أيده سقراط. لقد لاحظت منذ زمن طويل، إنه لا يوجد متناقضات تقريبا في أفكار الأغبياء ومحدودي التفكير."
    "إن أخطر التناقضات لا تكمن في التفكير نفسه، قال غيرموغنس الحزين، أخ أحد أكبر أغنياء أثينا ، بل تكمن في عادة قول شيء ما، وعمل ما يخالفه..".

    "عظيم! – قال سقراط وصفق بيديه. هل يوجد أتعس من الازدواجية؟ يحطّم المقاتلون الأصليون مدنناً بلا نار ولا سيف، مقنعين الجميع بحبهم المخلص لوطنهم..

    استمر الحدي، تشعب بشكل غريب مهدداً بإيصال الحقيقة إلى طريق مسدود، غير أن الفيلسوف العجوز كان يطرح بين أيدي أصدقائه في اللحظة الحرجة خيطاً مضيئاً كدليل.
    توقف سيميس قليلاً، ثم تابع تكسير الجوز.
    مسح سقراط جسده بيده، ابتسم ثم قال: " لو أن الحقيقة تُنتزع كَلُبِّ الجوز!"


    ***

    - لقد بلغني أنك تتكلم أكثر من اللازم! إني أمنعك من التحدث إلى الشباب دون الثلاثين.
    - ولماذا؟ استغرب سقراط – هل يضر الشباب الحديث عن الشرف والإخلاص؟
    - لا وقت لدي للحديث معك يا سقراط!
    - ألا يحق لي أن أجيب الشباب عن الأسئلة البسيطة؟
    - لا تتمسكن! أنت تعرف جيداً أني أمنعك من الأحاديث الفلسفية فقط. .. إنك تلعب بالنار يا سقراط!
    - لقد انقضى من عمري سبع تسعات وخشنت أصابعي ولم تعد تميز النار الحارقة من خيالها..


    ***

    اتهموا سقراط فيها بالخارج عن الدين ونصحوه بتقصير لسانه فورا- أما إذا لم يفعل فهددوه بتصفيته وإلقاء جسده للوحوش الكاسرة.


    ***

    ظهر كريتيس، الشاعر والخطيب، من مكان ما خلف حاملي المشاعل. نزل درجاً صغيرا وجلس في مكانه المعتاد الواسع. لم يلاحظ مباشرة وجود سقراط الواقف إلى الأسفل منه.
    - أهذا أنت يا سقراط؟ مرحباً، أيها المعلم!
    لوح العجوز بعصاه بلا إرادة:
    - اعمل وافلح!
    - أرى أنك ما زلت تتهرب من خدمة الدولة، كالسابق..
    - وما هي الخدمة؟ سأل الفيلسوف- هل هي في البحث المستمر عن المناصب المفيدة؟ أم هي المقدرة على إلقا الخطب الرنانة؟ أم هي مكافأة تقدم لمن يتجسس ويقطع الرؤوس؟
    - أنت تريد إشعال مصباح بلا دخان، يا سقراط!
    - أعترف أني لا أحب مصباح الزيت. إنه يطلق دخاناً كثيراً.
    - صدقني أيها المعلم، إن الرعاع سيحاكمونك! لن يرحم ذوو القلوب القذرة القاسية ذلك الإنسان، الذي يسمو ويسمو نحو الأعلى.
    - لا يبقى السوء بلا عقاب، من الأفضل أن يعاني الإنسان نفسه من انعدام العدالة على أن يتصرف بسوء.
    - إنك ما تزال كالسابق، تؤمن بقوة الكلمة أيها المعلم! عبثاً – إن الحكمة بدون السلطة لا تخلف إلا الحسرة والخيال. حان وقت الأمور العملية، سقراط، حان وقت استبدال العصي الفلسفية برمح محارب. إنك تبدو كغراب أسود بين الغربان البنية. أيمكن للإنسان الوحيد المنعزل أن يدافع عن نفسه؟ يستطيع أي شخص وسلطة أن يحتقرك، بل ويستطيع أن يحاكمك، ولن تستطيع بنبالتك وشرفك أن تدافع عن نفسك حتى أمام ادعاءات غبية. إني أتحدث عن ادعاءات عامة الناس، يا سقراط، هذه الأكثرية السافلة، التي تؤمن بالآمال الباطلة والخيال، والتي تقرأ الكف وتكشف الحظ، عند اكتمال البدر، بأعين غربان، وتعبد أكثر ما تعبد النقود والتملق والعاهرات الجميلات. إن الكلمات الموزونة عن الحقيقة والشرف والفضيلة لا تعني لهم شيئاً! إن هؤلاء الرعاع يحتاجون لمهرجين وليس لأناس يفتحون لهم أعينهم. إنك تبذر بذارك في الرمل، أيها المعلم!
    - إذا ما زرعت الصلاح، فلا تستعجل المحصول ، تمتم الحكيم.


    ***

    ولكن لماذا هذه العادة الغريبة، فوراً يمسكون الانسان من أذنه، مجرد أن يقول شيئاً ما! لماذا على الأذن الخرساء أن تجيب عن أخطاء اللسان الثرثار، والأيدي العوجاء؟


    ***

    "الجاهلون فقط يتصورون أنه يتحدث عن أشياء دنيئة. إن أحاديثه حقائق بسيطة تحوي بين طياتها أمثال رائعة للعفة والنبالة. إنه لا يفرض رأيه على أحد، يسأل بسذاجة الأطفال، يتوه أعظم المجادلين في شباك أسئلته ويرفعون أيديهم مستسلمين، بينما يذهل هو معهم، يأسف لحالهم ويحزن كمن هربت من صنارته سمكة كبيرة، ويبدأ من جديد وبلا كلل، بالبحث عن الحقيقة. لقد قال هذا الانسان العجيب ذات مرة: أساس العفة – هو الزهد، وأساس الصداقة – الصراحة."
    أضحكت الكلمات الأخيرة تيريسيه:" إن أكثر الناس صراحة الآن – هم الأغبياء والمحكومون بالموت".


    ***

    - هل تتذكر الجدل الذي دار بيننا قبل آونة عن الحسد؟ سأل الفيلسوف، وأضاف: لقد أعجبني تفسير غير موغينيس: "الحسد هو الحزن". إني أعرف أناساً مستعدين لمساعدة الآخرين في مصائبهم، لكنهم يستقبلون نجاح الآخرين بحزن، يمكن للحسد أن يكون حقداً! – اعترض أفلاطون دون رغبة – الحقد – احتدام داء الروح. أما الحسد ، بمثابة الغيرة التي يمكن أن يشعر بها كل انسان. ألا تشعر أنت ولو بحسد ضعيف نحو هوميروس أو تيرباندور، الذي استطاع بالرغم من رفض الايغور أن يضيف عدة أوتار أخرى إلى قيثارته الالهية.
    - للأسف، أنت محق، يا سقراط، لكن لشد ما يخيفني ويهيجني ذلك الحسد، الذي يشعر به البعض نحو أولئك الذين يمتازون بمواهب إلهية. لقد رأيت كيف يستطيع الإنسان ذو النقود والنفوذ، أن يحسد، بجنون، شاعراً أو فيلسوفاً. كان سقراط يحك رجليه بالخفان، مفكراً. – اعتقد أفلاطون، أن السر يكمن في ضعف مقدرة المال والسلطة على صنع السعادة الحقيقية، إن الإنسان الذي يتمتع بسعادة شفافة، يشعر بهذا ويمكن إضاعة السلطة والمال خلال لحظة واحدة. أما الموهبة التي يمنحها أبولون، فتبقى إلى الأبد. عدا عن ذلك، إني أظن أن أي مسؤول حكومي أقل حرية في تفكيره من أي شاعر أو فيلسوف. والتعسف والجبروت على التفكير لا يمكن إلا أن يولد عند الإنسان نقصاناً في فتنة وشغب النفس. ماذا تقول يا أفلاطون؟


    ***

    في المحكمة:
    - اسمحوا لي أن أقول شيئاً. أقسم إني لا أفهم في الأمور المحكمية، أكثر من فهمي في حركات نجوم تائهة. يحضر ذوو الخبرة إلى هنا مجهزين خطبهم، ويحضرون أولادهم الباطين ونساءهم. أما أنا ولسذاجتي قد امتنعت عن كل هذا. إذا كانت الحقيقة تشترى بالنقود والدموع، فإن سقراط العجوز يشبه فارساً – محارباً بدون رمح. الحق إني لا أعرف أي مبررات أو مسوغات مطلوبة مني؟ إني لم أكذب قط، لم أخن أصدقائي أبداً، لم أبحث يوماً ما عن علاقات مصلحية، لم أنظر مطلقاً إلى ملاكمات الأقوياء. ماذا يمكن لي أن ألقي، أيضاً، في ميزان العدالة؟ لقد قضيت حياتي كلها في تعليم الناس أن يكونوا لطفاء وشرفاء، وألا يلهثوا وراء الترف والمناصب. وأهنت باستمرار غير الشرفاء والمفسدين. ومقابل أعمالي هذه، لم أحصل على أحذية ذهبية، كما فعل أيمييدوكلوس، معلم جورجوس فقط، بل إني هجرت أملاكي بشكل نهائي. وإذا كان أحد منكم يا رجال أثينا يظن أني تاجرت بالكلام العسل وأني غني بشكل خرافي، فإني مستعد ، في هذه اللحظة لتبادل الأملاك معه، بل وسأهديه ردائي هذا، فهل يوجد بينكم من يرغب بهذا؟ بالطبع لا يوجد أحد، ولن يكون. لم يأخذ الفيلسوف سقراط ولا أبولاً واحداً، أجراً لأتعابه كان يمكن لأي شخص أن يستمع إليه، كان هذا الشخص غنياً أو فقيراً، أثينياً أصيلاً أو غريباً، وهو ليس مذنباً، إذا كان كريتيس، والكيفيادوس من بين مستمعيه. هل يكون الفلاح مذنباً إذا ما أطار الهواء الحبات التي نثرها، وقذف بها على صخر لا ينبت عليه شيء. يتهم ميليتوس وأنيتوس سقراط باحتقار السلطة الحكومية والاستهتار بها. اذا وافقنا رأي المتهمين الغيورين، فيمكن الاعتقاد أن الأناس المفيدين للدولة يعيشون في المجالس الوطنية والمحاكم فقط. لقد رأى سقراط بحراً من هؤلاء الناس في الأرياف والمشاغل. كما وأن معظم هؤلاء الناس يتكلمون بلسان حالهم. وقد تحدث معهم برغبة قوية، مكملاً الدرس، الذي كلفته به الآلهة. هدوءاً، أيها الأثينيون! إني أعرف الكثير من الناس، الذين يقدمون أكواماً من القرابين، ويركعون على ركبهم عند حاجتهم للسلطة والذهب فقط، وليس لحاجتهم في زرع الطيبة واللطافة.
    فالمؤمنون المزعومون يفضلون أن يكونوا خبثاء حاذقين ، على أن يكونوا بسطاء وطيبين. كم رأيت محتالين ممثلين في دوائر حكومية. مزاودين بسعيهم وإخلاصهم، يحرق بنار رفاهيتهم الخاصة. وعلى ألسنتهم. – كلمات ملفوفة، وفي أنفسهم – صحراء قفرة. كم من الحقد يحملون على من يعرف حقيقتهم ويبعد الخراف الساذجة عن أنيابهم التي لا تعرف الرحمة! أقسم بالحقيقة، رفيقة دربي، إني لن أستحق سوى ذئب حقير على ضريحي، لو أني وافقت على المشاركة في الحكم بأسلوبهم. والعجيب أن هؤلاء الفاسدين يحاولون إيجاد منابع الفساد الأخلاقي ليس في أنفسهم، بل في المواطنين الآخرين. لقد سمعت بطرف أذني، أنهم يتهمونني بإفساد الشباب وهل أشار أحد ما من المتهمين إلى قولي عن فيمستوكلوس، فلن أتهرب. لقد قلت، ومستعد أن أكرر الآن، إن هذا الرجل المحترم قد علّم ولده، كليوفانتوس أساليب الفروسية فقط، ولم يُتوجه بالنباله.
    أفهم جزئياً أن كل أب يريد ألا يكون ولده آخر إنسان في معسكر حاملي الأكاليل البنفسجية. لكن هل من المعقول أن يرفض ما هو بديهي بسبب حبنا لأولادنا؟ أظن أنكم توافقونني ، يا رجال أثينا، إن جل من يميز الغزل هو النساج، وأن أفضل من يعرف ميزات السفينة هو الربان، لماذا إذن يعتقد متهمي أن من واجب الناس الآخرين، الذين كرسوا أنفسهم لتربية الشباب، أن يخضعوا لنصائح الآباء في كل شيء؟ ألا يوجد حائكون وربابنة في مجال التربية؟ وأريد أن أعرف، لماذا يعتقد أنيتوس المفعم بالوطنية، أن الآباء ينتسبون إلى كل أثينا، ويخضعون لها، وهذا يعني أن سقراط، عديم الفائدة، ولم يمارس عملاً خاصاً، بل عملاً حكومياً، بتعليمة وإرشاده الغرباء. إنه لم يرغب أبداً عندما كرس نفسه للتربية، أن يعلو فوق الآباء أو يظهر كحكيم. وهل يمكن أن يلقب بالحكيم الانسان الذي يعتمد فنه فقط على تسمية التين – تينا ، واليقطين – يقطينا؟ لم يتصور أبداً، وهو يمارس عمله المتواضع، أنه سيرغم على الصعود إلى "حجر الاستجواب".
    وها هو سقراط العجوز يخشى الآن، وبجدية، من أن يحاكموه، كما لو أن أطفالا صغارا، يحاكمون طبيبا، افترى عليه طباخ. فكم من الاتهامات يمكن أن تسقط على رأسه المسكين! هذا الحاقد يكوي جسدكم بحديد منصهر! إنه يعطي شراباً مراً، وينصح بالصبر والجوع! هل يمكن تحمل كل هذا بالصبر والجوع! هل يمكن تحمل كل هذا ، إذا كانت بالخدمة طاولة عامرة بالملذات؟


    ***

    ماذا تريدون أن تسمعوا مني أيها الآثينيون؟ لا أستطيع أن أقول لكم شيئاً جديدا. إني لست مذنباً! ولا تنتظروا مني أي كلام حكيم. إن العجوز سقراط عرف ويعرف حكمة واحدة – يجب العيش باتفاق مع الضمير الذاتي. واذا كنت قد حققت شيئاً ما من هذا فمن الواجب أن أسمى حكيماً. ولن أغضب من القضاة. كيف يمكن أن نغضب من الأطفال لأنهم يحبون الحلويات، ويصابون بالهلع لمجرد رؤية سكين الطبيب. سيكبر الأطفال لا محالة، وتجبرهم الأمراض قطعاً على الحضور إلى الطبيب. إني أشكر ميليتوس ...
    ابتسم العجوز.
    - إنك تمزح يا سقراط! ميليتوس هو قاتلك!
    نظر الفيلسوف إلى حزمة الضوء الشمسي الساقطة على المنصة.
    - إنه وقت العصر أيها الآثينيون! اذهبوا إلى بيوتكم واعملوا أعمالاً تفيدكم!


    ***

    إني أسف لمصير الحقيقة قال أبولودور مبتسماً بحزن. لقد ماتت هنا قبل أن تموت أنت، أيها المعلم!
    - ماذا تقول؟ استغرب الحكيم. كيف أمكن لها أن تموت؟ انظر إلى هذا المزمار الرعوي. سأكسره الآن يا أبولودور العزيز! إني أرى عدم فهمك بالطبع، أنت تتأسف لهذا المزمار، الذي لم يضر السمع البشري، ورغم هذا فإن المخرب العجوز عديم الرحمة. – وضع سقراط المزمار على ركبته المطوية. – انتهى الأمر! انكسر المزمار. يمكنك أن تغتسل بدموع الحزن، يا هريفونتوس الصديق. لكن هل ماتت الموسيقا مع المزمار؟ كيف تظن يا أبولودور؟

    To be or not to be
    That is the question



    ما جاء في قصة الحضارة عن سقراط

    مما يغتبط له الإنسان أن يقف آخر الأمر وجهاً لوجه أمام شخصية تبدو في ظاهر أمرها واقعية كشخصية سقراط. ونقول في ظاهر أمرها لأننا إذا تدبرنا المصدرين الذين لا مناص لنا من الاعتماد عليهما في كل ما نعرفه عن سقراط، وجدنا أن أحدهما وهو أفلاطون يكتب مسرحيات خيالية، وأن الآخر وهو أكسانوفون يكتب روايات تاريخية، وهذه وتلك لا يمكن أن تعدا من التاريخ الصادق الصحيح. وقد كتب ديوجين ليرتيوس في ذلك يقول : "يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً : أي هرقل ! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب ! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها".

    على أن غير أكسانوفون من الكتاب الأقدمين لم يصوروا الحكيم القديم في صورة القديسين الصالحين كما صوره أكسانوفون. من ذلك أن أرسطوقسانيس التارنتي Aristoxenus of Tarentum ينقل عن أبيه - الذي يدعي أنه كان يعرف سقراط شخصياً - حوالي عام 318 أن الفيلسوف كان شخصاً مجرداً من التعليم "جاهلاً فاجراً" ، وأن يوبوليس Eupolis الشاعر الهزلي فاق منافسه أرسطوفان في الافتراء على المشاء العظيم. وإذا أسقطنا من حسابنا ما يجر إليه الجدل من قسوة في اللفظ اتضح لنا على الأقل أن سقراط كان رجلاً نال من كره الناس وحبهم أكثر مما ناله أي إنسان آخر في عصره.

    وكان أبوه مَثالاً، ويقال إنه هو نفسه نحت تمثالاً لهرمس، وآخر لربات القدر الثلاث أقيم قرب مدخل الأكروبوليس. أما أمه فكانت قابلة، وكان من الفكاهات التي لا ينفك ينطق بها عن نفسه أنه لم يفعل أكثر من مواصلة حرفة أمه، ولكنه نقلها إلى دائرة الأفكار، فكان يساعد غيره على أن يخرجوا للعالم آراءهم.

    ويقال إنه في هذه الوقائع كلها بز جميع أقرانه في قوة الاحتمال وفي الشجاعة، وإنه كان يصبر على الجوع والتعب والبرد فلا يشكو ولا يتململ. أما في بلده، إذا طاوعته نفسه على الإقامة فيه، فكان يشتغل بقطع الأحجار ونحت التماثيل، ولم يكن مولعاً بالأسفار، وقلما كان يخرج من المدينة ومرفئها. وتزوج من إكسانثبي Xanthippe التي كانت تعيب عليه إهمال شئون أسرته، فكان يعترف بعدالة شكواها.

    ويتفق أفلاطون وأكسانوفون في وصفهم عاداته وأخلاقه. من هذه أنه كان يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية أو الأخفاف. وقد تحرر إلى حد لا يصدقه العقل من داء التملك الوبيل المصاب به الجنس البشري، ويقال إنه أبصر ذات مرة كثرة البضائع المعروضة للبيع فقال: "ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها!"(133) وكان يشعر بأنه غني في فقره. وكان مضرب المثل في الاعتدال وضبط النفس، ولكنه كان أبعد الناس عن حياة القديسين. وكان في وسعه أن يشرب كما يشرب أي رجل مهذب مثقف، ولم يكن في حاجة إلى الزهد لكي يحتفظ باستقامة خلقه . ولم يكن ناسكاً يعتزل الناس، بل كان يحب الرفقة الطيبة، وكان لا يأبى أن يُدعى إلى ولائم الأغنياء من حين إلى حين، ولكنه لم يخضع لهم أو ينحني امتثالاً لأمرهم، وكان في وسعه أن يعيش أحسن العيش دون معونتهم، وكان يرفض هدايا الكبراء والملوك وولائمهم. وجملة القول أنه كان رجلاً محظوظاً يعيش من غير كد، ويقرأ من غير أن يكتب، ويعلم من غير أن يلتزم خطة رتيبة، ويشرب دون أن يدور رأسه، ثم يموت قبل أن يدركه وهن الشيخوخة، وكان موته بلا ألم.


    "الخير أعظم الخير في حديثي كل يوم عن الفضيلة، وفحصي عن نفسي وعن غيري، لأن الحياة التي لا يفحص عنها غير خليقة بالرجال" .وهكذا أخذ يطوف بمعتقدات الناس، يخزهم بالأسئلة، ويطلب إليهم إجابات دقيقة محددة وآراء منسقة غير متناقضة، ويلقي الرعب في قلب كل من لا يستطيع أن يتحدث حديثاً واضحاً.
    "يعرف مَن من الناس حكيم ومن منهم يدعي الحكمة وهو من غير أهلها" وقد حمى نفسه من التعرض لأسئلة الناس ومناقشتهم إياه بمثل ما يناقشهم هو بأن أعلن أنه لا يعرف شيئاً، وأنه يعلم الأسئلة جميعها ولكنه لا يعلم شيئاً من أجوبتها، وقال عن نفسه متواضعاً إنه من "هواة الفلسفة". ولعل الذي يقصده بقوله هذا أنه ليس واثقاً من شيء غير تعرض الإنسان للخطأ، وأنه ليس لديه طائفة من العقائد والمبادئ المقررة الجامدة. ولما أن أجاب مهبط الوحي في دلفي جوابه المزعوم عن سؤال كريفون Chaerephon المزعوم : "هل في الناس من هو أعقل من سقراط" وهو : "لا أحد"، عزا سقراط هذا الجواب إلى اعترافه هو بجهله، وشرع من تلك اللحظة يقوم بذلك الواجب العملي واجب الحصول على أفكار واضحة، وقال عن نفسه : "إنه سيتحدث من حين إلى حين عما يهم الجنس البشري، فيبحث عن الصالح وغير الصالح، والعادل وغير العادل، وما يتفق مع العقل وما لا يتفق معه، وعما يعد شجاعة وما يعد جبناً، وعن ماهية الحكومة التي تسيطر على الناس، وعن صفات الرجل البارع في حكمهم، ثم يستطرد إلى موضوعات أخرى... يرى أن من يجهلونها يعدون بحق في طبقة العبيد". وكان إذا صادف فكرة غامضة، أو تعميماً هيناً غير قائم على الحقائق، أو هوى خامرَ المتحدث إليه على غير علم منه، تحدى محدثه بقوله: "ما هو؟" ثم سأله أن يحدد ما يقول تحديداً دقيقاً.

    وأصبح من عادته أن يصحو مبكراً، ويذهب إلى السوق العامة، أو ساحات الألعاب أو مدارسها أو إلى حوانيت الصناع، ويأخذ في مجادلة أي إنسان يتوسم فيه الذكاء الحافز أو الغباء المسلي، وكان يسأل: "ألم يعمل الطريق إلى أثينة لكي يتحدث الناس فيه"، وكانت الطريقة التي يتبعها سهلة خالية من التعقيد : كان يطلب إلى من يحدثه أن يعرف فكرة عامة شاملة، ثم يبحث هذا التعريف ليكشف في العادة عما فيه من نقص، أو تناقض، أو سخف وبطلان، ثم يستدرج محدثة بأسئلته المتعاقبة إلى تعريف أتم وأصح لا يقوله هو أبداً. وكان ينتقل أحياناً إلى فكرة عامة أو عرض فكرة أخرى جديدة ببحث سلسلة طويلة من الحالات المفردة الخاصة مكنته من أن يدخل قدراً من طريقة الاستقراء في المنطق اليوناني، وكان في بعض الأحيان يكشف بطريقة التهكم السقراطي المشهور عن النتائج المضحكة السخيفة التي تترتب على التعريف أو الرأي الذي يريد أن يهدمه. وكان مولعاً بالتفكير المنظم شغوفاً به، يحب أن يصنف الأشياء المفردة حسب جنسها، ونوعها، وما بينها من فوارق معينة، وبذلك مهد السبيل إلى طريقة أرسطاطاليس في التعريف، وإلى نظرية أفلاطون في الأفكار. وكان يصف الجدل بأنه فن التمييز بين الأشياء بعناية، وأنار دياجير المنطق المظلمة بفكاهته التي قدر عليها ألا يطول أجلها في تاريخ الفلسفة.

    وكان معارضوه يعيبون عليه أنه يهدم ولا يبني، وأنه يرفض كل جواب ولا يجيب هو بشيء من عنده، وأنه بهذا أفسد الأخلاق وشل التفكير، وأنه في كثير من الحالات ترك الفكرة التي أراد أن يوضحها وهي أكثر غموضاً من ذي قبل وكان إذا حاول شخص حازم مثل أقريتياس Critias أن يسأله حوّل جوابه إلى سؤال آخر فأصبحت له من فوره ميزة على سائله. نعم إنـا نراه في البروتاغوراس يعرض أن يجيب على الأسئلة لا أن يسأل، ولكن هذه النية الطيبة لا تدوم إلا لحظة قصيرة، وعندئذ ينسحب بروتاغوراس، وهو الذي تمرس في المنطق من زمن طويل، من ميدان الجدل بهدوء. ويستشيط هيبياس غضباً من تملص سقراط وهروبه من الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة، ويرفع عقيرته بقوله: "قسماً بزيوس إنك لن تسمع (جوابي) حتى تعلن أنت ما ترى أنه العدالة، لأنه لا يكفي أن تسخر من الناس، وأن تسأل كل إنسان وتربكه، ثم تأبى أن تفصح عن سبب لأي إنسان، أو أن تعلن عن رأيك في موضوع ما". وقد أجاب سقراط عن هذا التقريع وأمثاله بقوله إنه ليس إلا قابلة كأمه، "إن اللوم الذي يوجه إليّ كثيراً، وهو أني أسأل الناس أسئلة وأن ليس لدي من العقل ما أستطيع به أن أجيب عنها، لوم عادل لا اعتراض لي عليه، وسببه أن اللّه قد أرغمني على أن أكون قابلة، ونهاني عن أن ألد". وذلك لعمري هروب واضح ما أخلقه بصديقه يوربديز.

    وهو يشبه السوفسطائيين من وجوه كثيرة، ولم يكن الأثينيون يترددون في أن يطلقوا عليه هذا الاسم، على أنهم لم يكونوا يقصدون بهذا أن يعيبوه أو ينقصوا من قدره. والحق أنه كان سوفسطائياً بالمعنى الحديث لهذا اللفظ أي كان بارعاً في المراوغات الماكرة، والحيل الجدلية، يبدل مجال الألفاظ أو معانيها بحذق ودهاء، ويغرق المسألة التي يجادل فيها بالتشبيهات والاستعارات المفككة، ويماحك ويغالط كما يغالط صبيان المدارس، ويحارب بالألفاظ حرب الأبطال ولكن إلى غير غاية. وقد يعفو الإنسان عمن جرعوه السم لأنا لا نرى أن ثمة آفة شراً من المنطقي العارف بقوة منطقه. وكان يختلف عن السوفسطائيين في أربعة أمور : كان يكره البلاغة، وكان يرغب في تقوية الأخلاق، ولم يكن يدعي أنه يعلم أكثر من فن بحث الأفكار، وكان يأبى أن يأخذ أجراً على تعليمه - وإن كان يبدو أنه قبل في بعض الأحيان عوناً من بعض الأغنياء من أصدقائه. وكان تلاميذه يحبونه أشد الحب رغم عيوبه التي كانت تضايقهم، وقد قال مرة لواحد منهم : "ربما استطعت أن أساعدك في السعي لنيل الشرف والفضيلة، لأن كلامنا يميل إلى حب صاحبه، وأنا إذا أحببت الناس من كل قلبي وبادلوني هم حبهم من كل قلوبهم، يسوءني غيابهم عني كما يسوءهم غيابي عنهم. وأتوق لصحبتهم كما يتوقون لصحبتي".

    ويمثل أرسطوفان في رواية السحب تلاميذ سقراط بأنهم قد أنشأوا مدرسة ذات مكان معين يجتمعون فيه، وفي أكسانوفون فقرة تؤيد هذه الفكرة بعض التأييد، ولكنه يصور لنا عادة بأنه يعلم في أي مكان يجد فيه من يعلمه، أو من يستمع إليه، غير أننا لا نجد عقيدة خاصة أو مبدأ خاصاً يجمع علينا أتباعه، فقد كانوا يختلفون فيما بينهم اختلافاً بلغ من شدته أن أصبحوا زعماء لأشد المدارس اختلافاً في بلاد اليونان - الأفلاطونية، والكلبية، والرواقية والأبيقورية، والتشككية. فكان منهم أنتستان Antisthenes الفخور الذليل الذي أخذ عن أستاذه مبدأ البساطة في الحياة وحاجاتها، وأسس المدرسة الكلبية. ولعله كان حاضراً حين قال سقراط لأنتيفون : "يبدو أنك تظن أن السعادة في الترف والإسراف، أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن في حاجة إلى شيء كنت شبيهاً بالآلهة، وأنك إذا أقللت من حاجاتك قدر استطاعتك أصبحت أقرب ما تكون إلى الآلهة". وكان منهم أيضاً أرستبوس الذي بنى على اعتراف سقراط بأن "في اللذة خيراً" العقيدة التي نشرها بعدئذ في قوريني Cyrene والتي دعا إليها أبيقور أثينة فيما بعد. ومنهم إقليدس الميغاري الذي جعل من الجدلية السقراطية تشككية تنكر المقدرة على كل معرفة حقة. وكان منهم الشاب فيدون الذي كان قد انحط إلى طبقة العبيد ثم افتداه قريطون Crito بإيعاز سقراط، وأحب سقراط هذا الشاب و "جعله فيلسوفاً". وكان منهم أكسانوفون القلق المضطرب الذي تخلى عن الفلسفة ليكون جندياً، ولكنه أثبت أن "لا شيء أعظم نفعاً من صحبة سقراط، والتحدث إليه في أية مناسبة وفي أي موضوع مهما يكن شأنه". ومنهم أفلاطون الذي تأثر خياله القوي بالفيلسوف الحكيم تأثراً لم يفارقه طول حياته حتى امتزج العقلان وصارا في تاريخ الفلسفة عقلاً واحداً. ومنهم أقريطون الثري، الذي كان يهيم حباً بسقراط، والذي كان يحرص أشد الحرص على ألا يكون الفيلسوف الكبير في حاجة إلى شيء ما".
    وكان منهم الزعيم الألجركي كرتياس الذي كان يستمتع بتهكم سقراط على الديمقراطية والذي كانت له يد في إدانته بأن كتب مسرحية وصف فيها الآلهة بأنها من ابتداع مهرة الصناع الذين يستخدمونها كما يستخدم خفراء الليل ليرهبوا بها الناس ويرغموهم على حسن الأدب. وكان منهم أيضاً ابن الزعيم الدمقراطي أنيتوس Anytus وهو شاب آثر أن يستمع إلى حديث سقراط عن العناية بعمله وهو الاتجار في الجلود. وشكا أنيتوس من أن سقراط قد أفسد عقل الغلام بما بث فيه من تشكك، فلم يعد يبجل أبويه أو يعظم الآلهة؛ هذا إلى أن أنيتوس كان يشمئز من نقد سقراط للديمقراطية ويقول : "أي سقراط! إني أظنك مفرطاً في استعدادك لأن تتحدث بالشر عن الناس، فإذا قبلت نصحي أشرت عليك أن تصطنع الحذر، ولعله لا توجد قط مدينة ليس إيذاء الناس فيها أيسر من عمل الخير لهم، وتلك بلا شك حال أثينة نفسها" وأخذ أنيتوس يتربص به الدوائر.

    فلسفة سقراط
    وكان من وراء هذه الطريقة فلسفة مراوغة، تجريبية، تجري على غير نظام، ولكنها فلسفة بلغ من جديتها وحقيقتها أن مات الرجل في واقع الأمر من أجلها. وقد يبدو لأول وهلة أن ليست هناك فلسفة سقراطية، ولكن أكبر السبب في هذا أن سقراط قبل نزعة بروتاغوراس النسبية فرفض النزعة التحكمية ولم يكن واثقاً إلا من جهله.
    وقد حكم على سقراط لأنه لا يؤمن بالدين، ولكنه مع هذا كان يعبد آلهة المدينة بلسانه إن لم يعبدها بقلبه، ويشترك في احتفالاتها الدينية، ولم يعرف عنه أنه نطق مرة بكلمة تدل على عدم تقواه. وكان يعترف بأنه يتبع في جميع قراراته الهامة السلبية روحاً Diamonion داخلياً كان يصفه بأنه إشارة من السماء، ومن يدري فلعل هذا الروح كان هو الآخر سخرية من سخريات سقراط وتهكماته، فإن كان كذلك فإن سقراط لم يكن ينفك يؤكد دعواه هذه تأكيداً عجيباً، ولم تكن هذه الدعوى إلا مثلاً من أمثلة عدة لالتجاء سقراط إلى النبوءات والأحلام وقوله إنها وحي من عند الآلهة. وكان يقول إن في الكون من الأمثلة الدالة على التناسق المدهش العجيب، ومن الخطة الواضحة المرسومة، ما لا يصح معه أن يعزى وجود العالم إلى الصدفة المحضة أو إلى أية علة غير عاقلة، أما الخلود فلم يكن واثقاً منه مثل هذه الثقة أو قاطعاً في أمره هذا القطع، فهو يستمسك به ويدافع عنه في الفيدون Phaedo أما في الأبولوجيا Apology فهو يقول : "إذا جاز لي أن أدعي بأني أكثر حكمة من غيري فسبب ذلك أني لا أعتقد أن عندي كثيراً من العلم بالدار الآخرة، وأنا في واقع الأمر لا علم لي بها على الإطلاق". ويطبق هذه النزعة اللا أدرية نفسها على الآلهة في كتابه الكراتلس فيقول : "أما الآلهة فلسنا نعرف عنها شيئاً". وكان ينصح أتباعه بألا يجادلوا في مثل هذه الأمور، يسألهم كما يسأل كنفوشيوس أتباعه هل عرفوا شئون البشر حق المعرفة فأصبحوا بعدئذ على استعداد لأن يتدخلوا في شئون السماء؟ وكان يحس أن خير ما نفعله في هذه الناحية أن نقر بجهلنا، وأن نطيع في الوقت نفسه وحي دلفي حين سئل كيف يعبد الإنسان الآلهة فأجاب : "حسب قانون بلادكم".

    وكان يطبق هذا التشكك نفسه تطبيقاً أشد من هذا صراحة في العلوم الطبيعية فيقول إن من واجب الإنسان ألا يزيد في دراستها على القدر الذي يهتدي به في حياته، أما فيما عدا هذا فإن هذه العلوم بيداء يضل فيها العقل، يكشف كل لغز غامض فيها حين يحل عن لغز آخر أشد منه غموضاً. وكان في شبابه قد درس العلوم الطبيعية مع أركلوس Archelaus، فلما كبر ونضج عقله تركها وهو يعتقد أنها أسطورة خداعة إلى حد ما، ولم يعد يهتم بالحقائق أو بأصول الأشياء بل وجه اهتمامه إلى القيم والغايات. وفي ذلك يقول أكسانوفون "إنه كان على الدوام يتحدث في البشرية. وكان السوفسطائيون أيضاً قد حولوا اهتمامهم من العلوم الطبيعية إلى الإنسان، وبدءوا يدرسون الإحساس، والإدراك والمعرفة، ولكن سقراط تعمق أكثر من هذا في داخل الإنسان وأخذ يدرس الأخلاق والأغراض البشرية : "قل لي يا يوثيديموس، هل ذهبت في حياتك إلى دلفي؟". " وهل لاحظت ما هو مكتوب على جدار الهيكل- أعرف نفسك ؟" "نعم لاحظته". "وهل لم تفكر في هذه الكتابة، أو هل عنيت بها، وحاولت أن تفحص عن نفسك وتعرف عن يقين حقيقة أخلاقك؟".

    فلم تكن الفلسفة إذن عند سقراط هي الدين، أو ما وراء الطبيعة، أو الطبيعة نفسها، بل كانت علم الأخلاق والسياسة، مدخلها والوسيلة إليها المنطق، وإذ كان قد عاش في ختام عصر السوفسطائيين فقد أدرك أن هذه الطائفة قد أوجدت حالة من أشد الحالات خطورة في تاريخ أية ثقافة من الثقافات وتلك هي إضعاف أحد الأسس التي تقوم عليها الأخلاق ونعني به خوارق الطبيعة. وبعد أن أدرك هذا لم يعد خائفاً مرتاعاً إلى الإيمان بالدين بل سلك السبيل إلى أعمق الأسئلة في علم الأخلاق : هل يستطاع وجود علم للأخلاق قائم على أساس من الطبيعة ؟ أي هل يمكن أن تبقى الأخلاق من غير الاعتقاد بخوارق الطبيعة ؟ وهل في مقدور الفلسفة إذا صاغت قانوناً قوياً أخلاقياً دنيوياً غير ديني أن تنقذ الحضارة التي تهددها حريتها الفكرية بالانهيار والزوال ؟ وحين يقول سقراط في الأوطيفرون أن ليس الخير خيراً لأن الآلهة ترضى عنه، بل إن الآلهة ترضى عن الخير لأنه خير، حين يقول هذا يعرض في واقع الأمر ثورة فلسفته. ولم تكن فكرته عن الخير فكرة دينية، بل كانت فكرة دنيوية إلى حد يجعلها نفعية. فهو يرى أن الصلاح ليس فكرة عامة مجردة، ولكنها فكرة خاصة عملية فالصالح صالح لشيء ما"، والصلاح والجمال شكلان من أشكال المنفعة والفائدة البشرية، وحتى السلة من الروث تكون جميلة إذا أحسن إعدادها للغرض الذي تؤديه. وإذ لم يكن ثمة (في رأي سقراط) شيء غير المعرفة يعادلها في نفعها، فإن المعرفة هي أسمى الفضائل والرذيلة جميعها هي الجهل، وإن كان المقصود بالفضيلة (Arete) هنا هو التفوق لا البراءة من الذنوب. والعمل الصالح غير مستطاع بغير المعرفة الحقة، وبالمعرفة الحقة يكون العمل الصالح أمراً محتوماً لا مفر منه، والناس لا يفعلون قط ما يعرفون أنه خطأ- أي مضاد للعقل، ضار بهم. وأسمى أنواع الخير السعادة، وخير سبيل للوصول إليها هي سبيل المعرفة أو الذكاء.

    ويقول سقراط إنه إذا كانت المعرفة هي أسمى الفضائل كانت الأرستقراطية خير أشكال الحكم، وكانت الديمقراطية سخفاً وعبثاً. وفي ذلك يقول أكسانوفون على لسان سقراط : "من السخف أن نختار الحكام بالقرعة على حين أن أحداً لا يفكر قط في أن يختار بالقرعة مرشد السفن أو البناء أو النافخ في الناي، أو أي صانع على الإطلاق، مع أن عيوب هؤلاء أقل ضرراً من عيوب أولئك الذين يفسدون حكوماتنا". وهو يعيب على الأثينيين حبهم للتقاضي، وتحاسدهم الصاخب، ومرارة أحقادهم ومنازعاتهم السياسية، ويقول في ذلك : "ولهذه الأسباب تراني على الدوام أخشى أشد خشية أن يحل بالدولة شر تنوء به وتعجز عن تحمله". وكان يظن أن لا شيء ينجي أثينة إلا حكم أصحاب المعرفة والكفاية، وليست السبيل إلى هذا الحكم هي الاقتراع، كما أن الاقتراع لا يصلح سبيلاً لتقدير كفاية مرشد السفن أو الموسيقى أو الطبي أو النجار. كذلك يجب ألا يختار موظفو الدولة على أساس جاههم أو ثرائهم، ذلك أن الاستبداد وسلطان المال لا يقل شرهما عن شر الديمقراطية. والسبيل الوسطى المعقولة هي النظام الأرستقراطي الذي تقصر فيه المناصب على الذين تؤهلهم لها عقولهم والذين يدربون على القيام بما تتطلبه من الواجبات. على أن سقراط كان يعترف بما للديمقراطية الأثينية من مزايا رغم ما يوجهه إليها من نقد، ويقدر ما أسدته إليه من حريات وما أتاحته له من فرص. وكان يبتسم ساخراً من ميل بعض أتباعه للدعوة إلى "العودة إلى الطبيعة"، وقد وقف من أنستانس ومن الكلبيين نفس الموقف الذي وقفه فلتير من روسو فيما بعد- وهو أن الحضارة، رغم عيوبها الكثيرة، كنز ثمين لا يصح أن تتخلى عنه لتستبدل به البساطة الأولية.

    ومع هذا كله فقد كان الأثينيون ينظرون إليه نظرة الريبة والسخط، فأما المتمسكون منهم بالدين فقد كانوا يرونه أشد السوفسطائيين خطورة، لأنه وإن راعى ما في الدين القديم من أسباب المتعة والمسرة، رفض التقاليد المرعية، وأراد أن يخضع كل قاعدة من قواعده إلى حكم العقل بعد تقص وفحص، وأن يقيم قواعد الأخلاق على أساس ضمير الأفراد لا على أساس خير المجتمع أو أوامر الآلهة، وانتهى به الأمر إلى تشكك ترك العقل في حال من الاضطراب زعزعت كيان كل عادة وكل عقيدة. وكان الذين يمجدون الأيام الخوالي أمثال أرسطوفان يعزون إليه كما يعزون إلى بروتاغوراس ويوربديز زعزعة أركان الدين، وقلة احترام الصغار للكبار، والانحلال الخلقي عند الطبقات المتعلمة، وفوضى العزوبة التي كانت تقوض أركان الحياة الأثينية. ولقد كان الكثيرون من زعماء الحزب الألجركي من تلاميذ سقراط أو من أصدقائه، وإن كان هو نفسه قد أبى أن يؤيد هذا الحزب، ولما أن قام رجل منهم يدعى أقريتياس وقاد الألجركيين في ثورة بسطوا خلالها عهداً من الإرهاب الوحشي، اتهم الديمقراطيون أمثال أنيتوس، وملاتوس سقراط بأنه العقل المحرك للرجعية الألجركية، وأجمعوا أمرهم على إبعاده عن مجرى الحياة الأثينية.
    وأفلحوا فيما أجمعوا أمرهم عليه، ولكنهم لم يفلحوا في القضاء على ما كان من نفوذ لا حد لقوته. ذلك أن الطريقة الجدلية التي تلقاها عن زينون انتقلت منه عن طريق أفلاطون إلى أرسطاطاليس فحولها هذا إلى نظام منطقي بلغ من الكمال درجة استطاعت بها أن تبقى دون أن يطرأ عليها تغيير ما تسعة عشر قرناً كاملة. أما العلم فقد كان له فيه أثر ضار، ذلك أنه حول الطلاب من البحث في العلوم الطبيعية، كما أن نظرية الغرض الخارجي لم تكن من العوامل المشجعة للتحليل العلمي. وربما كان لنزعة سقراط الفردية والذهنية في علم الأخلاق بعض الأثر فيما أصاب الأخلاق في أثينة من انحلال، ولكن رفعها من شأن الضمير، وقولها إنه أعلى من القانون، أصبحا من العقائد الجوهرية في الديانة المسيحية. وقد انتقل الكثير من آرائه على أيدي تلاميذه فأصبح مادة جميع الفلسفات الكبرى في القرنين التاليين. وكان أقوى أسباب نفوذه هو المثل الذي ضربه للناس بحياته وأخلاقه، فلقد أضحى في التاريخ اليوناني شهيداً وقديساً، حتى لقد كان كل جيل يبحث عن مثل أعلى للحياة البسيطة والتفكير الجريء يعود إلى الماضي ليستمد من ذكرى سقراط غذاء لمثله العليا. وفي ذلك يقول أكسانوفون : "كلما فكرت في حكمة الرجل ونبل أخلاقه رأيت أن ليس في مقدوري أن أنساه أبداً، أو أن أحاجز نفسي عن الثناء عليه حين أذكره، وإذا كان من بين أولئك الذين جعلوا الفضيلة غايتهم لإنسان قد اتصل بشخص أكثر معونة له في هذا الغرض النبيل من سقراط، فإني أرى أن هذا الرجل خليق بأن يعد أسعد الناس على الإطلاق".

    To be or not to be
    That is the question
  خمسمائة قاض وقاض جلسوا ، الواحد بجانب الاخر ، على المدرج ذي المقاعد الخشبية المغطاه بالحصر ، وفي مواجهتهم ، رئيس المحكمة محاطاً بكاتبه والحرس . وفي اسفل المدرج وضع الصندوق الذي سيضع فيه القضاه احكامهم بعد انتهاء المحاكمة . الجلسة علنيه . ولا يسمح فيها لغير الرجال بالحضور . اما الطقس ، فقد كان جميلاً ، مما ادخل الارتياح الى نفوس الجميع وجعلهم يأملون بجلسة كاملة لا يربك مجراها مطر يهطل على الرؤوس او برد يعطل تواصل الافكار . واذا بدا لنا ان انعقاد محكمة في الهواء الطلق امر مستغرب بل وطريف ، اليوم ، فلنتذكر اننا في اثينا ، في صباح من اصبحة ربيع عام 399 قبل الميلاد .

    اثينا هذه التي قدمت الديمقراطية للعالم ، تعيش فترة عصيبة ، لقد هزمتها سبارطة في حرب دامت بينهما سبعاً وعشرين سنة ، وفرضت عليها شروطاً قاسية . منها نظام "الثلاثين مستبداً " بقيادة احد ابنائها ، كرينياس ، الذي تخلص منه الاثنيون منذ وقت ليس ببعيد . في هذا الجو من القنوط الوطني . كثرت الاحقاد وتعددت حوادث تصفية الحسابات لكن العدالة ظلت تعمل والقضاة في اثينا ، وعددهم ستة الاف ، مواطنون متطوعون يجري اخبارهم سنوياً بشكل عشوائي . وهم يوزعون ، بعد الاختيار، في اثنتي عشرة محكمة في كل واحدة منها خمسمائة قاض وقاض .

    متهم اليوم شيخ ذو لحية بيضاء وثياب رثة . انه ابن النحات سوفرونيسك والقابلة فيلا ريت وهو الملقب بسقراط . لكن ما هي التهمة التي سيحاكم اليوم على اساسها؟ لقد اتهمه احد المواطنين ، ويدعى مليتوس ، بالكفر بالالهه وبادخال شياطين جديدة الى المدينة وافساد الشبيبة . وهي تهمة تستحق عقوبة الموت . ومن هو سقراط هذا ؟ انه رجل بلغ السبعين من عمره ، قبيح المنظر بعينية الجاحظين وانفعه الافطس ووجهة الممتلئ ناهيك عن ثيابه المهملة والمكونة من معطف صوفي لا ازرار له ولا حزام . وفوق كل ذلك ، فأنه لا يمشي الا حافي القدمين ، في الصيف كما في الشتاء . ولد سقراط في اثينا عام 469 ق .م في عائلة تعمل في النحت وعبثاً حاول ابواه تعليمه المهنة . كان لا يميل الا للحوار ومناقشة الاخرين حول مختلف المواضيع داعياً اياهم الى التفكير معه والتأمل . كان يجوب المدينة يتحدث الى المار ويستوقف الشباب يفقههم في امور الوجود وجوانب الحياة . واثينا في ذلك العصر من الديمقراطية ، كانت تعج بالفلاسفة ورجال السياسة والاخلاق يسعى الناس اليهم عنهم اصول الفكر وكان هؤلاء يتقاضون عن تعليمهم اتعاباً باهظة في معظم الاحيان . اما سقراط فكان يرفض بيع فكره كان يعتبر ان الفلسفة ممارسة عضوية ويومية ، وانها وبالتالي ، نمط حياة . وغنى عن القول ان سقراط لم يكن مواطناً اثينيا كالاخرين . فهو لم يأبه لماديات الدنيا على لارغم من زواجة وانجابه ثلاثه اولاد بل كان دائم الزهد في ما يشغل الناس . وهذا ما جعله غامضاً ، بل وموضع سخرية في الكثير من الاحيان . غير ان سقراط لم يعدم وسيلة لتوضيح حقيقة أمره كان يرد على مسامع محاوريه ان حقيقة الهية تدفعه للتصرف وان هذه الحقيقة يمكن ان لا تكون سوى ضميره القابع في اعماق نفسه . تلك المشاعر وهذه الافكار هي التي لم ترق للبعض ، وهي التي اوصلته لان يمثل اليوم امام المحكمة ، باعتبار انه " يفسد الشبيبة ولا يؤمن بالهة المدينة " .

    في بدء الجلسة ، ولم يكن في نظام المحاكمات انذاك ما يسمى اليوم بالادعاء العام ، وقف المدعي الاول مليتوس يتكلم عن مفاسد سقراط في المجتمع . واعقبه مدعيان اخران ليكون وانيتوس وكلهم طلبوا الحكم بالاعدام على " العجوز الشرير " . ولانيتوس هذا مبرر اخر للادعاء على سقراط فقد كان ابنه تلميذا من تلاميذ الفيلسوف و " مضللاً به " وهذا ما يفسر انشغاله عن صنعه ابيه وهي الاتجار بالجلود . يضاف الى ذلك ان سقراط تهكم عليه مرة امام الناس خلال مناقشة ظهر فيها الجاهل وحديث النعمة على قدر كبير من السخف . ومن سوء طالع العجوز ايضاً ، ان كريتياس ، المستبد الدموي والعميل لسبارطة ، كان من بين تلاميذه ، في فترة من فترات حياته . اتخاذه كريتياس واخرين غيره ممقوتين في مجتمعهم تلامذه له هو من قبيل انفتاحة على الجميع ودون النظر الى ارائهم الساسية والفلسفة او الى نمط الحياة التي يعيشون . واذا توخينا الاختصار ، قلنا ان سقراط ، بأفكاره ومناقشاته ، بدأ يصبح شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فقط ، بل للاباء الذين راى بعضهم ابناءه يخرجون عن طاعته ويلحقون بالمعلم.

    بعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم ، جاء دور المتهم . ومن اجراءات المحاكمة الاثينية في ذلك العصر ان يتولى المتهم شخصياً الدفاع عن نفسه . واذا كان غير قادر ، فان محترفاً يقوم بتلقينه الدفاع وتحفيظه اياه عن ظهر قلب . يجب ان يستغرق الوقت الذي استغرقه الادعاء لا اكثر . بدأ سقراط دفاعه برد التهم ومن ثم ، بالانتقال الى الهجوم ، قال ان من يدعي العلم ، من بين كل من ناقشت وحاورت ، وانما هم جهلة ولا يفقهون من العلم شيئاً والحقيقة هي اني أعلم الناس . ذلك لان الناس يعتقدون انهم يعرفون شيئاً وهم ، في الواقع ، لايعرفون اي شئ . اما انا فأني اعرف اني لا اعرف . وانتهى سقراط بتحذير القضاه من الحكم عليه بالموت . وأن فعلوا فانهم لن يجدوا مثله وسيغرقهم الاله والاثنيين في سبات ابدي . أما اذا لم يفعلوا فسيعود الى نشر افكاره كما فعل دائماً وكما اوحى له ضميره . لم يستدر سقراط عطف القضاه كما يفعل عادة المتهمون الماثلون امام مثل هذه المحكمة . لقد قال ما قاله وجلس دون اي انفعال . اما القضاه ، فقد بدأوا ينزلون المدرج ليضع كل واحد منهم حكمه في الصندوق . هذا الاقتراع هو أولي . انه ينحصر في تقرير تجريم او عدم تجريم المتهم .

    قضت نتيجة التصويت بتجريم سقراط بفارق بسيط في الاصوات : 281 صوتاً ضد 220 . ويقتضى القانون الاثيني ، في هذه الحال ، ان يعين المتهم نفسه العقوبة التي يراها ، هو مناسبة . وقف سقراط وأعلن انه يسره ان تتعهده البريتانية ! وتعالى الصخب وصياح الاستنكار من الحضور الذين رأوا في كلامه تهكماً وسخرية من هيئة المحكمة ومن كل الموجودين . ذلك لان البريتانية مؤسسة اثينية تتعهد عظام الرجال وتتولى تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم .

    ما أن سمع القضاة كلام سقراط ، حتى قرروا ان يصتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها . نزلوا ثانية الى حيث الصندوق وصوتوا على ان يكون الحكم بالاعدام هو الجزاء الذي يجب ان يناله سقراط وذلك بأغلبية كبيرة . لقد اوقع الرجل نفسه في التهلكة بعد ان كان يمكنه ان ينقذها بتصرف اخر اكد للجميع انه يسعى للموت بكل رغبة وحماس .

    مضى شهر على صدور الحكم . اما طريقة للتنفيذ فهي الاسهل من بين لائحة لا يخلو بعض بنودها من العنف : تجرع كمية من سم يحضر خصيصاً للمناسبة . خلال هذا الشهر . جاءه كريتون ، احد تلامذته المخلصين ، عرض عليه ان يقبل الهرب من السجن ، بعد ان يتدبر كريتون امر رشوة الحراس ، فرفض سقراط قائلاً بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت هذه القوانين جائزة .

    هذا الشهر الذي فصل بين صدور الحكم وتنفيذه ، امضاه سقراط بهدوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء . اما لماذا ابقي شهراً كاملاً ينتظر مصيره ، فهذا يعود الى ان تنفيذ احكام الاعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية انذاك الا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس .
    وفي اليوم التالي لهذه العودة ، تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته . وما ان رأته والحراس يفكون اصفاده تمهيداً للاعدام ، حتى اجهشت بالبكاء ونتفت شعرها ومزقت ثيابها:
    - اه يا زوجي ! هذه اخر مرة تتكلم واخر مرة ترى فيها اصدقاءك ! .. تأثر سقراط وطلب اليها ان تذهب . ثم التفت نحو اصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش واياهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح .... وبينما هو كذلك ، اذ بالجلاد يقاطعه :
    - لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، والا يفقد السم مفعوله وللمرة الاولى ينفعل سقراط ويقول للجلاد:
    - لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك .
    وعاد الى التحدث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من اخفاء اعجابهم ودهشتهم . لقد استطاع هذا الانسان ان ينتصر على غرائزه وعلى مخاوفه . وعندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول :
    - اريد ان اوفر على النساء تنظيف جثة ميت . طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب . ولما خرج سقراط ، اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم . قدمه اليه وقال له :
    - سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الاخرون . انت عاقل وتستطيع ان تتحمل قدرك .
    - مرحى لك ! هيا . ماذا علي ان افعل ؟
    - لا شئ سوى خطوات قليلة بعد التجرع . وعندما تشعر بثقل في ساقيك ، عليك ان تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه .
    وتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء . لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم :
    - ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد ان أموت بصمت الخشوع . فتمالكوا مشاعركم .
    وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما اشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له :
    - هل تشعر بشيء؟
    - كلا
    وطفق الجلاد يشرح للحاضرين ان الموت يصل الى القلب بعد تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
    وعندما شعر سقراط بهده البرودة تصل الى بطنه ، اشار الى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف :
    - كريتون ، في ذمتنا ديك لا يسكولاب . ادفع له ثمنه دون نقاش .
    - حاضر يا سيدي . هل تريد شيئاً اخر ؟
    لم يجب سقراط . لقد اغمضت عيناه ...
    " ديك لايسكولاب " انها لا شك عبارة اراد بها سقراط التهكم على اله الطب . لم يوفر سخرياته على الالهة ، حتى وهو على وشك ان يموت ! وما الموت بالنسبة له ؟ اليس هو التحرر ؟ اليس الشفاء من مرض هو الحياة ، كما كان يردد دائماً ؟
    هذه الجمله التي قالها سقراط قبل موته ، والتي تمثل التشاؤم الهادئ والساخر بأبرز معانيه ، كانت عبارة رسالة من اول رجل أعدم في التاريخ بسبب افكاره .


    Accordingly I went to one who had the reputation of wisdom, I went about searching after a man who was wiser than myself; at first among the politicians; then among the philosophers; and found that I had an advantage over them, because I had no conceit of knowledge.
    and observed him - his name I need not mention; he was a
    politician whom I selected for examination - and the result was
    as follows: When I began to talk with him, I could not help
    thinking, that he was not really wise, although he was thought
    wise by many, and still wiser by himself; and thereupon I tried
    to explain to him that he thought himself wise, but was not
    really wise; and the consequence was that he hated me, and
    his enmity was shared by several who were present and heard
    me. So I left him, saying to myself, as I went away: Well,
    although I do not suppose that either of us knows anything
    really beautiful and good, I am better off than he is for he
    knows nothing, and thinks that he knows; I neither know nor
    think that I know. In this latter particular then, I seem to have
    slightly the advantage of him. Then I went to another who had
    still higher pretensions to wisdom, and my conclusion was
    exactly the same

    يتكلم هنا سقراط عن سبب كره الناس وتلفيق الاتهامات له
    فيقول أنه قابل رجال السياسة والشعراء والخطباء والفنانون وتحدث معهم وكانوا جميعاً يعتقدون أنهم يعرفون الكثير ، واكتشف انهم لا يعرفون شيء في الواقع..

    Accordingly,
    I took them some of the most elaborate passages in their own
    writings, and asked what was the meaning of them - thinking
    that they would teach me something. Will you believe me? I
    am almost ashamed to confess the truth, but I must say that
    there is hardly a person present who would not have talked
    better about their poetry than they did themselves. Then I
    knew that not by wisdom do poets write poetry, but by a sort
    of genius and inspiration; they are like diviners or soothsayers
    who also say many fine things, but do not understand the
    meaning of them.
    وكذلك الشعراء حيث يرى انهم ايضا لا علاقة لهم بالحكمة وما يكتبونه مجرد الهام وليس بالضرورة ان يعرفوا معناه أو يستطيعوا شرحه..

    وبهذا وجد أنه أكثر حكمة من رجال السياسة الذين يعتقدون انهم يعرفون كل الأشياء الجيدة والجميلة وهم في الحقيقة لا يعرفون شيئا عنها بينما هو يعرف انه لا يعرفها ويعترف بذلك وبالتالي هو أكثر حكمة منهم ومن الشعراء أيضاً..

    This confounded Socrates, they
    say; this villainous misleader of youth! - and then if somebody
    asks them, Why, what evil does he practice or teach? they do
    not know, and cannot tell; but in order that they may not
    appear to be at a loss, they repeat the ready-made charges
    which are used against all philosophers about teaching things
    up in the clouds and under the earth, and having no gods, and
    making the worse appear the better cause; for they do not like
    to confess that their pretence of knowledge has been detected -
    which is the truth;
    أما الاتهام الموجه له فهو نفس الاتهام الذي يكرره الناس دون فهمه ويحاولون به إخفاء جهلهم وعدم الاعتراف به..

    O men of Athens, is the truth and the
    whole truth; I have concealed nothing, I have dissembled
    nothing. And yet, I know that my plainness of speech makes
    them hate me, and what is their hatred but a proof that I am
    speaking the truth?

    صراحته ومواجهته لهم بالحقيقة جعلتهم يكرهونه وما كرههم إلا دليل على قوله الحقيقة..
    ثم عن افساد عقول الشباب كان هذا الحوار بين سقراط ومتهمه ميليتوس:



    And now, Meletus, I will ask you another question - by Zeus

    I will: Which is better, to live among bad citizens, or among
    good ones? Answer, friend. I say, the question is one which
    may be easily answered. Do not the good do their neighbours
    good, and the bad do them evil?

    Mel: Certainly.

    Soc: And is there any one who would rather be injured than
    benefitted by those who live with him? Answer, my good
    friend, the law requires you to answer - does any one like to
    be injured?

    Mel: Certainly not.

    Soc: And when you accuse me of corrupting and deteriorating When I do harm to my neighbour I must do harm to myself: and therefore I cannot be supposed to injure them intentionally.
    the youth, do you allege that I corrupt them intentionally or
    unintentionally?

    Mel: Intentionally, I say.

    Soc: But you have just admitted that the good do their
    neighbours good and evil do them evil


    Now, is that a truth
    which your superior wisdom has recognized this early in life,
    and am I, at my age, in such darkness and ignorance as not to
    know that if a man with whom I have to live is corrupted by

    me, I am very likely to be harmed by him; and yet I corrupt

    him, and intentionally, too

    حيث قال له إن كنت أعلم أن الحياة مع أشخاص جيدين أفضل من الحياة مع أشخاص سيئين ووجودي معهم سيضرني إن كانوا سيئين وينفعني إن كانوا جيدين فكيف لي أن أقوم بنفسي وعمداً بتخريبهم والعيش معهم بنفس الوقت؟!!
    والنتيجة بالتالي هي إما اني لم أفسدهم أو أني أفسدتهم دون قصد وبالحالتين فأنت كاذب ..
    وبحال كنت أخربهم من حيث لا أدري فلو كنت مهتماً اساسا بتربيهم كما تدعي وطنيتك الكاذبة فكان عليك أن تأتي إلي وتخبرني بشكل شخصي أن ما أفعله خاطئ دون داعي للجوء للمحاكم التي هي مكان للعقاب وليس للتربية..


    سأحاول أن ألخص ما جاء عن سقراط في كتاب قصة الفلسفة لـ وِل دْيورَانت و أتمنى أن أوفق في ذلك:
    من الصعب أن نعرف كيف عاش سقراط, فهو لم يعمل في حياته, ولم يهتم بالغد, و كانت علاقته بزوجته و أولاده سيئة لأنه أهملهم, و كان كسولاً و لا يصلح لشيء في نظرهم. ولم يوفر لعائلته من الغذاء أكثر من الخبز. و لكن رغم هذا فقد أحبته زوجته و لم تتجرأ على رؤيته يموت عندما تجرع السم.
    ما هو سبب تبجيل تلاميذه له؟ ربما لأنه كان رجلاً كما كان فيلسوفاً فقد عرض نفسه للخطر لإنقاذ أحد تلاميذه في أحد المعارك, ولكن لا جدال في أنهم أحبوا فيه اعتداله و حكمته, فقد كان هاوياً للحكمة لا محترفا لها. و له مقولة شهيرة و هي:" لا أعرف سوى شيء واحد وهو أنني لا أعرف شيئاً"
    لقد جاء قبل سقراط فلاسفة كبار بحثوا في طبيعة الأشياء الخارجية عن قوانين و أصول العالم المادي أمثال طاليس و هرقليطس ولقد قال سقراط عن هذه الفلسفة أنها فلسفة حسنة و لكن هناك فلسفة أجدر بالبحث أكثر من هذه الأشجار و الحجارة التي تملأ الطبيعة, وحتى أهم من النجوم و الكواكب, وهي عقل الإنسان. و يرى سقراط أن الحياة من غير بحث و حديث, ليست جديرة بأن يعيش فيها الإنسان.
    لقد عانى البعض من طريقة سقراط في البحث و السؤال و التي كانت بحاجة إلى تعريف و تحديد محكم و تفكير واضح. ومع ذلك فقد قدم إلى الفلسفة جوابين ثابتين لسؤالين تناولا مشكلتين من أكثر مشاكلنا تعقيداً, وهما ما هو معنى الفضيلة؟ وما هي أفضل دولة؟
    إن الإجابة على هذه الأسئلة هي التي دفعت أثينا إلى الحكم على سقراط بالموت, متهمة إياه بالفساد الخلقي. لقد كان لسقراط إيمانه الخاص, فقد آمن بإله واحد, و آمن باعتدال بأن الموت سوف لا يقضي عليه تماماً, لقد أدرك أن هناك شريعة أخلاقية أبدية لا يمكن أن تقوم على دين ضعيف كالدين الذي آمنت به أثينا (تعدد الآلهة) و إذا كان الإنسان يقدر على بناء نظام من الأخلاق مستقل عن المبادئ الدينية, ويطبق على الملحد و القسيس على السواء, عندئذ قد تأتي الديانة و تروح من غير أن تتزعزع الأخلاق, و أود الإشارة هنا إلى التطابق ما بين فكر فرويد و سقراط من ناحية ضرورة عدم بناء الأخلاق على أسس دينية, حيث يتزعزع النظام الأخلاقي بالإيمان أو عدم الإيمان.
    يسخر سقراط من الديمقراطية التي تقودها الجماهير التي تسوقها العاطفة, هذه الحكومة التي تقوم على النقاش الشعبي و تقدير العدد على المعرفة, وهذا الاختيار المتهور و له مقولة مهمة في هذا المجال: هذا الاختيار الذي لا اختيار فيه. و يتساءل سقراط, أليس من الجهل أن يحل العدد محل الحكمة؟
لا جدال في أن إدارة الدولة مسألة تحتاج إلى أفكار أعظم العقول و أحسنها, إذ كيف يمكن إنقاذ مجتمع أو جعله قوياً إلا إذا تولى أمر هذا المجتمع أحكم رجاله و أعقلهم؟
    أليس من سخرية القدر أن الديمقراطية التي انتقدها سقراط هي التي حكمت عليه في النهاية بالموت فقد كان مصيره معلق بهذه الجماهير و لكنه رفض باحتقار أن يناشدها الرحمة, لقد أراد القضاة اطلاق سراحه بينما دعت الجماهير إلى إعدامه, ألم ينكر وجود الآلهة؟ ويل له لأنه علم الناس فوق طاقتهم على التعلم!!
    لقد كان سقراط أول شهيد للفلسفة, و هو أول من دعا إلى حقوق الإنسان, وضرورة حرية الأفكار, و قد سماه ول ديورانت أحكم و اعدل و أفضل جميع الرجال.
    أليس سقراط محق في كثير من الأفكار التي طرحها, حول مسخرة الديمقراطية أو يمكن أن نسميها الديمقراطية المنقوصة, أوليس محقاً بتسمية الجماهير بالغوغاء!! أنا أتفق معه حول هذه النقطة فالجماهير ليست مؤهلة للاختيار و خصوصاً جماهيرنا التي لا تعرف سوى الهتاف بحياة من يقودها و هي قد لا تعرف إلى أين تقاد.
 أتمنى أن أكون قد وفقت بتسليط الضوء على بعض أهم أفكار هذا الفيلسوف و شكراً لكاتب الموضوع لإتاحة الفرصة لمعرفة حياة هذا الفيلسوف و شكراً.


مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..