الصفحات

الثلاثاء، 16 فبراير 2016

بلينا وما تبلى النجومُ الطَّوالِعُ /لبيد بن ربيعة العامري

    سل لبيداً والأغلب العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران"(5) وقد امتد به العمر حتى يقال انه شكا طول الحياة فقال هذا البيت:

                                  ولقد سئمت من الحياة وطولها    =وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
لبيد بن ربيعة العامري:
كانت صحبته للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين وفد مع قومه قبل الفتح الى المدينة واسلم بعد أن شرُف بلقاء المصطفى ونطق الشهادتين بين يديه الكريمتين، وبذلك فهو معدود من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.. وهو شاعر مخضرم عاش اكثر عمره في الجاهلية وامتد به العمر في الإسلام، وهو مصنف في عداد فحول الشعراء ومن أصحاب المعلقات الذين خُلّدت أسماؤهم في ديوان العرب وذلك بتعليق قصائدهم المطولة في الكعبة المشرفة، وفي هذا العمل التكريمي تشريف للشاعر الذي بلغ هذه المرتبة في الشعر.
وفي حياة الشاعر لبيد لمحات تحمل في منعطفاتها اضواء كاشفة لمسيرته الشعرية تدل على نبوغه المبكر في الشعر وأن الشاعرية أصيلة في طبعه.. أما عن اكتشاف شاعريته فيحدثنا تراث الشعر في الجاهلية عن الحادثة التي كشفت معدنه الشعري المتألق، ومضمونها كما وردت في شرح المعلقات العشر(1) كالآتي: أن الربيع بن زياد وهو عبسي كان نديماً للنعمان بن المنذر ومقرباً عنده، فلما جاء وفد العامريين لم يُحسن النعمان استقبال افراد هذا الوفد العامري بسبب مكيدة الربيع لهم لدى الملك فخرجوا غاضبين لجفائه لهم، وعادوا الى رحلهم وقد تركوا لدى ابلهم لبيد بن ربيعة وهو غلام صغير، فلما رآهم يتحدثون فيما بينهم مستائين من استقبال النعمان لمكيدة الربيع لهم. قال لبيد هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غداً حين يقعد الملك، فسألوه مستصغرين لشأنه وماذا عندك لتفعله؟ ثم أعرضوا عنه ليأسهم من أنه قادر على ان يفعل شيئاً لصغر سنه، لما ألح عليهم قال رئيس الوفد: نمتحنه في وصف شجيرة صغيرة ذابلة الأوراق دقيقة الساق فلما أجاد وصفها قالوا: لعل ذلك جاء منه صدفة وظلوا على شكّهم في استطاعته ردّ كرامتهم، فقال كبيرهم: انظروا الى غلامكم فإن رأيتموه نائماً فليس امره بشيء وان رأيتموه ساهراً فهو صاحبكم، فلما رأوه ساهراً علموا انه مؤهل لمواجهة الموقف العصيب، فلما جاء الصباح اعدّوه للمواجهة المرتقبة التي يؤمّل فيها النجاح ويحتمل لها الفشل، فلما ذهبوا الى قصر الملك وجدوه يتغدَّى ومعه الربيع وهو النديم الذي لا يفارقه.. والمجالس مملوءة بالوفود في انتظار الاذن بالدخول على الملك النعمان، لما دخلوا وجدوا خصمهم الربيع بن زياد بجانب الملك، فذكروا حاجتهم فاعترضهم في كلامهم.
@@@
وباعتراض الربيع جاء دور الشاب لبيد لينتقم منه لقومه، وقد برز في مقامه هذا مع انه اول دور له في حياته استطاع من خلاله أن يرفع شأن قومه وأنء يحطّ من قدءر خصمهم مستغلاً الموقف بحسه اليقظ ونظرته الواعية وهو يرى صورة الربيع بن زياد في نظرة النعمان إليه على أنه المفضل لديه المسموع الكلمة عنده الذي يؤاكله ويجلس بجانبه، فأدار في ذهنه هذه الصورة. ليرسم صورة معاكسة لها منفّرة من هذا النديم المقرب جعلت الملك يتقزز من رؤيته و يُبعده عن صحبته.. وقد كان لبيد وهو في ريعان شبابه وفي أول تجربة ميدانية له امام ملك مرموق وحشود كبيرة من وفود العرب:واثقاً من نفسه في هذا الموقف الحاشد، فاستطاع ان يرد كيد عدوهم المقرب من السلطان وأن يعيد لقومه كرامتهم ويستعيد اقبال الملك النعمان عليهم، فرفع شأن قبيلته وحطّ من قدر خصمهم اللدود. حين قام يخاطب النعمان مرتجزاً على البديهة بقوله:
نحن بني أم البنين الأربعة
ونحن خير عامر بن صعصعه
المطعمون الجفنة المدعدعه(2)
والضاربون الهام تحت الخيضعه(3)
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعه
وانه يدخل فيها إصبعه
يدخله حتى يواري أشجعه(4)
كأنما يطلب شيئا أودعه
فلما انتهى لبيد التفت النعمان الى الربيع يرمقه شزراً قائلاً له: كذلك أنت يا ربيع ثم اردف أفٍ لهذا الغلام لقد خبّث عليّ طعامي.. ومضى الربيع الى منزله من وقته خزيان اسفا فأرسل إليه النعمان: إنك لست صانعاً باتقائك مما قاله لبيد شيئاً ولا قادراً على ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك ثم عقّب على ذلك بقول سار مسار الأمثال وهو هذا البيت:
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذبا
فما اعتذارك من قول وقد قيلا
@@@
كان ذلك واقع لبيد في صباه وباكورة عمره ثم انه عظم شأنه واتسعت مداركه وتألّقت شاعريته فأصبح من شعراء المعلقات المرموقين وسار ذكره في الناس وبين القبائل، وذات يوم كان في مكة في مجلس من مجالس قريش يُنشدهم من شعره وكانت له قصة مع الصحابي عثمان بن مظعون احد السابقين الى الاسلام في وقت مبكر من البعثة المحمدية، وكان قد هاجر الى الحبشة حين اشتدّ ايذاء قريش للصحابة ثم عاد منها الى مكة ودخل في جوار الوليد بن المغيرة، ثم انه رأى ان اصحابه المستضعفين الذين ليس جوار يؤذون ويشرَّدون من ديارهم وهو ناعم البال في ظل الوليد، فاستنكف من ذلك وردّ على الوليد جواره قائلاً له: ارضى بجوار الله ولا أريد ان استجير بغيره.. وبعد ذلك حضر عثمان بن مظعون مجلساً من مجالس قريش وفيه الشاعر لبيد بن ربيعة يُنشدهم فلما قال:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال عثمان بن مظعون: صدقت، وعندما قال الشطر الآخر من هذا البيت وهو:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال عثمان كذبت: نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش: والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟.. فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه فارق ديننا فلا تجدنّ في نفسك من قوله، فردّ عليه عثمان بن مظعون واحتدم الجدال بينهما الى حد ان لطم ذلك الرجل عين عثمان فلم يعد يرى بها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما يدور أمامه من نزاع حاد، فقال لعثمان: والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنيّة. لقد كنت في ذمة منيعة، فأجابه: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر فقال له الوليد: هلمّ يا ابن أخي ان شئت فعد الى جواري قال ابن مظعون: لا.. لقد رضي بجوار الله تبارك و تعالى وإنء ناله الكثير من الأذى فذلك امتحان لايمانه والمؤمن ممتحن.. وما أصابه كان بسبب لبيد، ولعل هذه الحادثة ظلّت ماثلة في ذهن لبيد وهو يرى مسلماً يناله الظلم بسببه، وأنه في ظل هذه الصورة القاتمة حين أسلم امتنع عن قول الشعر الذي بدأه ببهتان الربيع بن زياد وهو زوج أمه تعصباً لقومه، وثنّاه باستثارته لقريش ضد عثمان بن مظعون الصحابي الذي فقد عينه بتلك الاستثارة التي هو سببها.
@@@
وقد كان لبيد رضي الله عنه من مشاهير الشعراء في عصره وما بعد عصره وله شعر جميل يتسم بالحكمة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
لا كل شيء ما خلا الله باطل
وجاء في (معجم الشعراء) للمرزباني ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك على المنبر، وإذا ثبتت الروايتان او احداهما فإن في ذلك تشريفاً للبيد.
وذكر الشيخ احمد الأمين الشنقيطي في كتابه: (شرح المعلقات العشر) ضمن ترجمته للشاعر لبيد وهو يشرح معلقته: "أنه أقل الشعراء لغواً في شعره، وحكمه في شعره كثيرة، ولم يصح أنه قال بعد إسلامه إلاّ قوله":
وما عاتب المرءُ الكريم كنفسه    = والمرء يصلحه الجليس الصالح
ومن شعره الذي يتّسم بالحكمة وتصوير الواقع قوله في رثاء أخيه لأمه اربد بن قيس:


بلينا وما تبلى النجومُ الطَّوالِعُ وتَبْقَى الجِبالُ بَعْدَنَا والمَصانِعُ
وقد كنتُ في أكنافِ جارِ مضنّة ٍ ففارقَني جارٌ بأرْبَدَ نافِعُ
فَلا جَزِعٌ إنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنا وكُلُّ فَتى ً يَوْمَاً بهِ الدَّهْرُ فاجِعُ
فَلا أنَا يأتيني طَريفٌ بِفَرْحَة ٍ وَلا أنا مِمّا أحدَثَ الدَّهرُ جازِعُ
ومَا النّاسُ إلاّ كالدّيارِ وأهْلها بِها يَوْمَ حَلُّوها وغَدْواً بَلاقِعُ
ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يحورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ ساطِعُ
ومَا البِرُّ إلاَّ مُضْمَراتٌ منَ التُّقَى وَما المَالُ إلاَّ مُعْمَراتٌ وَدائِعُ
ومَا المالُ والأهْلُونَ إلاَّ وَديعَة ٌ وَلابُدَّ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ
وَيَمْضُون أرْسَالاً ونَخْلُفُ بَعدهم كما ضَمَّ أُخرَى التّالياتِ المُشايِعُ
ومَا الناسُ إلاَّ عاملانِ: فَعامِلٌ يتبِّرُ ما يبني، وآخرُ رافِعُ
فَمِنْهُمْ سَعيدٌ آخِذٌ لنَصِيبِهِ وَمِنْهُمْ شَقيٌّ بالمَعيشَة ِ قانِعُ
أَليْسَ ورائي، إنْ تراخَتْ مَنيّتي، لُزُومُ العَصَا تُحْنَى علَيها الأصابعُ
أخبّرُ أخبارَ القرونِ التي مضتْ أدبٌ كأنّي كُلّما قمتُ راكعُ
فأصبحتُ مثلَ السيفِ غيرَ جفنهُ تَقَادُمُ عَهْدِ القَينِ والنَّصْلُ قاطعُ
فَلا تبعدنْ إنَّ المَنيَة َ موعدٌ عَلَيْكَ فَدَانٍ للطُّلُوعِ وطالِعُ
أعاذلَ ما يُدريكِ، إلاَّ تظنيّاً، إذا ارتحلَ الفتيانُ منْ هوَ راجعُ
تُبَكِّي على إثرِ الشّبابِ الذي مَضَى ألا إنَّ أخدانَ الشّبابِ الرّعارِعُ
أتجزَعُ مِمّا أحدَثَ الدّهرُ بالفَتى وأيُّ كَريمٍ لمْ تُصِبْهُ القَوَارِعُ
لَعَمْرُكَ ما تَدري الضَّوَارِبُ بالحصَى وَلا زاجِراتُ الطّيرِ ما اللّهُ صانِعُ
سَلُوهُنَّ إنْ كَذَّبتموني متى الفتى يذوقُ المنايا أوْ متى الغيثُ واقِعُ
وفي ديوانه أشعار كثيرة لها هذا الطابع الذي ينمّ عن رؤية موضوعية للدنيا وأحداثها وموقف الإنسان منها.
@@@
ولبيد إلى جانب أنه اشتهر بالشعر الجيد والمرتبة المتقدمة بين شعراء عصره كان فارساً شجاعاً سخياً، وقد سكن الكوفة واستقر بها حتى وفاته، وتنسك في عبادته فانقطع عن الشعر تأثماً من قوله، ولما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الى عامله بالكوفة بما نصه: "سل لبيداً والأغلب العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران"(5) وقد امتد به العمر حتى يقال انه شكا طول الحياة فقال هذا البيت:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
وتعددت الروايات حول تحديد عمره واختلفت في سياقاتها، فقد أورد بن حجر العسقلاني في (الاصابة) الروايات الآتية: "قال هشام بن الكلبي وغيره: إنه عاش مائة وثلاثين سنة، وفي حكاية الشعبي مع عبدالملك بن مروان أنه عاش مائة وأربعين، وقال البخاري قال الأُويسي عن مالك: عاش لبيد مائة وستين سنة".. ولاشك أن لبيد بن ربيعة شاعر كبير في الجاهلية وصحابي أوّاب في الإسلام، وأنه عُمّر طويلاً ولم يكن له صوت مسموع في الشعر كما كان في الجاهلية فقد تخلّى عنه لتنسكه ولاتجاهه للقرآن، وبهذا يتبين كيف يصنع الإسلام النفوس ويزكيها.
الهوامش
(1) شرح أحمد الأمين الشنقيطي
(2) المدعدعه: الممتلئة
(3) الخيضعه: الخوذة التي تلبس في الحرب
(4) الأشجع: أصل الأصبع في الراحة
(5) الإصابة

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..