الصفحات

الاثنين، 31 مارس 2014

كتاب لماذا أعدموني ؟   بقلم : سيد قطب

مقدمة الكتاب
نرجو أن لا يتبادر إلى الذهن أن هذه الوثيقة التي كتبها شهيد الإسلام ( سيد قطب ) كاملة غير
منقوصة .
هذه الوثيقة التي أخذنا لها عنوانا هو ( لماذا أعدموني ؟ ) قد مرت على أيد كثيرة ابتداءا من المحققين وغير المحققين من الذين عذبوا الشهيد ورفاقه، وانتهاء بكبار المسؤولين في الدولة وأذنابهم.

هذه الوثيقة هي ولا شك بخط الشهيد سيد قطب، ولكننا يجب أن نقول بشأن هذه الوثيقة أنها كتبت بطلب من المحققين الذين كانوا يستجوبون الشهيد ورفاقه، ولهذا جاءت وكأنها إجابات لأسئلة محددة أو سؤال واحد عام .

عندما نشرت " المسلمون " هذه الوثيقة على حلقات ابتداءا من عددها الثاني، تباينت ردود فعل المهتمين بالشهيد سيد قطب، فمنهم من قال أنها مزورة، وأكثرهم جزم بصحتها .

من ناحيتنا نحن فإننا نؤكد أن هذه الوثيقة أو الشهادة وهي الإجابة الكاملة على سؤال المحققين قد وصلتنا بخط يد الشهيد، ونؤكد في نفس الوقت أنها ناقصة غير كاملة، فقد حرص أذناب نظام الطاغية على الاحتفاظ في مكان غير معروف وعند شخص معروف بالجزء الخاص بالتعذيب الذي تعرض له الشهيد سيد قطب ورفاقه، ظنا منهم أن خلوّ الوثيقة أو الشهادة من تلك الصفحات السوداء سيبّض وجوه الطغاة وأذنابهم، الذين لم يتركوا وسيلة عرفوها لتعذيب الشهيد سيد قطب إلا واستعملوها.

ولكن هل نجحوا في التأثير على روح الشهيد وضميره ؟
أبدا ! إنهم تمكنوا من جسده الفاني، أما روحه فلم يقدروا أبدا عليها، ولذلك أعدموه .
نعم .. لذلك أعدموه، بالرغم من النداءات التي وجهت في ذلك الوقت من قادة المسلمين وعلمائهم بعدم اعدامه .

كيف لا يعدموه ؟
أيتركوا جسده شاهدا على وحشيتهم ؟
يقول رفاق الشهيد سيد قطب في السجن قبل إعدامه أنهم عذبوه عذابا شديدا، وشوهوا جسده ووجهه يريدون بذلك الوصول إلى روحه ليتمكنوا منها .
ولكن الله سبحانه وتعالى لم يمكنهم من روحه، وأبلغ دليل على ذلك هو إعدامهم لصاحب ( في ظلال القرآن ) .

هشام ومحمد علي حافظ

تقريــر وبيــان
مقدمة مختصرة
لقد كتبت بياناً مجملاً قبل هذا تنقصه تفصيلات كثيرة، كما تنقصه وقائع وبيانات كثيرة. ولقد أسىء فهم موقفي وتقدير دوافعي في كتابه ذلك البيان على ذلك النحو. وأرجو أن يكون في هذا التقرير الجديد المفصل ما يفي بالمطلوب وما يجعل موقفي مفهوماً على حقيقته.

والله يعلم أنني لم أكن حريصاً على نفسي ولا قصدت تخليص شخصي بذلك الإجمال. ولكنني
ويجب أن أعترف بذلك كنت أحاول أولاً وقبل كل شيء حماية مجموعة من الشباب الذي عمل معي في هذه الحركة بقدر ما أملك لاعتقادي أن هذا الشباب من خيرة من تحمل الأرض في هذا الجيل كله، وأنه ذخيرة للإسلام وللإنسانية حرام أن تبدد وتهدر. وإنني مطالب أمام الله أن أبذل ما أملك لنجاتهم، وإن ذلك البيان المجمل الذي لا يحتوي كل التفاصيل الدقيقة هو كل ما أملكه في الظرف الحاضر للتخفيف عنهم، وقد يشملني هذا التخفيف ضمناً، ولكن الله يعلم أن شخصي لم يكن في حسابي، وقد احتملت المسؤولية كاملة منذ أول كلمة وقلت:

إنه آن أن يقدم إنسان مسلم رأسه ثمناً لإعلان وجود حركة إسلامية وتنظيم غير مصرح به قام أصلاً على أساس أنه قاعدة لإقامة النظام الإسلامي، أياً كانت الوسائل التي سيستخدمها لذلك. وهذا في عرف القوانين الأرضية جريمة تستحق الإعدام!.

ويجب أن أبين في هذه المقدمة القصيرة أن تقديمي ذلك البيان الأول المجمل بهذا القصد هو واجبي كمسلم. فالأسير المسلم لا ينبغي له أن يدل على ما وراءه من جند الإسلام ولا يكشف مقاتل المسلمين وعوراتهم ما أمكنه.

وقد كنت أؤدي واجبي بمفهومي الإسلامي متعاملاً فيه مع الله بغض النظر عن نظرة القوانين والهيئات البشرية.

ولكني الآن وقد بينت أن هذا الشباب قد قرر كل تفاصيل أدواره الخاصة والعامة، وإنني أنا لا أدل عليهم بشيء، فقد ارتفع الحرج عن صدري في ذكر كل التفاصيل، مع محاولة ترتيبها ترتيباً زمنياً بقدر الإمكان. فإذا غاب بعضها عن ذاكرتي فيمكن السؤال عنها وتذكيري بها عن طريق أفوال مجموعة الشباب الخمسة أو غيرهم ممن ورد في أقوالهم شيء عنها. والترتيب الزمني التاريخي هو خير وسيلة تساعدني على التذكر.

ولابد أن أقول للسادة المشرفين على القضية إنني لا أستطيع أن أكتب إلا بطريقتي الخاصة .. طريقة الكاتب الذي زاول الكتابة أربعين سنة بأسلوب معين وطريقة معينة .. فبعض الوقائع لابد من التعليق عليها عند ذكرها وبيان أسبابها ودوافعها والظروف المحيطة بها، وبعضها يمكن ذكره مجرداً بلا تعليق ولا تعقيب. وهذا قد يضايقهم أحياناً لأنهم يريدون فقط سلسلة الحوادث والوقائع والأشخاص.

ولن أذكر على كل حال من التعليقات إلا ما أرى ضرورته وأهميته.

سرد تاريخي لنشاطي في حركة الإخوان المسلمين وبيان للحوادث

سأختصر في بياني هذا النشاط من وقت التحاقي بالجماعة سنة 1953 إلى سنة 1962 لأتوسع فيما بعد ذلك. إذ أن هذه الفترة الأولى ليس فيها بالنسبة لي شيء ذو أهمية، أكثر من أنه تمهيد للفترة التالية. ثم إن أحداثها قد انتهى أمرها فيما عدا حادثاً واحداً شديد الأهمية، ولو ثبت فقد يغير وجه تاريخ العلاقات بين الدولة والإخوان المسلمين، ويغير وضع قضية 1954 وسأذكره في مناسبة في سياق التقرير.

لم أكن أعرف إلا القليل عن الإخوان المسلمين إلى أن سافرت إلى أمريكا في ربيع 1948 في بعثة لوزارة المعارف (كما كان اسمها في ذلك الحين) وقد قتل الشهيد حسن البنا وأنا هناك في عام 1949، ولقد لفت نظري بشدة ما أبدته الصحف الأمريكية. وكذلك الإنجليزية التي كانت تصل إلى أمريكا من اهتمام بالغ بالإخوان ومن شماتة وراحة واضحة في حل جماعتهم وضربها وفي قتل مرشدها، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة وعلى ثقافة الغرب وحضارته فيما، وصدرت كتب بهذا المعنى سنة 1950 أذكر منها كتاباً لجيمس هيوارث دن بعنوان: التيارات السياسية والدينية في مصر الحديثة.. كل هذا لفت نظري إلى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربي .. فيا لوقت ذاته صدر لي كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) سنة 1949 مصدراً بإهداء هذه الجملة: (إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديداً كما بدأ، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم .. الخ) ففهم الإخوان في مصر أنني أعنيهم بهذا الإهداء، ولم يكن الأمر كذلك، ولكنهم من جانبهم تبنوا الكتاب، واعتبروا صاحبه صديقاً، وبدأوا يهتمون بأمره، فلما عدت في نهاية عام 1950 بدأ بعض شبابهم يزورني ويتحدث معي عن الكتاب ولكن لم تكن لهم دار لأن الجماعة كانت لا تزال مصادرة. واستغرقت أنا عام 1951 في صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الأوضاع الملكية القائمة والإقطاع والرأسمالية وأصدرت كتابين في الموضوع غير مئات المقالات في صحف الحزب الوطني الجديد والحزب الاشتراكي ومجلة الدعوة التي أصدرها الأستاذ صالح عشماوي ومجلة الرسالة وكل جريدة أو مجلة قبلت أن تنشر لي، بلا انضمام لحزب أو جماعة معينة وظل الحال كذلك إلى أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952.

ومرة أخرى استغرقت كذلك في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو حتى فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها وحول مسائل أخرى جارية في ذلك الحين لا داعي لتفصيلها.. وفي الوقت نفسه كانت علاقاتي بجماعة الإخوان تتوثق باعتبارها في نظري حقلاً صالحاً للعمل للإسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة إحياء وبعث شاملة، وهي الحركة التي ليس لها في نظري بديل يكافئها للوقوف في وجه المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية التي كنت قد عرفت عنها الكثير وبخاصة في فترة وجودي في أمريكا.

وكانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة انضمامي بالفعل سنة 1953 إلى جماعة الإخوان المسلمين.

ومع ترحيبهم
على وجه الإجمال- بانضمامي إلى جماعتهم إلا أن مجال العمل بالنسبة لي في نظرهم كان في الأمور الثقافية لقسم نشر الدعوة ودرس الثلاثاء والجريدة التي عملت رئيساً لتحريرها وكتابة بعض الرسائل الشهرية للثقافة الإسلامية .. أما الأعمال الحركية كلها فقد ظلت بعيداً عنها.

ثم كانت حوادث 1954 فاعتقلت مع من اعتقلوا في يناير وأفرج عنهم في مارس! ثم اعتقلت بعد حادث المنشية في 26 أكتوبر كذلك، واتهمت بأني في الجهاز السري ورئيس لقسم المنشورات به، ولم يكن شيء من هذا كله صحيحاً!.

وأرجو أن يلاحظ أنني لا أقصد تبرئة نفس من عمل سجنت من أجله عشر سنوات وانتهى أمره ولا قيمة لتبرئة نفسي منه الآن. وإنما هذا جانب منا لصورة التي لها دخل قوي في الوقائع الجديدة وهذه كل أهميتها .. وهنا يجئ ذكر الحادث الوحيد ذي الأهمية بالبالغة في حوادث 1954 الذي أشرت إليه وهو حادث المنشية وما يحيط به. وأرجو أن يفسح السادة المشرفون على قضية اليوم صدورهم لسماع كل التفصيلات والمقدمات التي أحاطت به وسبقته وعندي عنها علم أو استنتاج، وألا يعتبروها متعلقة بقضية تاريخية انتهى أمرها ولا داعي لضياع الوقت في الحديث عنها، فإن لها علاقة قوية جداً بالقضية الجديدة وبكل وقائعها وحوادثها ودوافعها.

في عام 1951 سافر الدكتور أحمد حسين وزير الشؤون الاجتماعية في وزارة الوفد إلى أمريكا، وعاد منها مستقيلاً من الوزارة، ورغم كل الترضيات التي قدمها له النحاس باشا فقد أصر على الاستقالة ثم أخذ بعدها في تكوين (جمعية الفلاح) وفي مقدمة أهدافها تحقيق العدالة الاجتماعية للفلاحين والعمال وبرنامج ضخم حول هذه الأهداف.. وهللت الصحافة الأمريكية للجمعية بصورة كشفت عن طبيعة العلاقة بين الجمعية والسياسة الأمريكية في المنطقة.. ووضعت الهالات الكبيرة حول الشاب الدكتور أحمد حسين وحرمه المتخرجة على ما أذكر من الجامعة الأمريكية 
وانضم إلى هذه الجمعية رجال كثيرون برياسة الشاب الدكتور أحمد حسين مع أنهم أكبر منه شأنا ومقاماً في ذلك الحين، منهم الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية وزارة الوفد والدكتور عبد الرزاق السنهوري وزير المعارف في وزارة السعديين ورئيس مجلس الدولة من قبل وأمثالهم.. وهي ظاهرة تلفت النظر. وكان الشيخ الباقوري ممن انضم إليها، المهم فيما يتعلق بالخلاف بين رجال الثورة والإخوان المسلمين. وكنت في ذلك الوقت ألاحظ نموه عن قرب، لأنني أعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً قريباً من رجال الثورة ومعهم ومع من يحيط بهم.. أقول المهم أن الأستاذ فؤاد جلال (توفي وكان وزيراً في أول وزارة برياسة الرئيس السابق محمد نجيب) كان من بين أعضاء جمعية الفلاح وكان وكيلاً للجمعية. وكنت ألاحظ في مناسبات كثيرة أنه يغذي الخلاف بين رجال الثورة والإخوان المسلمين، ويضخم المخاوف منهم. ويستغل ثقة الرئيس جمال عبد الناصر به، ويبث هذه الأفكار في مناسبات كثيرة لم يكن يخفيها عني لأنه كان يراني كذلك مقرباً من رجال الثورة وموضع ثقتهم مع ترشيحهم لي لبعض المناصب الكبيرة الهامة ومع تشاورنا كذلك على المفتوح في الأحوال الجارية إذ ذاك، مثل مسائل العمال والحركات الشيوعية التخريبية بينهم بل مثل مسألة الانتقال ومدتها والدستور الذي يصدر فيها .. الخ..

المهم أنني كنت أربط بين خطة الأستاذ فؤاد وجمعية الفلاح كمنظمة أمريكية الاتجاه والاتصال وبين إشعال الخلاف بين الثورة والإخوان، وقد حاولت في وقتها ما أمكن منع التصادم الذي كنت المح بوادره، ولكني عجزت، وتغلب الاتجاه الآخر في النهاية.

ولكن ما علاقة هذه المقدمة الطويلة بحادث المنشية؟ والقضية الجديدة؟ منذ أن وقع هذا الحادث وأنا أشك في تدبيره لم أكن أعلم شيئاً يقينياً عن ذلك. ولكن كل الظروف المحيطة كانت تجعلني أشك في أنه ليس طبيعياً. كان شيء ما يلح على تفكيري في أنه مدبر لتكملة الخطة التي تنتهي بالتصادم الضخم بين الثورة والإخوان تحقيقاً لأهداف أجنبية .. ارجح من استقراء الأحوال ومن خطة الأستاذ فؤاد جلال وكيل جمعية الفلاح أنها أمريكية!

وعندما كان السيد صلاح دسوقي يستجوبني هنا في السجن الحربي عام 1954 صارحته برأيي في تدبير الحادث.. وقد انتفض وقتها بشدة وهو يقول لي: هل أنت كذلك بكل ثقافتك من الذين يقولون أنها تمثيلية؟ وقلت له: أنا لا أقول أنها تمثيلية ولكني أقول أنها مدبرة لهدف معين وأن أصبعا أجنبياً ذات دخل فيها.. قال لي وقتها وقد هدأ اضطرابه: جايز! ولكن واحداً من الإخوان المسلمين هو الذي قام بالحادث! ثم أعود لسرد الأحداث المتعلقة بنشاطي بعد عام 1954 أن شعوري وتقديري بأن حادث المنشية مدبر تدبيراً، جعل يملأ نفسي رغبة في معرفة الحقيقة غير أنني لم أجد أحداً ممن التقيت بهم في سجن طره عام 1955 وكانوا كثيرين قبل ترحيلهم إلى الواحات يدلني على هذه الحقيقة .. كل من سألتهم ومنهم ناس قريبون جداً من محمود عبد اللطيف الذي انطلقت الرصاصات من مسدسه ومن هنداوي دوير كذلك قالوا لي: المسالة غامضة وموش عارفين الحكاية دي حصلت ازاي. وبعضهم قال: المسألة فيها سر لا يمكن الآن معرفته .. وكانت كل الأجوبة لا تملك أن تعطيني الحقيقة ..

غير أن هذا كله كان يزيد نفسي شعوراً من ناحية أخرى بأن السياسة المخططة من جانب الصهيونية والصليبية الاستعمارية لتدمير حركة الإخوان المسلمين في المنطقة تحقيقاً لمصالح ومخططات تلك الجهات قد تحققت بنجاح .. وأنه في الوقت ذاته لابد من محاولة الرد على تلك المخططات بإعادة حياة ونشاط الحركة الإسلامية حتى ولو كانت الدولة لسبب أو أكثر لا تريد. فالدولة تخطئ وتصيب!

كما أنها كانت تملأ نفسي شعوراً بالظلم الذي أصاب آلاف الأفراد وآلاف الأسر والبيوت. بناء على حادث واضح جداً تدبيره- حتى ولو لم يعلم بالضبط في ذلك الوقت من دبره- وبناء على الرغبة من حماية النظام القائم من خطر ضخمته أجهزة غريبة الأهداف واضحة كذلك من كتبهم وجرائدهم وتقريراتهم وفي مقدمتها تقرير جونسون عن نهر الأردن. ثم تضخم هذا الشعور وأنا أرى النتائج الواقعية في حياة المجتمع المصري من انتشار هائل للأفكار الإلحادية وللانحلال الأخلاقي نتيجة لتدمير حركة الإخوان المسلمين ووقف نشاطها التربوي. وكأنما كان وجود هذه الجماعة سداً قد انهار وانطلق بعده التيار.

وكنت أسمع عن ذلك كله في السجن، ولما خرجت وجدت أن كل ما سمعت كان دون الحقيقة بكثير لقد تحول المجتمع إلى مستنقع كبير!

إن المسألة أكبر بكثير مما يبسطها الذين ينظرون لما حدث على انه مجرد تطور، أنها تتعلق بالمخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية في تدمير المقومات الأساسية للعناصر البشرية في المنطقة بحيث تصبح هذه الملايين حطاماً منهاراً لا يملك المقاومة حتى لو وضعت في يده أقوى الأسلحة. فالرجال هم الذين يحركون الأسلحة وليست الأسلحة هي التي تحرك الرجال. والمجتمعات حين تنهار عقيدياً وخلقياً تصبح الملايين فيها غثاء لا يقف في وجه التيار.

ويستطيع الإنسان أن يلحظ بسهولة علاقة هذا الانحدار بتدمير حركة الإخوان المسلمين ومنع نشاطها، كما يستطيع أن يربط بين هذا التدمير وبين الخطط الصهيونية والصليبية الاستعمارية بخصوص هذه الجماعة وبخصوص المنطقة بجملتها.

هذه هي رؤيتي للموقف التي انطلق منها التصميم على ضرورة العمل لحركة إسلامية امتداداً لحركة الإخوان المسلمين المصادرة الموقوفة. مع الانتفاع بالتجربة وبالتجارب التي سبقتها.
وفيما بين عام 1955 وعام 1962 كان التفكير في منهج الحركة وطريقة البدء بها ..
وهنا تبدأ مرحلة جديدة ذات وقائع محددة سأذكرها تفصيلاً.

 
ملاحظة:
تذكرت الآن حادثة أخرى تضاف إلى حادث المنشية وظروفها تقع ما بين سنتي 1955، 1957 لذلك سأؤجل مؤقتاً الحديث عن محاولة تكوين حركة في سنة 1962 كما قلت في الفقرة السابقة، حتى اسرد ظروف تلك الحادثة التي تذكرتها ..

مذبحة طرة

إنه بعد كل ما قاساه الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية من اعتقال الألوف منهم، وتعرضهم لألوان من التعذيب الطويل، وسجن المئات منهم وهم حوالي الألف وتخريب بيوتهم، وتشريد أطفالهم ونسائهم الذين لم يشتركوا في أي نشاط دون أية كفالة من الدولة ولا حتى معونة للبيوت التي انقطعت أرزاقها وللأطفال والنساء الأبرياء.

بعد هذا كله رأيت أن هناك محاولات تبذل لخلق ظروف وملابسات يمكن بها إيقاع مذبحة كبرى للمسجونين والمعتقلين تحت ستار كستار حادث المنشية..

حوالي إبريل ومايو 1955 كان الإخوان مقسمين على ثلاثة سجون: ليمان طرة وبه حوالي 400 أو أقل أو أكثر (لا أتذكر) وسجن مصر وبه حوالي هذا العدد. والسجن الحربي وبه أكثر من ألفين ممن لم يقدموا للمحاكمة أو حكم عليهم مع إيقاف التنفيذ.. في مجموعة طرة كان هناك بعض الضباط السابقين: فؤاد جاسر، وحسين حمودة، وعبد الكريم عطية، وجمال ربيع.. وفي السجن الحربي كان معروف الخضري ولا أذكر أحداً غيره.

المهم أن جمال ربيع أخذ يعرض مشروعاً يتلخص في محاولة موحدة التوقيت بين المجموعات الثلاث في السجون الثلاثة للخروج بالقوة من السجون بعد الاستيلاء على أسلحة الكتائب بها .. ثم التجمع مع بقية الإخوان في الخارج
حسب خطته العسكرية التي لا أفهم في تفصيلاتها الفنية! بعد عبور النيل لمحاولة عمل انقلاب بعد الاتصال بوحدات عسكرية يتصل هو بها، أو هو على اتصال بها (لا أتذكر تماماً لأني لم أعر الموضوع اهتماماً جدياً من هذه الوجهة).

عرض هذا المشروع كما قال لي- علي فؤاد جاسر، وحسين حمودة فلم يوافقا، وعرض علي الأستاذ صالح أبو رقيق فشتمه وعنفه كما قال لي فيما بعد الأستاذ صالح .. وعرضه جمال ربيع علي قائلاً: إنه لا يجد في الإخوان خمسين رجلاً قلوبهم حديد لتنفيذ خطته. ومع عدم خبرتي بالمسائل العسكرية الفنية فقد أحسست أنها محاولة انتحارية جنونية لا يجوز التفكير فيها .. ولكنه هو أخذ يلح علي إلحاحاً شديداً في ضرورة التفكير الجدي في الخلاص، وفق خطته التي يضمن نجاحها من الوجهة الفنية.

في ذلك الوقت أنا كنت في طرة معتقلاً ولم يصدر على حكم بعد ولم أحاكم، وذلك بسبب تمزق في الرئتني ونزيف حاد اقتضى نقلي من السجن الحربي في 25 يناير 1955 إلى مصحة ليمان طرة للعلاج.. وفي إبريل كانت حالتي تحسنت نوعاً وتقرر إعادتي للسجن الحربي لتقديمي للمحاكمة .. فجاءني ربيع قائلاً: إنه تدبير الله أن أذهب الآن إلى السجن الحربي لمقابلة معروف الحضري هناك وعرض خطته عليه للاتفاق فيما بعد على التفصيلات وتوحيد التوقيت .. ومع عدم اقتناعي لحظة واحدة بجدية خطة كهذه فقد عرضت المسألة على معروف وقبل أن يعلم مني من هو صاحب الخطة قال في عصبية: دى دسيسة لتدبير مذبحة كبرى للإخوان الذين في السجون والذين في الخارج جميعاً، ثم سأل من صاحب هذه الخطة؟ فقلت له: جمال ربيع! وكنت أعرف أنهما صديقان وأن معروف اعتقل هو وجمال في بيت خال الأخير وهنا قال لي: لا. لا تقول له: دي عملية انتحارية .. ولا يجوز التفكير فيها أصلاً.

ثم حوكمت وعدت إلى ليمان طرة وأبلغت جمال رأي معروف ولكنه ظل كما علمت يحاول إقناع الإخوان بضرورة تنفيذ الخطة حيث لم يستجيبوا له. في ذلك الوقت كان قائد كتيبة ليمان طره وهو إلصاغ عبد الباسط البنا وقد رأيته يزور مصحة الليمان ثلاث مرات ويسلم علي 
على غير معرفة سابقة- ويحدثني في ضرورة تخليص الإخوان الذين في السجون لأنهم هكذا يستهلكون تماماً وخصوصاً هؤلاء الذين يقطعون الأحجار في جبل طرة مع كبار المجرمين. ومع معرفتي أنه لم يكن يوماً ما من الأخوان في حياة أخيه الشهيد حسن البنا فقد سألته: وكيف ذلك؟ فقال: إنه كقائد لكتيبة يضع نفسه وأسلحة الكتيبة تحت تصرفنا لأنه لم يعد يطيق منظر طابور الإخوان في الجبل.

وهنا تذكرت خطة جمال ربيع ورنت في أذني كلمات معروف الحضري العصبية: دى دسيسة لتدبير مذبحة كبرى للإخوان الذين في السجون والذين في الخارج جميعاً.. وقلت له: إحنا متشكرين على عواطفك ولكن نحن نرى أننا أدينا واجبنا وانتهت مهمتنا بدخول السجون ولم نعد نستطيع عمل شيء فمن أراد أن يعمل غيرنا فليعمل .. وانقطعت زيارته عني بعد ذلك. ثم نقل من الكتيبة ورحل بعدها عدد من الإخوان وفيهم كل كبار المسؤولين وكل أعضاء النظام الخاص كما سمعت أو معظمهم- ولم يبق من كبار الإخوان إلا الأستاذ منير الدلة، وكان جمال ربيع فيمن رحلوا إلى اللوحات وقد ظل هناك كما علمت من الأستاذ صالح أبو رقيق فيما بعد يحاول محاولته بين الإخوان.

لم تفح المحاولة للمذبحة على هذا النطاق الواسع. ولكن محاولة أخرى قد أفلحت في ليمان طرة عام 1957 .. كان هناك ضابط برتبة ملازم أول في ذلك الوقت أو يوزباشي اسمه عبد الله ماهر على علاقة ظاهرة بالخمسة الشبان اليهود المسجونين في حادث جاسوسية يؤدي لهم خدمات واضحة حتى ليحمل لهم طعامهم الآتي من بيوتهم بنفسه الأمر غير المعهود في الليمان. ويحتفي بأخت واحد منهم حفاوة مكشوفة للسجانين والنوبتجية من المذنبين .. الخ.

هذا الضابط بدأ التحرش والاستفزاز للإخوان بشكل ظاهر مما أدى شيئاً فشيئاً إلى خلق جو مشحون بالتوتر بين إدارة الليمان والإخوان ثم اندفع معه ضابط آخر برتبة صاغ لا يحضرني اسمه الآن حتى احتك بمجموعة من الشبان الطائشين المعروفين بين إخوانهم ولإدارة السجن بطيشهم-وكان الأستاذ منير قد أفرج عنه ولم تعد لمجموعة الشباب الباقية في الليمان أية قيادة عاقلة مجربة- ووقع بين ذلك الضابط وبين هؤلاء الشبان تماسك بالأيدي فعلاً-ثم انتهت المسألة بوضع عدد من الإخوان في التأديب.

وظلت خطة الاستفزاز وشحن الجو بالتوتر من جانب الضابط عبد الله ماهر ورئيسه هذا حتى جاء يوم علم الإخوان الذين يخرجون للجبل أن هناك خطة لضربهم بالرصاص في الجبل بحجة محاولتهم التمرد أو الهرب، فرأوا تفويتاً لهذه الخطة أن يعتصموا بالزنازين في اليوم التالي ويطلبوا حضور النيابة لإخطارها بما وصل إلى أسماعهم من تلك الخطة التي تدبر لهم وهنا أمرت الكتيبة بضربهم بالرصاص داخل عنبرهم بل داخل الزنازين بالنسبة لعدد كبير منهم.. وقتل 21 وجرح حوالي ذلك.

وواضح أنه كان في الإمكان وهم داخل عنبر مغلق اتخاذ إجراءات أخرى إذ يكفي في هذه الحالة سحب السجانة القلائل من العنبر وإغلاقه من الخارج وقطع الماء والزاد عنهم 24 ساعة فقط. وهنا يستسلمون حتى لو كانوا فعلاً متمردين! ولكن الإجراء الذي اتخذ وفي ظل ذلك الخط المتسلسل من الحوادث يدل بوضوح على أنها خطة مذبحة متصلة وراءها يد مدبرة. لا يهمني الآن تعيينها بقدر ما يهمني ما تركته هذه السلسلة مقصودة بالذات القضاء عليها لصالح جهات أجنبية. وأن شتى التدبيرات تتخذ وشتى الوسائل لتدمير أشخاصها بالتعذيب أو تذبيحهم أو تخريب بيوتهم للقضاء في النهاية على الاتجاه من أساسه.

ولعله لم يكن من المصادفات كذلك أن يكون السيد صلاح دسوقي هو المشرف على التحقيق في مذبحة طرة. وقد شاع بين الإخوان في ذلك الحين أن التحقيق الذي تدريه النيابة كان يتجه في أول الأمر إلى اعتبارهم مجنياً عليهم وأنه بعد حضور السيد صلاح وحضور محقق آخر اتجه التحقيق إلى اعتبارهم جناة، ولا يهم الآن تقدير قيمة هذا الذي شاع. ولكن يهم تقدير سير الأحداث حتى أدت إلى تلك النتيجة.. وما تتركه في النفس من شعور بمؤامرات على الإخوان لا من الإخوان فيها!

الحركة الإسلامية تبدأ من القاعدة
أعود الآن إلى سرد الحوادث وفق الخط الزمني التاريخي .. وأوجه النظر إلى أهمية الفقرات التالية بوصفها قاعدة للتنظيم الجديد الذي تقوم عليه القضية الجديدة:

لقد امتلأت نفسي بضرورة وجود حركة إسلامية كحركة الإخوان المسلمين في هذه المنطقة وضرورة عدم توقفها بحال من الأحوال .. الصهيونية والصليبية الاستعمارية تكره هذه الحركة وتريد تدميرها .. ومخططاتها الواضحة من كتبها ومن إجراءاتها ومن تقريراتها ومن دسائسها تقوم كلها على أساس أضعاف العقيدة الإسلامية، ومحو الأخلاق الإسلامية، وإبعاد الإسلام عن أن يكون هو قاعدة التشريع والتوجيه وذلك للوصول إلى تدمير العقائد والأخلاق، وبالتالي تدمير المقومات الأساسية للمجتمع في هذه المنطقة وإحداث انهيار يسهل معه تنفيذ تلك المخططات.. ووقف نشاط الإخوان حقق الكثير من هذه المخططات، وساعد على نشر الأفكار الإلحادية والانحلال الأخلاقي.

الإخوان المسلمون تدبر لهم المذابح في حادث المنشية وحادث طرة
جمعية الفلاح عن طريق أعضائها القريبين من رجال الثورة، تشحن الجو بالتوتر والمخاوف وتعمل على توسيع الهوة وتعميقها .. التعذيب والقتل والتشريد ينال الألوف من العناصر المتدينة المتماسكة الأخلاق، الأمينة المخلصة، وبيوتهم وأطفالهم ونساءهم.. إلى آخر هذه الصورة المزعة الكئيبة .. هذه هي الحصيلة التي تجمعت لدي فيما بين سنة 1954 وسنة 1962، ليس معنى ذلك أنه لم تكن هناك أخطاء إطلاقاً في حركة الإخوان، ولكنها إلى جانب تلك الحصيلة تعد ضئيلة.

إن الحركة الإسلامية يجب أن تستمر. إن القضاء عليها في مثل تلك الأحوال يعد عملاً فظيعاً جداً يصل إلى حد الجريمة. إن الأخطاء الحركية يمكن أن تستبعد، ويمكن الاستفادة من التجربة في تجنبها..

وبعد مذبحة طره لم يعد في الليمان أحد من الإخوان معي إلا الأخ محمد يوسف هواش، والأخ محمد زهدي سلمان. وهذا الأخير بحكم ثقافته المحدودة لا يتمكن من المشاركة في أي تفكير من هذا النوع. فلم يبق معي إلا هواش.

وبعد مراجعة ودراسة طويلة لحركة الإخوان المسلمين ومقارنتها بالحركة الإسلامية الأولى للإسلام اصبح واضحاً في تفكيري 
وفي تفكيره كذلك- أن الحركة الإسلامية اليوم تواجه حالة شبيهة بالحالة التي كانت عليها المجتمعات البشرية يوم جاء الإسلام أول مرة من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة الإسلامية، والبعد عن القيم والأخلاق الإسلامية وليس فقطا لبعد عن النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية- وفي الوقت نفسه توجد معسكرات صهيونية وصليبية استعمارية قوية، تحارب كل محاولة للدعوة الإسلامية وتعمل على تدميرها عن طريق الأنظمة والأجهزة المحلية، بتدبير الدسائس والتوجيهات المؤدية لهذا الغرض، ذلك بينما الحركات الإسلامية تشغل نفسها في أحيان كثيرة بالاستغراق في الحركات السياسية المحدودة المحلية، كمحاربة معاهدة أو اتفاقية، وكمحاربة حزب أو تأليب خصم في الانتخابات عليه.

كما أنها تشغل نفسها بمطالبة الحكومات بتطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية بينما المجتمعات ذاتها بجملتها قد بعدت عن فهم مدلول العقيدة الإسلامية والغيرة عليها، وعن الأخلاق الإسلامية.. ولابد إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة: وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة، تربية إسلامية صحيحة. وعدم إضاعة الوقت في الأحداث السياسية الجارية. وعدم محاولات فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي لأنها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به.

وفي الوقت نفسه، ومع المضي في برنامج تربوي كهذا، لابد من حماية الحركة من الاعتداء عليها من الخارج، وتدميرها ووقف نشاطها وتعذيب أفرادها، وتشريد بيوتهم وأطفالهم تحت تأثير مخططات ودسائس معادية، كالذي حدث للإخوان سنة 1948، ثم سنة 1954 وسنة 1957، وكالذي نسمع ونقرأ عنه مما يحدث للجماعات الأخرى، كالجماعة الإسلامية في باكستان، وهو يسير على نفس الخطة وينشأ عن نفس المخططات والدسائس العالمية.

وهذه الحماية تتم عن طريق وجود مجموعات مدربة تدريباً فدائياً بعد تمام تربيتها الإسلامية من قاعدة العقيدة ثم الخلق.. هذه المجموعات لا تبدأ هي اعتداء، ولا محاولة لقلب نظام الحكم، ولا مشاركة في الأحداث السياسية المحلية. وطالما الحركة آمنة ومستقرة في طريق التعليم والتفهيم والتربية والتقويم، وطالما الدعوة ممكنة بغير مصادرة لها بالقوة، وبغير تدمير لها بالقوة، وبغير تعذيب وتشريد وتذبيح وتقتيل، فإن هذه المجموعات لا تتدخل في الأحداث الجارية، ولكنها تتدخل عند الاعتداء على الحركة والدعوة والجماعة لرد الاعتداء وضرب القوة المتعدية بالقدر الذي يسمح للحركة أن تستمر في طريقها، إذ أن الوصول إلى تطبيق النظام الإسلامي والحكم بشريعة الله ليس هدفاً عاجلاً لأنه لا يمكن تحقيقه إلا بعد نقل المجتمعات ذاتها، أو جملة صالحة منها ذات وزن وثقل في مجرى الحياة العامة، إلى فهم صحيح للعقيدة الإسلامية ثم للنظام الإسلامي، وإلى تربية إسلامية صحيحة على الخلق الإسلامي، مهما اقتضى ذلك من الزمن الطويل والمراحل البطيئة.

وأصبحت هذه الصورة للحركة الإسلامية واضحة في حسي تماماً- كما أصبحت واضحة في حس الأخ هواش
وبقيت مهمة نقلها إلى أفراد ومجموعات أخرى من الإخوان بأية وسيلة، لبدء حركة على أساسها. وفي سنة 1962 بدأت الحركة فعلاً.

* * *

بدأت بحضور أفراد من الإخوان المسجونين، أكثريتهم من سجن القناطر وأقليتهم من سجن الواحات، للعلاج في مستشفى ليمان طره، أو مستشفى سجن مصر كذلك ثم سجن طره حسب الإمكانيات العلاجية بهما. وإن كان الاتصال بهم في فترات الرياضة في فناء المستشفى وفي كل فرصة تسنح، وإن كان اتصالاً محدوداً وقصيراً من ناحية الزمن اليومي ومن ناحية زمن بقائهم بالمستشفى لعملية أو علاج ينتهي في فترة محدودة ويعودون إلى سجونهم، ما عدا أفراداً منهم مكثوا فترات طويلة وسأذكر شأنهم معي تفصيلاً: ولكن قبل ذلك لابد من تصوير الظروف التي تمت فيها هذه الاتصالات التي حاولت فيها نقل مفهوماتي لهؤلاء القادمين:

أنا إلى ذلك الوقت في محيط الإخوان المسلمين مجرد أخ مسلم .. حقيقة أن له من نفوسهم قيمته ومكانته الشخصية بوصفه كاتباً مفكراً إسلامياً له خبرته وتجربته في المجالات العامة، وله شهرته ومكانته في العالم الإسلامي .. ولكنه مع ذلك كله ليست له صفة حركية إدارية في الجماعة تعطي له الحق الشرعي في رسم خطة حركية ولا من توجيه الإخوان إليها. لأن هذا الحق لمكتب الإرشاد وحده ولمن يكلفه بذلك. ولست من أعضاء المكتب ولا مكلفاً منه بشيء. هذا الظرف كان يحتم علي أن ابدأ مع كل شاب وأسير ببطء وحذر من ضرورة فهم العقيدة الإسلامية فهماً صحيحاً قبل البحث عن تفصيلات النظام والتشريع الإسلامي، وضرورة عدم إنفاق الجهد في الحركات السياسية المحلية الحاضرة في البلاد الإسلامية للتوفر على التربية الإسلامية الصحيحة لأكبر عدد ممكن. وبعد ذلك تجئ الخطوات التالية بطبيعتها بحكم اقتناع وتربية قاعدة في المجتمع ذاته لأن المجتمعات البشرية اليوم-بما فيها المجتمعات في البلاد الإسلامية- قد صارت إلى حالة مشابهة كثيراً أو مماثلة لحالة المجتمعات الجاهلية يوم جاءها الإسلام. فبدا معها من العقيدة والخلق لا من الشريعة والنظام. واليوم يجب أن تبدأ الحركة والدعوة من نفس النقطة التي بدأ فيها الإسلام، وأن تسير في خطوات مشابهة مع مراعاة بعض الظروف المغايرة.

ولم يكن الزمن الذي يقضيه كل منهم يسمح بتكوين فهم كامل ولا واسع لهذا المنهج، ولكن فقط يفتح له نافذة للتفكير من جديد والقراءة في الكتب التي تساعده على هذا التصور والتي كنت أسمي له عدداً منها. وبعضها كان عندي في الليمان ومن مكتبته فيقرأ منها ما يمكن ويكمل الباقي بعد عودته، أولاً في صورة فردية. وفيما بعد تكونت أسر في سجن القناطر لدراسة هذه الكتب بالإضافة إلى كتب أخرى اختاروها بأنفسهم هناك كات أول مجموعة تكلمت معها في هذه المفهومات بتوسع
سنة 1962 على ما أذكر- مكونة من الأخوان: مصطفى كامل، وسيد عيد ويوسف كمال من سجن القناطر في فترة أقل من أسبوع، ولكنهم تحمسوا لهذه المفهومات وعادوا فتكلموا فيها مع بعض إخوانهم بحماسة كان لها رد فعل شديد في وسطهم. فبعضهم أخذ يتحمس لهذا الاتجاه من التفكير ويطلب منه المزيد. وبعضهم أخذ يتحمس ضده بشدة باعتبار أن فيه مخالفة للخط الحركي الذي سارت عليه الجماعة من قبل وتخطئه لها في بعض تحركاتها. وباعتبار آخر وهو أنه صادر عن جهة غير شرعية بالنسبة لهم.

وتوالى خلال هذه الفترة-من سنة 1962 إلى سنة 1964-مجئ أفراد آخرين أذكر منهم من تعيه ذاكرتي على غير ترتيب زمني، ومن السهل معرفة الجميع سواء من أحد الإخوان الذين كانوا في القناطر أو من السجلات..

أذكر منهم: رفعت الصياد-عبد الحميد ماضي- سعيد منسي- عبده صالح-فوزي نجم-الحاج عبد الرزاق أمان الدين-مصطفى دياب-سيد دسوقي-موسى جاويش-صبري عنتر-محمـود حامد-رشـدي عفيفي-عبـد السلام عماره-عبد الرؤوف كامل-سيد
- رجب - سعد عفيفي-حسن عبد العظيم-صلاح الأنوار.

* * *

ملاحظة:
محاولة تذكر الأسماء تسبب لي إجهاداً شديداً، وتستغرق وقتاً طويلاً يمنعني عن المضي في التقرير للوصول إلى الوقائع الأخيرة. فقد استغرق تذكر هذه الأسماء حوالي ساعتين. ولا أهمية في الحقيقة لسردها هكذا، ويمكن الاستعانة بذاكرة الأخ هواش، أو بذاكرة الأخ الطوخي الذي لم يحضر ولكنه كان بين المسؤولين عن الإخوان في القناطر، أو بأي واحد من الذين حضروا .. وذلك لكي أستطيع كتابة ما هو أهم، وهو نوع علاقة كل منهم بي، ثم تصرفاتهم وتصرفات المعارضين لهم من إخوانهم.

* * *

هؤلاء الذين حضروا من القناطر وسمعوا مني ما ينبغي أن يكون عليه منهج الحركة الإسلامية، وسمعوا المفهومات العقيدية الصحيحة، ومدى بعد المجتمعات الإنسانية اليوم عنها- بما فيها المجتمعات الإسلامية التقليدية ذاتها
ليسوا كلهم من سن واحدة ولا من ثقافة واحدة، فعدد منهم عمال، وعدد طلاب متفاوتو المستوى، والاستعداد، كما أن بعضهم أقام أياماً لقيني ساعة أو ساعتين في المجموع، وبعضهم أقام أسابيع، وبعضهم أقام أشهر طويلة، لذلك كله اختلفت الصور التي نقلوها لإخوانهم في القناطر، وبعض هذه الصور كانت شوهة أو مبتورة، وبعضها كان كاملاً وصحيحاً، مما جعل المسؤولين عنهم في القناطر-وكانوا يختارون من بينهم مجموعة من خمسة أو أقل أو أكثرن تشرف على شؤونهم فترة من الزمن حتى تتعب فيختارون غيرها- تطلب مني أسماء مجموعة من الكتب تكون مراجع لدراسة الإخوان، لأن الكتاب ينقل الفكرة نقلاً كاملاً صحيحاً، فكتبت لهم أسماء نحو أربعين كتاباً، اختاروا هم من بينها بعضها، وأضافوا بعضاً آخر، وجعلوها برنامجاً ثقافياً تدرسه فيما بينها أسر بقدر ما يسمح نظام السجن، والأسرة عادة سكان زنزانة فيما أظن، ولا أعرف على وجه الدقة تفصيلات ذلك. ولكن هذا لم يضع حداً للمشكلة التي نشأت من رفض مجموعة منهم أن تتلقى أفكاراً أو تدرس برنامجاً لم يأت من الجهة الشرعية في الجماعة ومعي الباقون من أعضاء مكتب الإرشاد في السجون وكانوا إذ ذاك في الواحات.

وفي خلال الفترة من سنة 1962 إلى سنة 1964، انتهى الحال إلى أن تكون المجموعة التي في القناطر-وعددها حوالي المئة-مصنفة كالآتي: حوالي35 اندمجوا في الدراسة، وأصبحت لهم مفهومات واضحة في العقيدة الإسلامية وفي منهج الحركة الإسلامية.. وحوالي 23 آخرين يعارضون تماماً هذا الاتجاه، ويرفضون مبدأ السماع إلا من قيادة الجماعة في الواحة. وحوالي 50 يدرسون ولكنهم لم يصلوا إلى الوضوح الكافي وهم في الطريق إلى أن انتهت مدة سجن الجميع وخرجوا خلال 1965.

وفي مقدمة الذين يعتبرون قد درسوا وفهموا: مصطفى كامل ورفعت الصياد
سيد عيد- فوزي نجم-الطوخي-صبري عنتر-عبد الحميد ماضي. ولا أملك تذكر كل الأسماء، لأني أعتمد دائماً فيها على ذاكرة الآخرين، ويمكن الاستعانة بذاكرة الأخ هواش أو الأخ الطوخي أو الأخ فوزي نجم ليذكرني بهذه الأسماء فهم يعرفونها معي ..

وفي مقدمة الذين عارضوا بشدة وأقاموا ضجة: أمين صدقي وعبد الرحمن البنان-لطفي سليم- عبد العزيز جلال- والبقية يتذكرها الطوخي أو فوزي نجم أو مصطفى كامل.

وبعض هؤلاء أوصلوا إلى الأستاذ عبد العزيز عطية وغيره في الواحات صورة مضخمة ومشوهة عن الانقسامات الخطيرة التي وقعت في مجموعة القناطر، وصورة كذلك مشوهة عن أصل الأفكار والمنهج الذي يدور حوله الخلاف. مما جعلهم في الواحات ينزعجون انزعاجاً شديداً سواء من الفكرة ذاتها أو من الخلاف حولها.

وقد حضر من عندهم للعلاج في طره الأخ عبد الرؤوف أبو الوفا فأبلغني خبر هذا الانزعاج من ناحية واتجاه المجموعة في الواحة إلى عدم تكفير الناس من ناحية أخرى!

وقد قلت له: إننا لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه إنما نحن نقول: إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة، وعدم تصور مدلولها الصحيح، والبعد عن الحياة الإسلامية، إلى حال تشبه حال المجتمعات في الجاهلية، وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية الإسلامية.. فالمسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم على الناس!

ولما عاد أبلغهم الصورة الصحيحة، بقدر ما فهم منها، ولكن ظل الآخرون في القناطر يلحون عليهم بوجوب وقف ما أسموه بالفتنة في صفوف الجماعة. وظل الحال كذلك حتى نقل إلى مستشفى طره الأستاذان عبد العزيز عطية وعمر التلمساني من أعضاء مكتب الإرشاد الباقين في السجون، والتقيا بي وأفهمتهما حقيقة المسألة فاستراحا لها.

ولما حضر أمين صدقي وعبد الرحمن البنان إلى مستشفى طره-وكنت قد خرجت بعفو صحي بعد سوء حالة الذبحة الصدرية التي أصبت بها في السجن مع بقية أمراضي الأخرى. بلغني من الأخ هواش بعد خروجه، وكان حضاراً لقاء عضوي المكتب بالشابين الحاضرين من القناطر، إنهما حاولا إفهامها أن الأمر ليس كما فهموا، ولكنهما ظلا مصرين على موقفهما بعد عودتهما إلى القناطر هما والمجموعة التي معهم. وخرج هؤلاء وغيرهم على الصورة والتقسيم الذي أشرت إليه من قبل.

المهم أن المجموعة الأولى التي تعتبر داعية للمفهوم الإسلامي الصحيح، جعل معظم أفرادها يزوروني بعد خروجهم. وإن كان قصر الفترة التي قضيتها في القاهرة، وكلها من الخروج إلى الاعتقال ثمانية أشهر بالضبط، جعل هذه الزيارات معدودة .. فمصطفى كامل مثلاً رأيته مرة واحدة، ورفعت الصياد ربما خمس أو ست مرات، وسيد عيد أكثر من عشر مرات، وفوزي نجم ثلاث مرات، والطوخي ثلاث مرات سريعة، وسيد دسوقي ربما ثلاث مرات أو أربع، والباقون كذلك أو أقل وفيهم من رأيته مرة واحدة. وكذلك زارني أفراد من المجموعة الثانية التي لم تنضج، مرة واحدة أو مرتين، وكانت علاقتي أكثر بالأخ هواش باعتباره الرجل الذي عشت معه قرابة عشر سنوات، وفكرنا معاً في المنهج واتفقنا على تصورنا له كل الاتفاق والذي كنت أرشحه في نفسي لأن يتولى إكمال عملية التوعية سواء للمجموعة الثانية أو الأولى الخارجة من سجن القناطر، كما كنت أرشحه للاتصال بالتنظيم الجديد ولكن ذلك لم يتم.

ولكن لم يقع أن وضعت تنظيماً لهؤلاء الخارجين من السجن ولا حتى للمجموعة الأولى المؤلفة من نحو 25 شاباً لعدة أسباب:

(1) إنها معتبرة كبقية الإخوان ضمن الجماعة في حالة سكون عن الحركة في الظروف الحاضرة، وليس لها وضع مستقل يربطها بي إلا نوع التفكير.. ولم أكن أريد أن أدخل في أية إشكالات كالتي أثارتها المجموعة المعارضة في القناطر.

(2) إن الخارج من السجن بعد عشر سنوات يكون كالأعمى من ناحية الرؤية الاجتماعية، ولابد أن تترك له فرصة للتعرف إلى المجتمع، ولمعالجة أحواله وأوضاعه الاجتماعية. فضلاً على أن تحركاته مراقبة بشدة.

(3) إن الجو في الخارج غيره في السجن، ففي السجن تكون الطاقة حبيسة ومتجمعة ومندفعة في الاتجاه الذي دخل صاحب العقيدة من أجله السجن.. أما وهو في الخارج فستستغرقه مشاغل ومشكلات واهتمامات متنوعة.. ولم يكن بد من تركهم فترة يتبين فيها من تستغرقه الحياة الدنيا ممن تبقى فيه بقية لعقيدته ودعوته..

لذلك كله، كنت أؤجل الحديث في مسألة تنظيمهم سواء إذا تحدث فيه أحد منهم، أو إذا سألني أحد من الشبان الخمسة المشرفين على التنظيم الجديد الذي وجد في غيبتي في السجن والتقيت به بعد خروجي-والذي هو الموضوع الأساسي للجزء التالي من هذا التقرير-ما رأيك في فلان من الخارجين من السجن؟ .. ولماذا لا ينضمون كلهم أو بعضهم إلى تنظيمنا؟..

ومرة قلت لهم: إننا لابد أن نتركهم ستة أشهر على الأقل، وحتى لو عملنا لهم تنظيماً فسيبقى مستقلاً .. وإنني أفكر في أنه 
عند ذلك- يشرف عليهم الأخ هواش وهو وحده يتصل بالتنظيم الجديد .. إلا أن شيئاً من هذا كله لم يتم ..

والذي حدث فقط أنني استدعيت الأخ الطوخي لأعرف منه حقيقة كل واحد من الذين خرجوا، وتصنيف فئاتهم من ناحية الفهم والوعي.. وذلك لأنه كان ملاصقاً لهم أكثر مني، وأنا أثق بحسن تقديره وصدق شهادته.

وقد تذكرت الآن أنه هو الزائر الذي ذكر الأخ علي عشماوي في أقواله أنه حضر في أثناء اجتماعاتهم عندي، وأن أخي محمد قطب استدعاني لمقابلته، فجلست معه، ولما عدت قلت لهم: إنني عجلت بمقابلته، لينصرف من عندي، لأنه في مركز حرج، أو حساس، لا أتذكر، حسب ما ورد في أقواله، وهو ذاكرته أحسن.

والظروف التي كانت محيطة بالأخ الطوخي في ذلك الحين، أنه كان قد تسلم عملاً في الإسماعيلية، في مكتب التوكيلات فيما أظن، وكانت مباحث الإسماعيلية تراقب تحركاته بشدة ربما نظراً لأنه كان فترة طويلة مسؤولاً عن إخوان القناطر، أو لأسباب أخرى لا أعلمها وكان عليه أن يعود إلى الإسماعيلية ليلاً ليكون هناك في الصباح. ولم يكن يحب أن يراه أحد عندي أو يحس بوجوده حتى في القاهرة. وكنت في حاجة إليه لأسأله عن تصنيف الخارجين من القناطر، فحضر على عجل، وتحدث إلي فيما أردت. فأشرت إلى هذا الظرف بالإجمال للخمسة المجتمعين معي بسبب أنني قمت سريعاً وتركتهم بمجرد أن محمد قطب ذكر لي اسمه في أذني وأنه يريد أن يراني سريعاً. وكنت على علم بظروفه هذه.

* * *

ملاحظة:

العادة المتبعة في بيتي أنني إذا كنت مع ضيوف وأراد أي واحد: أخي أو أبناء أخي أو الخادم استدعائي لأمر في الداخل، أو لزائر على الباب أو في حجرة جلوس أخرى، أن يهمس في أذني ولا يجهر باستدعائي وسببه. وهو أدب عادي في البيت.. ومحمد لم يكن يعرف الأخ الطوخي ولا المهمة التي جاء من أجلها، وقد لا يتذكر هذا الحادث.

وفيما عدا هذا الاستفهام من الأخ الطوخي عن أحوال الخارجين لم تقع مني خطوة أخرى لتنظيمهم مستقلين أو متصلين بالتنظيم الجديد، ولكني علمت من الأخ الطوخي أنهم-قبل خروجهم من السجن- كانوا قد كلفوا واحداً من كل ثلاثة أو أربعة أو أكثر، لا يقيمون في مساكن متقاربة أن يتعهد الآخرين معه بالزيارة والسؤال عن أحوالهم دون أن يعرفوا هم ذلك ولا يشعروا بأن وراءه شيئاً. وذلك فقط كمجرد رابطة-ولا يزيد- وذلك في انتظار أية تعليمات أخرى إذا سمحت الظروف بإعادة تنظيمهم. فقلت له: هذا يكفي..

ولم يزد الأمر على ذلك شيئاً فيما يختص بالخارجين من السجون ولم يتسع الوقت لأعرف إن كان هذا الإجراء الذي اتفق عليه في القناطر بالنسبة للخارجين، إجراء محلياً فكروا فيه من أنفسهم، أو أنه تنبيه عام وارد لهم من جهة قيادتهم من أعضاء المكتب فأنا لم أكن الآمر به. ولكني أرجح أنه إجراء ذاتي من عندهم، لأنه كما فهمت يتعلق فقط بالمجموعة الواعية والتالية، ولا يشمل جميع الخارجين. وقد رأيته أنا كافياً في الظروف الحاضرة لأن موضوع تنظيم الخارجين من السجون كان مستبعداً مؤقتاً في تقديري، اكتفاء بالتنظيم الجديد الذي خرجت فوجدته قائماً واشتغلت معه واهتممت بتعديل وتحسين وتكوين عقليته ومفهوماته ومنهج حركته كما سيأتي بالتفصيل .. وفي الوقت نفسه لم أخبر أحداً منهم بشيء عن التنظيم الجديد. وفيما عدا الأخ هواش الذي ذكرت له عموميات عنه وليس تفصيلات، فإن أحداً غيره لم يعلم مني شيئاً عن ذلك التنظيم لا من الخارجين من السجون ولا من الإخوان بصفة عامة ولا من الناس على العموم.

البحث عن السلاح والمال

التنظيم الجديد

خرجت من السجن، وفي تصوري صورة خاصة محددة لما يجب أن تكون عليه أية حركة اسلامية في الظروف العالمية والمحلية الحاضرة وصورة لخطوات المنهج الذي يجب أن تسير عليه. وقد ذكرت ذلك من قبل ولكني ألخصه هنا قبل البدء في التفصيلات :

1- المجتمعات البشرية بجملتها قد بعدت عن فهم وادراك معنى الإسلام ذاته . ولم تبعد فقط عن الأخلاق الإسلامية، والنظام الإسلامي، والشريعة الإسلامية. وإذن فأية حركة اسلامية يجب أن تبدأ من اعادة تفهيم الناس معنى الإسلام ومدلول العقيدة وهو أن تكون العبودية لله وحده. سواء في الاعتقاد بألوهيته وحده، أو تقدير الشعائر الشعائر التعبدية له وحده، أو الخضوع والتحاكم إلى نظامه وشريعته وحدها .

2- الذين يستجيبون لهذا الفهم يؤخذ في تربيتهم على الأخلاق الإسلامية ةفي توعيتهم بدراسة الحركة الإسلامية وتاريخها وخط سير الإسلام في التعامل مع كل المعسكرات والمجتمعات البشرية، والعقبات التي كانت في طريقه والتي لا تزال تتزايد بشده ، وبخاصة من المعسكرات الصهيونية والصليبية الاستعماريه.

3- لا يجوز البدء بأي تنظيم إلا بعد وصول الأفراد إلى درجة عالية من فهم العقيدة ومن الأخذ بالخلق الاسلامي في السلوك والتعامل ومن الوعي الذي تقدم ذكره.

4- ليست المطالبة بإقامة النظام الاسلامي وتحكيم الشريعة الاسلامية هو نقطة البدء. ولكن نقطة البدء هي نقل المجتمعات ذاتها – حكاما ومحكومين – عن الطريق السالف إلى المفهومات الاسلامية الصحيحة – وتكوين قاعدة إن لم تشمل المجتمع كله فعلى الأقل تشمل عناصر وقطاعات تملك التوجيه والتأثير في اتجاه المجتمع كله إلى الرغبة والعمل على إقامة النظام الاسلامي وتحكيم الشريعة الاسلامية .

5- وبالتالي لا يكون الوصول إلى اقامة النظام الاسلامي وتحكيم الشريهة الاسلامية عن طريق انقلاب في الحكم يجيء من أعلى، ولكن عن طريق تغير في تصورات المجتمع كله – أو مجموعات كافية لتوجيه المجتمع كله – وفي قيمه وأخلاقه والتزامه بالاسلام يجعل تحكيم نظامه وشريعته فريضة لا بد منها في حسهم !

6- في الوقت ذاته تجب حماية هذه الحركة، وهي سائرة في خطواتها هذه بحيث إذا اعتدى عليها وعلى أصحابها يرد الاعتداء. وما دامت هي لا تريد أن تعتدى ، ولا أن تستخدم القوة في فرض النظام الذي تؤمن بضرورة قيامه – على الاساس المتقدم وبعد التمهيدات المذكورة – والذي لا يتحقق اسلام الناس إلا بقيامه حسب ما يقرر الله سبحانه ، ما دامت لا تريد أن تعتدى ولا أن تفرض نظام الله بالقوة من أعلى فيجب أن تترك تؤدي واجبها وألا يُعتدى عليها وعلى أهلها . فإذا وقع الاعتداء كان الرد عليه من جانبها .

* * *

هذه كانت الصورة المتكاملة في تصوري لأية حركة إسلامية حاضرة .. ولكن حدث أن التقيت بعد خروجي على التوالي بالشبان الآتية أسماؤهم- من بين من التقيت بهم من الإخوان وغير الإخوان ممن لهم اتجاه إسلامي: عبد الفتاح إسماعيل
على العشماوي- أحمد عبد المجيد (وقد عرفت بقية اسمه هنا في السجن الحربي) مجدي- صبري ... وعلمت منهم بعد لقاءات متعددة أنهم مكونون بالفعل تنظيماً يرجع تاريخ العمل فيه إلى حوالي أربع سنوات أو أكثر، وأن أقلية منه ممن سبق اعتقالهم من الإخوان والأكثرية ممن لم يسبق اعتقالهم أو ممن لم يكونوا من الأخوان من قبل، وأن هذا التنظيم تم بأن كلاً منهم على انفراد فكر في وقت من الأوقات السابقة- في هذه السنوات من ضرورة العمل لإعادة حركة الإخوان المسلمين وعدم الاكتفاء بهذه الصورة القائمة لوجود الجماعة، وهي أن تكون هناك بعض الاشتراكات والمساعدات لإعالة الأسر التي لم يعد لها مورد رزق، مع مجرد التجاوب الصامت بين الأخوان والقعود والانتظار، وأنهم في أثناء تحركهم كل على حدة لتنظيم أي عدد من الإخوان الراغبين في الحركة أو تحريكهم التقوا بعضهم ببعض، وبعض أن استوثق بعضهم من بعض انضموا كل بالمجموعة التي كانت قد انضمت إليه وكونوا هذا التنظيم الواحد. وأنهم وكلهم من الشبان القليلي الخبرة ظلوا يبحثون عن قيادة لهم من الكبار المجربين في الجماعة، فاتصلوا بالأستاذ فريد عبد الخالق، كما اتصلوا بإخوان الواحات (الذين اتصلوا بالأستاذ فريد كلهم والذي اتصل بالواحات عبد الفتاح) وبغيرهم، ولكنهم لم يجدوا حتى الآن قيادة لهم، وهم يريدون أن أتولى أنا هذا بعد خروجي، ذلك أنهم بعد أن قرأوا كتاباتي وسمعوا أحاديثي معهم قد تحولت أفكارهم وتوسعت رؤيتهم إلى حد كبير. وقد كانوا يفكرون من قبل على أساس أن المسألة مسألة تنظيم مجموعة فدائية لإزالة الأوضاع والأشخاص التي ضربت جماعة الإخوان المسلمين وأوقفت دعوتهم، وإقامة الجماعة وإقامة النظام الإسلامي عن هذا الطريق .. أما الآن فقد فهموا أن المسألة أوسع من ذلك بكثير وأن طريق العمل طويل، وأن العمل في المجتمع يجب أن يسبق العمل في نظام الدولة، وأن تكوين وتربية الأفراد يجب أن يسبق التنظيم.. إلى الآخر .. وأن من وراءهم من الشبان أخذوا يتصورون الأمور على هذا النحو إلى حد ما .. ولكنهم هم في حاجة إلى قيادة تزودهم بالمزيد في التحرك ليستطيعوا هم أن يؤثروا فيمن وراءهم، ويوسعوا إدراكهم، ويغيروا تصوراتهم ...

وكنت أمام أمرين: إما أن أرفض العمل معهم .. وهم لم يتكونوا على النحو الذي أنا مقتنع به، فلم يتم تكوين الأفراد وتربيتهم وتوعيتهم قبل أن يصبحوا تنظيماً وقبل أن يأخذوا في التدريب الفعلي على بعض التدريبات الفدائية.. وإما أن أقبل العمل على أساس إدراك ما فاته من المنهج الذي أتصوره للحركة وعلى أساس إمكان ضبط حركاتهم بحيث لا يقع اندفاع في غير محله خصوصاً وبعضهم ينوي فعلاً، وعقلية البدء بإقامة النظام الإسلامي من قمة الحكم قد تغلب على الفهم الجديد وعلى عقلية البدء بإقامة العقيدة والخلق والاتجاه في قاعدة المجتمع.. وقررت اختيار الطريق الثاني والعمل معهم وقيادتهم..

ولكني قلت لهم مخلصاً في ذلك، حقيقة أن الحركة الإسلامية في الظروف الحاضرة تحتاج إلى نظرة واسعة وفهم ووعي الإسلام ذاته وتاريخ حركته وكذلك فهم للظروف العالمية المحيطة بالإسلام وبالعالم الإسلامي.. الخ.. وأنتم تقولون أنكم لم تجدوا قيادة، وتريدون أن أقوم لكم بهذا الدور .. ولكنني كما تعلمون رجل مريض بأمراض مستعصية على الطلب حتى الآن وخطيرة والآجال نعم بيد الله ولكن قدر الله يتم بأسباب يوجدها الله .. لذلك يجب أن تعتمدوا على الله وتحاولوا أن تكونوا أنتم قيادة، ومهمتي الحقيقية معكم هي بذل كل ما أملك لتوعيتكم وتكوينكم العقلي لتكونوا قيادة .. أما دينكم وخلقكم وتقواكم وإخلاصكم وتعاملكم مع الله فأنا أرى وأحس أنكم سائرون فيها بخير والحمد لله .. وكنت أكرر عليهم هذه المعاني وأتجه بهم هذا الاتجاه .. وكانت الوسيلة لتحقيق ذلك هي اجتماعي بهم أحياناً مرة كل أسبوع، وأحياناً مرة كل أسبوعين.. وفي فترات انشغالي مرة كل ثلاثة أو كل شهر .. وقد بدأت أدرس معهم تاريخ الحركة الإسلامية، ثم موافق المعسكرات الوثنية والملحدة والصهيونية والصليبية قديماً وحديثاً من الإسلام، مع إلمام خفيف بالأوضاع في المنطقة الإسلامية في التاريخ الحديث منذ عهد الحملة الفرنسية، وأحياناً التعليق على الأحداث والأخبار والإذاعات، مع محاولة تدريبهم على تتبعها بأنفسهم.. فقد كلفتهم أن يخصصوا منهم ومن بعض من يختارونهم ممن وراءهم تتبع الصحف العالمية والإذاعات العالمية، وإذا أمكن الكتب التي تصدر باللغتين الإنجليزية والفرنسية وتهتم بالإسلام وبالمنطقة الإسلامية.

وحدث أربع مرات أن جاءني أحمد عبد المجيد بحصيلة تتبعهم للأخبار الصحفية العالمية والمحلية والإذاعات كذلك. وكانت صورة بدائية ساذجة، ولكنها الخطوات الأولى الضرورية، ومنها كنت أعرف مدى عقليتهم العامة .. غير أن جلساتي معهم كانت محدودة بحكم قصر المدة التي اتصلوا بي فيها فهي في مجموعها إذا استبعدنا الفترات التي كنت مشغولاً فيها أو مريضاً أو بعيداً عن القاهرة لا تزيد على ستة أشهر، ولا تحتمل أكثر مما يتراوح بين عشرة واثني عشر اجتماعاً، لا يتسنى فيها إلا القليل وبعضها كان يشغل بمسائل عملية أخرى تختص بموقف التنظيم من بقية الإخوان كما تتعلق بمسائل التدريب وأسلحته .. وبخطة مقابلة الاعتداء على التنظيم من بقية الإخوان كما تتعلق بمسائل التدريب وأسلحته.. وبخطة مقابلة الاعتداء على التنظيم وتوقع ضربه حسب ما يتردد من أخبار وإشاعات .. وأظن أن هذه هي المسألة الرئيسية التي تهم المشرفين على القضية أكثر من غيرها.. ولكنني كنت أرى أنه لابد من عرض الصورة الكاملة التي تساعد على فهم هذه المسألة من كل جوانبها.

* * *

كنا قد اتفقنا على استبعاد استخدام القوة كوسيلة لتغيير نظام الحكم أو إقامة النظام الإسلامي وفي الوقت نفسه قررنا استخدامها في حالة الاعتداء على هذا التنظيم الذي سيسير على منهج تعليم العقيدة وتربية الخلق وإنشاء قاعدة للإسلام في المجتمع. وكان معنى ذلك البحث في موضوع تدريب المجموعات التي تقوم برد الاعتداء وحماية التنظيم منه، وموضوع الأسلحة اللازمة لهذا الغرض، وموضوع المال اللازم كذلك.

فأما التدريب فقد عرفت أنه موجود فعلاً من قبل أن يلتقوا بي، ولكن لم يكن ملحوظاً فيه أن لا يتدرب إلا الأخ الذي فهم عقيدته ونضج وعيه، فطلبت منهم مراعاة هذه القاعدة، وبهذه المناسبة سألتهم عن العدد الذي تتوافر فيه هذه الشروط عندهم وبعد مراجعة بينهم ذكروا لي أنهم حوالي السبعين، وتقرر الإٍسراع في تدريبهم نظراً لما كانوا يرونه من أن الملل يتسرب إلى نفوس الشباب إذا ظل كل زادهم هو الكلام من غير تدريب وإعداد.. ثم تجدد سبب آخر فيما بعد عندما بدأت الإشاعات ثم الاعتقالات بالفعل لبعض الأخوان .. وأما السلاح فكان موضوعه له جانبان:

الأول: أنهم أخبروني-ومجدي هو الذي كان يتولى الشرح في هذا الموضوع-أنه نظراً لصعوبة الحصول على ما يلزم منه حتى للتدريب فقد أخذوا في محاولات لصنع بعض المتفجرات محلياً، وأن التجارب نجحت وصنعت بعض القنابل فعلاً، ولكنها في حاجة إلى التحسين والتجارب مستمرة...

والثاني: أن علي عشماوي زارني على غير ميعاد وأخبرني أنه كان منذ حوالي سنتين قبل التقائنا قد طلب من أخ في دولة عربية قطعاً من الأسلحة، حددها له في كشف، ثم ترك الموضوع من وقتها، والآن جاءه خبر منه أن هذه الأسلحة سترسل





وهي كميات كبيرة حوالي عربية نقل، وأنها سترسل عن طريق السودان مع توقع وصولها في خلال شهرين .. وكان هذا قبل الاعتقالات بمدة ولم يكن في الجو ما ينذر بخطر قريب .. ولما كان الخبر مفاجئاً فلم يكن ممكناً البت في شأنه حتى نبحثه مع الباقين، فاتفقنا على موعد لبحثه معهم .. وفي اليوم التالي على ما أتذكر- وقبل الموعد جاءني الشيخ عبد الفتاح إسماعيل وحدثني في هذا الأمر وفهمت أنه عرفه طبعاً من علي وكان يبدو غير موافق عليه ومتخوفاً منه، وقال: لابد من تأجيل البث في الموضوع حتى يحضر صبري، وقلت له: إننا سنجتمع لبحثه.

وفي الموعد الأول





على ما أتذكر لم يحضر صبري- لذلك لم يتم تقرير شيء في الأمر، وفي موعد آخر كان الخمسة عندي وتقرر تكليف علي بوقف إرسال الأسلحة من هناك حتى يتم الاستعلام من مصدرها عن مصدر النقود التي اشتريت بها، فإن كان من غير الإخوان ترفض، والاستفهام كذلك عن طريق شرائها دفعة واحدة أو مجزأة وطريقة إرسالها، وضمانات أنها مكشوفة أم لا؟ وبعد ذلك يقال للأخ المرسل ألا يرسلها حتى يخطره بإرسالها..

ومضى أكثر من شهر





على ما أتذكر حتى وصل للأخ علي رد مضمونه الباقي في ذاكرتي: أن هذه الأسلحة بأموال إخوانية من خاصة مالهم، وأنهم دفعوا فيها ما هم في حاجة إليه لحياتهم تلبية للرغبة التي سبق إبداؤها من هنا وأنها اشتريت وشحنت بوسائل مأمونة..

ولا أتذكر إن كان هذا الرد أو رد تال جاء بعده قد تضمن أن الشحنة أرسلت فعلاً ولا يمكن وقف وصولها وأنهم يفكرون في طريق ليبيا إلى جانب طريق السودان أو لأنه قد يكون أيسر من طريق السودان (لا أتذكر النص بالضبط) والأرجح أنه رد واحد. وعند ذكر ليبيا قلت: أنهم إذا فكروا في طريق ليبيا فإن أعرف من يستطيعون مساعدتنا في نقل مثل هذه الأشياء.. وكنت أفكر وقتها في اثنين من إخوان ليبيا عرفتهما بعد خروجي من السجن: أحدهما (الطيب الشين) وكان يدرس في مركز التعليم الأساسي بسرس الليان وله علاقة بسائقي عربات النقل بخط الصحراء بين ليبيا ومصر، والآخر (المبروك) ولا أذكر إن كان اسمه الأول (محمد) أم لا لأني أعرفه باسم واحد .. وكان في مناسبة ذكر لي أن بعض أقاربه يشتغلون بالقوافل بين مصر وليبيا .. ولم أستوضحه وقتها عن القوافل لأنه كان كلاماً عابراً بخصوص ما إذا كان يلزمني أي شيء ليس موجوداً في مصر ويمكن الحصول عليه من ليبيا أو من الخارج وقوله لي أن أطلب أي شيء فنقله مأمون تماماً لأن أقاربه في القوافل .. كذلك لا أعرف بالضبط نوع التجارة التي يزاولها هو ويحضر من أجلها إلى مصر .. إلا أنه في مرة قال لي: أنه يستورد من الإسكندرية البرانس التي تلبس في المغرب وتصنع هنا في مصر وليس في المغرب .. ومرة قال لي أنه معه شحنة كتب .. ولكني غير متأكد من نوع التجارة التي يزاولها.

وأما مسألة المال فقد جاء ذكرها مرات في اجتماعاتنا أو في أحاديثهم متفرقين معي، وعرفت أن لدى الشيخ عبد الفتاح مبالغاً ولكنه كان يقول لهم دائماً: أنه هو مؤتمن عليه وهو وديعة عنده لينفق في أغراض معينة ولذلك فهو لا يملك أن ينفق منه في إعانات البيوت مثلاً ولا يملك التصرف في شيء إلا بإذنه .. وقد قال لي الشيخ عبد الفتاح مثل هذا الكلام، ولكن لما عرضت مسألة الإنفاق على الصناعة المحلية للمتفجرات وعلى الإنفاق لتسلم شحنة الأسلحة التي أرسلت بعدما تبين أنه لا يمكن وقفها ولا يمكن تركها كذلك قال أن أي مبلغ تحت تصرفكم. واستأذنني في هذا فأذنت له، وفهمت أنه كان يعتبر المبلغ أمانة لا يتصرف فيه إلا بإذن قيادة شرعية. ولكني لم أعلم بالضبط مصدر هذا المبلغ ولا مقداره .. كل ما كان واضحاً أنه من إخوان في الخارج وليس من أية جهة أخرى.. فهذا ما كنت أحب أن أتأكد منه في علاقاتهم السابقة لأني كما قلت لهم لا أجيز للحركة الإسلامية أن تستعين بأجنبي عنها لا في مال ولا في سلاح ولا في حركة .. كذلك لم أعرف بالضبط مقداره ولكني أستنتج أنه أكثر من ألف جنيه .. فقد جاء ذلك في كلمات عرضية .. وكان الشيخ عبد الفتاح يقول كذلك، أنه في مكان أمين .. ولم أكن أستوضحه عن هذه التفصيلات .. لأنني كنت أكتفي بأقل قدر منها .. وكذلك كل أعمالهم التنفيذية فقد كان يكفي منها عنده ما يتعلق بالخطة العامة.. أما التفصيلات فكانت متروكة لهم لأنهم أخبر بها مني .. ولكن تبعتها بالطبع تقع علي لأن الخطة العامة كانت تتم بموافقتي .. كذلك جاءنا مبلغ مئتي جنيه من إخوان العراق سلمتها للأخ على فور تسلمها، وكان حاضراً لتكون في عهدتهم وتحت تصرفهم .. وسيجيء تفصيل علاقتنا بإخوان العراق في موضعه فيما بعد..

 

خطة رد الاعتداء

على الحركة الإسلامية

كما تقدم كنا قد اتفقنا على مبدأ عدم استخدام القوة لقلب نظام الحكم، وفرض النظام الإسلامي من أعلى، واتفقنا في الوقت ذاته على مبدأ رد الاعتداء على الحركة الإسلامية التي هي منهجها إذا وقع الاعتداء عليها بالقوة.

وكان أمامنا المبدأ الذي يقرره الله سبحانه: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وكان الاعتداء قد وقع علينا بالفعل في سنة 1954 وفي سنة 1957 بالاعتقال والتعذيب وإهدار كل كرامة آدمية في أثناء التعذيب ثم بالقتل والتعذيب وإهدار كل كرامة آدمية في أثناء التعذيب ثم بالقتل وتخريب البيوت وتشريد الأطفال والنساء. ولكننا كنا قررنا أن هذا الماضي قد انتهى أمره فلا تفكر في رد الاعتداء الذي وقع علينا فيه، إنما المسألة هي مسألة الاعتداء علينا الآن. وهذا هو الذي تقرر الرد عليه إذا وقع .. وفي الوقت نفسه لم نكن نملك أن نرد بالمثل لأن الإسلام ذاته لا يبيح لمسلم أن يعذب أحداً، ولا أن يهدر كرامة الآدمية ولا أن يترك أطفاله ونساءه بالجوع، وحتى الذين تقام عليهم الحدود في الإسلام ويموتون تتكفل الدولة بنسائهم وأطفالهم، فلم يكن في أيدينا من وسائل رد الاعتداء التي يبيحها لنا ديننا إلا القتال والقتل: أولاً لرد الاعتداء حتى لا يصبح الاعتداء على الحركة الإسلامية وأهلها سهلاً يزاوله المعتدون في كل وقت. وثانياً لمحاولة إنقاذ وإفلات أكبر عدد ممكن من الشباب المسلم النظيف المتماسك الأخلاق في جيل كله إباحية وكله انحلال وكله انحراف في التعامل والسلوك كما هو دائر على السنة الناس وشائع لا يحتاج إلى كلام.

لهذه الأسباب مجتمعة فكرنا في خطة ووسيلة ترد الاعتداء .. والذي قلته لهم ليفكروا في الخطة والوسيلة باعتبار أنهم هم الذين سيقومون بها بما في أيديهم من إمكانيات لا أملك أنا معرفتها بالضبط ولا تحديدها.. الذي قلته لهم: إننا إذا قمنا برد الاعتداء عند وقوعه فيجب أن يكون ذلك في ضربه راجعة توفق الاعتداء وتكفل سلامة أكبر عدد من الشباب المسلم.

ووفقاً لهذا جاءوا في اللقاء التالي ومع أحمد عبد المجيد قائمة باقتراحات تتناول الأعمال التي تكفي لشل الجهاز الحكومي عن متابعة الأخوان في حالة ما إذا وقع الاعتداء عليهم كما وقع في المرات السابقة لأي سبب إما بتدبير حادث كحادث المنشية الذي كنا نعلم أن الأخوان لم يدبروه أو مذبحة طرة التي كنا على يقين أنها دبرت للأخوان تدبيراً، أو لأية أسباب أخرى تجهلها الدولة أو تدس عليها وتجيء نتيجة مؤامرة أجنبية أو محلية .. وهذه الأعمال هي الرد فور وقوع اعتقالات لأعضاء التنظيم بإزالة رؤوس في مقدمتها رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة ومدير مكتب المشير ومدير المخابرات ومدير البوليس الحربي، ثم نسف لبعض المنشآت التي تشل حركة مواصلات القاهرة لضمان عدم تتبع بقية الإخوان فيها وفي خارجها كمحطة الكهرباء والكباري، وقد استبعدت فيما بعد نسف الكباري كما سيجيء.

وقلت له: إن هذا إذا أمكن يكون كافياً كضربة رادعة رد على الاعتداء على الحركة وهو الاعتداء الذي يتمثل في الاعتقال والتعذيب والقتل والتشريد كما حدث من قبل- ولكن ما هي الإمكانيات العملية عندكم للتنفيذ ..

وظهر من كلامهم أنه ليس لديهم الإمكانيات اللازمة، وأن بعض الشخصيات كرئيس الجمهورية ورئيس الوزارة





فيما يذكر- وربما غيرهما كذلك عليهم حراسة قوية لا تجعل التنفيذ ممكناً، فضلاً على أن ما لديهم من الرجال المدربين والأسلحة اللازمة غير كاف لمثل هذه العمليات .. وبناء على ذلك اتفق على الإسراع في التدريب بعدما كنت من قبل أرى تأجيله ولا أتحمس له باعتباره الخطوة الأخيرة في خط الحركة وليس الخطوة الأولى .. ذلك أنه كانت هناك نذر متعددة توحي بأن هناك ضربة للإخوان متوقعة، والضربة كما جربنا معناها التعذيب والقتل وخراب البيوت وتشرد الأطفال والنساء فقد أخذ الشيوعيون ينثرون الإشاعات في كل مكان بأن الإخوان المسلمين يعيدون تنظيم أنفسهم واختيار قيادة جديدة لهم وبلغتنا إشاعة أن الشيوعيين وضعوا منشورات في نقابة الصحفيين يبدو فيها طابع الإخوان للتحريض عليهم، ولم يكن هذا غريباً فقد سمعنا من قبل أنه ضبطت منشورات معدة للتوزيع في حقيبتي رجلين من رجال الدين المسيحي ماتا في حادث منذ سنوات وعليها توقيع الأخوان المسلمين بقصد الإيقاع بهم ..

كذلك كان الأستاذ منير الدلة قد قال لي في أثناء تحذيره وتخوفه من شبان متهورين يقومون بتنظيم: أنه يعتقد أنهم دسيسة على الإخوان بمعرفة قلم مخابرات أخبار أمريكي عن طريق الحاجة زينب الغزالي وأن المخابرات "كاشفاهم" وأنهم يفكرون في مكتب المشير في التعجيل بضربهم أو في تركهم فترة .. كما قال لي من قبل قريباً من هذا الكلام الحاج عبد الرازق هويدي نقلاً عن الأستاذ مراد الزيات صهر الأستاذ فريد عبد الخالق والأستاذ منير وبينهما توافق في التفكير والاتجاه، وكان الحاج عبد الرازق هويدي قد ذكر لي كذلك أن هؤلاء الشبان متصلون بالأستاذ عبد العزيز علي (الوزير السابق) أو اتصلوا به وأنه يقال: أنه متصل بالأمريكان ومدسوس عليهم وكنت قد عرفت من الشبان أنهم فعلاً التقوا مع الأستاذ عبد العزيز علي والأستاذ فريد في بيت الحاجة زينب الغزالي في أثناء بحثهم عن قيادة، ولكنهم لم يستريحوا له، فلم يكاشفوه بأسرار تنظيمهم، وفي كلام الأستاذ فريد معي أشار إلى اتصالهم بأشخاص مشكوك فيهم وكنت أعرف أنه يشير إلى اتصالهم بالأستاذ عبد العزيز وبالحاجة زينب، ورأيه من رأي الأستاذ منير أنهما مدسوسان لعمل مذبحة للإخوان ..

وكنت قد عرفت أن اتصالهم بالأستاذ عبد العزيز على منقطع، أما الحاجة زينب فكنت قد عرفت أنها قامت بمجهود كبير في السنوات الأخيرة في مساعدة البيوت، وأنها متصلة ببيت الأستاذ المرشد ومحل ثقتهم، وأن الشيخ عبد الفتاح هو وحده المتصل بها، ولم يكن عندي خوف من ناحية أن يستخدمها أي قلم مخابرات لأنها مكشوفة.

المهم أن هذه كلها كانت تنذر بقرب ضربة واعتداء يقع على الإخوان وعلى هذا التنظيم بشكل خاص... فقررنا الإسراع في التدريب بقدر الإمكان، وانصرفنا على انه ليس لدينا الإمكانيات الآن.

وأتذكر أن هذا كان آخر اجتماع للمجموعة، فلم التق بعد ذلك إلا بالشيخ عبد الفتاح وبالأخ علي العشماوي في رأس البر، ولم أتبين تفصيلات ما اتخذوه بينهم من إجراءات التدريب، ولا أية خطوات أخرى تنفيذية، ولا أذكر أنه جاء ذكر شيء من هذا سواء في مقابلتي مع الشيخ عبد الفتاح أو مع الأخ علي في رأس البر، إلى أن وقعت الاعتقالات الأولى للإخوان بالفعل، ولم يكن منهم أحد من أعضاء التنظيم بعد، وكانت المسافة قصيرة بين آخر اجتماع، والاعتقالات لا تمكنهم من تدريب حقيقي .. وهنا أرسلت إليهم عن طريق الحاجة زينب





في تعبيرات ملفوفة غير صريحة، أن يوقفوا نهائياً عملية السودان (أي الخاصة بالأسلحة) بأي شكل وأن يلغوا كل عملية أخرى (أي الخاصة برد الاعتداء) فجاءني استفهام من الأخ علي عن طريق الحاجة زينب كذلك عما إذا كانت هذه تعليمات نهائية حتى لو وقع التنظيم، فأجبته بأنه في هذه الحالة فقط وعند التأكد من إمكان أن تكون الضربة رادعة وشاملة يتخذ إجراء وإلا فصرف النظر عن كل شيء. وكنت أعلم أن ليس لديهم إمكانيات بالفعل وأنه لذلك لن يقع شيء.

وكان قد جرى في أثناء المناقشات الأولية عن الإجراءات التي تتخذ للرد على الاعتداء إذا وقع على الإخوان اعتداء حديث غير تدمير القناطر الخيرية الجديدة وبعض الجسور والكباري كعملية تعويق، ولكن هذا التفكير استبعد لأنه تدمير لمنشآت ضرورية لحياة الشعب وتؤثر في اقتصاده، وجاء استبعاد هذه الفكرة بمناسبة حديث لي معهم عن أهداف الصهيونية في هذه المرحلة من تدمير المنطقة:

أولاً: من ناحية العنصر البشري بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي..

وثانياً: من ناحية تدمير الاقتصاد .. وأخيراً التدمير العسكري .. فقال الأخ علي عشماوي بهذه المناسبة: ألا يخشى أن نكون في حالة تدمير القناطر والجسور والكباري مساعدين على تنفيذ المخططات الصهيونية من حيث لا ندري ولا نريد؟

ونبهتنا هذه الملاحظة إلى خطورة العملية فقررنا استبعادها والاكتفاء بأقل قدر ممكن من تدمير بعض المنشآت في القاهرة لشل حركة الأجهزة الحكومية عن المتابعة إذ أن هذا وحده هو الهدف من الخطة.. ولكن الأمر في هذا كله سواء في القضاء على أشخاص أو منشآت لم يتعد التفكير النظري كما تقدم .. ذلك أنه إلى آخر لحظة قبل اعتقالنا لم تكن لديهم إمكانيات فعلية للعمل





كما أخبروني من قبل وكانت تعليماتي لهم ألا يقدموا على أي شيء إلا إذا كانت لديهم الإمكانيات الواسعة..

وكانت هذه هي صورة الموقف إلى يوم اعتقالي ولا أعلم بطبيعة الحال ماذا حدث بعد ذلك، إلا أنه واضح أنه لم يقع شيء أصلاً.. وقد كانت لديهم فرصة ثلاثة أسابيع على الأقل لو كانوا يريدون القيام بأي عمل.

 

 



 





اتصالاتنا بالإخوان في الخارج
في العام الماضي ولا أتذكر التاريخ بالضبط أخبرني الأخ علي العشماوي أن أحد إخوان العراق يحب أن يقابلني وأنه هو ممثل إخوان العراق في مصر أو مندوبهم وكان يدرس في مصر وهو مسافر لأنه أتم دراسته وأخذ موعداً مني لمقابلته معي في منزلي، وكان ذلك .. واسمه حازم أو عاصم ولا أتذكر بالضبط.س

ودار حديث لا أملك تذكر تفصيلاته ولكن موضوعه كان حول أوضاع الإخوان في البلاد المختلفة واختلاف ظروفهم حسب اختلاف الظروف حولهم. وأنهم يتطلعون إلى القيادة في مصر ولكن القيادة هنا لا تتصل بهم ولا توجههم ولذلك فإن كل مجموعة تتخذ لنفسها السياسة التي تراها باجتهادها. وأن الإخوان في العراق من أجل ذلك اتخذوا لأنفسهم قيادة مستقلة وخطة مستقلة يكيفونها هم بأنفسهم وفق ظروفهم، ولكنهم مع ذلك يحاولون الاتصال بالمجموعات الأخرى في البلاد المختلفة ولكن مجرد اتصال، ولا يطالعون أحداً من المجموعات الأخرى على تكوينهم ولا حتى على قيادتهم، وإنما يتصل مندوب فقط لمتابعة الأحوال-وأنه رغم أنه تكون مكتب في بيروت يمثل إخوان العراق والأردن وسورية والإخوان المصريين الذين في السعودية، فإن خطة إخوان العراق هي هذه التي ذكرها. لأن التشكيلات الأخرى ذات عقلية تقليدية ويحتاج الأمر إلى فترة حتى تتلاقى أفكارهم مع أفكارهم.

حدثته أنا عن تفكيرنا الذي انتهينا إليه من ناحية منهج الحركة وضرورة بدئه من شرح حقيقة العقيدة قبل النظام والشريعة، ومن التكوين الفردي قبل التنظيم الجماعي، ومن عدم محاولة فرض النظام الإسلامي عن طريق إحداث انقلاب من القمة وبالذات عدم إضاعة الجهد بالتدخل في الأحداث السياسية المحلية الجارية إلى آخر ما سبق بيانه من منهجنا الجديد.

وهنا قال: إنه على اتصال بالأستاذ فريد عبد الخالق باعتباره الممثل للإخوان هنا الذي له حق الاتصال به. وأنه يرى أن هناك اختلافاً في التفكير والمنهج بين ما أقوله وبين ما يعرفه من تفكير الأستاذ فريد ومنهج الجماعة كما يفهمه، وأنه لماذا لا يوجد التفكير في الجماعة؟ وقلت له: على كل حال هذا تفكيرنا نحن وفي الظروف الحاضرة لا نملك الحركة على نطاق واسع لتوحيد تفكير الجماعة، فهذه ثمرة التجربة التي مررنا بها، والزمن كفيل بها. ولم أخبره بشيء من التفصيلات عن تنظيمنا. ولكنه كان مستاء لأن يظهر الإخوان كأنهم فرقة أو فرقتان. وانصرف من عندي على أنه سيظل على اتصاله بالأستاذ فريد كممثل للجماعة وأنه في الوقت نفسه سيبلغ الإخوان في العراق ما سمعه مني والصورة التي عليها الحالة عندنا. وبعد اشهر عاد هذا الأخ من الخارج وقابلني مرة أخرى عن طريق الأخ علي أيضاً وكان معه أخ عراقي آخر، وأخبرني هو وزميله أنه عرض الصورة الواقعة في مصر على إخوانهم هناك، فكلفوه أن يكون الاتصال بنا لأن منهجنا وتفكيرنا أقرب إلى منهجهم وتفكيرهم، وإن لم يكن موحداً لاختلاف الظروف بيننا. وسلمني مبلغ مئتي جنيه هدية من إخوانه هناك للمساعدة على ظروفنا.. هكذا إجمالاً بدون تحديد..فسلمت المبلغ للأخ علي كما ذكرت من قبل ولم يتم اتصال آخر غير هذا في هذه المقابلة.

* * *

وفي مايو الماضي زارني بمفرده أحد إخوان الأردن. وهو طبيب اسمه عبد الرحمن .. أما بقية اسمه فلا أتذكرها، ومن السهل معرفة اسمه من الأستاذ فريد عبد الخالق، وذكر لي أنه منتدب من إخوان الأردن لمقابلة الإخوان هنا، وأنه حضر إلي لتهنئتي بالخروج من السجن باسم إخوان الأردن، وأبلغني تحيات مراقبهم العام الأستاذ عبد الرحمن خليفة. ثم تحدث حديثاً طويلاً عن المسألة التي يريد أخذ تعليمات فيها أو توجيهات، وهي مسألة علاقتهم بمنظمة التحرير وبالشقيري، وهي سرد طويل لعلاقتهم بالشقيري منذ بدأ التمهيد لتشكيل منظمة فلسطين وأحاديثهم معه وأحاديثه معهم، لا تسعفني ذاكرتي الآن باستحضاره لأني لم أكن أتتبعه باهتمام إلا في النقطة الأساسية فيه وهي تتلخص: في أن الشقيري طلب مساعدتهم في الدعوة للمنظمة وأنهم فهموا منه أنه جاد في قضية فلسطين فبذلوا له كل مساعدة. ولكن عند تشكيل الهيئة التنفيذية 
أو ما يشبه هذا- وجدوا أنه استبعد الإخوان المسلمين منها، وأن أغلبية منها من المعروفين بميولهم الشيوعية، وأنهم راجعوه في هذا وكشفوا له عن حقيقة هؤلاء فوعد بالاهتمام بهذه المسألة وإعادة النظر في الموضوع، وأن المسألة بينهم وبينه عند هذا الحد.

وشكا من أن القيادة في مصر لا تتصل بهم ولا تعطيهم أي توجيهات في حين أنهم يعتبرون أنفسهم مرتبطين بالقاهرة.. وذكر لي أن السفير المصري في وقت من الأوقات سأل الأستاذ عبد الرحمن خليفة عما إذا كان يلبي دعوة لو جاءته من القاهرة، فرد الأستاذ عبد الرحمن عليه قائلاً: إن لك قيادة وأنت تتبعها وتطيع أوامرها. فأنا كذلك لي قيادة، وسألبي الدعوة لو جاءت لي من الأستاذ المرشد أو بموافقته وأن السفير قال له: يجب أن تعلقوا مصيركم ولا علاقاتكم بمصير الإخوان في مصر. فقال له: إننا مرتبطون بمصر باعتبارها قطاعاً من قطاعات الإخوان. ثم طلب مني توجيهات في الموقف، فقلت له: إنني لا أملك أن أعطيكم توجيهات محددة في موقف داخلي: أولاً لأنني لست المرشد. وثانياً لأنكم أنتم أعرف بظروفكم، وأقرب إلى القضية الفلسطينية، وأقرب إلى المنظمة وأخبر بكل ما يحيط بها. فطلب مقابلة المرشد فقلت له كذلك: إنني لا أملك أن أوصله بالمرشد لأنني أعرف أن حالته الصحية لم تعد تمكنه من بذل جهد في مثل هذه المشاغل والمشاكل، ولأنني أعرف كذلك عدم رغبته في مثل هذه المقابلات، وكنت سمعت هذا فعلاً نقلاً عن أهل بيته.

فقال لي: إنه سيقابل الأستاذ فريد فماذا انصح له هل يقابله أم يكتفي بمقابلتي؟ فقلت له: إنه يستطيع أن يقابل الأستاذ فريد بلا أي مانع.. وكان قد سألني قبل ذلك عن توجيهاتي العامة قبل سؤالي عن التوجيهات بخصوص منظمة فلسطين، فذكرت له أرائي في منهج الحركة الإسلامية على أنها مجرد آراء لي لا على أنها توجيهات لهم، لأني أعرف منذ سنة 1953 عندما كنت في الأردن أن إخوان الأردن منغمسون في الحركات السياسية المحلية، فلا يمكن أن أنصح لهم بالانسحاب منها وهم لا يستجيبون لهذا بحسب ظروفهم وتاريخهم في الحركة.

وقد علمت من الأستاذ فريد في المقابلة التي كانت بيني وبينه بعد ذلك وهي المقابلة الوحيدة باستثناء حضوره لتهنئتي بعد خروجي في العام الماضي والتي اقتصرت على التهنئة.. علمت أن الأخ الأردني زاره وأنه قابل الأستاذ المرشد كذلك. وأنه لم يأخذ منهما أية توجيهات في مسألة المنظمة. وأن المرشد أبدى رغبته في عدم الحديث في مثل هذه المسائل. وكذلك عرفت هذا من المرشد عندما زرته للسؤال عنه في مرضه وللعزاء في ابن عمه وذكرت له طلب ذلك الأخ زيارته وردي عليه. كذلك كان مما قاله لي ذلك الأخ الأردني: إن القوميين العرب في سورية اتصلوا بالأستاذ عصام عطار ليتعاون معهم في صراعهم مع حزب البعث وأمين الحافظ باعتبار أن حزب البعث والحكومة السورية تطارد الإخوان كما تطارد القوميين العرب. فقال لهم الأستاذ عصام: إن هذا التعاون يكون منتقداً من إخوان سورية وجميع الإخوان في البلاد العربية الأخرى مع وجود إخواننا في مصر في المعتقلات والسجون، ومعروف أن حركة القوميين العرب متصلة بالقاهرة، فالوضع لا يكون سليماً في مثل هذه الظروف ويحسن إنهاء قضية الإخوان في مصر ليصبح لمثل هذا التعاون محل وفرصة.

* * *

وأذكر أن الأخ علي العشماوي أخبرني أن في مصر أخاً سودانياً زائراً وهو مندوب عن الإخوان هناك، وقد يزورني. ولكن لم يحدد موعد ولم تتم الزيارة، غير أني علمت من الأخ علي أنه قابله مرة أو مرتين في الغالب، وأنه وصف له حوادث السودان ودور الإخوان الأساسي فيها، مما أدى إلى إنهاء الحكم العسكري هناك على ما هو معروف. كما أبدى له تفاؤله الكبير بقرب قيام حكم إسلامي في السودان نتيجة للانتخابات التي كانت لم تجر بعد.

وأذكر أنني علقت وقتها مع هذا كله إن قيام حكم إسلامي في أي بلد لن يجئ عن مثل هذه الطرق. وأنه لن يكون إلا بمنهج بطيء وطويل المدى، يستهدف القاعدة لا القمة، ويبدأ من غرس العقيدة من جديد، والتربية الإسلامية الأخلاقية. وأن هذا الطريق الذي يبدو بطيئاً وطويلاً جداً هو أقرب الطرق وأسرعها.

وقلت له كذلكن إنه لم يمروا بعد بالتجارب التي مررنا بها في مصر، ولذلك لابد أن يتركوا ليجربوا غذ أنني أظن أنهم لن يقبلوا منا توجيهاً في فورة الحماسة والتفاؤل.

ولما ظهرت نتيجة الانتخابات مخيبة لهذا التفاؤل تقابل مع الأخ علي فيما أذكر، وكانت صدمة له ظاهرة في حديثه كما نقل لي الأخ علي، ولا أذكر تفصيلات أخرى لأن المقابلة لم تكن معي على ما أتذكر.

* * *

وحضر من ليبيا لمقابلتي في أول أغسطس من هذا العام، وقبل اعتقالي بأسبوع واحد ثلاثة من إخوان ليبيا أحدهم اسمه (الفاتح) ولا أذكر أسماء الآخرين. وكان الأخ (الطيب الشين) قبل سفره أخبرني برغبة الأخ الفاتح في مقابلتي وأنها كانت أمنية له منذ زمن طويل وأنا في السجن وأنه قد يحضر في أواخر يوليو.

وبالفعل كان ذلك. وكانت معهم الأخ المبروك. وقد قابلتهم مجتمعين في الفندق الذي كانوا نازلين به وهو فندق أطلس. وكان أول سؤال توجهوا إلي به الاستفسار عن حقيقة حادث المنشية في أكتوبر سنة 1954 وعدم تصديقهم بأنه عمل الإخوان لأنه ظاهر فيه من الوصف الذي سمعوه أنه لا يمكن لإنسان عاقل أن يحاول ارتكابه على هذا البعد بمسدس. وقد أخبرتهم بما بلغنا عن تدبيره بواسطة صلاح دسوقي واللواء الذي مات أخيراً في الأسكندرية وثالث لم نعرفه بعد.

وكان أخي محمد قطب قد اعتقل قبل مقابلتي معهم بيومين أو ثلاثة، وقد سألوا عنه وعن مكان اعتقاله ولم أكن أعرف مكانه ولا سبب اعتقاله إذ أن علمي المؤكد عنه أنه لم ينضم في حياته إلى تنظيم أو هيئة أو حزب أو جماعة. كذلك أخبرتهم بتوقع اعتقالي لأن الاعتقالات كانت قد أخذت تتسع وتوحي بأنها ستشمل جميع الإخوان.

وبمناسبة الحديث عن تدبير حادث 26 أكتوبر في المنشية بواسطة السيد صلاح دسوقي واللواء الذي توفي أخيراً في الإسكندرية وثالث، وأخذ الإخوان به، تحدثنا في التخوف من تكرار مثل هذا التدبير من أية جهة يهمها إغراء الحكومة بالإخوان وخاصة العناصر الشيوعية التي كان يشاع في وقتها أنها سترتكب بعض الحوادث بقصد نسبتها إلى الإخوان.

وكان الأخ الفاتح سيسافر لزيارة لبنان والأردن، وقال: إنه سيقابل هناك الأستاذ عصام عطار والأستاذ عبد الرحمن خليفة وسينقل أخبار الاعتقالات وحادث المنشية والخوف من تدبير مثله. فلم أمانع في ذلك. ولكني قلت له: إن أسرار حادث المنشية تحتاج إلى بحث واستيفاء، فيحسن أن يعرف ولا يذاع عنه شيء حتى تكون لنا عنه بيانات كاملة، إلا إذا دبر للإخوان حادث مثله من أية جهة فيحسن عندئذ نشره. وكنت سمعت أن في النية مصادرة بعض كتبي وعدم إعادة طبعها. فقلت له: إنه إذا حدث هذا فهناك إذن مني لأي ناشر في الخارج بطبع هذه الكتب فلا يحتاج إلى إذن. وبهذه المناسبة ذكروا أن في نيتهم فتح مكتبة ومطبعة في ليبيا، وأنهم يعتبرون هذا إذناً لهم. وقد يجعلون لهم فرعاً في بيروت باعتبارها سوقاً حرة وليس فيها قيود تصدير ولا استيراد. فتركت الأمر كله في أيديهم إذا حدث ما كنت سمعته من بعض أصحاب المكتبات عن اتجاه النية لعدم طبع بعض كتبي.

وقد عرضوا أن يدفعوا مقدماً مبلغاً من المال مقابل طبع الكتب كما هو المتبع مع الناشرين ولما كان هذا سابقاً لأوانه فقد شكرتهم. وتركنا مثل هذه الشؤون لحينها عندما يتخذ فيها إجراء عملي. ولكني قلت لهم: إنه إذا حدث هذا فتسلم أية حصيلة لأهلي. ولما كان محمد معتقلاً فقد ذكرت لهم اسم ابن أختي رفعت أو ابن أختي عزمي، على أن أي واحد منهما يتسلم بدلاً مني، ما يكون لي من حصيلة كتبي. وذلك ظناً مني أنهما لا يعتقلان لأنهما ليسا من التنظيم الجديد، ولم تكن لهما سابقة انتظام في جماعة الإخوان من قبل!

* * *

وهناك زيارة من أحد إخوان سوريا كانت بعد خروجي من السجن بقليل في العام الماضي. ولم يبق في ذاكرتي عنها إلا صورة باهتة جداً وقد تعبت في تذكرها، ولكن لعلني ذكرت عنها شيئاً فيما بعد للأخ علي العشماوي ولعله يذكر اسم الزائر فأظن أنه يعرفه ولكني غير متأكد من شيء عن هذا. والذي استطعت أن استجمعه في ذاكرتي الآن عنها أن هذا الأخ كان قادماً من سورية في طريقه إلى إنجلترا لاستكمال دراسته بها، وأنه من قبل كان يدرس في مصر وأتم دراسته.

وقد أبلغني تحيات الأستاذ عصام العطار رئيس الإخوان المسلمين في سورية وتهنئته لي بالخروج من السجن. وذكر لي شيئاً عن موقف الإخوان في سورية وتوقعهم لضربة لهم من البعثيين. وسألني عما إذا كان لدي أية توجيهات؟ وأذكر أنني قلت له: إنني لا أملك إعطاء توجيهات محددة لموقف معين، فهذا متروك للمباشرين للأحداث والأوضاع وهم يكونون أعلم بها. ولكن لي فقط توجيهاً عاماً لكل الإخوان ولكل الحركات الإسلامية، وهو ألا تستغرقهم الأحداث الجارية، وألا ينغمسوا فيها وفي المناورات الحزبية والسياسية، فإن لهم حقلاً آخر أوسع وأبعد مدى وإن كان بطيئاً وطويل الأمد وهو حقل البعث الإسلامي للعقيدة وللقيم وللأخلاق وللتقاليد الإسلامية في صلب المجتمعات حتى يأذن الله- بالجهد الطويل والصبر- بقيام النظام الإسلامي.

وإنني ألاحظ شدة انغماس إخوان سورية بالذات، ومنذ نشأة الجماعة هناك في الأحداث السياسية وقلة التفرغ للتربية. وأذكر كذلك أنه قال لي: إنا إذا لم نشارك في الأحداث وانعزلنا عن بقية القوى الشعبية يسهل على البعث ضربنا. وإنني قلت له: إني أعتقد باستقراء الأحداث الماضية أن ضرب الإخوان والحركات الإسلامية لا يتعلق فقط بعوامل محلية، ولكنه يتعلق بمخططات صهيونية وصليبية استعمارية مدربة على إنشاء الظروف وتكييف الأحداث بحيث تصبح الضربة كأنها بسبب عوامل محلية .. وإنه يجب أن يكون في حسابنا أن أعداءنا وأعداء هذا الدين وأعداء حركات البعث الإسلامية في الخارج أكثر مما هم في الداخل.

وقد حدث بعد ذلك أن ترك الأستاذ عصام سورية إلى لبنان فيما أذكر. وأذكر كذلك انه حدثني عن الأستاذ سعيد رمضان، وأن الإخوان في سورية، وفي الأردن كذلك غير مستريحين لتصرفاته.. لأنه لا يستشيرهم فيها ويتصرف بمفرده حتى عندما يكون بينهم، فينزل في فنادق ويزور شخصيات لا يرغبون هم أن ينزل فيها أو أن يزورها باعتبارهم أدرى ببلدهم وما فيها ومن فيها، ولكنه هو لا يستمع لتوجيههم وفق تقاليد الإخوان في أن الزائر يكون في عهدة أهل البلد وقيادتهم المحلية.

وأنهم كلما أخذوا عليه أشياء في تصرفاته قال لهم: إن عنده إذناً بالتصرف من الجماعة. وسألني عما إذا كان هنا تفويض فعلاً للأستاذ سعيد بأن يتصرف من نفسه؟ وقد أجبته بأنه لا علم لي كلية بمثل هذه الشؤون-وهذا هو الواقع فعلاً- وأنني خارج حديثاً من السجن وأنني بطبيعتي لا أحب الدخول في هذه المسائل.. وبهذه المناسبة أذكر أن الأخ الأردني (الدكتور عبد الرحمن ..) الذي ذكرت زيارته من قبل تحدث معي بمثل هذا عن الأستاذ سعيد رمضان وأنني أجبته نفس الإجابة.

* * *

وعقب خروجي من السجن في العام الماضي حضرت إلي السيدة خيرية الزهاوي بنت أخي الأستاذ الشيخ الزهاوي كبير علماء العراق للاستشفاء واستشارة الأطباء. وقد حضرت عندنا تحمل إلي تحيات وتهنئة فضيلة عمها الأستاذ أمجد، وفرحه بخروجي بعد قلقه عما كان يترامى إليه من أخبار سوء صحتي في السجن وإشاعات موتي أحياناً. وأنه تحدث بشأني مع سيادة الرئيس عبد السلام عارف، ووجد عنده كل استعداد للتوسط لدى سيادة الرئيس جمال عبد الناصر. بل إنه فكر في ذلك من نفسه فقد كان كتابي "في ظلال القرآن" هو أنيسه في فترة اعتقاله. وبالعل قام بهذه الوساطة ونجحت والحمد لله. وأنه بعد عودته من القاهرة كلف من يذهب إلى فضيلة الشيخ أمجد ليبشره بنجاح وساطته فور نزوله من الطائرة في المطار، وأن الشيخ فرح بهذا هو وجميع إخوانه وأبنائه في جمعية علماء العراق. وقد شكرتها على زيارتها وطلبت منها شكر فضيلة الشيخ والسؤال عن صحته فقد علمت منها أنه لم يعد يستطيع الخروج من البيت لثقل المرض عليه. وقد أقامت معنا يومين ولما سافرت بعثت إلى أختي أمينة قطب برسالة بعد فترة طويلة من سفرها تتضمن تحياتها وتحيات بنت عمها الشيخ وكذلك خبراً بأن عمها يشتد عليه المرض، وأنه يبلغنا تحياته ودعواته.

* * *

كذلك زارني عقب خروجي سيادة سفير العراق في الجمهورية العربية المتحدة وأبلغني تحيات سيادة الرئيس عبد السلام عارف، كما أخبرني السفير أن الرئيس سعيد بنجاح وساطته لدى سيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وهو يسأل عن صحتي وعما إذا كانت لي أية طلبات يملك إجابتها. وذكر لي كذلك أن كتاب "في ظلال القرآن" كان أنيسه في فترة اعتقاله أيام عبد الكريم قاسم، وقد شكرته على زيارته وطلبت إليه تبليغ شكري لسيادة الرئيس العراقي، وأنه ليس لي طلبات سوى أنه إذا رأى سيادته أن يواصل مساعيه الحميدة لأنها قضية الإخوان بجملتها فلعل الله أن يوفقه إلى ذلك. ووعد السفير بحمل هذه الرغبة إلى الرئيس العراقي.

وعندما حضر الرئيس عبد السلام عارف إلى مؤتمر القمة أرسلت له برقية شكر وتحية، وقد رد علي برسالة لم تصلني ولكني عرفت فيما بعد بخبرها. فقد حضر السفير لزيارتي مرة أخرى في هذا العام وكان قد صار وزيراً للتربية والتعليم
قبيل أن يكون وزيراً في المجلس المشترك للوحدة مع الجمهورية العربية ومعه هدية لي من الرئيس عارف معها بطاقته. وفي أثناء الحديث العابر فهمت أن الرئيس كان قد بعث برد على برقيتي، ولم أقل له طبعاً، ان الرد لم يصلني!

وقد أرسلت بمجموعة كتبي مجلدة هدية للرئيس عارف وبمجموعة أخرى للوزير وذلك عن طريق السفارة العراقية في القاهرة، وكانا لوزير قد اتفق معي على أنه عند إتمام تجليدها أرسلها للسفارة وهي تتولى إرسالها.

* * *

كذلك زارني بعد خروجي السيد ضياء شيت خطاب المستشار بمحكمة التمييز العراقية للتهنئة .. وأخبرني كذلك بوساطة الرئيس عبد السلام عارف في شأني، وفرحه أصدقائي الكثيرين في العراق الذين لا أعرفهم من رجال الدين والفكر والعلم بنبأ خروجي الذي نشر في صحف العراق كلها. وتحدث عن الرئيس عبد السلام عارف بأنه رجل متدين ووالده قبله وعائلته كلها.. ثم زارني ابن أخته واسمه فيما أذكر (حازم) وأبلغني تحيات خاله الثاني اللواء محمود شيت خطاب ومعه كتاب له بعنوان "محمد القائد" هدية منه لي، وقد طلبت منه أن يسكره عني وأهديت له بعض كتبي.

ومن نحو ستة أشهر وردت إلي رسالة مسجلة من دار الإذاعة السعودية مرفق بها تحويل بمبلغ 143 جنيهاً (مئة وثلاثة وأربعين جنيهاً) على بنك بورسعيد وذكر في الرسالة أن هذا المبلغ هو قيمة ما أذاعته الإذاعة السعودية من أحاديث مقتبسة من كتابي "في ظلال القرآن" في شهري شعبان ورمضان سنة 1385. وكنت قد علمت أن الإذاعة السعودية تذيع أحاديث منتظمة مقتبسة من كتابي منذ سنوات، وأنها مستمرة في إذاعتها. فلما قررت هي مكافأة معينة عن فترة معينة رأيت أن أطالبها بقيمة السابق واللاحق من الإذاعات وهذا حقي الطبيعي كمؤلف.

ولكني قبل تسلم المبلغ وقبل المطالبة ببقية المستحقات رأيت إطلاع المباحث العامة على الموضوع حتى لا يساء تأويله في وقت من الأوقات. وبالفعل قابلت السيد المقدم محمود الغمراوي، وأطلعته على الرسالة والتحويل وعلى نيتي في المطالبة بمستحقاتي. فرأي أن أكتب مذكرة بالموضوع لتحفظ في سجلاتهم بدل الحديث الشفوي الذي لا يمكن الرجوع إليه عند اللزوم. فكتبت له هذه المذكرة وتركتها له، مع موافقته على أن أتسلم المبلغ وأن أطالب بالباقي.

وقد تسلمت المبلغ وكتب رسالة إلى السيد وزير الإعلام السعودي فصلت له فيها موضوع الأحاديث وطالبت بصرف بقية المستحقات ما دامت الإذاعة هي التي قررت مبدأ دفع مكافأة عن فترة ليس هناك ما يميزها عن بقية الفترات. وصورة الرسالة قد اطلعت عليها المباحث العامة كذلك ولكني لم أتسلم رداً رسمياً من وزارة الإعلام السعودية ولا من محطة الإذاعة غير أني عرفت من الأخ عبد الفتاح إسماعيل ومن الحاجة زينب الغزالي نقلاً عن بعض العائدين من الحج في هذا العام-ولا أعرف من هم- أنه تقرر هناك تخصيص مكافأة عن هذه الإذاعات السابقة تودع تحت تصرفي مع الاستمرار في إرسال المكافآت التي تستجد بالطريقة التي أرسل بها المبلغ السابق.. إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق.

* * *

وفي أثناء انعقاد مؤتمر علماء المسلمين في القاهرة في هذا العام زارني مندوب الجزائر في المؤتمر واسمه الشيخ .. (لا أتذكر الاسم ولكن الحاجة زينب الغزالي تعرفه لأنه كلمني تليفونياً من عندها للاتفاق على موعد الزيارة) وقد تحدث معي عن الأحوال والأوضاع فيا لجزائر من ناحية التيارات العقيدية. يقول إن قاعدة الثورة إسلامية لا شك في ذلك، واتجاه الشعب كله إلى الإسلام وإن كان البعض لا يعرف حقيقته، لأن الاستعمار الفرنسي الطويل حرص على تجهيل الشعب بدينه غير أنه توجد الآن عند القمة تيارات شيوعية فكرية منظمة تعمل على نشر الأفكار الشيوعية تحت اسم الاشتراكية وتحت ستار الثقافة الاجتماعية والاقتصادية وليس هناك ما يقابلها من ناحية الفكر الإسلامي، لأن المشايخ والوعاظ يتجهون اتجاهاً تقليدياً لا يكافئ تلك التيارات ولذلك فالخوف شديد من تضليل الشعب بهذه الوسيلة. وكان هذا قبل الانقلاب الجزائري الأخير. ثم طلب مني أن أكتب له بياناً مختصراً عن النظام الاجتماعي الإسلامي ووسائله في تحقيق العدالة الاجتماعية ليساعده هو وإخوانه هناك على مقابلة التيارات الشيوعية. فقلت له: إن لي ثلاثة كتب في هذا الموضوع هي: العدالة الاجتماعية في الإسلام، والسلام العالمي والإسلام، ومعركة الإسلام والرأسمالية. وأن للأستاذ المودودي كذلك كتباً في الموضوع سميتها له. فقال: إن هذا ليس ما يطلبه، إنه يطلب مختصراً يستطيع أن يقرأه من يستطيعون قراءة العربية ثم يترجم إلى الفرنسية لأن معظم المثقفين عندهم لا يقرأ إلا بالفرنسية، أما هذه الكتب فلا يستطيع قراءتها إلا المثقفون ثقافة عربية كاملة وهم قليلون جداً. ووعدته أن أكتب هذا المختصر، ولكني علمت أنه سافر سريعاً قبل أن أكتب له شيئاً في الموضوع الذي يريده.

* * *

وزارني مفتي طرابلس بلبنان ولا أتذكر اسمه ولعله (جو زو) بصحبة اللواء سعد (وأظنه السكرتير المساعد للمؤتمر الإسلامي) والأستاذ جمال السنهوري وتحدث معي في ضرورة العمل على إحياء المؤتمر الإسلامي بكامل نشاطه، والبعد به عن تيارات الخلافات السياسية بين البلاد العربية، وأنهم جاءوا إليّ لأنهم في حاجة إلى جهدي ورأيي في هذا الموضوع.

وكان معهم مشروع إنشاء مجلة للمؤتمر مطبوع ومبين فيه أهدافها وأبوابها فاطلعت عليه، وأبديت ما عنَّ لي من ملاحظات واقتراحات وافقوا عليها. وانصرفوا على أنهم عند إتمام الإجراءات لإصدار المجلة ولاستئناف النشاط الفعلي للمؤتمر سيعودون إلي. وكان هذا آخر ما هنالك ..

وأذكر من هذه الاتصالات عدة رسائل تهنئة بالخروج من السجن من أعضاء ندوة العلماء بالهند ومن الجماعة الإسلامية بباكستان، كلها باللغة الإنجليزية. ولا أذكر الآن من مرسليها إلا واحداً اسمه (غلام أحمد) أظنه رئيس الجماعة الإسلامية بكراتشي (وكان الأستاذ المودودي أمير الجماعة معتقلاً)، وواحد اسمه (الصديقي) وثالث من ندوة العلماء بالهند أظنه وكيل الندوة.

ومما جاء في الرسالة الأولى على ما أتذكر أو في إحدى الرسائل الأخرى من باكستان بعد التهنئة بخروجي وخروج من معي (فقد كان يظن أنه عفو شامل عن جميع الأخوان المسلمين) إن هذا الخروج جاء بعد عشر سنوات في حين أن نهرو الهندي وهو من أمة وثنية مثلثة (يقصد أنها تعتقد أن الإله ثلاثة في واحد قريباً من عقيدة المسيحيين) وأقوام منها يعبدون البقر، إلا أنه أصدر عفواً عن الذين اعتدوا عليه فعلاً وأصابوه ولم يسجنهم. ولكن الحكام في البلاد الإسلامية لا يتسامحون هذا التسامح، ثم يكرر تهنئته على كل حال. وإن كان المسلم في رعاية الله سواء كان سجيناً أو طليقاً.

ومما جاء في الرسالة الثانية (رسالة صديقي) بعد التهنئة أن كتابين من كتبي في طريقهما إلى المطبعة بعد مراجعة ترجمتهما إلى اللغة الأوردية (وكان من قبل قد ترجم لي كتاب العدالة في الإسلام للأوردية ونشره في باكستان) وأن هناك تفكيراً في ترجمة هذين الكتابين إلى اللغة الإنجليزية التي يتحدث بها ويقرأ معظم المثقفين في باكستان والهند. ثم قال: إنه يأسف لأنه لم يرسل لي حتى الآن نصيب المؤلف من حصيلة كتاب العدالة الاجتماعية الذي نشر منذ سنوات، لأنها حصيلة غير مناسبة وذلك نظراً لأنهم يحرصون على بيع الكتاب بسعر زهيد لا يزيد كثيراً على سعر التكلفة رغبة في سعة نشره، ولكن بعد نشر الكتابين الجديدين ستكون مجموعة الحصيلة لائقة وسيرسلها.. ولم يفع هذا بعد.

ومما جاء في الرسالة الثالثة الآتية من ندوة العلماء بالهند بعد التهنئة الرغبة في تبادل المؤلفات والأفكار بيني وبينهم، لأن المسلمين في أنحاء الأرض ينبغي أن يتبادلوا أفكارهم بقصد توحيدها وتنقيتها من الأخطاء والانحرافات.

ولم أجد وقتاً للرد على هذه الرسائل وغيرها من الهند وباكستان لأنها جاءت متأخرة ولم يقع بيني وبينهم اتصال آخر غير هذه الرسائل من جانبهم ولم احتفظ بها.

ولا أتذكر أنه كانت هناك اتصالات أخرى غير ما سردته في الصفحات السابقة.

الإسلام نظام حياة كامل

علاقات أخرى في الداخل
ذكرت فيما سبق أهم علاقاتي بالإخوان الذين كانوا في السجون أو في خارجها بعد خروجي من السجن. وهي العلاقات التي دار فيها حديث عن الجماعة والحركة من قريب أو من بعيد.. ولا أتذكر الآن غير ما ذكرته إلا زيارة "محمد عبد العزيز عطية" لي هذا العام وأنا في رأس البر، مع واحد آخر اصله من دمياط ومقيم بالإسكندرية واسمه ".. مؤمن" ومعهما واحد من ليبيا لا أذكر اسمه ومن كلامه بدا أنه لا علاقة له بالحركة الإسلامية ولا حتى الاتجاه الإسلامي. وكان عندي ي وقت زيارتهم الأخ علي العشماوي هو وعروسه حيث كان يقضي بعد زواجه أياماً قليلة في رأس البر.

ثلاثة أيام على ما أتذكر .. وقد ذكر محمد عبد العزيز أنه بلغه أن السيد زكريا محيي الدين تكلم مع بعض الإخوان في دخول الإخوان الاتحاد الاشتراكي للوقوف في وجه التيار الشيوعي- أو كلاماً كهذا لا أتذكره بالضبط-كما بلغه أن السيد زكريا قد زار الأستاذ المرشد حسن الهضيبي للتحدث معه في هذا الشأن، أو في إعادة الجماعة بصورة ما لهذا الغرض. وقد قلت له: إنني استبعد هذه الإشاعة. وكل ما أعرفه أن السيد زكريا محيي الدين زار معسكر قادة الشباب الذي كان مقاماً في حلوان لعدة أسابيع على إثر ما حدث فيه من تذمر من الشباب بسبب أن معظم المحاضرات فيه ومعظم المحاضرين كانوا يتجهون اتجاهاً شيوعياً ويبثون الأفكار الماركسية تحت ستار الاشتراكية وبعضها يمس العقيدة الإسلامية بطريق غير مباشر. وأنه قال لهم: إن الدولة ليست شيوعية. وأية أفكار لا تعبر إلا عن أصحابها. وأنه تحدث مع الدكتور كمال أبو المجد وهو من بين الأساتذة المحاضرين يمثل الاتجاه الإسلامي، في أن ينشر الفكر الإسلامي داخل الاتحاد الاشتراكي. أو في كيفية تمثيل الفكر الإسلامي داخل الاتحاد الاشتراكي. أو في كيفية تمثيل الفكر الإسلامي داخل الاتحاد الاشتراكي. أو شيئاً من هذا القبيل.

وكان الذي نقل إلى هذا الخبر شاب من قريتي اسمه (.. الشاذلي) مدرس بمعهد المعلمين بأسيوط ومن بين فوج قادة الشباب الذي حضر معسكر حلوان. وكانت المناسبة التي نقل فيها هذا الحديث، أنه قد زارني بمناسبة وجوده في حلوان ومعه مجموعة المحاضرات التي ألقيت عليهم ودرسوها وناقشوها 
أو معظمها- فلما عرفت منه أنها محاضرات المعسكر ألقيت عليها نظرة فلفت نظري فيها اللون الشيوعي الصارخ فيها- وإن كان الستار هو الاشتراكية حتى أنهم لا يريدون أن يقولوا: "الاشتراكية العربية" عن التجربة القائمة في الجمهورية العربية، وإنما يسمونها: "التطبيق العربي الاشتراكي" ليجعلوا الأصل هو اشتراكية كارل ماركس، والموجود في مصر هو مجرد تطبيق لها محور بحسب الظروف الواقعة في الجمهورية العربية. فطلبت منه تركها لي وقتاً قصيراً لقراءتها وردها له وكان ذلك.

ولما أبديت له هذه الملاحظة ملاحظة غلبة الطابع الشيوعي على المحاضرات-ذكر لي هو أن هذا فعلاً ما آثار تذمراً في وسط الطلاب، وأن السيد زكريا محيي حضر وقال كذا وكذا مما سبق ذكره.

ولكنه ذكر لي كذلك أن الشباب الذي تلقى هذه المحاضرات ولو أنه يتذمر حين تمس العقيدة الإسلامية مساً ظاهراً في أثناء المناقشات ولكنه خالي الذهن من الثقافة الإسلامية الحقيقية. ومن أجل هذا فإنه يتأثر في النهاية بهذه المحاضرات وتصبح الأفكار التي تقوم عليها هي قاعدة تفكيره مع بقاء الحماسة لعقيدته عندما تمس مساساً ظاهراً. مما ينشئ اضطراباً في تفكير هذا الشباب بين اتجاهه العاطفي وتكوينه الفكري.

وهي ملاحظة صحيحة وفي محلها. وخصوصاً إذا أضيف إلى هذه المعسكرات لقادة الشباب غلبة التوجيه الشيوعي والاتجاه الانحلالي الخلقي على ما ينشر في الصحف بوجه عام وخاصة مجلة الطليعة ومجلة الكاتب ومجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير مما يوجد جواً وبيئة فكرية لا يقف في وجهها التوجيه التقليدي الهزيل القليل الذي يتمثل فيه الفكر الإسلامي. ومما يجعل الكفتين غير متساويتين، ويجعل الغلبة الحقيقية للتوجيه المادي الإلحادي والتوجيه الانحلالي الأخلاقي.

وعن العلاقات والاتصالات خارج محيط الإخوان:

1- في أواخر سنة 1960 وكنت في ليمان طرة وقد ساءت حالتي الصحية ولم يعد العلاج في مستشفى الليمان نافعاً لقلة الإمكانيات العلاجية سمعت من إخواني أن بيت الحاج حسين صدقي في المعادي تعرفوا عليهم وهم مهتمون بأنباء صحتي وأنهم قراوا شيئاً عن كتبي وهم يريدون المساعدة في نقلي إلى أي مستشفى جامعي للعلاج.

ولم أتبين على وجه التحديد مبعث هذا الاهتمام من ناس ليست لنا بهم سابق معرفة. هل هو فعلاً قراءة بعض الكتب، أم لأن لهم علاقة بالحاجة زينب الغزالي التي عرفت أنها تساهم مساهمة فعالة في إعانة البيوت التي لم يعد لها مورد رزق وذلك حوالي هذا الوقت. أم لصلتهم كذلك بالشيخ الأودن. وقد عرفت فيما بعد أنه كان كثير الاهتمام بما يبلغه من سوء صحتي وأنني مشرف على الموت.. أم لهذه الأسباب كلها مجتمعة .. ولكن لم يتم شيء .. والذي حدث بعد هذا أن ساءت حالتي أكثر، وأن الهيئة الطبية لمصلحة السجون طلبت علاجي في مستشفى جامعي وأن الطبيب الشرعي في لجنة مع كبير أطباء المصلحة قرر هذا فنقلت إلى مستشفى المنيل الجامعي. حيث تبين من التشخيص أن الحالة الجديدة حالة ذبحة صدرية، ولم تكن اكتشفت في مستشفى السجن لقلة إمكانيات الفحص الطبي وعدم وجود الأخصائيين من الأطباء في حالات القلب. وذلك إلى حالة الرئتين والأمعاء وأمراض أخرى. وقد قضيت فترة ستة أشهر في مستشفى المنيل. ثم أعدت إلى مستشفى السجن. وفي العام التالي عادت الحالة إلى السوء ونقلت مرة أخرى إلى المنيل حيث قضيت ستة أشهر أخرى ثم أعدت إلى السجن. ولما ساءت الحالة مرة ثالثة صدرت عفو صحي وخرجت.

وقد جاء الحاج حسين صدقي وأهل بيته لزيارتي وتهنئتي .. وهنا ذكروا لي اهتمام الشيخ الأودن بأخبار صحتي، ووصفوه لي بأنه رجل تقي ورع زاهد من جيل الصحابة. ولم تكن لي به معرفة سابقة-وإنه هو مريض بانزلاق غضروفي فلا يملك الانتقال والحركة. لذلك تقرر أن أزوره أنا لأشكره على اهتمامه.

وفي هذه الأثناء كنت قد تعرفت الحاجة زينب الغزالي حيث التقيت بها لأول مرة في بيت الحاج حسين صدقي على الغداء. ثم في بيتها كذلك للغداء بمناسبة خروجي .. ثم تمت أول زيارة لي للشيخ الأودن مع الحاج حسين صدقي وأهل بيته والحاجة زينب الغزالي وأظن كان معي كذلك أخي محمد قطب.. وقد ذهبنا في عربة الحاج حسين.

وأتذكر أنني زرت الشيخ بعد ذلك مرتين أو ثلاثاً، مرة فيها كان معي محمد ومرة كنت بمفردي. وفي المرة التي كان معي محمد فيها كان يزوره شخص آخر لم يعرفنا به. وحضر الدكتور مظهر عاشور للكشف عليه ثم انصرف.

وفي المرة التي زرته فيها منفرداً كان يتحسر على شباب البلد وانصرافه عن دينه وانحلاله الخلقي. فقلت له أطمئنه: إن هناك بقية صالحة من الشباب المتدين العامل لدينه المستمسك بأخلاقه وأنها بقية تبشر بالخير-وكنت أشير إلى المجموعة التي اشتغل معها دون تصريح له بطبيعتها- فاستوثق مني من وجود هذه البقية فعلاً، فأكدت له ما ذكرته. فسأل وأنت على اتصال بهذه البقية الصالحة. فقلت له: نعم. وأنا أوجهها وهي تقبل توجيهاتي. فقال: الله يبشرك بالخير طمنتني. ودعا لي بالتوفيق.

وكان الحديث هكذا مجملاً لا يتعدى الإشارة إلى وجود بقية صالحة. وكان في أثناء الحديث قد قال: أنا قلت للشيخ حسن (يقصد الشهيد حسن البنا) بلاش تدخلوا في المشاكل السياسية وكفاية تربوا للبلد جيل من الباب المسلم. لكن الحوادث جرفته. نهايته. الله. وأهو كانت النتيجة ضرب الإخوان. وانتشار الانحلال. وانصراف الشباب عن دينه وأخلاقه. وهنا قلت له ما قلت عن وجود بقية صالحة متمسكة عاملة.. بالإجمال الذي ذكرته.

علاقات متفرقة

وفي خلال الأشهر الثمانية التي قضيتها في القاهرة بين خروجي من السجن واعتقالي مرة أخرى- إذ أنني قضيت ستة أشهر أخرى في العام الماضي وفي هذا العام في مصيف رأس البر هرباً من الحر الذي كان يجدد لي أزمة القلب والصدر باستمرار
زارني أفواج كثيرة من الناس، بعضهم من معارفي القدامى الذين لا علاقة لهم بالحركات الإسلامية، ولكن ربطت بيني وبينهم إما صلات أدبية وفكرية أو شخصية ومعظمهم من الشباب الذي قرأ كتبي إما من البلاد العربية والإسلامية عامة، وإما من المصريين، وكلهم ممن لم يسبق لي التعرف إليهم من قبل سجني. لأن غالبيتهم من الشباب الحديث السن بين العشرين والثلاثين ممن كانوا قبل سجني فتية صغاراً لا علاقة لي بهم.

وكانت زياراتهم تنقضي في إثارة مسائل مما قرأوه في كتبي أو في كتب غيري أو تتعلق بالأحداث الجارية في المنطقة، حيث تدور فيها كلها أحاديث مفتوحة غير مقصورة على أحد دون أحد. ويشارك فيها من يحضرون المجلس بدون قيد. وبعضهم يخرج وبعضهم يبقى ويحضر إليه زائرون جدد.. وهكذا..

وكان التعريف بالأسماء في مثل هذه الزيارات المختلطة عابراً وليس محل اهتمام في زيارات الغرض منها
من ناحيتهم التعرف إلى رجل سمعوا عنه أو قرأوا له ومناقشته في أفكاره والاستزادة منها والغرض منها من ناحيتي التعرف إلى تفكير هذا الجيل من الشباب الذي لم ألتق به من قبل ثم شرح بعض أفكاري له بقدر ما تسمح طبيعة مجالس مشتركة غير منتظمة في زيارات مفتوحة لكل من أراد.

وإن كان هذا لا يمنع أن أستشعر من بعضهم صدق الرغبة والنية في خدمة دينه والإخلاص في السؤال للمعرفة والتأهل للإسلام الصحيح ولكن المسألة لم تتعد هذا الحد: معرفة بالشخصيات دون احتفاظ بالأسماء .. وبخاصة أن ذاكرتي بطبيعتها حتى قبل المرض والتعب لا تمسك بالأسماء وهو أمر معروف عني بين أصدقائي اكتفاء بأني أحفظ شكل الوجوه والشخصيات- مع الأمل في أن بعض هذه الشخصيات خامة صالحة للتربية والتكوين والانضمام إلى صفوف العاملين فيما بعد. ولكني كنت مشغولاً بالتنظيم الذي وجد فعلاً، وغير راغب في ضم أحد إليه حتى يتم تكوينه على المستوى الذي أريده. ولا حتى من شباب الإخوان الموجود بالفعل- بل وإني كثيراً ما قلت لرؤساء هذا التنظيم: أنهم تعجلوا بالتنظيم كما تعجلوا في ضم عدد كبير إليه لا تمكن تربيتهم. ولم هو بهذه السعة والكثرة! والأمر في نظري كان يجب أن يبدأ بآحاد وأفراد. هذه هي الصورة العامة لعلاقاتي بهذا الشباب الذي كان يتدافع إلى زيارتي أفواجاً كثيرة في هذه الفترة. سواء منهم المصريون وغير المصريين. صورة ليس فيها تركيز على أسماء ولا على أشخاص إلا في حدود النية للمستقبل مع المشغولية عنهم في هذه الفترة بما لدي من تنظيم لم يتم إعداده كما أريد، ولا أريد أن أزيد عدده، ولو استطعت لأنقصت منه. وذلك غير حالتي الصحية التي تجعل جهدي محدوداً لا أحب أن أبعثره مع ناس جدد إلا في تلك الحدود العابرة. وغير انشغالي بما أريد كتابته من كتب والتحضير له وقراءة المراجع اللازمة.

ولكي تكون الصورة كاملة تماماً، فإن معظم من كانوا يحضرون كان يحضرون إما اثنين أو ثلاثة أو أربعة. وسواء في ذلك المصريون وغيرهم. وكنت أفهم من أحاديثهم أنهم يقرأون معاً، أو يتبادلون الكتب. أعني أن كلاً منهم يتبادل أفكاره مع واحد أو أكثر كزملاء.

ولكن لم يحدث أنني زدت على ما أسمعه منهم شيئاً في ذاك السبيل لم اشر على أحد منهم بتجمع ولا تنظيم. كان كل موقفي هو الملاحظة على من يصلح من هؤلاء في المستقبل أن ينضم للصف العامل بدون زيادة ونظراً لقصر الوقت، وكثرة المشاغل، وكثرة الزبائن، لم تزد الصورة شيئاً على هذا الذي ذكرته.

وأحب أن تكون هذه الصورة واضحة ومفهومة ومتصورة على حقيقتها. وإذا كنت قد قلت
كما جاء في أقوال الأخ علي العشماوي-إنني أحتفظ بأفراد أو مجموعات متناثرة لا أضمها للتنظيم فقد كان هذا هو الذي قصدته، وألا يفسر بغير حقيقته الواقعة. إنني أحتفظ بهم كمجرد ملاحظة لهم ولاستعدادهم أن يكونوا في الصف في المستقبل وذلك استنتاجاً من أحاديثهم وأسئلتهم وما قرأوه وما فهموه وما يبدو في حديثهم مع جدية وإخلاص واستعداد. واعتماداً على أنهم يتصلون بي هذه الصلة.

 كلمة ختامية
هذا أهم ما يحضرني الآن عن أوجه نشاطي في الحركة الإسلامية منذ انضمامي لصفوف الإخوان، فإن كانت هنالك تفصيلات أو جوانب أخرى فيمكن تذكيري بها بسؤالي عنها
ويتبقى بعد ذلك كله كلمة ختامية أقولها: سواء فهمت على وجهها الآن أم لم تفهم، فمن واجبي التبليغ بها. وهي تتلخص في النقط المختصرة الآتية:

1- إن العنف الذي عومل به الإخوان سنة 1954 بناء على حادث مدبر لهم وليس مدبراً منهم
وهو حادث المنشية- والذي عوملوا به وحدهم دون سائر الأفراد أو الطوائف الذين اتهموا بمؤامرات لقلب نظام الحكم أو للتجسس أو لغير ذلك. العنف الذي يتضمن التعذيب والقتل والتشريد وتخريب البيوت .. هذا العنف هو الذي أنشأ فكرة الرد على الاعتداء إذا تكرر بالقوة .. ولو كنا نعلم أن الاعتقال مجرد اعتقال ينتهي بمحاكمة عادلة وعقوبات قانونية حتى على أساس القوانين الوضعية المعمول بها- لما فكر أحد في رد "الاعتداء بالقوة". وأنا أعرف أنه ليست هناك قيمة عملية الآن لتقرير هذه الحقيقة، ولكنها حقيقة يجب أن أسجلها في كلماتي الأخيرة.

2- إنه مما لا شك فيه أن تدمير حركة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية المماثلة في المنطقة هدف صهيوني وصليبي استعماري. وهو وسيلة من وسائل تدمير العقائد والأخلاق في المنطقة. وأنه تبذل جهود ومؤامرات مستمرة لتحقيق هذا الهدف، وأنه لو استخدم في معاملة حركة الإخوان أسلوب آخر غير ما حدث سواء في سنة 1954 أو في هذه المرة لأمكن تدمير المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية في المنطقة بدلاً من تدمير الحركة الإسلامية التي مهما قيل في أخطائها فإنها وقفت في وجه حركة الإلحاد المادي والانحلال الأخلاقي التي كانت قد أخذت في المد بعد حركة أتاتورك اللادينية في تركيا وتأثيرها في منطقة الشرق الأوسط.

3- إنه أعقب ضرب الإخوان في سنة 1954 موجة من الانحلال الأخلاقي والاتجاه الإلحادي. وستعقب ضربهم الآن موجة أشد لا يعلم إلا الله مداها. فلحساب من هذا الانهيار؟ إنه قطعاً ليس لحساب هذا البلد ولا حتى لحساب النظام القائم على المدى الطويل والنظرة الأبعد. فكل نظام في الدنيا وخصوصاً النظام الناشئ في طور التجربة يحتاج إلى أخلاق ويحتاج إلى عناصر متماسكة العقيدة والخلق لتنصر به وتحرسه، ولا يحتاج فقط إلى مجرد القوة فضلاً على أعداء المنطقة الحقيقيين هم الذين سيجدون طريقهم سهلاً في النهاية في وجه مجتمع منحل عقيدياً وخلقياً.

ومهما كانت الآذان الآن غير مستعدة لسماع هذا الكلام، فإن من واجبي إبلاغه وتبرئة ذمتي بقوله.

4- لقد سمعت عدة مرات من يقول: وهل أنتم وحدكم المسلمون؟ أو لا يكفيكم المؤتمر الإسلامي وبرنامج نور على نور، والمساجد تقام فيها الصلاة والناس يذهبون إلى الحج .. الخ.

ويجب أن أقرر إن الإسلام شيء أكبر من هذا كله .. إنه نظام حياة كاملة، وإنه لا يقوم إلا بتربية وتكوين للأفراد، وإلا بتحكيم شريعة الله في حياة الناس بعد تربيتهم تربية إسلامية. وإنه ليس مجرد أفكار تنشر أو تذاع بدون الأخذ في تطبيقها عملياً في التربية أولاً وفي نظام الحياة والحكم أخيراً. وأن حركة الإخوان المسلمين كانت هي أنجح تجربة للتربية والإعداد، وإن أي خطأ في الطريق لا يبرر تدميرها، وخصوصاً إذا كان الخطأ منها ناتجاً عن خطأ في معاملتها.

ولقد أردت في سنة 1952، القيام بتجربة مثلها في هيئة شباب التحرير وكان الاتجاه معي في أول الأمر. ولكن في النهاية تغلب توجيه جمعية الفلاح الأمريكية وأشتات المنتفعين الذين أرادوا هيئة التحرير بالصورة المهلهلة التي وجدت بها والتي تخالف كل ما كنا اتفقنا عليه بشأنها. وبقيت حركة الإخوان هي وحدها القائمة بهذا الواجب.

إن الإسلام لا يقوم ولا يوجد في بلد ليس فيه حركة تربية ثم قيام نظام إسلامي يحكم بشريعة الله في النهاية.

هذه هي النهاية كلمات رجل يستقبل وجه الله يخلص بها ضميره ويبلغ بها دعوته إلى آخر لحظة، والسلام على من اتبع الهدى.

السجن الحربي في 22 أكتوبر سنة 1965.

سيد قطب

مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..