الصفحات

الجمعة، 22 أبريل 2016

عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام

الجزء الثالث
الباب الرابع: ردود أهل السنة على الفرق النحرفة في اعتقادها نحو الصحابة
الفصل الأول: ردود على مطاعن الشيعة في الصحابة
المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحا

...
المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحاً

الشيعة في اللغة:
قال الجوهري رحمه الله: شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه كما يقال: والاه من الولي ... وتشيع الرجل أي: ادعى دعوى الشيعة وتشايع القوم من الشيعة وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} 1 أي: بأمثالهم من الشيع الماضية"أ.هـ2.
وقال العلامة ابن الجوزي: "الشيع: جمع شيعة وهي الطائفة المجتمعة على أمر، ويقال: هؤلاء شيعة فلان: أي: أتباعه"أ.هـ3.
وجاء في لسان العرب: الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره وجمعها شيع وأشياع، جمع الجمع ويقال: شايعه كمال يقال: والاه ـ إلى أن قال ـ : "وأصل الشيعة الفرقة من الناس ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلّب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته جميعاً4
__________
1ـ سورة سبأ آية/54.
2ـ الصحاح 3/1240، مختار الصحاح للرازي ص/353، وانظر المفردات في غريب القرآن للراغب ص/271.
3ـ نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر ص/376.
4ـ كل مسلم يجب عليه تولي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم ومحبتهم، وقد كان القسط الأكبر والحظ الأوفر من هذا لأهل السنة والجماعة أما دعوى الشيعة في أنهم هم الذين اختصوا بموالاتهم دعوى بلا برهان ولكن يقال: إنهم اختصوا بالغلو المذموم نحوهم وبمعاداة من يحبهم أهل البيت وأهل البيت يحبون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكنون أي عداوة لأحد منهم رضي الله عنهم جميعاً.


(3/889)


حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنه منهم وفي مذهب الشيعة كذا أي: عندهم وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة"1.
وجاء في القاموس: "شيعة الرجل بالكسر أتباعه والفرقة على حده، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم والجمع أشياع وشيع كعنب"2.
وجاء في المصباح المنير3: "والشيعة الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت "الشيعة" نبزاً لجماعة مخصوصة والجمع "شيع" مثل سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع "وشيعت رمضان بست من شوال أتبعته بها"أ.هـ
فالشيعة: من حيث مدلولها اللغوي تعني: القوم والصحب والأتباع والأعوان وقد ورد هذا المعنى في بعض آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 4، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ} 5، فلفظ الشيعة في الآية الأولى تعني القوم، وفي الثانية: تشير إلى الأتباع الذين يوافقون على الرأي والمنهج ويشاركون فيهما.
تعريف الشيعة اصطلاحاً:
كلمة "شيعة" اتخذت معنى اصطلاحياً مستقلاً حيث أطلقت على جماعة اعتقدوا أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي ترجع إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها
__________
1ـ لسان العرب 8/188-189.
2ـ القاموس 3/49.
3ـ 1/329.
4ـ سورة القصص آية/15.
5ـ سورة الصافات آية/83.
(3/890)


بتعيينهم، بل إنها ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه أن يعين الإمام للأمة"1.
فقد قال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للشيعة: "وإنما قيل لهم الشيعة: لأنهم شايعوا علياً رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال أبو محمد بن حزم الظاهري مبيناً حد الشيعي: "ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي"3.
وقال الشهرستاني معرفاً للشيعة: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا: بإمامته وخلافته نصاً ووصية إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده"أ.هـ4
وقال عبد الرحمن بن خلدون: "اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في
__________
1ـ انظر مقدمة ابن خلدون ص/196-197.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/65.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
(3/891)


طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة"1.
وقال الجرجاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه: قالوا: إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده"أ.هـ2
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله معرفاً التشيع بقوله: "والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب والتصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو"3.
فهذه ستة تعاريف من أهل العلم لبيان المقصود بالشيعة وهي تتقارب في مدلولها، فقد أوضحوا فيها أن الشيعة طائفة من الناس يعتقدون أفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة وأحقيته هو وبنوه بالإمامة وأنها لا تخرج عنهم "إلا في حال التقية إذا خافوا بطش ظالم"4 كما يزعمون.
تعريف الرافضة:
الرفض لغة: الترك وقد رفضه يرفضه رفضاً ورفضاً والشيء رفيض ومرفوض والروافض: جند تركوا قائدهم وانصرفوا والرافضة فرقة من الشيعة.
قال الأصمعي: "سموا بذلك لتركهم زيد بن علي رضي الله عنه"5.
وجاء في المصباح المنير: "رفضته "رفضاً" من باب ضرب وفي لغة من
__________
1ـ مقدمة ابن خلدون ص/196-197.
2ـ كتاب التعريفات للجرجاني ص/129.
3ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.
4ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
5ـ الصحاح للجوهري 3/1078، لسان العرب 7/157.
(3/892)


باب "قتل" تركته والرافضة فرقة من شيعة الكوفة سموا بذلك لأنهم "رفضوا" أي: تركوا: زيد بن علي عليه السلام حين نهاهم عن الطعن في الصحابة"1.
فالرفض في اللغة معناه الترك والتخلي عن الشيء.
وأما في الاصطلاح:
فالرفض يطلق على "قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي".
قال الأصمعي: "كانوا بايعوه ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك، فأبى، وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضوا عنه فسموا رافضة، وقالوا: الروافض ولم يقولوا الرفاض لأنهم عنوا الجماعة"2.
قال عبد الله بن أحمد رحمه الله: قلت لأبي: "من الرافضي؟ قال: الذي يشتم ويسب أبا بكر وعمر"3.
فالرافضة اصطلاحاً قوم من الشيعة ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً والبراءة من الشيخين خصوصاً.
سبب تسميتهم بهذا الاسم:
قال الرازي: إنما سموا بالروافض لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب خرج على هشام بن عبد الملك فطعن عسكره على أبي بكر فمنعهم من ذلك، فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم ـ أي زيد بن علي ـ رفضتموني، قالوا: نعم، فبقي عليهم هذا الاسم"4.
__________
1ـ المصباح 1/232.
2ـ لسان العرب 7/157.
3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/165، السنة للخلال ص/492.
4ـ اعتقادات فرق المسلمين ص/52.
(3/893)


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الخلفاء الراشدون الأربعة" ابتلوا بمعادات بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم، فأبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف، ولهذا قيل للإمام أحمد: من الرافضي؟ قال: الذي يسب أبا بكر وعمر، وبهذا سميت الرافضة فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل: إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر"أ.هـ1
وقال أيضاً رحمه الله: "ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم، فقال لهم: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه"2.
وقال الحافظ ابن كثير في صدد بيانه ما حدث سنة ثنتين وعشرين ومائة: "فيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان سبب ذلك: أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك، فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره ـ وهو بالحيرة يومئذ ـ خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك ـ يرحمك الله ـ في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر ولكن القوم استأثروا علينا به
__________
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435.
2ـ منهاج السنة 1/8.
(3/894)


ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً قد ولوا فعدلوا وعملوا بالكتاب والسنة، قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذاً؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يؤمئذ"1 .
وقال صاحب روضات الجنات: "فالروافض هم أولئك الذين رفضوا من أهل الكوفة صحبة زيد بن علي رضي الله عنه حين منعهم من الطعن في الخلفاء الراشدين الذين سبقوا علياً رضي الله عنهم جميعاً وتبرأوا منه حيث لم يتبرأ منهم"2 .
ومما تقدم تبين أن سبب تسميتهم بالرافضة أنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي حين نهاهم عن الطعن في الصحابة وذلك أنهم لما عرفوا أنه يتولى الشيخين ولا يبرأ منهما رفضوه فاستعمل هذا اللقب في كل من غلا في هذا المذهب وأجاز الطعن في الصحابة وقد أطلق عليهم هذا الاسم سنة اثنتين وعشرين ومائة هجرية" 3.
__________
1 ـ البداية والنهاية 9/370-371.
2 ـ روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات لميرزا محمد الباقر 1/324.
3 ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 7/180-181، الكامل لابن الأثير 5/242-243، البداية والنهاية 9/370-371.
(3/895)


المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع
لقد قرر المحققون من أهل العلم بالتاريخ والمقالات أن أول من زرع فكرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام بغية الكيد له ولأهله بنشر العقائد الفاسدة وزعزعة العقيدة الإسلامية الصافية من قلوب الناس وقد ظهر ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ ـ أيام الخليفة الثالث ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه حيث تظاهر بالإسلام وأخذ في التنقل في البلدان، فقد اتجه من المدينة إلى البصرة، ثم إلى الكوفة ثم إلى مصر وأخذ ينفث سمومه وينشر أفكاره الخبيثة، وقد نشط ببث فكرتين أساسيتين لمخططه اليهودي:
الأولى: دعوته إلى اعتقاد رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: "عجباً ممن يزعم أن عيسى سيرجع ويكذب بأن محمداً سيرجع وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1.
الثانية: دعوته إلى اعتقاد "أن لكل نبي وصياً وعلي وصي لمحمدن ومحمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على حق وصيه وتناول أمر الأمة".
وقد استجاب له والتف حوله لفيف من الفاسدين والحاقدين وألفوا جماعة من ضعاف النفوس ويتسترون باسم الدين ويدعون إلى المطالبة بإسناد الأمر إلى علي رضي الله عنه نظراً إلى اعتقادهم الفاسد أنه خاتم أوصياء محمد وأخذ ابن سبأ يأمر أتباعه الذين استجابوا له بتحريك هذا الأمر والبدء بالطعن على الأمراء
والتظاهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاستمالة الناس إلى دعوتهم وكان لابن سبأ تأثير في سامعيه، فكان الذين يجتمعون إليه يتأثرون به ويقبلون قوله ويستعظمونه، وما زال هذا اليهودي الماكر المتظاهر بالإسلام ينشط هو وجماعته ضد الخليفة الثالث رضي الله عنه، وأمرائه، حتى أوسعوا الأرض إذاعة وكانوا يكتبون الكتب التي تنسب إليهم العيوب الكثيرة وتدس عليهم الدسائس، ويرسلونها إلى وجوه الناس في الأمصار إعدادً للفتنة الكبرى المدبرة في رأس عبد الله بن سبأ الخبيث حتى بلغ أهل المدينة طائفة من رسائلهم،

__________
1ـ سورة القصص آية/85.
(3/896)


فجاؤوا إلى عثمان رضي الله عنه يسألونه: هل أتاه من الأمصار مثل ما أتاهم؟ فقال لهم: والله ما جاءني إلا السلامة فأخبروه الخبر، فقال لهم: أنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي، فأشاروا عليه أن يرسل أشخاصاً ممن يثق فيهم إلى الأمصار ليخبروا أهلها بأنهم لم ينكروا شيئاً من عثمان لا أعلامهم ولا عوامهم، ففعل ذلك عثمان ثم كتب إلى أهل الأمصار كتاباً عاماً يذكر فيه ما بلغه من الإذاعات والطعن على الأمراء ويقول: إنه تولى أمر المؤمنين ليقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه ولى عماله على ذلك، وأنه مستعد لسماع كل شكوى منهم ومن عماله وإنصاف صاحبها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويدعو من له شكوى إلى موافاته في موسم الحج ثم اتضح أن الشكاوى التي كانت على عمال عثمان كانت محض اختلاق ودسائس شيطانية من مخططات ابن سبأ وأتباعه ثم ابتدعوا فكرة إرسال الكتب المزورة إلى من يريدون تحريضه على عثمان وولاته بأسماء طائفة من كبار الصحابة، ثم الكتب المزورة باسم الخليفة نفسه، ثم انتهت دسائس ابن سبأ الخبيث إلى إشعال فتنة كبرى انطلقت جذواتها الثلاث من البصرة والكوفة ومصر وهي الأمصار الثلاثة التي كان من نتائجها المشئومة قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه بغير حق ظلماً وعدواناً"1.


__________
1ـ انظر تاريخ ابن جرير الطبري 4/340 وما بعدهان تاريخ ابن عساكر 3/1-8، الكامل في التاريخ 3/154-181، البداية والنهاية 7/190-210، ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور
(3/897)


وإلى ذكر أقوال علماء التاريخ والمقالات فيما قرروه في كيفية بداية نشأة التشيع وأن زارعه الأول صاحب الحقد العظيم على الإسلام وأهله عبد الله بن سبأ اليهودي.
فقد روى ابن جرير بإسناده إلى يزيد الفقعسي قال: "كان عبد الله بن سبأ يهودياً فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الكوفة، ثم الشأم، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشأم، فأخرجوه حتى أتى مصر فاغتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: "لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1 فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصيا، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون
__________
= سعدي القرشي ص/29، وما بعدها، عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام، ص/38-52.
1ـ سورة القصص آية/85.
(3/898)


ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء إلا أهل المدينة، فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس ـ واجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان ـ فقالوا يا أمير المؤمنين أياتيك عن الناس الذي يأتينا؟، قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة، قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بالذي أسقطوه إليهم، قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي، قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق فيهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشأم وفرق رجالاً سواهم فرجعوا جميعاً قبل عمار، فقالوا: أيها الناس ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعلام المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم"1.
وقال عبد القاهر البغدادي: "وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً ... فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خير الأوصياء كما أن محمداً خير الأنبياء ... إلى أن قال: "وقال المحققون من أهل السنة: إن ابن السوداء كان على هوى دين اليهود، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه السلام"2.
وقال الشهرستاني في شأن ابن سبأ: "زعموا أنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه، وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه
__________
1ـ تاريخ الطبري 4/340-341، تاريخ ابن عساكر 34/1-3، الكامل في التاريخ 3/154-155.
2ـ الفرق بين الفرق ص/235.
(3/899)


ومنه انشعبت أصناف الغلاة"أ.هـ1.
وقال الحافظ ابن عساكر: "عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة، كان يهودياً وأظهر الإسلام، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر وقد دخل دمشق لذلك في زمن عثمان بن عفان"أ.هـ2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أنه أول من أحدث الرفض والغلو المذموم حيث قال: "وأصل الرفض" من المنافقين الزنادقة فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه وادعى العصمة له ولهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق وحب بني هاشم إيمان وبغضهم نفاق"أ.هـ3.
كما ذكر رحمه الله أن بين ابن سبأ وبولص النصراني الذي أفسد دين النصرانية شبهاً واضحاً، حيث قال: "وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهودياً في إفساد دين النصارى"4.
وقال رحمه الله في موضع آخر في سياق ذكره للرافضة: "وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر أهل العلم ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقاً زنديقاً أراد فساد دين الإسلام
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
2ـ تاريخ دمشق 34/1.
3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435.
4ـ المصدر السابق 28/483.
(3/900)


وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع "بولص" بالنصارى، لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضغف النصارى وعقلهم، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علماً وعملاً، فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغلو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم، وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق، ولكن يضل من يتبعه على ضلاله"أ.هـ1، فقد بين رحمه الله أن منشأ الرفض كان من وضع الزنديق ابن سبأ اليهودي وأن هذا الشخص تظاهر بالإسلام نفاقاً وأنه كان له هدف أشد من تأسيس الرفض وهو إفساد دين الإسلام كما فعل "بولص" اليهودي بدين النصرانية، ولكن الله رد كيده في نحره وكشف خبثه لأنصار دينه.
وقال المقريزي مبيناً كيفية بدء التشيع: "وكان ابتداع التشيع في الإسلام أن رجلاً من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم فقيل له عبد الله بن سبأ وعرف بابن السوداء وصار يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ـ ثم ذكر نبذاً من كيده للإسلام ـ ومنها أنه قال: "لكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب وصي محمد صلى الله عليه وسلم"أ.هـ2.
فالنصوص المتقدم ذكرها كلها فيها بيان واضح أن ابن سبأ كان يبيت للإسلام الشر وأنه كان له خبيئة سوء وإنما كان يتستر بالتشيع لأهل البيت ليصل إلى مقصوده الخبيث ولكن الله لا يهدي كيد الخائنين، فقد كشف الله عواره
__________
1ـ منهاج السنة 3/261.
2ـ خطط المقريزي 2/334.
(3/901)


وفضح غرضه السيء للناس ولوضوح خبثه وشدة حقده على الإسلام والمسلمين لم يذكره أحد من أهل العلم والإيمان بخير، وإنما وصفوه بأنه أول من سن لأهل الخذلان النيل من أبي بكر وعمر ووصفوه بالخبث والكذب وأنه ضال مضل.
فقد ذكر الحافظ ابن حجر من طريق أبي إسحاق الفزاري أن سويد بن غفلة دخل على علي في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر يرون انك تضمر لهما مثل ذلك منهم عبد الله بن سبأ وكان عبد الله أول من أظهر ذلك فقال علي: ما لي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى عبد الله بن سبأ فسيره إلى المدائن، وقال: لا يساكنني في بلدة أبداً، ثم نهض إلى المنبر حتى اجتمع الناس ـ ثم أثنى على الشيخين ثناء طويلاً وقال في آخره: "ألا ولا يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري"1.
بل قد روى ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه لما بلغه انتقاص ابن سبأ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هم بقلته، فقد روى بإسناده إلى سماك بن حرب قال: بلغ علياً أن ابن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر، فدعا به ودعا بالسيف ـ أو قال فهم بقلته، فكلم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، قال: فسيره إلى المدائن"2.
وروى بإسناده إلى أبي الجلاس3 قال: سمعت علياً يقول لعبد الله السبئي: "ويلك والله ما أفضي إلي بشيء كتمه أحداً من الناس وقد سمعته يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذاباً وإنك لأحدهم"4.
__________
1ـ لسان الميزان 3/290، وانظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/100-101.
2ـ تاريخ دمشق لابن عساكر 34/7.
3ـ أبو الجلاس: هكذا معروف بكنيته ـ سمع علياً وعنه الحارث بن عبد الرحمن الهمذاني. انظر المقتنى في سرد الكنى: 1/150، التهذيب 12/63.
4ـ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/6.
(3/902)


فعلي رضي الله عنه مقدم أهل البيت الذي زعم عبد الله بن سبأ أنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم قد حكم على ابن سبأ بأنه خبيث وهم بقتله ولما تراجع عن قتله نفاه إلى المدائن، وبين بطلان دسائسه على الإسلام بأنه أحد الدجالين الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بأنهم سيكونون بين يدي الساعة.
وأخرج ابن عساكر أيضاً: بإسناده إلى عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: "أول من كذب عبد الله بن سبأ"1.
وقال الحافظ الذهبي في شأن ابن سبأ: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل أحسب أن علياً حرقه بالنارن وزعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنفاه علي بعد ما هم به"أ.هـ2.
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد روايات في ذمه: "وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ وليست له رواية ولله الحمد وله أتباع يقال لهم السبائية معتقدون إلهية علي بن أبي طالب وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته"أ.هـ3.
والحاصل مما تقدم تقريره عن أهل العلم أن ابن سبأ هو أول من زرع فكرة التشيع والقول بالرجعة والوصية وتلقفها منه من قلت بضاعته من العلم والهدى الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فالآراء التي يعتنقها الشيعة الرافضة ويتدينون بها لم تكن معروفة لدى الرعيل الأول من هذه الأمة وإنما هي من اختلاق عبد الله بن سبأ اليهودي الذي رام بها إضلال الناس وإفساد دين الإسلام وفتن بضلالاته الشيعة الرافضة وفتنت قلوبهم بالحقد على خيار الأمة، وتعبدوا بلعنهم وحكموا بردتهم، وهذا خذلان أيما خذلان لما فيه من تكذيب الله عز وجل من شهادته لهم في كتابه الكريم بالإيمان وكمال اليقين
__________
1ـ المصدر السابق 34/4.
2ـ ميزان الاعتدال 2/426.
3ـ لسان الميزان 3/290.
(3/903)


وإخباره برضاه عنهم وأنهم جميعاً من أصحاب الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وما فتن به الرافضة من تنقصهم للشيخين وقولهم بتقديم علي رضي الله عنه على الشيخين وطعنهم في عثمان لم يكن معروفاً عند شيعة علي رضي الله عنه وإنما ابتلي به المتأخرون من الشيعة الرافضة الذين سلكوا مسلك ابن سبأ في عقائده الفاسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولم تكن الشيعة التي كانت مع علي يظهر منها تنقص لأبي بكر وعمر ولا فيها من يقدم علياً على أبي بكر وعمر ولا كان سب عثمان شائعاً فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر"1 .
وختاماً لهذا المبحث تبين من كلام علماء التاريخ وأصحاب المقالات أن ابن سبأ شخص خبيث ظهر في آخر زمن خلافة ذي النورين بعقائد وأفكار زائغة ليلفت المسلمين عن دينهم، ولحق به من غوغاء الناس ما تكونت لهم طائفة السبائية 2.
__________
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/436.
2 ـ لزيادة معرفة حقيقة ابن سبأ ومعرفة أباطيله يراجع كتاب "ابن سبأ حقيقة لا خيال" للدكتور سعدي الهاشمي، وكذا كتاب "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام" لسليمان بن حمد العودة.
(3/904)


المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة
...
معتقدات كلها غلو وإطراء اختلقوها لهم من عند أنفسهم ومن معتقداتهم فيهم أنهم معصومون "من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكونوا معصومين من السهو والخطأ والنسيان لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي"1، ثم لم يقتصروا على هذا المعتقد فيهم بل تجاوزوه ووصفوهم بصفات تجاوزوا فيها الحدود، ويكفينا منها هنا على سبيل المثال كلام ثلاثة أشخاص منهم:
أولهم: الكليني مؤلف كتاب الكافي، وهو أعظم كتاب عندهم إذ هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة، فقد عقد في هذا الكتاب المسمى "أصول الكافي" عدة أبواب أورد فيها أحاديث من أحاديثهم كلها تضمنت غلوهم الممقوت في أولئك الأئمة، ونكتفي بذكر طائفة من تلك الأبواب للعلم بمدى ما وصل إليه الرافضة من السقوط بسبب الغلو الذي كان سبباً في هلاك الماضين من الأمم، وتلك الأبواب هي:
"باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه"2، "باب أن الأئمة هم أركان الأرض"3، "باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف أدلتها"4، "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة"5، "باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل"6، "باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم"7، "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون
__________
1ـ عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/51.
2ـ الأصول من الكافي 1/192.
3ـ الأصول من الكافي 1/196.
4ـ الأصول من الكافي 1/227.
5ـ الأصول من الكافي 1/228.
6ـ الأصول من الكافي 1/255.
7ـ الأصول من الكافي 1/258.
(3/847)


المبحث الرابع: رد أهل السنة على مطاعن الشيعة الإمامية في الصحابة على سبيل العموم
إن الرافضة وقفوا من الصحابة موقفاً لم ترضه اليهود في أصحاب موسى ولم ترضه النصارى في أصحاب عيسى، فلقد اجترءوا على الصحابة الكرام وتناولوهم بالطعن والقدح المشين استجابة منهم بذلك إلى سلوك غير سبيل المؤمنين فيهم فلهم مطاعن في الصحابة على وجه العموم، ولهم مطاعن في أفراد منهم على وجه الخصوص، وذلك كالخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كما سيأتي ذكر هذا ورده في المباحث التي ستأتي بعد هذا المبحث الذي سنقتصر فيه على ذكر بعض مطاعنهم التي شملوا بها جميع الصحابة.
فمن مطاعنهم في الصحابة عموماً أن أكثرهم انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التي جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو واشتغلوا بالتجارة وذلك دليل على عدم الديانة1.
والرد على هذا أن هذه القصة حصلت في بداية زمن الهجرة ولم يكونوا رضي الله عنهم قد علموا جميع الآداب الشرعية وكان قد أصاب أهل المدينة جوع فغلب على ظنهم أن الإبل التي جاءت محملة بالميرة2 لو ذهبت يزيد الغلاء ويعم البلاء، ثم لم ينفضوا جميعهم بل كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين
__________
1ـ انظر مختصر الاثنى عشرية ص/271-272، وانظر كتاب الصافي في تفسير القرآن 2/701، تفسير القمي 2/367، مجمع البيان للطبرسي 5/287، 289، تفسير فرات الكوفي ص/185.
2ـ الميرة: هي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد آخر. انظر مختار الصحاح ص/640، المصباح المنير 2/587.
(3/951)


عنده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ولذا لم يشنع على الذين خرجوا عند وصول القافلة التجارية إلى المدينة، ولم يتوعدهم الله سبحانه بعذاب ولم يعتب عليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم1.
قال الألوسي رحمه الله مبيناً طعن الشيعة على الصحابة بقوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية2، وبيان بطلان ذلك حيث قال عند هذه الآية: "وطعن الشيعة بهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أن ذلك قد وقع مراراً منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر3 وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل ـ سبحانه ـ أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟، وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات؟ لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر"أهـ4.
__________
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272.
2ـ سورة الجمعة آية/11.
3ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272.
4ـ روح المعاني للألوسي 28/107، ورواية البيهقي المشار إليها أوردها السيوطي في الدر 8/166، ولم يعزها لغيره.
(3/952)


ورد آخر على هذه القصة أنه ورد في بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة.
قال الحافظ ابن كثير: "ولكن ههنا شيء ينبغي أن يعلم وهو: أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل1.
فلا مطعن على الصحابة بما حصل منهم في أوائل زمن الهجرة حيث لم يزالوا حينها في بداية تعلم الآداب الشرعية وأيضاً لم ينفضوا جميعهم بل إن عظماء الصحابة كالعشرة المبشرة بالجنة لم يخرجوا بل لزموا النبي صلى الله عليه وسلم، فطعن الشيعة على الصحابة بهذا كله هراء وهذيان لا يقلبه من نور الله قلبه بنور الإيمان.
ومن مطاعنهم في جميع الصحابة أنهم يعتقدون فيهم أنهم ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهم جحدوا النص على إمامة علي، وبايعوا غيره بالخلافة ولم يستثنوا منهم بعد علي وبعض أهل البيت ـ إلا سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبو الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبو سعيد الخدري2، وبعض الشيعة يرى أن الطيبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عدداً من هؤلاء.
فقد روى الكليني بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة هم المقداد وسلمان وأبو ذر3.
وروى أيضاً: عن عبد الرحمن القصير قال: قلت لأبي جعفر: إن الناس
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 7/13-14، وانظر الخبر في كتاب المراسيل لأبي داود ص/105، وذكره السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/165-166، ونسبها إلى أبي داود فقط.
2ـ انظر الإرشاد للمفيد ص/9، حق اليقين لعبد الله شبر ص/215، رجال الكشي ص/12-13.
3ـ الأصول من الكافي الرواية رقم 341.
(3/953)


يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، فقال: يا عبد الرحمن إن الناس عادوا بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أهل جاهلية إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية1.
وروى أيضاً: بسنده عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام جعلت فداك فما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟، قال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا ـ وأشار بيده ـ إلا ثلاثة، قال حمران: فقلت: جعلت فداك ما حال عمار؟، قال: رحم الله عماراً أبا اليقظان بايع وقتل شهيداً"2.
هذا أخبث معتقد للشيعة الإمامية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
والرد على هذا المعتقد الفاسد أن مضمونه التكذيب بالمحكم من آيات الكتاب العزيز التي شهد الله لهم فيها بما وقر في قلوبهم، من حقيقة الإيمان وشهادة الله ـ عز وجل ـ للصحابة الكرام بالإيمان الصادق ليست شهادة قاصرة على الحياة الدنيا بل امتدت حتى شملت حسن الخاتمة بالموت على ذلك وما يستتبعه من وعده ـ تعالى ـ لهم بالمغفرة والرضوان وحسن المثوبة في الجنان.
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3.
ففي هذه الآية إخبار من الله ـ عز وجل ـ عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم بما أعده لهم من جنات النعيم
__________
1ـ الأصول من الكافي الرواية رقم 455.
2ـ الأصول من الكافي 2/244.
3ـ سورة التوبة آية/100.
(3/954)


وهذا يعني الموت على الإيمان بشهادة محكم القرآن فأين من الإيمان بالقرآن من يسبون من رضي الله عنهم ووعدهم بجنة الخلد وفوز الأبد.
وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 1.
وفي هذه الآيات شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا، وشرفوا بالهجرة والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم برحمة منه ورضوان وبالنعيم المقيم في الجنات فهل هذه الشهادة وهذه البشارة تكون لقوم علم الله أنهم سيرتدون من بعد عن دينهم ويموتون وهم كفار؟، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2.
وفي هاتين الآيتين وعد من الله ـ جل وعلا ـ لرسوله وللذين آمنوا معه بالخيرات والدرجات العلى في جنات الفردوس، فهل يكون هذا الوعد لقوم علم الله أنهم سيرتدون على أعقابهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان هؤلاء ثلاثة أشخاص، أو عشرة كما يزعم الزاعمون أم أنهم جيوش تحقق بهم نصر الله وتمكن من مواجهة جيوش دولة الروم التي كانت في زمنهم أقوى وأعظم دولة على وجه الأرض؟.
__________
1ـ سورة التوبة آية/19-22.
2ـ سورة التوبة آية/88-89.
(3/955)


وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
وفي هذه الآية إخبار من الرب ـ جل وعلا ـ أنه أكرم أصحاب نبيه وأنزلهم منزلة عالية حيث قرن بينهم وبين نبيهم في التوبة وهؤلاء هم الصحابة الذين خرجوا معه في غزوة تبوك وكان عددهم أكثر من ثلاثين ألفاً2، فالذي يعتقد أن الصحابة كفروا إلا ثلاثة نفر أو عشرة أو أكثر فهو ضال مضل لا يؤمن بيوم الحساب.
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 3.
هذه الآية تضمنت وعد الله باستخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا الاستخلاف لم يحصل إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ومما هو معلوم بالضرورة أنه لا نبوة بعده عليه الصلاة والسلام فيكون المراد بالاستخلاف هي الخلافة الراشدة التي كانت بعده صلى الله عليه وسلم للخلفاء الأربعة الراشدين وقد حصل في زمن أبي بكر وعمر وعثمان من الفتوح العظيمة وحصول التمكين وظهور الدين والأمن ما هو معلوم لدى كل إنسان بصره الله لاتباع الحق وهدى قلبه للإيمان، ولا يجحد ذلك إلا من استحب العمى على الهدى ومليء قلبه بعقيدة المخذولين من الرافضة الذين جحدوا ما لخيار الأمة من الفضل وحيازة قصب السبق إلى الإسلام، والدين الذي مكنه الله لهم ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها هو
__________
1ـ سورة التوبة آية/117.
2ـ انظر فتح الباري 8/117-118.
3ـ سورة النور آية/55.
(3/956)


دين الإسلام، الذي ارتضاه الله لعباده ديناً ولا يقبل منهم سواه، فما يجرؤ على القول بتكفير أولئك الخلفاء العظام الذين تحقق على أيديهم وعد الله إلا إنسان امتلأ قلبه بالتكذيب لما أخبر الله به عنهم من صدق الإيمان وقوة اليقين وما يكذب الله في أخباره بذلك إلا الرافضة الذين وقفوا منهم موقفاً لم ترضه اليهود والنصارى في أصحاب موسى وعيسى.
قال العلامة ابن العربي: "ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل، فما يرجى من هؤلاء وما يستبقي منهم؟، وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 1 وهذا قول صدق ووعد حق وقد انقرض عصرهم ولا خليفة ولا تمكين ولا أمن ولا سكون إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة"2.
وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3.
هذه الآية الكريمة أخبر الله تعالى فيها أنه رضي عن أصحاب بيعة الرضوان وزكاهم بما وقر في قلوبهم من الوفاء والصدق بقوله في الآية: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وكان عددهم رضي الله عنهم ألفاً وأربعمائة4 فمن اعتقد أن الصحابة كفروا إلا نفراً يسيراً فهو من أخسر الخاسرين وأهلك الهالكين.
__________
1ـ سورة النور آية/55.
2ـ العواصم من القواصم ص/185.
3ـ سورة الفتح آية/18.
4ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/443.
(3/957)


وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}1 .
هذه الآية الكريمة تضمنت المدح والثناء للصحابة بكثرة الصلاة وصدق إخلاصهم فيها لله ـ جل وعلا ـ يرجون من وراء ذلك عظيم الأجر وجزيل الثواب وأخبر تعالى أنه وعدهم على ذلك المغفرة والأجر العظيم ووعده تبارك وتعالى حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وهذا فيه القطع لهم بصدق الإيمان الذي عاشوا عليه وماتوا عليه.
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2.
فكيف يسوغ لهالك خاسر بعد هذا أن يقول إنهم ارتدوا إلا نفراً قليلاً نعوذ بالله من الضلال والخذلان، هذه الآيات المتقدم ذكرها كلها فيها إثبات شهادة الرب ـ جل وعلا ـ للصحابة الكرام بما وقر في قلوبهم من حقيقة الإيمان، وبما كانوا عليه من الإخلاص في الطاعات والصدق في العبادات، كما تضمنت ثناءه عليهم بالهجرة والجهاد والنصرة وسائر أنواع القربات، فلقد خسر قوم أنفسهم وكابروا الحق حيث زعموا أنه لم يبق منهم على الدين إلا ثلاثة نفر، أو إلا عشرة على الأكثر، ونسبوا الباقين منهم إلى الكفر والردة، فأين أولئك المفترون من هذه الآيات البينات والحقائق الراسخات ولا يمكن أن يخرج قول من اعتقد كفر الصحابة إلا على أساس الطعن
__________
1ـ سورة الفتح آية/29.
2ـ سورة الحجرات آية/7.
(3/958)


في القرآن والتشكيك في صحته، وهذا ما حصل بالفعل من غلاة الرافضة، فقد ألف بعضهم المطولات في إثبات تحريف القرآن1، ولا يكون لنسبة الصحابة إلى الكفر بعد ما ورد لهم من الثناء العظيم في محكم الكتاب المبين من تفسير إلا التكذيب بتلك الآيات أو تجهيل الله ـ عز وجل ـ حيث قد وعد بالجنة قوماً لم يدر بم يختم لهم؟، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.
ومن الوقاحة الفاضحة التي وصل إليها الشيعة الرافضة أنهم يستدلون على ارتداد المهاجرين والأنصار بما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ".... وأن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ـ إلى قوله ـ {الحكيم}2.
تستدل الرافضة بمثل هذا الحديث على ارتداد المهاجرين والأنصار والذي أوصلهم إلى هذا الفهم السقيم أنهم عموا وصموا واتبعوا الهوى واستحبوا العمى على الهدى، فزاغت قلوبهم عن المراد بالأصحاب في الحديث فليس المراد بالأصحاب في الحديث ما هو المعلوم في العرف، "بل المراد بهم مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي أصحاب الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدة من السنين ومعرفته صلى الله عليه وسلم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في
__________
1ـ انظر كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" للنوري الطبري، وهو كتاب مطبوع إلا أنه خال من مكان الطبع وتاريخه.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/386-387، صحيح مسلم 4/2194-2195، والآية رقم 117 من سورة المائدة.
(3/959)


الخبر1 أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة من عصاة غيرهم كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم، وجذبهم إلى ذات الشمال كان تأديباً لهم وعقاباً على معاصيهم ولو سلمنا أن المراد بهم ما هو المعلوم في العرف فهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله تعالى عنه"2.
قال عبد القاهر البغدادي: "وأجمع أهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كندة، وحنيفة، وفزارة، وبني أسد، وبني بكر بن وائل ـ لم يكونوا من الأنصار ولا المهاجرين قبل فتح مكة، وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، وأولئك بحمد الله ومنه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم"3.
فإذن لا يوجد ولله الحمد ممن ارتد أحد من الصحابة الذين يعدلهم أهل السنة ويترضون عنهم وأولئك المرتدون هددهم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فعندما ارتد المرتدون تصدى لهم أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم فتبين أن المقصود بقوله ـ عز وجل ـ: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 4 الآية هم الصحابة رضي الله عنهم ولا يعلم تصد لهم إلا تصدي الصديق وأصحابه ويكفي أن علياً رضي الله عنه كان أحد المتصدين مع بقية الصحابة، أما الذين ينتقصون الصحابة ويتلذذون بسبهم ولعنهم والبراءة منهم فعليهم إن كانوا صادقين في تشيعهم لأهل البيت أن يكونوا تابعين لهم في تعظيم الصحابة ومحبتهم، ولكنهم كاذبون في ذلك وأنهم أعداء لأهل البيت إذ أهل البيت لم يخرجوا عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه
__________
1ـ انظر المسند 3/102، فقد أورد الإمام أحمد هنا حديثاً من أحاديث الحوض وفيه "يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". ففيه إشارة إلى أن هناك علامة يتميز بها عصاة هذه الأمة.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272-273.
3ـ الفرق بين الفرق ص/359.
4ـ سورة المائدة آية/54.
(3/960)


الراشدون من بعده، فالشيعة الرافضة في واد وأهل البيت في واد آخر.
ومن مطاعنهم أيضاً في عموم الصحابة أنهم لا يعتقدون عدالتهم جميعاً وإنما يقولون هم كغيرهم من الناس فيهم العدل وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون والبغاة.
قال شرف الدين الموسوي: "إن الصحبة بمجردها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة، لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم وفيهم البغاة وفيهم أهل الجرائم من المنافقين وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة ـ إلى أن قال: "إن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليه ولو تدبروا1 القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم وحسبك منه سورة التوبة والأحزاب"2.
وقال مرتضى العسكري: "وفي شان العدالة نرى أن الصحابة فيهم المؤمن العدل البر التقي، وهم المقصودون في ما ورد من ثناء لهم في القرآن والحديث ـ إلى أن قال: "وفيهم المنافقون مردوا على النفاق لا يعلمهم إلا الله"أهـ3.
هذا معتقد الشيعة الرافضة في عدالة الصحابة جميعاً، وبمجرد أن يسمعه من نور الله بصيرته يقطع بأنه دليل على الخذلان وعلى سوء الفهم لكتاب الله حيث لم يفهموا منه إلا صفات المنافقين، ولم يهتدوا لدلالته على تعديل الصحابة قاطبة حيث نص الله على عدالتهم في غير ما آية من كتابه العزيز ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 4.
__________
1ـ يقصد أهل السنة والجماعة.
2ـ الفصول المهمة في تأليف الأمة ص/203، وانظر الصحابة في نظر الشيعة الإمامية لأسد حيدر ص/31-32.
3ـ مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 1/8.
4ـ سورة البقرة آية/143.
(3/961)


ومعنى {وسطاً} في الآية أي: عدولاً.
وقال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1.
ووجه دلالة الآيتين على عدالة الصحابة عموماً أنهم أول من يدخل في منطوقها، وكون ـ الرب جل وعلا ـ جعلهم شهداء على الناس دليل قاطع على عدالتهم جميعاً وعلى صدق إيمانهم، فالرب تبارك وتعالى لا يستشهد بغير عدول ولا يستشهد بمن يدين الكذب والخداع ويسميه بغير اسمه.
ويبطل زعمهم أن العدالة ثابتة لبعض الصحابة دون البعض الآخر بأن يقال لهم: إن الصحابة كلهم عدول وكلهم موعودون بالحسنى وهي الجنة ويكفي قوله ـ عز وجل ـ :{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2. وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3.
فلينظر كل ذي بصيرة في هذه الآيات بتدبر حيث يجد حيث فيها أن الباري جل وعلا شهد لجميع الصحابة مهاجرين وأنصار بصدق الإيمان وزكاهم وأثنى
__________
1ـ سورة آل عمران آية/110.
2ـ سورة الحديد آية/10.
3ـ سورة الحشر آية/8-10.
(3/962)


عليهم بما ثبت في قلوبهم من الإخلاص في الأعمال الصالحة وتركهم ديارهم وأموالهم حيث خرجوا منها ابتغاء نصرة الله ورسوله، كما أثنى على من جاء بعدهم مستغفراً لهم، ولا يستغفر لهم إلا أهل السنة، أما الشيعة الرافضة فلا يستغفرون لهم وإنما يدينون بالاعتقاد بتكفير أولئك الأخيار وبسؤالهم ربهم أن يملأ قلوبهم غلاً للصحابة الكرام وهاهم كذلك ولا نصيب لهم من الثناء الذي اشتملت عليه الآية ما داموا على ذلك.
فالثناء على المهاجرين عموماً بخروجهم من ديارهم وأموالهم يبتغون بذلك رضوان الله وينصرون الله ورسوله والشهادة لهم بأنهم صادقون، وكذا ثناؤه ـ جل وعلا ـ على الأنصار قاطبة بتبوئهم الدار والإيمان وحبهم لإخوانهم المهاجرين وإيثارهم لهم على أنفسهم وشهادة الباري تبارك وتعالى لهم بالفلاح كل ذلك أدلة قطعية على عدالة الصحابة جميعاً مهاجرين وأنصار.
أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان في المدينة منافقون فهي فرية واضحة لا تثبت لها قدم، وهي شبهة أوهى من بيت العنكبوت لأن المنافقين لم يكونوا مجهولين في مجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم يكونوا هم السواد الأعظم والجمهور الغالب فيهم وإنما كانوا فئة معلومة آل أمرهم إلى الخزي والفضيحة حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله في كتابه من أوصافهم وخصوصاً في سورة التوبة ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة لا يخفى أمرها على أحد فأين هذه الفئة ممن أثبت الله لهم في كتابه نقيض صفات المنافقين حيث أخبر عن رضاه عنهم من فوق سبع سموات وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فنسبة الرافضة النفاق إلى الصحابة إنما منشؤه من عمى البصيرة، ومحبة العمى على الهدى وعدم التمييز بين من أوقفوا حياتهم لنصرة الله ورسوله، ولم ينقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وبين الذين لم يعرفوا في تاريخ الإسلام إلا بالخيانة والتآمر على الإسلام وأهله.
(3/963)


فالصحابة رضي الله عنهم عدول كلهم لا سبيل إلى تجريحهم لأن الله ـ جل وعلا ـ هو الذي تولى تزكيتهم وتعديلهم من فوق سبع سموات.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أنه لا بد في رجال الأسانيد والرواة من معرفة أنسابهم وأحوالهم قال: "والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل، فإنهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح لأن الله ـ عز وجل ـ زكاهم وعدلهم وذلك مشهور لا نحتاج لذكره"أهـ1.
والأمر كما ذكر رحمه الله فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالثناء الحسن على الصحابة الكرام رضي الله عنهم مما يدل على أن ثبوت عدالتهم أمر قطعي لم يجحده إلا المخذولون من الرافضة، فالذي ينفي عدالة الصحابة وينسب إليهم النفاق ويعتقد ذلك فهو مكذب للقرآن والسنة اللذين تضمنا الشهادة للصحابة الكرام بصدق اليقين وكمال الإيمان.
ومما مطاعنهم العامة في الصحابة: أنهم حرفوا القرآن وأسقطوا منه كلمات بل آيات وأن القرآن الموجود لدى الشيعة كما يزعمون يعادل ثلاث مرات من القرآن الموجود بين أيدينا وما فيه حرف واحد منه ويزعمون أن ما جمع القرآن كما أنزل إلا الإمام علي رضي الله عنه ومن ادعى غير ذلك فهو كذاب.
فلقد ذكر الكليني في "الكافي" عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة "ع" وما يدريهم ما مصحف فاطمة "ع"؟، قال: قلت: وما مصحف فاطمة "ع"، قال: مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: والله هذا العلم2.
وذكر عن جابر قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد
__________
1ـ أسد الغابة 1/3.
2ـ الأصول من الكافي 1/457.
(3/964)


من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام ...
وذكر أيضاً: عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء1.
ولقد توارث الشيعة هذا المعتقد الزائف وتمسكوا به وأثبتوه في مؤلفاتهم وأشادوا بأن أكابر المتقدمين من علمائهم كانوا على هذا.
فقد قال المفيد في كتابه أوائل المقالات: "اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة واتفقوا على إطلاق لفظ البداء في وصف الله تعالى، واتفقوا على أن أئمة الضلال2 خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم3.
وقال الكاشاني في مقدمة كتابه المسمى "تفسير الصافي" بعد أن ذكر الروايات التي تفيد تحريف القرآن ونقصانه، وأن الصحابة هم الذين حذفوا مناقب أهل البيت منه، وإتيان علي رضي الله عنه إلى الصحابة ورفضهم بأن يعملوا بالقرآن الذي جمعه وأنهم أيدوا زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع غيره، قال بعد ذلك: "أقول: المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو مغير محرف وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي عليه السلام في كثير من المواضع ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليهم غير مرة ومنها أسماء المنافقين في مواضعها ومنها غير ذلك وأنه ليس على الترتيب المرضي عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وبه قال علي
__________
1ـ المصدر السابق 1/441.
2ـ يقصد الصحابة الكرام رضي الله عنهم وغضب عليه إن كان مات على هذا المعتقد الفاسد.
3ـ المقالات ص/48-49.
(3/965)


ابن إبراهيم"1.
والنتيجة التي انتهى إليها بعد أن قرر أن القرآن محرف هي أن العمل به غير ممكن ولا يمكن الإقرار بصحته ولا الاعتماد عليه حيث قال: "لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن يكون محرفاً ومغيراً ويكون على خلاف ما أنزل الله فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك"2.
ثم قرر أن اعتقاده بتحريف القرآن ليس بدعاً من علماء الإمامية الذين يقرون بتحريف القرآن بل يذكر أنه سبقه في ذلك كبار علمائهم أمثال الكليني والقمي والطبرسي حيث قال: "وهذا ما عندي من التقصي عن الإشكال والله يعلم حقيقة الحال، وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه "الكافي" ولم يتعرض لقدح فيها مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه أستاذه علي بن إبراهيم القمي فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه3 وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي4 فإنه أيضاً نسج على على منوالهما في كتاب الاحتجاج"5.
وقد حكى أبو المظفر الإسفرائيني إجماع الإمامية على طعن الصحابة بتغيير القرآن بالزيادة والنقصان فيه حيث قال بعد ذكره لفرق الإمامية: "واعلم أن جميع من ذكرناهم من فرق الإمامية متفقون على تكفير الصحافة ويدعون أن القرآن قد
__________
1ـ كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/32.
2ـ المصدر السابق 1/33.
3ـ انظر ما تفوه به القمي من اعتقاد تحريف القرآن تفسيره 1/10-11.
4ـ انظر كتاب الاحتجاج للطبرسي 1/153، فقد ساق رواية على طريقة السؤال والجواب بين علي وطلحة يستدل بها على نقصان القرآن وأنه لم يجمعه كاملاً إلا علي وأن الصحابة لم يقبلوا منه ما جمعه.
5ـ كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/34.
(3/966)


غير عما كان ووقع فيه الزيادة والنقصان من قبل الصحابة ويزعمون أنه لا اعتماد على الشريعة التي في أيدي المسلمين وينتظرون إماماً يسمونه المهدي يخرج ويعلمهم الشريعة وليسوا في الحال على شيء من الدين"أهـ1.
والرد على هذا الافتراء الذي اختلقته فرق الإمامية على الصفوة المختارة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصدر إلا ممن فسدت ديانته وخبثت سريرته وهذا الافتراء يتضمن تكذيب الله تعالى الذي أخبر بأنه حافظ لكتابه العزيز من الزيادة والنقصان والتبديل وأنه ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 فقد قرر تعالى في هذه الآية "أنه هو الذي أنزل على نبيه الذكر ـ وهو القرآن ـ وهو الحافظ له من التغيير والتبديل"3.
قال أبو عبد الله القرطبي في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يزاد فيه أو ينقص منه.
وذكر عن قتادة وثابت البناني أنهما قالا: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً فتولى ـ سبحانه ـ حفظه فلم يزل محفوظاً"أهـ4.
وقال الرازي: "واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير، إما في الكثير منه، أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً: أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وانقضى الآن قريباً من
__________
1ـ التبصير في الدين ص/41.
2ـ سورة الحجر آية/9.
3ـ تفسير القرآن العظيم 4/154.
4ـ الجامع لأحكام القرآن 10/5.
(3/967)


ستمائة سنة1 فكان هذا إخباراً عن الغيب فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً"أهـ2.
وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3، وفي هذه الآية بين الله تعالى أن القرآن "محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، دل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4 فالذي يعتقد أن القرآن يدخله التغيير والزيادة، والنقص، فهو مكذب لله رب العالمين، ومنسلخ من دين الإسلام بالكلية ليس له أمانة ولا دين.
وقال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان اعتقاد الرافضة في أن الصحابة بدلوا القرآن وأسقطوا منه وزادوا فيه.
قال رحمه الله: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم ماراً إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه ماراً إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم، وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما يعرف عدده إلا الله ـ عز وجل ـ كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد أسلم وبنوا المساجد ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قريء فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كذلك ليس بينهم اختلاف في شيء أصلاً بل كلهم أمة واحدة ودين واحد ومقالة واحدة، ثم ولي أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن وجمع الناس
__________
1ـ هذا التحديد إلى عصر الرازي وكانت وفاته سنة ست وستمائة.
2ـ التفسير الكبير 19/161.
3ـ سورة فصلت آية/42.
4ـ سورة الحجر آية/9.
(3/968)


المصاحف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد وأبي زيد1 وابن مسعود وسائر الناس في البلاد، فلم يبق بلد إلا وفيه المصاحف، ثم مات رضي الله عنه والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء أصلاً أمة واحدة ومقالة واحدة...
ثم مات أبو بكر وولي عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضاً وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن وعلمه الصبيان في المكاتب شرقاً وغرباً، وبقي كذلك عشرة أعوام وأشهراً والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملة واحدة ومقالة واحدة وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فيما بين ذلك فلم يكن أقل، ثم ولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر فلو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الإسلام ما قدر وبقي كذلك اثنا عشر عاماً حتى مات وبموته حصل الاختلاف وابتداء الروافض واعلموا أنه لو رام أحد أن يزيد في شعر النابغة اوشعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ما قدر لأنه كان يفتضح الوقت وتخالفه النسخ المثبوتة فكيف القرآن في المصاحف وهي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودان إلى آخر السند وكابل وخراسان والترك والصقالبة2 وبلاد الهند فيما بين ذلك، فظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بالكذب ... ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق وعند بعضهم نبي ناطق وعند سائرهم إمام معصوم مفترضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً الدنيا حاشا الشام ومصر إلى الفرات والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به والمصاحف
__________
1ـ اختلف في اسمه فقيل: أوس، وقيل ثابت بن زيد، وقيل: معاذ، وقيل: سعد بن عبيد، وقيل: قيس بن السكن وهذا هو الراجح. الإصابة 4/78.
2ـ قال أبو منصور: الصقالبة جبل حمر الألوان صهب الشعور يتخامون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم، وقال غيره: الصقالبة بلاد بين بلغار وقسطنطينية وتنسب إليهم الخرم الصقالبة وأحدهم صقلبي "معجم البلدان" 3/416.
(3/969)


معه وبين يديه فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك فكيف يسوغ لهؤلاء أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زايداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في راي يسير رأوه ورأى خلافه فقط فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه والحمد لله رب العالمين"أهـ1.
فاعتقاد الشيعة الرافضة أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان من قبل الصحابة اعتقاد فاسد وكذب واضح على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قاموا بجمعه في مصحف واحد وحرصوا على ذلك أشد الحرص خوفاً عليه من الضياع، فكان جمعهم له من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه لما تكفل بحفظ كتابه قيضهم لذلك رضي الله عنهم وأرضاهم لكن الشيعة لهم مقصد خبيث من وراء طعنهم على الصحابة بأنهم حرفوا القرآن بين ذلك الإسفرائيني في كتابه "التبصير في الدين فإنه قال بعد أن ذكر أن الإمامية متفقون على القول بتكفير الصحابة وأنهم حرفوا القرآن بالزيادة فيه والنقص منه "وليس مقصودهم من هذا الكلام تحقيق الكلام في الإمامة، ولكن مقصودهم إسقاط كلفة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا في استحلال المحرمات الشرعية، ويعتذروا عند العوام بما يعدونه من تحريف الشريعة وتغيير القرآن من عند الصحابة ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين"أهـ2.
ومن مطاعنهم في الصحابة عموماً أنهم يقولون: إن كثيراً منهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين، والفرار من الزحف أكبر الكائر3.
والرد على هذا الهراء أن الفرار يوم أحد كان قبل النهي عن الفرار من
__________
1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/78-80.
2ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية على فرق الهالكين ص/41.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/273، وانظر تفسير الكاشاني المسمى تفسير الصافي 1/691، تفسير القمي 1/287. الميزان 9/226.
(3/970)


الزحف ولو فرض أنه حصل منهم بعد النهي فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 1، "ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع"2، وأما الفرار يوم حنين فبعد التسليم أنه كان فراراً في الحقيقة معاتباً عليه، فإن أولئك المخلصين رضي الله عنهم لم يصروا عليه، بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} 3، ولم يحصل الفرار من الجميع وأن من فر منهم لم يكن على نية الاستمرار في الفرار لما رواه مسلم من حديث كثير بن عباس بن عبد المطلب، قال: قال عباس شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة"، فقال عباس ـ وكان رجلاً ـ صيتاً ـ فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة، قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ...الحديث"4.
قال النووي: قال العلماء في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من
__________
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/273 والآية رقم 155 من سورة آل عمران.
2ـ روح المعاني للألوسي 4/99.
3ـ سورة التوبة آية/26.
4ـ صحيح مسلم 3/1398-1399.
(3/971)


فطعن الشيعة الرافضة على الصحابة الكرام بأنهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين كله هراء يدل على تعمقهم في الجهل وسوء الفهم.
ومن مطاعنهم على سبيل العموم في الصحابة أنهم طعنوا عليهم بما رواه مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟"، قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" 2.
قالوا: "هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار والحديث صريح في أن أولئك ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه"3 وقد اعترف الأشتر بأنه أحد قتلة الخليفة الراشد عثمان بن عفان وذلك عندما أتاه الخبر
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/115-116.
2ـ صحيح مسلم 4/2274.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/274.
(3/972)


باستعمال علي بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقال: علام قتلنا الشيخ إذاً! اليمن لعبيد الله والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي"1 .
ومن مطاعنهم على الصحابة عموماً زعمهم أنهم آذوا علياً وحاربوه 2 وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من آذى علياً فقد آذاني" 3 .
والجواب على هذا الافتراء أن أساسه عدم فهم الرافضة للأسباب التي أدت لاقتتالهم رضي الله عنهم فيما بينهم، ولو أمعنوا النظر في الحروب التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين لفهموا أنها كانت لأمور اجتهادية، فلا يلحقهم طعن من ذلك، لكن من ابتلي بالوقوع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قلبه مشبعاً بعقيدة الرافضة فإنه لا يعرف الحق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يرحمه الله فيبرأ من طريقة الروافض حينئذ يحمل ما وقع بين الصحابة على أحسن المحامل، ويؤوله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل، وهذا لا يتحقق إلا لمن سار في ركب أهل السنة والجماعة ويكفينا من مطاعن الرافضة في الصحابة عموماً ما تقدم ذكره وإلا فمطاعنهم لا تدخل تحت حصر وسقنا هذه المطاعن العامة والرد عليها ليتبين أن الرافضة يعادون الصحابة جميعاً ولا يحبونهم ولا يوالون منهم إلا نفراً يسيراً يعدون بالأصابع كما تقدم قريباً.
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/492.
2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/274.
3 ـ رواه الحاكم في المستدرك 3/122، وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3/973)


المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه
لم تكتف الشيعة الرافضة بالطعن في الصحابة الكرام على سبيل العموم بل انقادوا للشيطان بزمام حيث حملهم على أن وجهوا مطاعن في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، كل واحد منهم على حده.
ومطاعنهم على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كثيرة، وإليك في هذا المبحث طائفة من مطاعنهم في حق الصديق:
فمن مطاعنهم في حق أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنهم يطعنون عليه بقوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1.
ووجه طعنهم على الصديق بهذه الآية أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه معه لئلا يظهر أمره حذراً منه وأن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى فيها: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فإنه يدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضاه بمساوته النبى صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره، ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رزيلة"2.
والرد على هذا الهذيان أن وضوح بطلانه أعظم من وضوح الشمس في وسط
__________
1ـ سورة التوبة آية/40.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/239، وانظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 2/22-26. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/407-410، وانظر الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائي 9/222-224.
(3/974)


النهار، فقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فهذا باطل من وجوه عدة:
أولاً: أنه قد علم بدلالة القرآن أن الصديق رضي الله عنه كان موالياً ومحباً للرسول صلى الله عليه وسلم لا معادياً له.
ثانياً: علم بالتواتر المعنوي أنه كان محباً للرسول مؤمناً به مختصاً به أعظم مما علم من سخاء حاتم وشجاة عنترة، لكن الرافضة قوم بهت حتى أن بعضهم جحدوا أن يكون الصديق والفاروق دفنا في الحجرة النبوية.
ثالثاً: إن قولهم هذا في أبي بكر يدل على فرط جهلهم وخاصة بما حصل وقت الهجرة فإن الرسول اختفى هو وأبو بكر في الغار وأرسل المشركون الطلب من الغد في كل فج وجعلوا الدية فيه وفي أبي بكر لمن أتى بواحد منهما، فهذا دليل أنهم كانوا يعلمون أن أبا بكر كان موالياً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ومعادياً لهم ولو كان مبطناً لهم على زعم الرافضة لما بذلوا فيه الدية.
رابعاً: واما زعمهم أن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فقولهم هذا ينقض تخرصهم أنه استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مبطناً لأعدائه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، فإن المشركين جاءوا إلى الغار ومشوا فوقه"1.
"فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم: نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته، عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك"2. ويقال أيضاً: لهؤلاء المفترين إن
__________
1ـ انظر منهاج السنة 4/256-260، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/554-556.
2ـ التفسير الكبير للرازي 16/68.
(3/975)


دعواهم أن الآية دلت على نقص الصديق أن النقص نوعان:
نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه فإن أرادوا الأول فهو باطل لأن الله تعالى قال مخاطباً نبيه: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 1 وقال مخاطباً المؤمنين جميعاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} 2، فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان، وإن أرادوا بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة، ولكن ليس في هذا ما يدل على أن علياً أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائماً وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقيناً وصبراً، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقيناً وطمأنينة، وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه، هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، حتى إنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيماناً وأعظمهم يقيناً كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} الآية"3.
__________
1ـ سورة النحل آية/127.
2ـ سورة آل عمران آية/139.
3ـ منهاج السنة 4/261، والآية رقم 144 من سورة آل عمران.
(3/976)


خامساً: أما دعواهم أن حزنه دل على خوره فهذا كله من الكذب الواضح وضوح الشمس لأنه لا يوجد في الآية ما يدل على هذا من وجهين:
أحدهما: أن النهي عن شيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع لئلا يقع فيما بعد، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 1، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم ... فقوله تعالى: {لا تحزن} لا يدل على أن الصديق قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن، فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن فكان حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل ويذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم2 عن ذلك فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك"3.
رضي الله عنه وأرضاه.
سادساً: وأما افتراؤهم بأن حزنه دل على قلة صبره وعدم يقينه بالله فهذا باطل ولا يدل على انعدام الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك4 وكذلك زعمهم أنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلاً على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم وقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/1
2ـ انظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/62-63.
3ـ منهاج السنة 4/262-263.
4ـ دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "... ألا تسعمون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم".. الحديث. صحيح البخاري 1/226-227، من حديث ابن عمر.
(3/977)


ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون" 1، وكذا قولهم أنه يدل على عدم رضاه بقضاء الله وقدره هو باطل أيضاً لما هو معلوم من حاله رضي الله عنه بقوة الإيمان وكونه أكمل الخلق إيماناً بعد الأنبياء والرسل.
سابعاً: وأما هذيانهم أن الحزن إن كان طاعة استحال النهي عنه وإن كان معصية، فلا يدل على الفضيلة يجاب على هذا "أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية2 فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقاً وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم"3.
فكل ما يسوقه الرافضة من الكلام على آية الغار محاولين بذلك الطعن على أبي بكر هو كلام باطل غير مقبول والآية على رغم أنوف الرافضة اشتملت على فضل الصديق وما وصل إليه من الكمال الإيماني والصدق اليقيني كما دلت دلالة واضحة أنه صحب الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة مودة وموالاة.
ومن مطاعنهم في حق الصديق: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ علياً وأمره برده وأن يتولى هو ذلك ـ ثم يقولون ـ ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح للإمامة المتضمنة لاداء الأحكام إلى جميع
__________
1ـ صحيح البخاري 1/226، من حديث أنس بن مالك.
2ـ سورة التوبة آية/40.
3ـ منهاج السنة 4/264.
(3/978)


الأمة"1.
والرد على هذا أنه افتراء محض ورد للمتواتر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع وما رده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج، وكان علي من جملة رعيته إذ ذاك يصلي خلفه ويسير بسيره، وهذا مما لم يختلف فيه اثنان، ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد فبعث علياً ببراءة2.
قال أبو محمد بن حزم في صدد ذكره لفضائل أبي بكر رضي الله عنه: "واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ ببراءة من أبي بكر، وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقراءتها عليهم، قال: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر، لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه، ولا يقفون إلا بوقوفه، ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك، وسورة براءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره فيها أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه، وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله التوفيق"3.
وقال العلامة ابن القيم مبيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، ومبيناً أقوال العلماء في حكمة إردافه الصديق بعلي رضي الله عنهما، قال رحمه الله: "وولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/54، الميزان في تفسير القرآن 9/162، حق اليقين 1/177.
2ـ انظر منهاج السنة 4/221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/539.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/146.
(3/979)


الناس سورة "براءة".
فقيل: لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج.
وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يحل العقود ويعقدها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته.
وقيل: أردفه به عوناً له، ومساعداً، ولهذا قال له الصديق أمير أم مأمور، قال: بل مأمور1، وأما أعداء الله الرافضة فيقولون: عزله بعلي وليس هذا ببدع من بهتهم، وافترائهم"أهـ2.
ولقد صدق رحمه الله أن الرافضة ليسوا ببدع في البهت والافتراء، فذلك متأصل فيهم منذ أن نبتت نابتتهم زمن الإمام زيد بن علي رحمه الله وأما زعمهم أن الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة فهو زعم باطل "فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي منه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجد فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس، ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصاً"3، فلا مطعن على الصديق رضي الله عنه ببعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلفه في السنة التاسعة من الهجرة إلى الموسم بل إن ذلك يفيد المبالغة في إعلان فضل الصديق لأن السورة اشتملت على الثناء الإلهي الكريم على صديق رسوله ورفيقه في الغار، فكان من المناسب أن يكون إعلان هذا
__________
1ـ رواه النسائي في سننه 5/247-248، سنن الدارمي 2/66-67 ولفظه: "أمير أم رسول، قال: بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ب"براءة" أقرؤها على الناس في مواقف الحج".
2ـ زاد المعاد 1/126.
3ـ منهاج السنة 4/222.
(3/980)


الثناء في الحج الأكبر في أيام الموسم بلسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي هذا نكسة واضحة لكل رافضي إلى يوم القيامة.
ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم يزعمون عدم حصول الإجماع على خلافته ويقولون بمنع الإجماع ويتعللون بأن جماعة "من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص، حتى أن أباه أنكر ذلك وقال: من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال: وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس، قالوا: اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا ابنك أكبر سناً ـ ثم يقولون ـ وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته"1.
والرد على زعمهم هذا:
أن من له أدنى علم وخبرة عندما يسمع هذا الكلام يقطع بأن قائله من أجهل الناس، ومن أجرأ الناس على البهتان، فالرافضة أهل جهل وعمى، وأهل جرأة على الكذب، فبنو هاشم لم يمت منهم أحد إلا وقد بايع الصديق وأما الذين ينصون عليهم بأسمائهم من الصحابة وأنه تخلفوا عن بيعة أبي بكر فهو كذب عليهم إذ بيعتهم للصديق ثم الفاروق أشهر من أن تنكر وأسامة بن زيد لم يسر بجيشه لمحاربة الروم حتى بايع أبا بكر، وما تذكره الشيعة الرافضة من أن أبا قحافة أنكر استخلاف ابنه أبي بكر فهو باطل ولم يكن ابنه أسن الصحابة، وإنما كان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، والعباس أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين2 لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما قبض نبي الله صلى الله عليه وسلم ارتجت مكة فسمع
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/227.
2ـ انظر منهاج السنة 4/230-231، المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544-545.
(3/981)


أبو قحافة، فقال: ما للناس؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أمر جلل فمن ولي بعده، قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟، قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"1، وأما زعمهم أن بني حنيفة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم، فيجاب على هذا البهتان بأن: "من أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف والحنفية أم محمد بن الحنفية سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبى نساءهم ويطأ من ذلك السبي وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا: لا نؤديها إليك، بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤدوها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون: إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلمهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع من أدائها جملة لا من قال: أنا أؤديها بنفسي ـ ولو عدت الرافضة ـ "من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس ـ عدهم ـ "لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس، فإن أولئك كفار أصليون وهؤلاء مرتدون، وأولئك يقرون بالجزية، وأولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفترياً كذاباً ... وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب التي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام، وهذا أمر قد خلص إلى العذارى في خدورهن، بل قد أفرد الإخباريون لقتال
__________
1ـ رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.
(3/982)


أهل الردة كتباً سموها كتب الردة والفتوح كسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكر فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون"1.
وأما زعمهم: "أن عمر أنكر قتال أهل الردة ورد عليهم سباياهم فهذا من أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة"2.
وأما قولهم إن عمر رضي الله عنه أنكر على الصديق سبي مانعي الزكاة ورد السبايا أيام خلافته، فيقال لهم: هذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين، فإن مانعي الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما هو ثابت في الصحيحين3... لكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما، فإنه قد يكون عمر كان موافقاً على جواز سبيهم ،لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين، فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين وطلبوا رد ذلك إليهم4، وأهل الردة قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم، فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز"5.
__________
1ـ منهاج السنة 4/228، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544.
2ـ المصدر السابق 4/229، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544.
3ـ انظر صحيح البخاري 4/196، صحيح مسلم 1/51-52.
4ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/488-491.
5ـ منهاج السنة 3/231-232.
(3/983)


فإمامة الصديق من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وما يردده الرافضة من الهذيان حول عدم الإجماع عليها لا يلتفت إليه ولا يعتد به.
ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم طعنوا عليه بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1.
ووجه طعنهم بهذه الآية أنهم يقولون: "أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2، قالوا: ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفاراً يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم"3.
ويرد على هذا الافتراء من وجوه:
أحدها: أن الكفر الذي يعقبه الإيمان لم يبق على صاحبه منه ذم، فإن الإسلام يجب ما قبله وهذا معلوم بالاضطرار من الدين.
ثانياً: ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، وإلا لزم أن يكون أفضل من الصحابة، فقد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول الذي بعث فيهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل بلا شك ممن ولد على الإسلام، ولهذا قال أكثر العلماء أنه يجوز على الله أن يبعث نبياً ممن آمن بالأنبياء ولهذا قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} 4، وقد قال شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} 5.
ثالثاً: يقال لهم: قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مؤمناً
__________
1ـ سورة البقرة آية/124.
2ـ سورة البقرة آية/254.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/218، الميزان في تفسير القرآن 1/278-279.
4ـ سورة العنكبوت آية/26.
5ـ سورة الأعراف آية/89.
(3/984)


من قريش لا صغير ولا كبير، وإذا قيل عن رجالهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام فصبيانهم كذلك، فإن قالوا: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ، يقال لهم: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ، فالرجل يثبت له حكم الإيمان بعد الكفر وهو بالغ، والصبي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والطفل بين أبويه الكافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا بالإجماع، فإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء: بخلاف البالغ، فإنه يصير مسلماً باتفاق فكان إسلام الثلاثة مخرجاً لهم من الكفر بإجماع المسلمين.
رابعاً: أن أسماء الذم الواردة في القرآن كالكفر والظلم والفسق لا تتناول إلا من كان مقيماً على ذلك، وأما من صار مؤمناً بعد الكفر وعادلاً بعد الظلم براً بعد الفجور، فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين، فمن أسلم بعد كفره واتقى وآمن لم يجز أن يسمى ظالماً، فقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: ينال العادل دون الظالم، فإذا قدر أن شخصاً كان ظالماً ثم تاب، وصار عادلاً تناوله العهد وصار ممدوحاً بآيات المدح والثناء كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 1، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 2.
خامساً: إن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين، فكيف يقال: عن أفضل الخلق إيماناً إنهم كفار لأجل ما تقدم3.
ومما طعن به الرافضة على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: "كانت بعية أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وكونها فلتة يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية
__________
1ـ سورة الانفطار آية/13، المطففين آية/22.
2ـ سورة الدخان آية/51.
3ـ انظر منهاج السنة 4/218-219، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/536-537.
(3/985)


شرها، ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها، وكان ذلك يوجب الطعن فيه"1.
والرد على هذا، "أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحن عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها: "ثم إنه قد بلغني أن قائلاً منكم يقول: "والله لو مات عمر بايعت فلاناً" فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث"2.
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها، ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعيناً لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه، كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه، وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالإجماع"3.
ومن مطاعنهم التي ألصقوها بالصديق ـ رضي الله عنه ـ زعمهم أنه قال: "أقيلوني فلست بخيركم، ولو كان لم يجز له طلب الإقالة"4.
والرد على هذا من وجهين:
الوجه الأول: يطالبون بصحة هذا إذ ليس كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح.
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/216. الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/302.
2ـ صحيح البخاري 4/179-180، المسند 1/55، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
3ـ منهاج السنة 4/216-217.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/294، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402-403.
(3/986)


الوجه الثاني: لو صح هذا القول عن الصديق لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة، فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول، وقد يقال وهذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها، وهذا يناقض ما يقوله الرافضة أنه كان طالباً للرياسة راغباً في الولاية1.
ومما طعنوا به على أبي بكر رضي الله عنه: زعمهم أنه تسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه2.
والرد على هذيانهم هذا:
أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنف كل رافضي وجد على وجه الأرض إلى يوم القيامة، ولو سمى نفسه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدق في ذلك ولقبله منه كل مسلم عرف قدره ومنزلته في هذه الأمة، ولكنه رضي الله عنه لم يسم نفسه بهذا الاسم وإنما سماه به من أطلق الله عليهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس3، ومن أخبر الله عنهم أنهم صادقون بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4.
فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم5.
__________
1ـ منهاج السنة 4/219.
2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/4-5، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/175، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/299.
3ـ انظر المستدرك 3/79-80.
4ـ سورة الحشر آية/8.
5ـ منهاج السنة 1/135.
(3/987)


وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه، يجاب على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم ينص عليه بالاسم إلا أنه أرشد الأمة استخلافه بأمور عديدة من أقوال وأفعال وهمّ عليه الصلاة والسلام أن يكتب بذلك عهداً لكنه علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك ذلك، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكنه دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين، وفهموا ذلك.
هنا حصل المقصود1 ولا حاجة للنص عليه بعينه اكتفاء بذلك فلا وجه لطعن الشيعة على أبي بكر بهذا وطعنهم عليه بهذا يعد من فضول الكلام.
ومما طعنوا به على أبي بكر: أنهم يقولون: "لما استتب له الأمر قطع لنفسه أجرة من بيت مال الصدقة كل يوم ثلاثة دارهم، وهذا من أظهر الحرام فاكل الحرام تعمداً وخلافاً على الله، وعلى رسوله الله، مصراً عليه غير نادم فيه ولا تائب عنه إلى أن مات بغير خلاف فيه وذلك أن أبواب أموال الشريعة معلومة كل باب منها مفروض من الله ومن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوم بأعيانهم لا يحل لأحد أن يأكل منه حبة واحدة حتى يصير ذلك في أيديهم"2.
والرد على هذا الافتراء:
أنه لا يصدر إلا ممن قل حياؤه وخبثت سيرته وسريرته، وبلغ في الجهل ذروته، فالصديق رضي الله عنه لم يفرض لنفسه ولا درهما واحداً من بيت مال المسلمين، وإنما خيار الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين فرضوا له شيئاً يسيراً من بيت مال المسلمين حتى يتفرغ لأمور المسلمين.
فقد أخرج ابن سعد بإسناده إلى عطاء بن السائب، قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن
__________
1ـ المصدر السابق 1/139.
2ـ كتاب الاستغاثة 1/17.
(3/988)


الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟، قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟، قال: فمن أين أطعم عيالي..."1.
وهنا اتفق الصحابة وفي مقدمتهم عمر الفاروق وأمين هذه الأمة أبو عبيدة على تخصيص مبلغ معين للصديق، ليتفرغ لشئون الخلافة، وأقره جميعهم ولم يوجد من أنكر هذا فلو كان هذا حراماً، فقد كان أبو الحسن رضي الله عنه أحد من أقروه وقدروه2، فلا وجهة صحيحة للرافضة للطعن على أبي بكر، بأنه هو الذي فرض لنفسه كل يوم ثلاثة دراهم.
ومما طعنوا به على الصديق: أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جهزوا جيش أسامة وكرر الأمر وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان ولم ينفذ أمير المؤمنين لأنه أراد منعهم من الوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه"3.
والرد على هذا أنه باطل من وجوه:
الأول: أنهم يطالبون بصحة النقل إذ هذا من الأخبار التي ليس لها سند معروف، ولم يصححه أحد من علماء النقل والاحتجاج بالمنقول لا يسوغ إلا بعد العلم بصحته وثبوته وإلا فيمكن أن يقول كل واحد ما شاء.
الثاني: أن هذا كذب باتفاق علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة أبو بكر ولا عثمان، وإنما قد قيل إنه كان عمر وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته، وقد كشف سجف الحجرة فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر فسر
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184.
2ـ انظر المصدر السابق 3/184-185، تاريخ الأمم والملوك 3/432.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20-23، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/296-299، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/220، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/178.
(3/989)


بذلك1، فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة.
الثالث: لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم تولية علي لكان هؤلاء أعجز من أن يدفعوا أمره ولكان جماهير الأمة أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن يدعوا أحداً يتوثب على من نص الرسول صلى الله عليه وسلم لهم عليه.
الرابع: لو أراد توليته لكان أمره بالصلاة بالمسلمين أيام مرضه، ولما كان يدع أبا بكر يصلي بهم2 وبهذه الوجوه يبطل طعن الرافضة على الصديق بهذا فقد أنفذ رضي الله عنه جيش أسامة حيث الوجهة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم وزعمهم بأنه كان أحد أفراد هذا الجيش وتخلف وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن المتخلف كذب محض، وتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يقل به.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يعط فاطمة رضي الله عنها من تركه أبيها صلى الله عليه وسلم، حتى قالت: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك، وأنا لا أرث أبي؟، واحتج أبو بكر على عدم توريثها بما رواه هو فقط من قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث"، مع أن هذا الخبر مخالف لصريح قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 3 فإنه عام للنبي وغيره ومخالف أيضاً لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 4، وقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 5.
والرد على هذا:
__________
1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/235، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
2ـ انظر منهاج السنة 4/220-221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/538-539، التحفة الاثنى عشرية ص/240-241.
3ـ سورة النساء آية/11.
4ـ سورة النمل آية/16.
5ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم أحمد بن علي الكوفي 1/9-15، الصراط المستقيم في مستحقي التقديم للعاملي 2/282-284، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 1/247 وما بعدها. حق اليقين 1/178-179.
(3/990)


أن الصديق رضي الله عنه لم يمنع فاطمة رضي الله عنها من الإرث لأجل عداوة أو بعض لها والدليل على هذا عدم توريثه أمهات المؤمنين حتى ابنته، والحامل له على هذا تمام التزامه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن فاطمة عليها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال" الحديث1 وهذا أمر كان معروفاً بين أزواجه المطهرات.
فقد روى البخاري بإسناده إلى عروة بن الزبير أنه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن" الحديث2، فهذه إحدى الزوجات الوارثات للنبي صلى الله عليه وسلم قد روت ما قاله أبو بكر، ولو أن باقي أمهات المؤمنين لم يتذكرن ما ذكرتهن به عائشة لأنكرن قولها، ومعنى هذا أنه أمر كان مقرراً عندهن ومعروفاً لديهن وزعم الشيعة أن الصديق رضي الله عنه تفرد برواية هذا الحديث زعم باطل، فقد "وافقه على رواية هذا الحديث: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك"3.
وأما دعواهم أن
__________
1ـ صحيح البخاري 3/17.
2ـ صحيح البخاري 3/17.
3ـ البداية والنهاية 5/322.
(3/991)


الحديث مخالف لآية المواريث وغيرها "فجهل عظيم لأن الخطاب في "يوصيكم" لما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر مبين لتعيين الخطاب لا مخصص، بل لو كان مخصصاً للآية فأي ضرر فيه؟، فقد خصص من الآية الولد الكافر والرقيق والقاتل.
فالرافضة إذا دخلوا في مسألة لم يدخلوها بفهم وعلم، وإنما يدخلونها بجهل وعدم فهم ومنها مسألة الميراث هذه.
قال العلامة ابن كثير: "وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 1 الآية ، وحيث قال تعالى إخباراً عن زكريا أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2 واستدلالهم بهذا باطل من وجوه:-
أحدها: أن قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} إنما يعني بذلك في الملك والنبوة، أي: جعلناه قائماً بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده وليس المراد بهذا وراثة المال لأن داود ـ كما ذكره كثير من المفسرين ـ كان له أولاد كثيرون يقال مائة فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم، لو كان المراد وراثة المال؟ إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك ولهذا قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} .
وأما قصة زكريا، فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده
__________
1ـ سورة النمل آية/16.
2ـ سورة مريم آية/5-6.
(3/992)


أحقر من أن يسأل الله ولداً ليرثه في ماله كيف؟، وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده كما رواه البخاري1 ولم يكن ليدخر فوق قوته حتى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله ـ أن لو كان له مال ـ وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة والقيامم بمصالح بني إسرائيل وحملهم على السداد.
الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها ... فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك ـ لكان ما رواه ـ الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون سواه.
الوجه الثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا، فإنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، أن يكون خبراً عن حكمه، أو حكم سائر الأنبياء معه وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز حمله ماله كله صدقة والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور، وقد يقوى المعنى الثاني ـ بما رواه ـ مالك وغيره ـ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" 2، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث: "ما تركناه صدقة" بالنصب ـ جعل ـ ما ـ نافية فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله لا نورث ـ ؟وبهذه الرواية "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"؟ ... والمقصود أنه يجب العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى، فإنه مخصص لعموم آية
__________
1ـ لم أقف عليه في البخاري، وإنما هو في صحيح مسلم 4/1847.
2ـ الموطأ 2/993، صحيح البخاري 2/188.
(3/993)


الميراث ومخرج له عليه السلام منها إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام"1.
فلا سبيل للرافضة، للطعن على أبي بكر بقضية توريث فاطمة رضي الله عنها مما أفاء الله على رسوله من مال فدك والنضير وخيبر حيث: "إنه لما كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يرى أن فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلي ما كان يليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته"2، وهذا هو الحكم المصحوب بالصواب والسداد، وهو الحكم الذي ارتضته فاطمة رضي الله عنها وسلمت به عندما اعتذر لها الصديق بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، فقالت له: "فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم"3، وهذا هو الصواب والمظنون بها وما يليق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها رضي الله عنها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الحكمة في عدم توريث الأنبياء كغيرهم من الناس، فقال: "والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة"4.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن أئمة أهل البيت اعترفوا بصحة ما حكم به أبو بكر فيما أفاء الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وأيدوه على ذلك، فهذا علي رضي الله عنه "قد تولى الخلافة بعد ذي النورين عثمان" وصار فدك وغيرها تحت
__________
1ـ البداية والنهاية 5/325-327.
2ـ رواه الإمام أحمد في مسنده 1/10.
3ـ المصدر السابق 1/4.
4ـ منهاج السنة 2/157-158.
(3/994)


حكمه ولم يعط منها شيئاً لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس، فلو كان ذلك ظلماً وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال وأمره أهون بكثير1.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن الحافظ البيهقي روى بإسناده إلى فضيل بن مرزوق، قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك2.
فالرافضة لو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره، كما قبلت ذلك منه سيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها وغيرها من أهل البيت، ولكن الرافضة طائفة لها النصيب الأوفر من الخذلان يتشبثون بالمتشابه ويعدلون عن الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنهم يقولون: إنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه عندما قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة ويزعمون أن عمر أنكر هذا على أبي بكر3.
والرد على هذا الزعم:
أنه من أظهر الأدلة على جهل الرافضة بما حكته كتب التواريخ فخالد بن الوليد لم يقتل مالك بن نويرة إلا بعد أن أظهر له أنه ارتد عن الإسلام هو وأهله،
__________
1ـ منهاج السنة 3/231.
2ـ البداية والنهاية 5/325.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/6، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/279، مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول لمرتضى العسكري 1/44، حق اليقين 1/179-180.
(3/995)


فقد أعلنوا سرورهم وضربوا بالدفوف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم1، بل إن مالك بن نويرة قال في حضور خالد عندما كان يؤنبه على متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة، وقال له: "ألم تعلم أنها قرينة الصلاة، فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال له خالد: أهو صاحبنا وليس بصاحبك"2، فهذا التعبير مشعر بالكفر والردة بل ثبت أن مالكاً لما سمع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم رد صدقات قومه عليهم، وقال: قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل"3.
وذكر أبو سليمان الخطابي أن المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على صنفين:
صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر.
والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... إلى أن قال: وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم"4.
فلما بلغ الصديق حال مالك هذا لم يوجب على خالد القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما، فكيف يريد الرافضة بعد هذا من أبي بكر أن يقيد خالداً في رجل علم ارتداده، وبان كفره.
__________
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/238.
2ـ البداية والنهاية 6/363، وانظر تاريخ الأمم والملوك 3/280.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/239.
4ـ معالم السنن 2/3.
(3/996)


وأما زعمهم أن خالداً تزوج امرأة مالك بن نويرة من ليلته ولم تمض عدة الوفاة، فهذا لم يثبت في كتاب معتبر، بل الثابت في الروايات المعتبرة عند ابن جرير وابن كثير أن خالداً لم يتسر بهذه السبية إلا بعد انقضاء عدتها1.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على ابن المطهر الحلي: "وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته"2.
وأما قولهم: "إن عمر رضي الله عنه أنكر على أبي بكر عدم أخذ القود من خالد لمالك بن نويرة يقال لهم: "غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند أهل السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل هذا عيباً لأبي بكر ـ ولا يجعله عيباً له ـ إلا من هو من أقل الناس علماً وديناً وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد"3، ومما يعتذر به للفاروق رضي الله عنه أنه تأثر بما بلغهم من أن سرية خالد لما أذنوا للصلاة سمعوا أذاناً وإقامة صلاة من جهة مالك وأصحابه4 لكن ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع شدة محبته له محبة تضرب بها الأمثال وفيه قال:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً
... يطول اجتماع لم نبت ليلة معاً5
ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق6.
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363.
2ـ منهاج السنة 3/130.
3ـ المصدر السابق 3/129-130.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363.
5ـ انظر أبياته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/35، البداية والنهاية 6/363.
6ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/241-242.
(3/997)


فلا مسوغ للرافضة للطعن على الصديق بقصة خالد مع مالك بن نويرة إذ كان قتله خالد على ارتداده.
ومما طعن به الرافضة على أبي بكر: أنهم يقولون: "إنه أول من سمى المسلمين كفاراً، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفاً1.
قال الخطابي رحمه الله بعد أن ذكر هذيانهم هذا: "وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقعية في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافاً منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفاراً، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي دراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي، فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد منهم كفاراً وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد ارتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم
__________
1ـ انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433-434.
(3/998)


الذين كان ارتدادهم حقاً، وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وما ادعوه من كون الخطاب خاصاً لرسول الله فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه:-
خطاب عام كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية2 وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 3.
وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به من غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} 4 وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 5 وكقوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}6 ونحو ذلك من خطاب المواجهة، فكل ذلك غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل تشاركه فيه الأمة فكذا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فعلى القائم بعده صلى الله عليه وسلم بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذهم منهم، وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله تعالى والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم ـ إلى أن قال ـ فأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، ويستحب للإمام وعامل الصدقة أن يدعو للمصدق
__________
1ـ سورة التوبة آية/103.
2ـ سورة المائدة آية/6.
3ـ سورة البقرة آية/183.
4ـ سورة الإسراء آية/79.
5ـ سورة الإسراء آية/78.
6ـ سورة النحل آية/98.
(3/999)


بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن يستجيب الله ذلك ولا يخيب مسألته"أهـ1.
فطعن الرافضة على الصديق بمقاتلته مانعي الزكاة باطل وساقط ليس عليه ذم بسبب ذلك، وإنما يمدح على ذلك بل ويعد ذلك من مناقبه إذ ذلك "أدل دليل على شجاعته رضي الله عنه وتقدمه في الشجابة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره ورصانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحق على أنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في معرفة رجحانه أشياء مشهورة في الأصول وغيرها"2 ولكن الرافضة قوم يجهلون هذا وغيره من فضائله رضي الله عنه وأرضاه وبسبب ما أصيبوا به من عمى البصيرة يقلبون المناقب مثالب.
ومما طعنوا به على الصديق رضي الله عنه أنه قال عند موته: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش"3.
والرد على هذا:
أما زعمهم أنه رضي الله عنه قال: ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق، فهذا من الكذب الواضح لأن المسألة كانت واضحة عنده وعند الصحابة لكثرة النصوص الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بطلان هذا النقل، ولو قدر صحته ففيه فضيلة لأبي بكر لأنه لم يكن يعرف النص
__________
1ـ معالم السنن للخطابي 1/5-8، شرح النووي على صحيح مسلم 1/203-205.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 1/211-212.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/301.
(3/1000)


واجتهد فوافق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أنه يكون معه نص بعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفاً للنص فأي قدح في هذا.
وأما قولهم: إنه شك في صحة بيعة نفسه هذا مما يرمونه به كذباً وزوراً لم يصدر عن أي طائفة سوى الرافضة1.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: "أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول أبا بكر وولى عليه"2.
والرد على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الزعم باطل حيث ولاه ولاية لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج، وقد ولاه غير ذلك.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصاً عن هؤلاء.
ال وجه الثالث: أن عدم ولايته لا يدل على نقصه، بل قد يترك ولايته لأن عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيراً دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر3 فلا وجه للرافضة للطعن على أبي بكر بعدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم إياه إذ الثابت خلاف ما تقولوه.
وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد تعداد مطاعن الرافضة في
__________
1ـ انظر منهاج السنة 4/219-220، والمنتقى للذهبي ص/538.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، حق اليقين 1/177.
3ـ منهاج السنة 4/221، والحديث رواه البخاري في صحيحه 2/294.
(3/1001)


حق الصديق، قال: "ومنها أن النبي لم يؤمر أبا بكر قط أمراً مما يتعلق بالدين، فلم يكن حرياً بالإمامة".
والجواب: أن هذا كذب محض تشهد على ذلك السير والتواريخ، فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضاً في غزوة بني فزارة، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضاً، ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضاً بالصلاة قبيل الوفاة إلى غير ذلك مما يطول ... ويجاب أيضاً على تقدير التسليم بأن عدم ذلك ليس لعدم اللياقة بل لكونه وزيراً ومشيراً على ما هي العادة"أهـ1.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ : ما ذكره صاحب كتاب "الاستغاثة" ،فقد قال فيه: "ومن بدعه أنه لما أراد أن يجمع ما تهيأ من القرآن صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به، ثم قال: لا نقبل من أحد منه شيئاً إلا بشاهدي عدل، وإنما أراد هذا الحال لئلا يقبلوا ما ألفه أمير المؤمنين عليه السلام إذ كان ألف في ذلك الوقت جميع القرآن بتمامه وكماله من ابتدائه إلى خاتمته على نسق تنزيله، فلم يقبل ذلك، قالوا: لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل...الخ"2.
والرد على هذا الكذب والزور:
يقال لهم: إما أن تقروا وتعترفوا بأن هذا القرآن الموجود بين الدفتين والذي هو في أيدي المسلمين يتعبدون الله به مطابق للقرآن الذي تزعمون أن علياً رضي الله عنه قام بجمعه في زمن الصحابة وحينئذ يكون طعنكم على الصديق بهذا في غير محله، ويكون من اللغو الذي لا فائدة فيه.
وإما أن تقولوا إنه مخالف للقرآن الذي جمعه على حسب قولكم وحينئذ
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/240-241.
2ـ الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20.
(3/1002)


عليكم أن تثبتوا هذه المخالة بإبرازكم مصحف علي إذ طعنكم هذا تضمن أن علياً جمع قرآنا يختلف عن القرآن الموجود بأيدي المسلمين لكنهم يعلمون أنهم كاذبون في تقولهم هذا وهو بريء رضي الله عنه مما ينسبونه إليه، فلم يكن له قرآن غير هذا القرآن الموجود بأيدي المسلمين والذي قام بجمعه إخوانه الخلفاء الثلاثة قبله، وبه تعبد الله تعالى في محياه حتى أتاه اليقين وقرآنه هو قرآنهم لا غيره، وقد أعلن رضي الله عنه رضاه على جمع الصديق لكتاب الله تعالى، وهنأه بعظم الأجر بسبب جمعه للقرآن.
فقد قال رضي الله عنه: أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين1 وبنص هذا الأثر فقد اعتبر علي رضي الله عنه جمع الصديق للقرآن الكريم مفخرة جليلة ومنقبة رفيعة له، رضي الله عنه وأرضاه، أما الشيعة الرافضة لما أصيبوا بالخذلان اعتبروا جمع الصديق للقرآن بدعة طعنوا بها عليه، ومن هنا يعلم كل عاقل أن انتسابهم إلى أهل البيت ليس إلا ادعاءً وتقولاً، فهم في واد وأهل البيت في واد، ولقد أيد أهل السنة والجماعة ما قاله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو جمع الصديق للقرآن واعتبروا ذلك من أعماله الجليلة ومآثره الحميدة، فهم أتباع أهل البيت على الحقيقة.
قال العلامة ابن كثير مشيداً بجمع الصديق للقرآن: "وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق رضي الله عنه فإنه أقامه الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً لا ينبغي لأحد من بعده قاتل الأعداء من مانعي الزكاة والمرتدين والفرس والروم ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القاريء من
__________
1ـ أورده الحافظ ابن كثير في كتابه فضائل القرآن ص/16، وقال عقبه: هذا إسناد جيد، كما أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/12، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص/77، وعزاه لأبي يعلى.
(3/1003)


حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 فجمع الصديق الخير وكف الشرور رضي الله عنه وأرضاه"2.
ومن مطاعن الرافضة على صديق هذه الأمة أنهم يقولون: "إنه عهد بالخلافة إلى عمر، ولم يترك الأمر شورى للمسلمين في اختيار الخليفة"3.
والرد على هذا الهراء:
يقال لهم: إن أبا بكر رضي الله عنه لم يعهد بالأمر من بعده للفاروق رضي الله عنه إلا لما يعلم من فضله ولما فيه من النصح والقوة على ما يقلده، فلما وجد فيه ذلك منذ أسلم لم يكن ليسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله أن يعدل بالخلافة من بعده إلى غيره، وقد استقر عند الصديق رضي الله عنه أن الصحابة جميعاً يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم من أمره شيء هنا عهد بالأمر من بعده لعمر رضي الله عنه، فرضي المسلمون به إماماً لهم ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولعارضوه في ذلك، بل كان مستقراً عندهم أنه الخليفة من بعده لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعهد الصديق له بالخلافة إنما كان بمثابة الدليل لهم على أنه أفضلهم وأكملهم فتبعوه على ذلك مستسملين له راضين به4 رضي الله عنهم أجمعين".
وأما طعنهم عليه بأنه لم يترك الأمر شورى للمسلمين، فيقال لهم: أيها الغافلون: "إنما الشورى عند الاشتباه، وأما عند الاتضاح والبيان فلا معنى للشورى ـ ألا ترونهم ـ رضوا به وسلموه وهم متوافرون"5.
__________
1ـ سورة الحجر آية/9.
2ـ فضائل القرآن لابن كثير ص/16.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/22، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/304، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402.
4ـ انظر الرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/274.
5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/278.
(3/1004)


وتسليمهم هذا لم يكن لرغبة أو رهبة، وإنما لما "ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تفخيمه وجلالة ما ذكر من مناقبه في كمال علمه، وتمام قوته وصائب إلهامه وفراسته، وما قرن بشأنه من السكينة وغير ذلك من ورعه وخوفه وزهده ورأفته بالمؤمنين وغلظته وفظاظته على المنافقين والكافرين وأخذه بالحزم والحياطة وحسن الرعاية والسياسة وبسطه العدل ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم"1 لهذه الصفات الحميدة كان أهلاً لأن تناط به الخلافة والنظر في شئون الأمة بعد الصديق رضي الله عنه.
وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد الرد على طعن الشيعة الرافضة على أبي بكر أنه استخلف، وأنه باستخلافه خالف النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه قال: "ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالاستخلاف والإشارة إذ ذاك كالعبارة وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثوا عهد بالإسلام، وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات وفي كل زمان رجال ولكل مقام مقال، وأيضاً عدم استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بعلمه بالوحي بخلافة الصديق، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة ونعم ما عمل، فقد فتح الفاروق البلاد ورفع قدر ذوي الرشاد، وأباد الكفار وأعان الأبرار"2 فليس للرافضة أي وجه يدعمون به ما ذهبوا إليه من الطعن على أبي بكر بسبب أنه استخلف وليس لهم دافع على ذلك إلا ما تحبيش به قلوبهم من الغل على خيار الصحابة.
__________
1 ـ المصدر السابق ص/278.
2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/242.
(3/1005)


المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه
...
المبحث السادس: من مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه
لقد تناول الشيعة الرافضة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمطاعن خاصة ألصقوها به.
فمنها وهو عمدة مطاعنهم: أنهم طعنوا عليه بما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمربن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" ، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قوموا".
قال عبيد الله1: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"2.
وبلفظ آخر: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً" ، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟، أهجر؟. استفهموه فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه
__________
1ـ هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني ثقة فقيه ثبت من الثالثة مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك. التقريب 1/535.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، صحيح مسلم مع شرح النووي 11/95، المسند 1/325، 336. وانظر حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/181-182.
(3/1006)


خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها"1.
لقد زعمت الشيعة الرافضة أنه يستفاد من هذا الحديث الطعن على عمر رضي الله عنه من وجوه:-
الأول: أنه رد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله كلها وحي لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2 ورد الوحي كفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3.
والجواب على هذا الوجه يقال لهم: "على فرض تسليم أن هذا القول صدر من عمر وحده، فإنه لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم وإنما قصد راحته ورفع الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في حال شدة المرض، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض، مع عدم كون ذلك الأمر ضرورياً، ولم يخاطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بل خاطب الحاضرين تأدباً وأثبت الاستغناء عن ذلك بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4 وقد نزلت هذه الآية قبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر، وقد انسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين فيمتنع إحداث شيء".
ويرد عليهم أيضاً: بأنه لو كان قول عمر رضي الله عنه: "حسبنا كتاب الله" رداً للوحي ولقول الرسول للزم مثل ذلك في حق علي رضي الله
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، شرح النووي على صحيح مسلم 11/89-94.
2ـ سورة النجم آية/3 ، 4.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/248، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/5، والآية رقم 44 المائدة.
4ـ سورة المائدة آية/3.
(3/1007)


عنه، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى علي، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: ألا تصليان؟، فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حيث قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}1 "فقد رد على قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت القرائن الحالية دالة على صدقه واستقامته لم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم"2.
وروى البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تصالح مع قريش في الحديبية، كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بينهم كتاباً فكتب: "محمد رسول الله"، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله لو كنت رسولاً لم نقاتلك، فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده"3، فامتناع علي إنما كان لكمال إيمانه، ولا يقال: إنه رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفه، فإذا كان هذا يقال في حق علي فلأن يقال في حق الفاروق من باب أولى كيف وقد "اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4 وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 5، فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة وأردا الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه"6.
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/10.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/249.
3ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/303.
4ـ سورة الأنعام آية/38.
5ـ سورة المائدة آية/3.
6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90.
(3/1008)


وأما زعمهم "أن أقوال الرسول كلها وحي فمردود لأن أقواله صلى الله عليه وسلم لو كانت كلها وحياً فلم قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1، وقال تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 2 وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} 3، وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4وأيضاً يلزمهم أن علياً رضي الله عنه قد رد الوحي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتهجد ومحو اللفظ في كتابة صلح الحديبية مع قريش مع أنهم لا يقولون بذلك.
الوجه الثاني: من وجوه الطعن التي انتزعوها من الحديث على عمر رضي الله عنه أنه قال: "أهجر" مع أن الأنبياء معصومون من هذه الأمور فأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال والأوقات كلها معتبرة وحقيقة بالاتباع5.
والرد عليهم أن يقال لهم:
"من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر؟، مع أنه قد وقع في أكثر الروايات "قالوا بصيغة الجمع" استفهموه على طريق الإنكار، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتكلم بالهذيان البتة، وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم ما خط قط بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} 6 ولذا قالوا: فاسألوه، وتحقيق ذلك أن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهوم وهو على قسمين:-
__________
1ـ سورة التوبة آية/43.
2ـ سورة النساء آية/105.
3ـ سورة النساء آية/107.
4ـ سورة الأنفال آية/68.
5ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 2/433-434.
6ـ سورة العنكبوت آية/48.
(3/1009)


قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم.
والقسم الآخر: جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة، في الأكثر.
وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية، ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياساً على النوم، ومنعه آخرون، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول يعني أنا نرى هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم، فلعلنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال"1.
الوجه الثالث: من وجوه الطعن التي استنبطوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه، أنهم قالوا: "إنه رفع الصوت وتنازع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 2.
والرد على هذا، يقال لهم:
من أين ثبت أن عمر أول من رفع الصوت؟، وعلى تقديره فرفع صوته إنما كان على صوت غيره من الحاضرين لا عل صوت النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه في الآية، والأول جائز، والآية تدل عليه حيث قال: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات: "قوموا عني" من قبيل قلة الصبر العارضة
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، والآية رقم 2 من سورة الحجرات.
(3/1010)


للمريض، فإنه يضيق صدره إذا وقعت منازعه في حضوره وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلاً للطعن عليه مع أن الخطاب كان الجميع الحاضرين المجوزين والمانعين"1.
الوجه الرابع: من أوجه الطعن التي انتزعوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أتلف حق الأمة إذ لو كتب الكتاب المذكور لحفظت الأمة من الضلالة ولم ترهم في كل واد يهيمون ووبال جميع ذلك على عمر"2.
والرد على هذا الوجه:
يقال لهم: "إنما يتحقق الإتلاف لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة ومنعه عمر، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية تدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لتأكيد ما بلغه"3. ولو كان الكتاب لأمر ديني ضروري لم يتركه لاختلافهم، فإنه قد عاش بعد ذلك أياماً وحصل منه وصايا، فدل عدم كتابة الكتاب في هذه الأيام على أن الذي أراد كتابته إنما هو تأكيد لا تأسيس.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا"4.
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250-251.
2ـ المصدر السابق ص/251، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/3-7، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-182.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/251.
4ـ فتح الباري 1/209
(3/1011)


وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى المقصود من الكتاب الذي كان قد عزم على كتابته لهم، فقال: "وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين1 عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعى لي أباك وأخاك حتى اكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ... والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد شك بشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان كلامه المعروف الذي يجب قبوله ولذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات2، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" .
وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد، ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل إن
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/205، صحيح مسلم 4/1857، واللفظ له.
2ـ انظر شدة دهشة الفاروق بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 2/266-272، تاريخ الأمم والملوك 3/200-201، الكامل 2/323-324.
(3/1012)


الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى، وأيضاً: فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله"1.
فقد تبين بما تقدم ذكره بطلان ما طعن به الرافضة على عمر رضي الله عنه من أجل الكتاب الذي أراد أن يكتبه صلى الله عليه وسلم في مرض موته وأنه ما قصد منعه ولا رد أمره صلى الله عليه وسلم، وإنما قصد رضي الله عنه: "التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 2.
كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث ... وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال: "وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 3، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة"4.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه بلغ به الجهل إلى حيث لم يعلم بأن كل نفس ذائقة الموت، وأنه يجوز الموت على
__________
1ـ منهاج السنة 3/135-136.
2ـ سورة المائدة آية/67.
3ـ سبق تخريجه قريباً.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90-91.
(3/1013)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم فقال له أبو بكر رضي الله عنه أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 2، قال عمر: فلما سمعت ذلك أيقنت بوفاته، وسقطت إلى الأرض، وعلمت أنه قد مات، وفي رواية أنه قال عند سماع الآية: كأني لم أسمعها"3.
والرد على هذا:
إنما حصل للفاروق عند وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما هو "من شدة دهشته بموت الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال محبته له صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، وكثيراً ما يحصل الذهول بسبب تفاقم المصائب وتراكم الشدائد لأن النسيان والذهول من اللوازم البشرية، والنسيان حاصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد حصل لموسى عليه السلام وهو نبي معصوم من أولي العزم من الرسل أن نسي معاهدته لذلك العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علماً على عدم السؤال ثلاث مرات كما حكى الله لنا ذلك عنهما في سورة الكهف4، وكما أخبرنا في حق آدم بقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} 5، فأي ذنب للفاروق بدهشته من ذلك الأمر العظيم وهو وفاة سيد الأولين والآخرين، وأي طعن عليه بسبب ما حصل له من فقد محبوبه صلى الله عليه وسلم فالخسارة كل الخسارة لمن جعل عقله لعبة للشيطان يستجيب له في كل ما يملي له به6.
__________
1ـ سورة الزمر آية/30.
2ـ سورة آل عمران آية/144.
3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/182-183، الطرائف 2/451-454.
4ـ من الآية 65-82.
5ـ سورة طه آية/115.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/252.
(3/1014)


ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن فاطمة رضي الله عنها وعظت أبا بكر في قضية فدك، فكتب لها كتاباً بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فمزق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة"1.
والرد على هذا الهراء:
أنه من الكذب الذي لا يشك فيه عالم ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث ولا يعرف له إسناد والصديق لم يحصل منه أنه كتب فدكاً لأحد لا لفاطمة ولا لغيرها، ولا دعت على عمر، وما فعله أبو لؤلؤة المجوسي فهو كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم من فعل ابن ملجم بعلي رضي الله عنه، ومن فعل قتلة الحسين رضي الله عنه ، فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وشهادته أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين، ثم إن قتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد وفاة فاطمة بمدة خلافة الصديق والفاروق إلا ستة أشهر فمن أين يعلم أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله: "يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعتنا به" وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد2 ـ ثم أيضاً ـ "إن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يقدمهم في العطاء على كل الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك، قال: لا، ابدؤا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا عمر حيث وضعه الله3، فبدأ ببني
__________
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/137.
2ـ صحيح البخاري 3/48-49، صحيح مسلم 3/1428، المسند 4/48.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/210.
(3/1015)


هاشم وضم إليهم بني المطلب فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول صلى الله عليه وسلم وعترته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة؟1، لا يعتقد هذا إلا من أعمى الله قلبه واتبع هواه.
ومن مطاعنهم على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه ابتدع التروايح في شهر رمضان، ويكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة"، ويقولون: إن عمر اعترف بأنها بدعة"2.
ويرد على هذا الزور:
أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثاً ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: "أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"3.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة4 فيقول: "من قام رمضان إيماناً
__________
1ـ منهاج السنة 3/137.
2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/34-36، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/26، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/454، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/224، حق اليقين لعبد الله شبر 1/186.
3ـ صحيح البخاري 1/342، صحيح مسلم 1/524.
4ـ معناه: لم يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم وإنما أمرهم أمر ندب وترغيب.
(3/1016)


واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر على ذلك"1.
وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان في المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر، نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ، وكان الناس يقومون أوله"2.
فهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه الفاروق بدعة لأن ما فعل ابتداء يسمى بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله، فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة، وإلا فلو عمل الإنسان فعلاً محرماً يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة.
ويقال لهم أيضاً إن عمل الفاروق هذا: "لو كان قبيحاً منهياً عنه لكان علي رضي الله عنه أبطله لما صار أمير المؤمنين، وهو بالكوفة، فلما كان جارياً في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك، بل روى عن علي أنه قال: "نور الله على عمر في قبره كما نور علينا مساجدنا"3.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن علياً دعا القرآن في رمضان فأمر رجلاً
__________
1ـ صحيح مسلم 1/523، وقوله: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ...إلخ من قول ابن شهاب. انظر صحيح البخاري 1/342.
2ـ صحيح البخاري 1/342.
3ـ ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص/137، وعزاه لابن عساكر.
(3/1017)


منهم يصلي بالناس عشرين ركعة، وكان علي يوتر بهم1.
وعن عرفجة الثقفي قال: "كان علي الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماماً، قال عرفجة: "فكنت أنا إمام النساء"2 رواهما البيهقي في سننه"3.
ومن هذا يتضح أن الفاروق رضي الله عنه لم يأت ببدعة، وإنما أحيا سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة، فيعجزوا عن القيام بها، ولما رأى الفاروق أنه علة المنع قد زالت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أحيا سنة قيام رمضان حيث جمع الناس على إمام واحد رضي الله عنه وأرضاه.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه حرم المتعتين متعة الحج ومتعة النساء مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه صلى الله عليه وسلم فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله4.
والرد على هذا الافتراء:
يقال لهم: أما متعة الحج وهي تأدية الإنسان أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته لم يحرمها الفاروق كما يزعمون ولم يمنعها قط، وما يذكرون من رواية التحريم عنه فهي افتراء صريح عليه وإنما كان يرى رضي الله عنه إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران أو في سفر واحد وهو التمتع.
__________
1ـ السنن الكبرى للبيهقي 2/496.
2ـ المصدر السابق 2/494.
3ـ منهاج السنة 4/224.
4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/36-37، مقدمة مرآة العقول 1/220-221، ص/273، وما بعدها، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/183، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/153-154، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/457-463. الشيعة والتصحيح ص/109.
(3/1018)


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً الغرض الذي من أجله أرشد الفاروق رضي الله عنه الناس من أنهم يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج حيث قال: "وإنما كان مراد عمر رضي الله عنه أن يأمر بما هو أفضل، وكان الناس لسهولة المتعة تركوا العمرة في غير أشهر الحج، فأراد أن لا يعري البيت طول السنة، فإذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة"1.
فهذه هو الذي اختاره عمر للناس، فظن من غلط ممن لا فهم له أنه نهى عن متعة الحج، وهذا هو شأن الرافضة لما حرموا الفهم والعلم غيروا ما قصده عمر في مسألة متعة الحج، وزعموا أنه منع متعة الحج وهو بريء من هذا.
وأما زعمهم أنه حرم متعة النساء، فهذا أيضاً محض افتراء عليه رضي الله عنه وأرضاه، وأن حرمة متعة النساء ثابتة بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من أهل السنة.
فأما دلالة الكتاب فمن ذلك أن الله تعالى حصر أسباب حل الوطء في شيئين هما: النكاح الصحيح، وملك اليمين2 لأن الاختصاص التام الحاصل بين المرء وزوجته لا يتحقق إلا بهذين العقدين ليحفظ الولد ويعلم الإرث، قال تعالى في سياق ذكره لصفات عبادة المؤمنين :{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، وأعقب هذا في موضعين من كتابه بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3، وفي هذا النص القرآني يتضح أن امرأة المتعة ليست بزوجة وإلا لتحققت لوازم الزوجية فيها من إرث وعدة وطلاق ونفقة وكسوة وغير ذلك، وليست هي أيضاً بملك يمين، وإلا لجاز بيعها وهبتها وإعتاقها.
__________
1ـ منهاج السنة 2/155.
2ـ أما الرافضة فعندهم أسباب حل المرأة أربعة كما يقول ذلك ابن البابوية في كتاب الاعتقاد، وهي النكاح، وملك اليمين، والمتعة، والتحليل، نقلاً عن التحفة الاثنى عشرية، ص/228.
3ـ سورة المؤمنون آية/5-7. سورة لمعارج آية/29-30.
(3/1019)


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن الله قصر سبب حل الوطء في أمرين اثنين حيث قال: "والله تعالى إنما أباح الزواج وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين فتكون حراماً بنص القرآن أما كونها ليست مملوكة فظاهر، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها، فإن من لوازم النكاح كونه سبباً للتوارث، وثبوت عدة الوفاة فيه والطلاق الثلاث وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول وغير ذلك من اللوازم"أهـ1.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2، فلو كانت المتعة جائزة لم يأمر بالاستعفاف في هذه الآية الكريمة، فدلت على تحريمها، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 فلو جازت المتعة لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر في ترك نكاحهن متحققاً4، فدل هذا على تحريم نكاح المتعة.
وأما دعوى الشيعة أن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 5 دليل على المتعة6 فغلط محض وزعمهم أن طائفة من السلف
__________
1ـ منهاج السنة 2/157.
2ـ سورة النور آية/33.
3ـ سورة النساء آية/25.
4ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/228.
5ـ من الآية رقم 24 من سورة النساء.
6ـ انظر تفسير القمي 1/136.
(3/1020)


قرأوا الآية هكذا: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى" فهو غلط أيضاً، إذ ليس هذا من القراءة المتواترة وعلى تقدير ثبوت ذلك فتكون قراءة منسوخة بما جاء من النصوص في تحريم نكاح المتعة.
قال العلامة ابن تيمية: "فإن قيل ففي قراءة طائفة من السلف فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، قيل أولاً: ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك: الثاني: أن يقال: إن كان هذا الحرف نزل فلا ريب أنه ليس ثابتاً من القراءة المشهورة، فيكون منسوخاً ويكون لما كانت المتعة مباحة، فلما حرمت نسخ هذا الحرف، أو يكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيهاً على الإيتاء في النكاح المطلق وغاية ما يقال إنهما قراءتان وكلاهما حق والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل واجب، إذا كان ذلك حلالاً وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمى حلالاً، وهذا كان في أول الإسلام، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمى حلال فإنه لم يقل وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى بل قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالاً أم وطء شبهة ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق والمتمتع إذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر، وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الآية، فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها لكان زناً ولا مهر فيه، وإن كانت مستكرهة ففيه نزاع مشهور"1.
ثم يقال أيضاً: إن الله تعالى بين قبل الآية التي يستدلون بها على جواز المتعة المحرمات بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}،
__________
1ـ منهاج السنة 2/155-156.
(3/1021)


أي: غير المحرمات المذكورة، ولكن بشرط أن تبتغوا بأموالكم من المهور والنفقات، فبطل بهذا الشرط تحليل الفروج وإعارتها، فإنها منفعة محصنة بلا حرج، ثم قال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} 1 يعني: في حال كونكم مخصصين أزواجكم بأنفسكم ومحافظين لهن لكي لا يرتبطن بالأجانب ولا تقصدوا بهن محض قضاء شهوتكم وصب مائكم واستبراء أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد لأن الاحتياط والاختصاص لا يكون مقصوداً في المتعة أصلاً، ثم فرع على النكاح قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، يعني إذا قررتم الصداق في النكاح فإن تمتعتم به منهن بالدخول والوطء يلزمكم تمام المهر وإلا فنصفه، فقطع هذه الآية عما قبلها وحملها على الاستئناف باطل صريح باعتبار العربية لأن الفاء تأبى القطع والابتداء، بل تجعل ما بعدها مربوطاً بما قبلها ... وسياق قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} 2الآية أيضاً: في باب النكاح يعني إن لم يستطع منكم أحد أن يؤدي مهر الحرائر ونفقتهن فلينكح الإماء المسلمات، فحمل العبارة المتوسطة على المتعة بقطع الكلام من السياق والسياق تحريف صريح لكلام الله تعالى، بل إن تأمل عاقل في سياق هذه الآية يجد حرمة المتعة صريحة لأن الله أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء في عدم الاستطاعة بطول الحرائر، فلو كان أجل المتعة في الكلام السابق لما قال بعده: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} لأن المتعة في صورة عدم الاستطاعة بنكاح الحرة ليست قاصرة على قضاء حاجة الجماع ـ ثم ـ أي ضرورة كانت داعية إلى تحليل نكاح الإماء بهذا التقييد والتشديد وإلزام الشروط والقيود وبالجملة إن هذه الآيات ـ المتقدم ذكرها ـ صريحة الدلالة على تحريم المتعة، وقد تبين عدم دلالة الآية التي استدل بها الشيعة على مدعاهم بل على خلافة"3.
__________
1ـ سورة النساء آية/23-24.
2ـ سورة النساء آية/25.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/229-230.
(3/1022)


وأما دلالة السنة على تحريم المتعة، فقد جاء فيها التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" 1.
وروى أيضاً بإسناده إلى سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه" 2.
قال أبو محمد بن حزم: "ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نسخاً باتاً إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت ـ وهو ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه: فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب ويقول: "من كان تزوج امرأة إلى أجل فليعطها ما سمي لها ولا يسترجع مما أعطاها شيئاً ويفارقها فإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة".
قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنا نسخه3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد رده على الرافضي: "وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله
__________
1ـ صحيح مسلم 2/1025.
2ـ صحيح مسلم 2/1027.
3ـ المحلى لابن حزم 11/141، 142.
(3/1023)


والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة: إنك امروء تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر1، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها أئمة الإسلام في زمنهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممن اتفق على علمهم وعدلهم وحفظهم ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح يتلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه، وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرمها غزاة الفتح إلى يوم القيامة2.
وقد تنازع رواة حديث علي رضي الله عنه هل قوله عام خيبر توقيت لتحريم الحمر فقط، أوله ولتحريم المتعة والأول قول ابن عيينة وغيره قالوا: إنما حرمت عام الفتح، ومن قال بالآخر قال: إنها حرمت ثم أحلت وادعت طائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع والروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل بعد ذلك ولم تحرم عام خيبر بل عام خيبر حرمت لحوم الأهلية، وكان ابن عباس يبيح المتعة وأكل لحوم الحمر فأنكر علي بن أبي طالب ذلك عليه، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر يوم خيبر3، فقرن علي رضي الله عنه بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، لأن ابن عباس كان يبيحهما، وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما"4.
__________
1ـ انظر صحيح مسلم 2/1027.
2ـ انظر صحيح مسلم 2/1025.
3ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/166-167.
4ـ منهاج السنة 2/156، وانظر معالم السنن للخطابي 3/191.
(3/1024)


فالسنة دلت على تحريم المتعة دلالة صريحة وأنها حرمت إلى يوم القيامة.
وأما الإجماع على تحريم المتعة فقد نقله طائفة من أهل العلم ممن يعتمد على نقلهم.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً إلى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض"1.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "تحريم المتعة كالإجماع بين المسلمين ... فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الروافض"2.أهـ
وقال القرطبي: "الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض"3.
فلا طريق للرافضة للطعن على الفاروق بزعمهم أنه هو الذي منع من متعة النساء إذ المنع منها وتحريمها تحريماً قاطعاً كان بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كافة سلفاً وخلفاً حاشا الرافضة وخلافهم غير معتبر ولا يعتد به، فالفاروق رضي الله عنه لم ينه عن المتعة اجتهاداً وإنما كان نهيه مستمداً من نهي الشارع.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "فنهي عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: ـ وتمامه أن يقال: لعل جابراً ومن نقل عنهم استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي، ومما يستفاد أيضاً: أن عمر لم ينه عنها اجتهاداً وإنما نهى عنها مستنداً إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولي
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/181.
2ـ معالم السنن 3/190، وانظر فتح الباري 9/173.
3ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في الفتح 9
(3/1025)


عمر خطب، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها1.
وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"2.
فدعوى الرافضة على الفاروق أنه حرم المتعة دعوى بلا برهان وافتراء واضح ولا حجة لهم على حلها بتعلقهم باستمرار بعض الصحابة على القول بحلها، وإنما كانوا على هذا القول قبل أن يبلغهم النهي فلما بلغهم النهي رجعوا عن هذا القول، وإصرار الرافضة على حلها إنما هو اتباع للهوى، وتنكب عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهم متبعون للهوى في هذه المسألة، ومخالفون لمعتقد أهل البيت فيها إذ أن أهل البيت يعتقدون أنها نسخت وحرمت إلى يوم القيامة، ويعتبرون فعلها عين الزنا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن علي رضي الله عنه أنها نسخت ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه"3.
ومما طعنوا به على الخليفة الثاني ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يفترون عليه بأنه عطل الحدود ويقولون أنه لم يحد المغيرة بن شعبة حد الزنا ولقن الرابع وهو زياد بن أبيه فتركها وحد الثالث وكيف يجوز له صرف الحد عن مستحقه4.
ويرد على هذا الهذيان:
__________
1ـ فتح الباري 9/172-173.
2ـ فتح الباري 9/173.
3ـ فتح الباري 9/173.
4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/21، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/138. حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/183-184.
(3/1026)


بأن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود، والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم، والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف، وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانياً، فقال له علي: إن كنت جالده فأرجم المغيرة1 يعني يكون تكراره بالقول بمنزلة شاهد آخر فيتم النصاب أربعاً فيجب رجمه فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولاً دون الحد الثاني، وإلا كان أنكر حدهم أولاً كما أنكر الثاني... وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى أنه أقام على ابنه2 الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سراً في البيت، وكان يضربون علانية، فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده لكونه حابا ابنه، ثم طلبه فضربه مرة ثانية، فقال عبد الرحمن: مالك هذا، فزجر عبد الرحمن، وما روي أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز، وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر ـ ثم أيضاً يقال للرافضة ـ أي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة، وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب"3.
وأما قولهم: أنه لقن الشاهد الرابع كلمة تدرأ الحد وهي أنه قال له: "أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلاً من المسلمين" فهذا كذب وبهتان من
__________
1ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى للذهبي ص/351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
2ـ يكنى بأبي شحمة وهو عبد الرحمن الأوسط انظر قصة عبد الرحمن هذا في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" لأبي عبد الله الجوزقاني 2/193-194، تنزيه الشريعة المرفوعة 2/220.
3ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال من 351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
(3/1027)


أهل العدوان، وإنما الثابت في التواريخ المعتبرة أن هذه الكلمة إنما قالها المغيرة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود ولا سيما إذا كان يترتب على الشهادة حكم موجب لهلاكه"1.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه : أنهم يزعمون أنه لم يحد قدامة بن مظعون على شربه الخمر لأنه تلا عليه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} الآية2، فقال له علي رضي الله عنه: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحده، فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى3.
والرد على الهذيان:
أنه من الكذب الواضح على الفاروق رضي الله عنه لأن علم عمر بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل، فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله، والمعروف من قصة قدامة ما رواه أبو إسحاق الجوزجاني وغيره من حديث ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما يحملك على ذلك، فقال: إن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية ... وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد، فقال عمر: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذراً للماضين لمن شربها قبل أن تحرم"4. ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال علي بن
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
2ـ سورة المائدة آية/93.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/148. وانظر الميزان 6/135.
4ـ رواه عبد الرزاق في المصنف 9/240-243، وقصة قدمة أوردها أيضاً ابن العربي في أحكام القرآن 2/659، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 6/297-299.
(3/1028)


أبي طالب: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة، فجلد عمر ثمانين، ففيه أن علياً أشار بالثمانين وفيه نظر، فإن الذي ثبت في الصحيح1 أن علياً جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح2 أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي، وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروي عن علي أنه قال: "ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا"3.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه رعمهم: "أنه غير حكم الله في المنفيين يعني أنه ترك النفي لمن يشرب الخمر"4.
والرد على هذا البهتان:
أن التغيير لحكم الله إنما يكون بما يناقض حكم الله، مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله، والنفي في الخمر كان من باب التعزير يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيه الضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول5 النخل بينما الضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط، وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وصح أن علياً قال: وكل سنة6، وقد قال العلماء: الزيادة على أربعين حد واجب وبه يقول أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن
__________
1ـ انظر صحيح مسلم 3/1331-1332.
2ـ انظر المصدر السابق أيضاً 3/1331.
3ـ منهاج السنة 3/149، المنتقي للذهبي ص/353-354، وانظر الأثر عن علي في صحيح مسلم 3/1332.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139.
5ـ العثكول: العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب. النهاية في غريب الحديث 3/183.
6ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.
(3/1029)


أحمد، وقال الشافعي: الزائد تعذير وللإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وكان الفاروق رضي الله عنه يحلق في الخمر وينفي وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الشارب في الرابعة1، واختلف في نسخه وكان علي يحد أكثر من الأربعين، وثبت عنه أنه قال: ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر، فإنه لو مات لوديته فإنه شيء فعلناه بآرائنا2.
واستدل به على أن الزيادة من باب التعذير الذي يفعل بالاجتهاد3.
وبهذا يبطل طعن الرافضة على عمر رضي الله عنه بأنه غير حكم الله في المنفيين إذ النفي كان في شرب الخمر من باب التعذير الذي يجوز فيه الاجتهاد.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه : أنهم يزعمون أنه كان لا يعلم بعض المسائل الشرعية التي هي في زعمهم شرط في الإمامة والخلافة ويذكرون قصصاً اخترعتها عقولهم يستدلون بها على ما يفترون من تلك القصص يقولون: إنه أمر برجم مجنونة شهد عليها بالزنا، فقال له علي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق" فقال: " لولا علي لهلك عمر" 4.
والجواب على هذا:
أولاً: أن قولهم أن عمر رضي الله عنه قال: "لولا علي لهلك عمر" هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث.
ثانياً: أن عمر رضي الله عنه لا يخلو إما أن يكون غير عالم بجنونها وهذا
__________
1ـ انظر سنن الترمذي 2/450، سنن ابن ماجه 2/859، سنن الدارمي 2/175-176، الأم للإمام الشافعي 6/144.
2ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.
3ـ منهاج السنة 3/139، المنتقى للذهبي ص/352.
4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/15، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/140، حق اليقين 1/185.
(3/1030)


لا يقدح في علمه بالأحكام، أو كان عالماً بذلك ولكنه ذهل عنه، أو اجتهد فله أسوة بغيره وما هو بمعصوم1.
وقد روى الإمام أحمد وغيره قصة هذه المرأة المجنونة عن أبي ظبيان الجنبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بامرأة قد زنت، فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من أيديهم وردهم، فرجعوا إلى عمر رضي الله عنه، فقال: ما ردكم، قالوا: ردنا علي رضي الله عنه، قال: ما فعل هذا علي إلا لشيء قد علمه، فأرسل إلي علي فجاء وهو شبه المغضب، فقال: مالك رددت هؤلاء، قال: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل" قال: بلى، قال علي رضي الله عنه: فإن هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدري، قال: وأنا لا أدري فلم يرجمها2.
فمن هذا يتبين أن عمر رضي الله عنه كان يعلم أن المجنونة لا ترجم ولكن لم يكن له علم بجنونها، فلا يطعن عليه بهذا إلا من أصيب بالفتنة في قلبه.
ومن القصص التي يتشدقون بها ويقولون: إنها دلت على أن الفاروق كان قليل المعرفة ببعض المسائل الشرعية، قالوا: إنه أمر برجم حامل، فقال له علي: إن كان لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فأمسك وقال: "لولا علي لهلك عمر"3.
والرد على هذه القصة:
إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون الفاروق رضي الله عنه لم يعلم بحملها فأخبره أبو الحسن بأنها حامل، ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام
__________
1ـ انظر منهاج السنة 3/140، وانظر المنتقى للذهبي ص/353.
2ـ المسند: 1/154-155، وانظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/120.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139، وانظر حق اليقين 1/185.
(3/1031)


إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إعلامه بما يغيب عنه من أحوال الناس، ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود، وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية، وإما أن يكون عمر رضي الله عنه قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكَّره علي ذكر ذلك، ولهذا أمسك عن رجمها، ولهذا لو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها، ولم يرجع إلى رأي غيره، وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟، لعلك إن تردني كما رددت ماعزاً فوالله إني لحبلى، قال: "أما لا فاذهبي حتى تلدي" 1.
ولو قدر أنه خفي على عمر علم هذه المسألة حتى عرفه علي بذلك لم يقدح ذلك في علمه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطي الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام، وظهر ظهوراً لم يكن قبله مثله وهو دائماً يقضي ويفتي، ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك...ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بذرية المسلمين أنه كان لا يفرض لصغير حتى يفطم ويقول: يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له، فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع2 وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن أذاهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين3.
ويقال للطاعنين عليه بهذه القضية إن كانت خفيت عليه فقد خفي على أبي الحسن رضي الله عنه من السنة أضعاف هذا وأدى اجتهاده إلى أن قتل يوم
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1323، الموطأ 2/821.
2ـ انظر تاريخ عمر لابن الجوزي ص/84-85.
3ـ منهاج السنة 3/139-140، وانظر المنتقى للذهبي ص/352.
(3/1032)


الجمل وصفين نحو من تسعين ألفاً1 فهذا أعظم خطئاً من خطأ عمر في قتل ولد زنا ولم يقتله ولله الحمد2.
وبهذا الرد يبطل ما نسبه الرافضة إلى عمر رضي الله عنه من أنه أمر برجم امرأة حامل، فنهاه علي عن ذلك والمشهور أن هذه القصة لم تكن لعلي رضي الله عنه مع عمر، وإنما كانت لمعاذ بن جبل كما روى ذلك ابن أبي شيبة في المصنف أن امرأة غاب عنها زوجها ثم جاء وهي حامل فرفعها إلى عمر فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر، فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، "لولا معاذ هلك عمر"3.
لكن الرافضة لما كانوا أهل جهل والكذب فيهم أكثر من غيرهم ينسبون الآثار والأخبار إلى غير رواتها.
ومما طعنوا به على الفاروق رضي الله عنه : أنهم يقولون إنه أرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفاً منه، فقال له الصحابة: نراك مؤدباً ولا شيء عليك، ثم سأل علياً، فأوجب الدية4.
ويرد على هذه القصة: أنها من مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، وكان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث، يشاور عثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه، فلهذا كان من أشد الناس رأياً وكان يرجع تارة إلى رأي هذا، وتارة إلى رأي هذا، وقد أتي بامرأة قد أقرت بالزنا،
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/539.
2ـ المنتقى للذهبي ص/352.
3ـ المصنف 10/88.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/185.
(3/1033)


فاتفقوا على رجمها، وعثمان ساكت، فقال: مالك لا تتكلم، فقال: أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم، فرجع فأسقط الحد لما ذكر له عثمان، ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحاً ... وإذا كانت لا تعلمه قبيحاً كانت جاهلة بتحريمه والحد إنما يجب على من بلغه التحريم، ولهذا من أتى شيئاً من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه بعد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود1 وكذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذاً2، وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لما حصل له من التأويل3.
فلا وجهة مستقيمة للرافضة للطعن على عمر بهذه القصة، إذ أنها مسألة مبنية على الخلاف والاجتهاد ومشاورة الفاروق رضي الله عنه للصحابة تزيد من قدره ورفعة شأنه، وذلك من تمام فضله وكمال دينه وعقله رضي الله عنه وأرضاه.
ومما ذكروه من القصص التي يسوقونها للاستدلال بها على عدم إلمام الفاروق بالأحكام الشرعية أنهم يقولون: "تنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى علي، فاستدعى علي المرأتين ووعظهما فلم ترجعا، فقال: ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع به، فقال: أقده بينكما نصفين، فتأخذ كل واحدة نصفاً، فرضيت واحدة، وقالت الأخرى: ألله ألله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي: الله أكبر هو ابنك دونها، ولو كان ابنها
__________
1ـ انظر صحيح البخاري 1/328.
2ـ صحيح مسلم 1/97.
3ـ منهاج السنة 3/150، وانظر المنتقى للذهبي ص/354، وانظر قصة خالد بن الوليد مع بني جذيمة .فتح الباري 8/56-58.
(3/1034)


المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه
لقد نقم الشيعة الرافضة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بما لم ينقم به على أحد مثله واعتبروا ما نقموا به عليه مظالم ومناكير صدرت منه وأخذوا ينتقصونه بها اقتداء منهم بأوباش القبائل وأهل الفتنة الذين قادهم عبد الله بن سبأ اليهودي زمن خلافة عثمان رضي الله عنه حيث زين لهم الطعن في الولاة والخروج على الأئمة حتى وصلت بهم الجرأة البغيضة إلى أن اجتمعوا من الأمصار المختلفة وتوجهوا إلى المدينة وأدى خروجهم وتجمعهم إلى أن قتلوا ذا النورين رضي الله عنه وأرضاه ظلماً وعدواناً1.
فمن مطاعنهم عليه ـ رضي الله عنه ـ: ادعاؤهم عليه أنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مراراً فلم يرجع2.
والرد على هذا التخرص:
يقال لهم: لو نظرتم في كتب التواريخ والسير نظر العلماء المتبصرين لوجدتم أن الولاة الذين ولاهم علي رضي الله عنه خانوه وعصوه أكثر من خيانة عمال عثمان لعثمان رضي الله عنه، بل بعضهم ترك علياً وذهب إلى معاوية وقد ولى علي زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولي محمد بن أبي بكر وأمثاله هؤلاء لا يستريب من له أدنى عقل وعلم أن معاوية
__________
1ـ انظر تهذيب تاريخ دمشق 7/431.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي: 1/62-63.
(3/1050)


ابن أبي سفيان كان خيراً من هؤلاء كلهم، ومما يتعجب منه أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يعلمون أن علياً كان أبلغ فيه من عثمان، وهو زعمهم أن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومما هو معلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابني العباس فولى عبيد بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف، وقيل: ثمامة ابن العباس، وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، ثم إن الإمامية يدعون أن علياً نص على أولاده في الخلافة وولده على ولده الآخر، وهلم جرا، ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكراً فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ... ويقال لهم أيضاً: "إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في غرة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضاً: خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذجح وعلى صنعاء اليمن فلم يزل حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل عثمان بن سعيد على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين، فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ..فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر
(3/1051)


عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل، وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا علياً على اليمن وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة1.
وأما بيان بطلان قولهم: حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، فيقال لهم: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتاً حين الولاية، ولا على أن المولي علم ذلك، وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد، وكان يعزل من يراه مستحقاً للعزل، ويقيم الحد على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه.
وأما قولهم: إنه قسم المال بين أقاربه، فهذا غايته أن يكون من موارد الاجتهاد، فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين: وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل: إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل: إن هذا مما تأوله عثمان، ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل، فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك، وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي رضي الله عنه ولى أقاربه"2.
__________
1ـ منهاج السنة 3/173-176.
2ـ منهاج السنة 3/187-189، المنتقى للذهبي ص/390-392.
(3/1052)


وبهذا الرد تبين بطلان طعن الرافضة على عثمان بتوليته بني أمية إذ أنه كان متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في استعمالهم، وأيضاً: أبو الحسن لما تولى الخلافة كان أبلغ من عثمان في تولية أقاربه وكما أنه لا يلحق علياً رضي الله عنه طعن بسبب ما حصل من عماله كذلك عثمان رضي الله عنه وإلا فما الفرق؟
ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه : "أنه استعلم الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران"1.
والرد على طعنهم بهذه القضية"
يقال لهم: إن عثمان رضي الله عنه طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب، وقال لعلي: قم فاضربه، فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين، ثم قال: أمسك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي2، فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب3.
قال أبو بكر بن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عثمان بتولية الوليد بن عقبة: "وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس على فساد النيات أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات، فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به، قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه والولاية اجتهاد، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة"4.
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/62-63، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/189.
2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 3/1331-1332.
3ـ منهاج السنة 3/188.
4ـ العواصم من القواصم ص/85-88.
(3/1053)


ومن مطاعنهم في حق ذي النورين أنهم يقولون إنه استعمل سعيد بن العاس1 على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها2.
والرد عليهم:
يقال لهم: "مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب إخراجه فإن أهل الكوفة كانوا يقومون على كل وال، فقد قاموا قبله على سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله، وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة وغيرهما، وإذا قدر أنه أذنب فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك"3.
و من مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه : أنهم يقولون إنه ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح4 مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على
__________
1ـ هو: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي القرشي صحابي من الأمراء الولاة الفاتحين ربى في حجر عمر بن الخطاب وولاه عثمان الكوفة وهو شاب، فلما بلغها خطب في أهلها فنسبهم إلى الشقاق والخلاف فشكوه إلى عثمان فاستدعاه إلى المدينة فأقام فيها إلى كانت الثورة عليه فدافع سعيد عنه وقاتل دونه إلى أن قتل عثمان فخرج إلى مكة فأقام إلى أن ولي معاوية الخلافة، فعهد إليه بولاية المدينة فتولاها إلى أن مات وهو فاتح طبرستان، وأحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، اعتزل فتنة الجمل وصفين ولد سنة ثلاث وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 5/30-35، الإصابة في تمييز الصحابة 2/45-46، الأعلام 3/149.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
3ـ منهاج السنة 3/188، وانظر المنتقى للذهبي ص/372.
4ـ هو: عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري من بني عامر بن لؤي من قريش فاتح إفريقية وفارس بني عامر من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة وهو من أهلها وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، وولي مصر سنة 25هـ، بعد عمرو ابن العاص، فاستمر نحو 12 عاماً زحف خلالها إلى إفريقية بجيش فيه الحسن والحسين بن علي وعبد الله بن عباس وعقبة بن نافع، ولحق بهم عبد الله بن الزبير فافتتح ما بين طرابلس الغرب إلى طنجة ودانت له إفريقية كلها، وتوفي سنة سبع وثلاثين هجرية، انظر ترجمته في أسد الغابة 3/173 =
(3/1054)


ولايته سراً خلاف ما كتب إليه جهراً وأمر بقتل محمد بن أبي بكر1.
والرد على هذا الإفك:
أنه من الكذب على ذي النورين، وقد حلف أنه لم يكتب شيئاً من ذلك2 وهو الصادق البار بلا يمين، وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع، فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً فذا من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعاً فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل.
وأما قولهم أنه أمر بقتل محمد بن أبي بكر، فهذ من الكذب المعلوم على عثمان، وكل ذي علم بحال عثمان وانصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر، ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل احداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم، دفعاً عن نفسه فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم ... بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد، وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد، وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا، ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة
__________
= البداية والنهاية 7/340، الإصابة 2/308-309، الأعلام 4/220-221.
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/60-61.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/356.
(3/1055)


عند الناس1.
فمروان له منزلة عظيمة عند الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين.
قال أبو بكر بن العربي: "مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه2، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين3، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته، وأم الفقهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم"4.
وما دام مروان بن الحكم تبوأ هذه المكانة، فيستبعد أن يكون زور كتاباً على عثمان رضي الله عنه إلى ابن أبي سرح ليقتل البغاة ومحمد بن أبي بكر وقد رد عثمان رضي الله عنه بنفسه على البغاة فيما نسبوه إليه من أنه كتب إلى واليه بمصر يأمره بقتلهم وقتل محمد بن أبي بكر، فلما رجع البغاة من طريقهم وكانوا قد اقتنعوا ببيان عثمان لهم فيما ادعوه عليه مما يعتقدونه مظالم ومناكير دخلوا عليه: "فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت ـ ثم قال ـ: وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم5، ولا يستبعد أن تزور الكتب في إثارة البغي على الخليفة عثمان
__________
1ـ منهاج السنة 3/188-189، وانظر المنتقى ص/392.
2ـ انظر الإصابة لابن حجر 3/455.
3ـ وفي مقدمة من روى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 2/123، ونص ابن حجر على كثير ممن روى عنه من التابعين، انظر الإصابة 3/455.
4ـ العواصم من القواصم ص/89-90.
5ـ تاريخ الأمم والملوك 4/356، وانظر العواصم من القواصم ص/109-110.
(3/1056)


رضي الله عنه كان من أسلحة البغاة استعملوه من كل وجه وفي جميع الأحوال، فقد كذبوا أنهم تلقوا رسائل من الصحابة أرسلوها إلى الآفاق للقيام بالثورة على عثمان.
قال الحافظ ابن كثير: "وروى بن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر ـ أبو الأعور السلمي ـ على جمل لعثمان، وذكر ابن جرير من هذا الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه ـ ثم قال مبيناً حكمه على مثل هاتين الروايتين: "وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير ـ إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضاً"1.
فإذا كان أولئك البغاة المفسدون زوروا رسائل باسم الصحابة جميعاً فلا يشك عاقل أنهم من وراء تزوير الكتاب على عثمان وعلى مروان.
قال محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي2: "وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة". وبهذا الرد يبطل تعلق الرافضة بالطعن على عثمان بالكتاب المزعوم الذي يقولون إنه وجد مع راكب أو مع غلامه إلى ابن أبي سرح عامله بمصر.
ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه : "زعمهم أنه ولى معاوية
__________
1ـ البداية والنهاية 7/192.
2ـ العواصم من القواصم ص/109.
(3/1057)


فأحدث من الفتن ما أحدث"1.
ويرد على هذا الزعم: "أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولايته عثمان وزاده عثمان في الولاية، وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه ... وإنما ظهر الإحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان، ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد من الشر من كثير منهم، ومعاوية كان خيراً من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيدا لله بن عمر، ومن أبي الأعور السلمي، ومن بشر بن أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما"2.
قال أبو بكر بن العربي راداً على طعن الرافضة بتوليته معاوية حيث قال: "وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها، وأقره عثمان بل إنما ولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتلعق عثمان بعمر وأقره، فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها ابداً بعدها"3.
ومما طعنوا به على ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنه ولى عبد الله بن عامر4 البصرة ففعل من المناكير ..............
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة ص/63.
2ـ منهاج السنة 3/189، والمنتقى للذهبي ص/393.
3ـ العواصم من القواصم ص/80-81.
4ـ هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة الأموي أبو عبد الرحمن أمير فاتح ولي البصرة في أيام عثمان سنة 29هـ، وافتتح بلداناً كثيرة من بلاد فارس أيام إمارته على البصرة، وقتل عثمان وهو ما زال والياً عليها، وشهد وقعة الجمل مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وولاه معاوية البصرة بعد اجتماع الناس على خلافته ثم صرفه عنها فأقام بالمدينة، وكانت ولادة عبد الله هذا سنة أربع وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 5/44-49، الكامل لابن الأثير =
(3/1058)


ما فعل"1.
والجواب على هذا:
"أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر وإذا فعل منكراً فذنبه عليه، فمن قال: إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله"2؟.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما عبد الله بن عامر بن كريز فولاه ـ كما قال ـ لأنه كريم العمات والخالات"3.
ومما نقموا به على عثمان ـ رضي الله عنه ـ: زعمهم أنه ولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتن بين الأمة ما حدث4.
ويرد على هذا الزور:
يقال لهم: "إن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان، وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها، فلم يكن آمراً لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمرهم بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك، ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أموراً أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وأنه لا يعطي احداً من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يبق لهم طلب.
__________
= 3/526، تهذيب التهذيب 5/272-274، الأعلام للزركلي 4/228.
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189.
2ـ منهاج السنة 3/189-190.
3ـ العواصم من القواصم ص/83-84.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/31.
(3/1059)


ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة: "مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه"1.
ومن مطاعنهم في حق عثمان ـ رضي الله عنه ـ تقولهم عليه: "إنه كان يؤثر اهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار"2.
والرد على هذا:
يقال لهم: أولاً أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاءاً كثيراً، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان محسناً إلى جميع المسلمين، وأما هذا الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت.
ثم يقال لهم ثانياً: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان، ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف، وذكروا أنه لم يعط أحداً قدر هذا قط.
ثم يقال لهم: ثالثاً: كان له تأويلان في إعطائه أهل بيته، وكلاهما مذهب طائفة من الفقهاء.
أحدهما: أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده، وهذا مذهب طائفة من الفقهاء، حيث قالوا: إن ذوي القربى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده، وقالوا: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان، فإن بني عبد شمس من أكبر
__________
1ـ منهاج السنة 3/190، وانظر قول عائشة في تاريخ خليفة بن خياط ص/176.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/49، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/32، حق اليقين لعبد الله شبر 1/189-190.
(3/1060)


قبائل قريش، ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم، والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله، فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال، مما جعله الله لذوي القربى، استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولي قربى الإمام وذلك أن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. هذا أحد التأويلين.
والتأويل الثاني: أنه كان يعمل في المال، وقد قال الله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} 1، والعامل على الصدقة الغني له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين2، فلا وجهة لطعن الرافضة على عثمان بأنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال الكثيرة، فإنه واضح البطلان بل ثبت عنه رضي الله عنه أن عطاءه لهم كان من ماله الخاص3.
ومما نقمت به الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه عمد إلى الصحف فألف منها هذا المصحف الذي في أيدي الناس وأحرق المصاحف الباقية ويزعمون أن هذا منكر واستخفاف بالدين ومحادة لرب العالمين مع أن ابن مسعود قد رووا في ترجيح قراءته أخباراً كثيرة مع أن هذا الفعل لو كان حسناً لفعله من قبله4.
يقال لهم: "إن جمع عثمان للقرآن الكريم يعد من حسناته العظمى ومناقبه الكبرى، وإن كان وجد الصحف كاملة لكنه أظهرها ورد الناس إليها وقطع مادة الخلاف فيها، وما ذلك إلا نفوذ لوعد الله بحفظ القرآن الكريم على يديه، وقد بدأ بجمع القرآن وحفظه في الصحف من قبله أخواه الصديق والفاروق رضي الله
__________
1ـ سورة التوبة آية/60.
2ـ منهاج السنة 3/190-191.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347-348، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/262-263.
4ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/52-53، حق اليقين 1/191.
(3/1061)


عنهما، وذلك عندما استحر القتل يوم اليمامة بحفظة القرآن من الصحابة، فقد أمر الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن فتتبعه من العسب1 واللخاف2 وصدور الرجال حتى أنه وجد خاتمة سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، ولم يجدها مع أحد سواه وذلك من قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف بعد ذلك عند الصديق حتى قبضه الله، ثم عند الفاروق حياته ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر3 حتى قدم حذيفة بن اليمان على ذي النورين وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق4.
قال ابن شهاب: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: "فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ..فالتمسنا فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {مِنَ
__________
1ـ العسب: جمع عسيب: أي: جريدة النخل وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص. النهاية في غريب الحديث 3/234.
2ـ اللخاف، جمع لخفة، وهي حجارة بيض رقاق كانوا يكتبون عليها إذا تعذر الورق. النهاية في غريب الحديث 4/244.
3ـ انظر صحيح البخاري 3/225.
4ـ انظر حديث حذيفة هذا في صحيح البخاري من حديث أنس 3/225-226.
(3/1062)


الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فألحقناها في سورتها في المصحف"1.
وأما ما روي أنه حرقها أو خرقها ـ وكلاهما جائز ـ إذا كان في بقائها فساد أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما ينسخ منه، أو على غير نظمه فقد سلم في ذلك الصحابة كلهم2.
وقد روي عن ابن مسعود أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3، فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه لما في ذلك من المصلحة وجمع الكلمة وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين4.
هذا هو الموقف الحق الذي وقفه ابن مسعود عندما جمع ذو النورين القرآن الكريم، فقد كان رضي الله عنه مطيعاً لإمامه الراشد موافقاً له غير مخالف، ولكن الشيعة لما عميت بصائرهم وهم قوم لا عقول لهم حيث يجعلون المناقب مثالب، وإلا فجمع عثمان للقرآن من أعظم مناقبه رضي الله عنه، وقد بذل بهذا العمل جهداً عظيماً في خدمة الدين والعناية بالقرآن، قد كانت كما تقدم مما تشرف بها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر وأتمها ذو النورين بجمعه للقرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، وبهذا كان للخلفاء الثلاثة أعظم منة على المسلمين وبها حقق الله وعده في قوله ـ عز وجل ـ : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5.
__________
1ـ انظر حديث ابن شهاب هذا في المصدر السابق 3/226.
2ـ العواصم من القواصم ص/66-71.
3ـ سورة آل عمران آية/161.
4ـ البداية والنهاية 7/237.
5ـ سورة الحجر آية/9.
(3/1063)


وقد زجر الإمام علي رضي الله عنه الناس الذين يعيبون على عثمان أنه حرق المصاحف المخالفة لما جمعه وبين أن عثمان لو لم يفعل ذلك لفعله، فقد قال رضي الله عنه: "أيها الناس إياكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولى لفعلت مثل الذي فعل"1.
وقد تولى رضي الله عنه الخلافة بعد الثلاثة، فأمضى عملهم وأقر مصحف ذي النورين برسمه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به الخلفاء الثلاثة هو أعظم حسناتهم، رضي الله عنهم أجمعين، فلا مسوغ للرافضة بالطعن على عثمان بسبب جمعه القرآن وتوحيده تلاوته ورسمه، إذ ذلك لا يدعو إلى الطعن عليه وإنما يعد هذا طعناً أهل الحمق والخذلان، وأما أهل العلم والإيمان فإنهم يعدون ذلك من مناقبه العظمى وخصاله الكبرى رضي الله عنه وأرضاه.
ومن مطاعنهم عليه رضي الله عنه أنهم: "يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات"2.
والرد على هذا:
أنه من الكذب البين على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة قال ابن مسعود: "أمرنا خير من بقي ولم نأله"3.
__________
1ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/236.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/51-52.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/63، وانظر المستدرك 3/97، والرد على الرافضة لأبي نعيم، ص/307، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/154.
(3/1064)


ويروى أنه قال: "ولينا أعلاناً ذا فوق ولم نأل"1، وكان عثمان في السنة الأولى من ولايته لا ينقمون منه شيئاً، ولما كانت السنة الآخرة نقموا منه أشياء كان معذوراً فيها، ومن جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض عثمان كتابته إلى زيد دونه وأمر أصحابه أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك الصديق والفاروق لجمع المصحف في الصحف، فندب عثمان من ندبه الشيخان وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل ـ عليه السلام ـ عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين2...فكان ذو النورين في هذا على حق كما يعلم وكما يعلم سائر الصحابة مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه، وكان أيضاً: على حق في أمره بغسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف عبد الله بن مسعود لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان هو من أجل أعمال عثمان بإجماع الصحابة الكرام، ولذلك كانوا معه دون ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً.
وأما زعمهم: أنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات، "فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما ولي أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلاً"3.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور"4. فلا وجهة للرافضة بالطعن على عثمان بقصة ابن مسعود هذه فإنه لم
__________
1ـ منهاج السنة 3/191، ومعنى قول ابن مسعود "ولم نأل": أي: لم نقصر في اختيار الأفضل.
2ـ منهاج السنة 3/191.
3ـ المصدر السابق 3/192.
4ـ العواصم من القواصم ص/63.
(3/1065)


يضربه عثمان ولم يمنعه عطاءه، وإنما كان يعرف له قدره ومكانته، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة، لكن المبتدعة من أهل الرفض "غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة، فكيف يفسق بها أولئك1 رضي الله عنهم أجمعين.
ومن مطاعنهم على ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ : أنهم يقولون: إنه ضرب عمار بن ياسر حتى صار به فتقاً، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "عمار جلدة ما بين عيني" ... وكان عمار يطعن عليه2.
والرد على هذه القصة:
أنها إفك واضح ولو حصل له ما ذكر ما عاش إلى أن قتل شهيداً في موقعة صفين3.
وقد ذكر ابن جرير الطبري: عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب4، وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده، وكم فعل الفاروق مثل ذلك بأمثال عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين5.
ولما بث السبئيون الإشاعات حول عمال عثمان وصاروا يرسلون الكتب
__________
1ـ منهاج السنة 3/191.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/53-54، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/38-42.
4ـ المصدر السابق 4/399.
5ـ المصدر السابق 4/212.
(3/1066)


من كل مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة أشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال تناسى عثمان ما كان من عمار وأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها فأبطأ عمار في مصر، والتف حوله السبئيون ليستميلوه إليهم فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر، وجيء بعمار إلى المدينة مكرماً وعاتبه ذو النورين لما قدم عليه، فقال له: على ما رواه الحافظ ابن عساكر: "يا أبا اليقظان قذفت أبي أبي لهب أن قذفك ... وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي أخرج عني يا عمار، فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه أقر بذلك وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه"1.
وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "عمار جلدة ما بين عيني" لا يعرف له إسناد2.
وزعمهم أنه كان يطعن على عثمان فعلى تقدير أنه حصل منه فليس جعل ذلك قدحاً في عثمان بأولى من جعله قدحاً في عمار، وإذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيما صدر منه يثبته الله على حسناته ويغفر له خطأه، وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلاً منهما ولي الله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل منهما لا يعذبه الله عليه في الدار الآخرة.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بياناً شافعاً ما يجب على المسلم التزامه فيما جرى من كلام بين الصحابة لبعضهم بعضاً، حيث قال رحمه الله: "وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن
__________
1ـ تهذيب التهذيب دمشق 7/432.
2ـ منهاج السنة 3/194.
(3/1067)


غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة، فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله، لهذا أوصوا1 بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك...لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل، وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ـ أي في عمار ـ نقل أن عماراً قال: "لقد كفر عثمان كفرة صلعاء" فأنكر الحسن بن علي على ذلك عليه، وكذلك علي، وقال له يا عمار: أتكفر برب آمن به عثمان؟.
قال شيخ الإسلام: وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله ويكون مخطئاً في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك منافق تجادل عن المنافقين"2، وكما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لحاطب بن أبي بلتعة: "دعني يا رسول أضرب عنق هذا المنافق" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 3، فعمر أفضل من عمار، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال، مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمر قال ذلك، ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن
__________
1ـ الضمير يعود إلى سلف الأمة وأئمتها.
2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 4/3124.
3ـ انظر المصدر السابق 4/1941-1942.
(3/1068)


مسعود أو عماراً فهذا لا يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين، وإن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع1 فإن عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيباً في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك، وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقاً، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة، وقد يكون الإمام مجتهداً في العقوبة مثاباً عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به، بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين، وقد كان محتسباً في شهادته معتقداً أنه يثاب على ذلك، وعمر أيضاً: محتسب في إقامة الحد عليه مثاب على ذلك، فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب2، فلا طريق للشيعة للطعن على عثمان بزعمهم أنه ضرب عماراً إذ أنهم يذكرون قصصاً غير ثابتة وحتى لو ثبت ذلك فللأئمة أن يؤدبوا رعيتهم إذا رأوا ذلك واجباً لهم، فقد اقتص النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وأقاد3، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا رعيتهما باللطم والدرة وأقادا من نفسيهما4، وأما عثمان رضي الله عنه فنقم عليه ما لم ينقم على أحد منهم"5.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ : أنهم يقولون إن
__________
1ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/317.
2ـ منهاج السنة 3/192-193.
3ـ انظر مصنف عبد الرزاق 9/466، وانظر الرد على الرافضة لأبي نعيم ص/315.
4ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/316-317.
5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/315.
(3/1069)


النبي صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية1.
والرد على طعنهم بهذه القصة:
يقال لهم: إن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفي رجل ومروان ابنه كان صغيراً إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز، إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها... وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً... وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه2 فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك. ونحن نعلم أن ذنبه دون دنب3 عبد لله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت
__________
1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50-51، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين 1/189، والآية رقم 22 من سورة المجادلة.
2ـ انظر ما جاء في شأن ابن ابن أبي السرح، الإصابة 2/308-309.
3ـ انظر ما جاء في قصة نفيه. أسد الغابة 2/37، سير أعلام النبلاء 2/107-108، الإصابة 1/344-345.
(3/1070)


مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثرون الكذب فيما يروونه، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته1.
قال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان ما احتج به الرافضة على عثمان بقصة الحكم: "ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة"أهـ2.
وقال أبو بكر بن العربي مبيناً جواب أهل العلم على من طعن على عثمان برده الحكم: "وقال علماؤنا في جوابه قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ـ أي عثمان ـ لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ولا لينتقض حكمه3، وبرد أهل العلم تبين فساد وبطلان زعم الرافضة على عثمان بأنه خالف ما يقتضيه الشرع برده الحكم بعد نفيه.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: إنه
__________
1ـ منهاج السنة 3/195-197.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/154.
3ـ العواصم من القواصم ص/77، وانظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير، ص/131-134.
(3/1071)


ضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزن مولى علي وكان قد أسلم على يد علي رضي الله عنه، ويزعمون أن علياً طلب من عثمان لما ولي الخلافة تسليمه عبيد الله بن عمر ليقيم عليه الحد فامتنع من ذلك1.
والرد على طعنهم بهذه القضية:
يقال لهم: "دعواكم أنه كان مولى لعلي: هذا كذب لم يكن مولى لعلي وإنما أسره المسلمون فمن عليه عمر فأعتقه وأسلم ولا سعي لعلي في رقه ولا في عتقه، ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل وكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر، وقد قال الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي مخاطباً ابن عباس كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج2 بالمدينة، فقال: إن شئت أن نقتلهم، فقال: كذبت، أبعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم3 فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبيد الله بن عمر جواز قتل الهرمزان، فلما قتله وبويع عثمان استشار الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة بعدم قتله وقالوا له: قتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم4 فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، ولو قدر أنه معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل، كما أن
__________
1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/58-59، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، مقدمة مرآة العقول 1/48.
2ـ العلوج جمع علج وهو الرجل من كفار العجم وغيرهم، النهاية في غريب الحديث 3/286.
3ـ صحيح البخاري 2/298.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك في قصة مشاورة عثمان المهاجرين والأنصار في شأن عبيد الله بن عمر: 4/239.
(3/1072)


أسامة بن زيد لما قتل الرجل بعد ما قال لا إله إلا الله اعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولاً1 لكن الذي قتله أسامة كان مباحاً قبل القتل فشك في العاصم، وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولاً يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص، وأيضاً فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون بدمه وإنما وليه ولي الأمر وله القتل أو العفو أو الدية، فعفا عثمان وترك الدية لآل عمر، وإذا حقن عثمان دمه فلا يباح بحال2.
وأما دعواهم أن عثمان امتنع عن قتل عبيد الله بن عمر، فهذا كذب وزور على عثمان رضي الله عنه، وقول بالباطل وأن أحداً لم يطلب من عثمان ذلك لا علي ولا غيره.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل، فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه3، وكان قتل عبيد الله له، وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله، وأيضاً: فإن أحداً لم يقم بطلبه وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح"4.
"ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان لا حرمة له وهو إمام المسلمين
__________
1ـ انظر حديث أسامة في صحيح مسلم 1/96-98.
2ـ منهاج السنة 3/199-202.
3ـ انظر ثبوت تآمر الهرمزان مع أبي لؤلؤة المجوسي وجفينة النصراني على قتل عمر. تاريخ الطبري 4/240.
4ـ العواصم من القواصم ص/107-108.
(3/1073)


المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبيين"1.
فطعن الرافضة على عثمان بقصة عبيد الله بن عمر مع الهرمزان غير مستقيم ولا يقبل ولا له وجه يقويه إذ "من أعان على قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجباً ولكن قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه"2.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه : "أنهم يكذبون عليه بأنه نفى أبا ذر من المدينة، وأخرجه منها إلى الربذة"3.
والرد على طعنهم عليه بهذه القصة:
أنه رضي الله عنه لم يفعل ما اختلقوه في هذه القصة، وإنما أبو ذر هو الذي اختار أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان رضي الله عنه على ذلك وأكرمه وجهزه بما فيه راحته.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل، كان أبو ذر زاهداً وكان يقرع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم وهو غير لازم.
قال ابن عمر5 وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز فوقع
__________
1ـ منهاج السنة 3/202.
2ـ منهاج السنة 3/202.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/55-57، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
4ـ سورة التوبة آية/34.
5ـ انظر صحيح البخاري 2/244.
(3/1074)


بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام1، فخرج إلى المدينة فاجتمع الناس فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: "لو اعتزلت" معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها2 ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً وترك جلة فضلاء وكل على خير وبركة وفضل وحال أبي ذر أفضل ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على طعن الرافضة على عثمان بقصة أبي ذر، قال: "فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة واحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال: يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا"5.
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب6 ووافق عثمان فضربه
__________
1ـ انظر تاريخ الطبري 4/283.
2ـ لقد أحسن القول فيها أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة فليرجع إليه.
3ـ العواصم من القواصم ص/73-75.
4ـ سورة التوبة آية/34.
5ـ انظر لفظ الحديث في صحيح البخاري 3/56، صحيح مسلم 2/687-688.
6ـ هو كعب الأحبار كما في تاريخ الطبري 4/284.
(3/1075)


أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك.
وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة"1 فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجاً إليها أم لا.
وقال جمهور الصحابة: الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه، وقد قسم الله تعالى المواريث في القرآن، ولا يكون الميزان إلا لمن خلف مالاً وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذهمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب، إنما قال: "ما أحب أن يمضي علي ثالثة وعندي منه شيء" فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه، وكذا قوله "المكثرون هم المقلون" دليل على أن من كثر ماله، قلت حسناته يوم القيامة، إذا لم يكثر الإخراج منه، وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويماً تاماً فلا يعتدي لا الأغنياء ولا الفقراء، فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب، ولم يكن لعثمان
__________
1ـ انظر صحيح البخاري 2/244، صحيح مسلم 2/673-675.
(3/1076)


مع أبي ذر غرض من الأغراض"1.
فلو تفهم الشيعة الرافضة قصة أبي ذر من أساسها وبدايتها لعلموا أن أبا ذر هو الذي اختار سكنى الربذة، وأن عثمان لم يأمره بالخروج من المدينة، ولا نفاه إلى الربذة كما يزعمون، ومما يؤيد هذا ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا، قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل2.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: "وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره"3.
وروى ابن جرير من حديث طويل عن يزيد الفقعسي4 وفيه أن أبا ذر قال لعثمان: فتأذن لي في الخروج، فإن المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شراً منها، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً، قال: فانفذ لما أمرك به، قال: فخرج حتى نزل الربذة فخط بها مسجداً وأقطعه عثمان صرمة5 من الإبل وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى
__________
1ـ منهاج السنة 3/198.
2ـ صحيح البخاري 2/244.
3ـ فتح الباري 3/274.
4ـ لم أعثر له على ترجمة.
5ـ الصرمة من الإبل ما بين العشرين والثلاثين. النهاية في غريب الحديث 3/27.
(3/1077)


لا ترتد أعرابياً ففعل"1.
وقال الإمام الذهبي: "وأما أبو ذر فثبت عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: "والله ما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها" 2.
وقال الحسن البصري: "معاذ الله أن يكون أخرجه عثمان"3.
وقال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: "خرج أبو ذر إلى الربذة من قبل نفسه"4.
ففي ما تقدم كفاية في البرهان على كذب الرافضة على عثمان رضي الله عنه من أنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن أبا ذر خرج من المدينة إلى الربذة باختياره وأنه استأذن عثمان في ذلك، فأذن له وأكرمه عثمان وجهزه بما يحتاج إليه حيث أقطعه صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه وأمره بتعاهد المدينة ففعل رضي الله عنه وعن عثمان وعن سائر الصحابة الكرام.
ومما نقموا به على عثمان رضي الله عنه: " أنه أخرج أبا الدرداء من بلاد الشام"5.
والرد على هذا:
أنه وقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهداً فاضلاً قاضيا ـ في دمشق6 ـ فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزل عن القضاء، فتوجه إلى المدينة، وهذه كلها مصالح لا تقدح في
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284.
2ـ انظر الحديث في تاريخ الطبري 4/284.
3ـ المنتقى ص/396.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284.
5ـ ذكر هذا ابن العربي في العواصم من القواصم ص/62.
6ـ انظر الإصابة 3/46.
(3/1078)


الدين ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من كل نقص وعيب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سبباً فهو كله باطل"1، فلا حجة للرافضة في طعنهم على عثمان رضي الله عنه بقصة أبي الدرداء، فإنه رضي الله عنه أراد أن يحمل الناس على التزام سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنهم لا طاقة لهم عليها وهذا اجتهاد منه وهو مأجور عليه، ولقد حاول معاوية أن يسير على طريقة عمر رضي الله عنه فسار على ذلك عامين، ثم لم يستطع بعد.
فقد نقل الحافظ ابن كثير عن محمد بن سعد أنه قال: حدثنا عارم حدثنا حماد بن يزيد عن معمر عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم أنه بعد عن ذلك"2. فأبو الدرداء رضي الله عنه أراد أن يحمل قوماً على السير على طريقة عمر وهم غير مطيقين لذلك فعزل من ولاية القضاء لمصلحة أدركها عثمان رضي الله عنه وعزله لا يقدح في الدين ولا يؤثر في مكانته ولا مكانة أحد من المسلمين.
ومن الأمور التي نقمتها الرافضة على عثمان ـ رضي الله عنه ـ : أنهم يقولون: "إنه منع المراعي من الجبال والأودية وحماها"3.
والرد على هذا الهراء:
أن الحمى لم يكن ذو النورين ابتدأه، فقد كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد كان الرئيس منهم إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عال فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه"4، فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
__________
1ـ العواصم من القواصم ص/77.
2ـ البداية والنهاية 8/142.
3ـ كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191.
4ـ فتح الباري 5/44.
(3/1079)


واختص الحمى ببهائم الصدقة المرصدة للجهاد والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا لله ولرسوله"1، وورد أنه صلى الله عليه وسلم حمى مكاناً يسمى "النقيع"2، ومما هو معلوم أن الحال استمر في خلافة الصديق على ما كان عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن الصديق لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في عهده صلى الله عليه وسلم على الرغم أن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل، وفي زمن الفاروق اتسع الحمى فشمل "الشرف"3 و"الربذة" وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية عمر لعامله هذا على الحمى، بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما"4، وكما اتسع عمر رضي الله عنه في الحمى عما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع دولة الإسلام، وازدياد الفتوح.
قال العلامة ابن العربي في صدد رده على الطاعنين عليه بمسألة الحمى، قال: "وأما الحمى فكان قديماً فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الراعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت لزيادة الحاجة"أ.هـ5.
فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى عليه الشيخان يجوز مثله لبيت المال في زمن ذي النورين، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي، ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن
__________
1ـ صحيح البخاري 2/53.
2ـ المصدر السابق 2/53، والنقيع في المدينة على عشرين فرسخا منها انظر: معجم البلدان 5/299، فتح الباري 5/45.
3ـ قال ياقوت: وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن فما كان مشرفاً فهو الشريف وما كان مغرباً فهو الشرف. معجم البلدان 3/236.
4ـ انظر صحيح البخاري 2/180.
5ـ العواصم من القواصم ص/72-73.
(3/1080)


نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحداً، وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة أكذلك؟، قالوا: اللهم نعم"1.
ومما نقمته الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه : أنهم يقولون "إنه أبطل سنة القصر في الصلوات أثناء السفر، وقالوا إنه "مخالف للسنة ولسيرة من تقدمه"2.
والرد على طعنهم عليه بهذه المسألة:
يقال لهم: إن تركه القصر كان اجتهاداً منه رضي الله عنه، إذ بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر في الصلاة، حتى كانوا يفعلون ذلك في منازلهم فرأى رضي الله عنه أن السنة قد تؤدي إلى إسقاط الفريضة، فترك القصر خشية أن يتذرع الناس بذلك، وكان هذا في منى في موسم الحج سنة تسع وعشرين، وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا: في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف: وقد اتخذ بمكة أهلاً ـ أي: أنه صار في حكم المقيم لا المسافر ـ فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عنده، فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك، فقال ابن مسعود: "الخلاف شر قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً"، فقال عبد الرحمن بن عوف: "قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347.
2ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/63.
(3/1081)


بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول يعني: نصلي معه أربعاً"1.
ثم أيضاً يقال لهم: إن جماعة من العلماء قالوا: "إن المسافر مخير بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة"2.
فقد روي عن جماعة منهم إتمام الصلاة في السفر، منهم عائشة، فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟، قال: تأولت ما تأول عثمان"3.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم معاوية حاجاً قدمنا معه مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة، قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك، قال: فقالا له ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، قال: فقال لهما ويحكما وهل كان غير ما صنعت قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قالا: فابن عمك قد كان أتمها، وإن خلافك إياه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر، فصلاها بنا أربعاً"4.
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/268.
2ـ انظر العواصم من القواصم ص/79-80.
3ـ صحيح البخاري 1/192.
4ـ المسند 4/94.
(3/1082)


وكما هو ظاهر هذا الحديث أن معاوية رضي الله عنه كان يرى أن القصر رخصة وأن المسافر مخير بين القصر والإتمام، ولذلك صلى العصر أربعاً.
فلا وجه للرافضة يسوغ لهم الطعن على عثمان بإتمامه ما صلاه من الرباعية أثناء سفره للحج سنة 29، إذ كان ذلك اجتهاداً منه حيث بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر، وعمدوا إلى فعل ذلك في منازلهم فأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن سنة القصر ربما أدت إلى إسقاط الفريضة فتركها سداً للذريعة وهو مأجور على هذا الاجتهاد أصاب أم أخطأ.
ومما طعن به الرافضة على عثمان رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه انهزم يوم حنين وفر يوم أحد وتغيب عن بدر وبيعة الرضوان"1.
والرد على طعنهم عليه بهذا:
يقال لهم: "أما طعنكم عليه بيوم حنين، فإنه لم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما هي أقوال، منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم، فناهيك بهذا الاختلاف وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة وقد عفا الله عنه ورسوله فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون"2، وأما طعنهم عليه بقولهم إنه فرّ يوم أحد فيجاب عنه أيضاً:، بأن الله ـ جل وعلا ـ عفا عنه وغفر له.
وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه".
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان
__________
1ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/34، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
2ـ العواصم من القواصم ص/103-104.
(3/1083)


إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده، فقال: "هذه لعثمان" 1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على الرافضي: "يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه على ابنته صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يد نفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل مكة بلغه أنهم قتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت، فكان عثمان شريكاً في البيعة، مختصاً بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فامتنع من ذلك، وقال: حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه، وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة، فهم يحمونه، وأما التولي يوم أحد فقد عفا الله عن جميع المتولين فيه فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته"2، فلا وجه لطعن الشيعة الرافضة على عثمان بما حصل يوم حنين، إذ أنه لم يرد تفصيل لمن بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، بل حصل في ذلك خلاف بين أهل العلم، وما حصل من أنه فر يوم أحد فقد عفا الله عنه وغفر له، هو وغيره ممن حصل منه ذلك، وغيابه عن بدر إنما كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث خلفه لتمريض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت زوجة لعثمان حينذاك ولم يفته خير هذه الغزوة، فقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بأجره وسهمه فيها فكان كمن حضرها، وبيعة الحديبية التي ينقم الرافضة على عثمان تغيبه عنها إنما كانت بسبب عثمان وانتصاراً له، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قتلوه، وقد كان لعثمان الشرف العظيم
__________
1ـ هذا ما رد به ابن عمر على أحد المصريين الطاعنين على عثمان بما ذكر. انظر صحيح البخاري 2/297.
2ـ منهاج السنة 3/206-207.
(3/1084)


في هذه البيعة ذلك أن يد الرسول صلى الله عليه وسلم نابت عن يده في عقد البيعة عنه وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم إلا عثمان، فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته، ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بيده يوم الحديبية لكفاه.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أحدث أذاناً يوم الجمعة زائداً على أذان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بدعة محرمة حتى صار سنة يعمل به بعده إلى اليوم"1.
والرد على هذا الهراء:
أن علياً رضي الله عنه كان أحد الموافقين على هذا الأذان في حياة عثمان وبعد قتله، ولهذا لما صار خليفة للمسلمين لم يأمر بإزالته كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره، ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقالتهم، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه، فإن زعموا أن الناس كانوا لا يوافقونه على إزالتها يقال لهم: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وأكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر ذلك، ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان"2.
ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن كل الصحابة تبرؤوا من عثمان فكانوا بين قاتل له وراض بقتله، ويزعمون أيضاً: أن
__________
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192.
2ـ انظر منهاج السنة 3/204.
(3/1085)


عليّاً سكت عن قتل عثمان، ولم ينه عنه وسكوته دال على رضاه بقتله، ويزعمون أيضاً: أنهم تركوه ملقى بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن"1.
والرد على هذا:
أنه كذب صريح وبهتان فضيح لا يخفى على الصبيان، فضلاً عن ذوي العرفان، وما نشب القتال في موقعتي الجمل وصفين بين الصحابة وسقط فيهما الآلاف منهم إلا من أجل إقامة القصاص على قتلة عثمان.
والثابت في كتب التواريخ أن الصحابة كلهم لم يألوا جهداً في دفع البلوى عنه حتى استأذنوه في قتال المحاصرين له فلم يرض لهم بذلك وعزم عليهم أن لا يراق فيه محجم من دم.
فقد روى خليفة بن خياط بإسناده إلى زيد بن ثابت أنه قال لعثمان: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال: "لا حاجة لي في ذلك كفوا"2.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: "إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم، فأذن لنا، فقال: "أذكر الله رجلاً أهراق في دمه، أو قال: دماً".
وروى بإسناده إلى عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: "أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء من كف يده وسلاحه".
وروى بإسناده إلى محمد بن سيرين، قال: انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان:
__________
1ـ انظر حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/189، 192، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33.
2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/173.
(3/1086)


"أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم".
وبإسناده أيضاً: إلى محمد بن سيرين قال: قال سليط بن سليط: "نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها".
وروى بإسناده إلى أبي هريرة قال: "قلت لعثمان: اليوم طاب الضرب معك"، قال: "أعزم عليك لتخرجن"1.
وروى ابن سعد وغيره إلى زهدم الجرمي، قال: خطب ابن عباس رضي الله عنه، فقال: "لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء"2.
فهذه الآثار فيها تكذيب للشيعة الرافضة، فيما يزعمون من أن الصحابة كلهم تبرؤوا من عثمان، وكانوا راضين بقتله، ولذلك لم ينصروه ولم ينكروا على محاصريه ولم يستعدوا لمدافعتهم ومقاتلتهم، وكما هو واضح من هذه الآثار أنهم أنكروا وبذلوا أنفسهم للدفاع عن عثمان ومقاتلتهم، ولكن أولئك المحاصرين له لم يظهروا قتله وإنما كانوا يظهرون المعيبة عليه ومع ذلك فلم يكن لهم أن يستبدوا برأي في أمرهم إلا بأمر من خليفتهم وأميرهم عثمان رضي الله عنه، وكان يمنعهم من ذلك ويعزم عليهم أن لا يسفك قليل من الدم بسببه3.
قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم بالمتواتر أن عثمان رضي الله عنه كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروي أنه قال
__________
1ـ انظر هذه الآثار الخمسة في تاريخ خليفة بن خياط ص/173-174.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/80، الإمامة والرد على الرافضة ص/333.
3ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/331.
(3/1087)


لمماليكه: "من كف يده فهو حر"، وقيل له: تذهب إلى مكة، فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين"1.
وأما زعمهم: أن الصحابة كانوا بين قاتل له وراض بقتله، فهذا كذب قبيح لم يقله أو يعتقده إلا إنسان من الرافضة أو ابتلي بمعلم منهم فالذين قتلوا عثمان لم يكن بينهم أحد من الصحابة ولله الحمد وإنما قتلته كانوا من أوباش القبائل ومن أهل الإفساد والفتن تأثروا بضلالات ابن سبأ اليهودي فقد روى خليفة بن خياط بسنده، فقال: حدثنا عبد الأعلى بن الهيثم قال: حدثني أبي، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟، قال: لا، كانوا أعلاجاً من أهل مصر"2.
قال أبو بكر بن العربي: "إن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً بلدين أو أكثر من ذلك ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة"3.
قلت: لأنه رضي الله عنه اختار أخف الشرين وآثر أن يقتل هو خشية أن تتسع دائرة الفتنة ويعظم سفك دماء المسلمين، ومع ذلك لم يحسن مبغضوا الصحابة جزاءه وإنما رموه بمفتريات كثيرة كان محجوباً فيها بغير حجة، وهنا يقال: للشيعة الرافضة بعد هذه الأخبار المتقدمة: أين تبرؤ الصحابة من عثمان ومن منهم كان بين قاتل له وراض بقتله ألا تستحيون من الرجم بالغيب كذباً وزوراً وبهتاناً.
__________
1ـ منهاج السنة 3/202-203.
2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/176.
3ـ العواصم من القواصم ص/136-137.
(3/1088)


ويرد على زعمهم "أن علياً كان راضياً بقتل عثمان، وسكوته دل على رضاه بقتله".
يقال لهم: حاشا وكلا إن علياً صدر منه هذا أو كان هذا موقفه عندما قتل وأن هذا الموقف الذي يذكره الشيعة الرافضة عنه إنما هو من إفكهم واختلاقهم عليه إذ الثابت عنه لعن قتلة عثمان، وبلغ به الحزن مبلغه عندما بلغه قتله وتبرأ من دمه، فلقد ذكر ابن جرير الطبري: أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الجمل: "أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم وضج أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟، فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم فأقبل يدعو ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم"1.
وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى قيس بن عباد قال: شهدت علياً رضي الله عنه يوم الجمل يقول كذا: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وأرادوني على البيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد "فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس إلي فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي"2.
وذكر الحافظ ابن كثير عن الربيع بن بدر عن سيار بن سلامة عن أبي العالية أن علياً دخل على عثمان فوقع عليه وجعل ييكي حتى ظنوا أنه سيلحق به".
وقال: وقال الثوري وغيره عن طاووس عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/513.
2ـ المستدرك 3/103.
(3/1089)


عثمان: "والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت"1.
فهذه الآثار الثابتة عن علي فيها بطلان ما ادعته الرافضة من أن علياً رضي الله عنه كان راضياً بقتل عثمان، وأن قولهم هذا كذب وزور، فقد تواترت الأخبار عن علي بخلافه.
قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث والله الحمد والمنة، وثبت عنه أيضاً: من غير وجه أنه قال: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .2
وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال: كان عثمان من الذين {اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} 3.
وفي رواية أنه قال: "كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم وأشدنا حباً وأحسننا طهوراً وأتقانا للرب عز وجل"4.
فهذا موقف علي رضي الله عنه من ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ ومكانته عنده، فإن موقفه منه كان موقفاً شريفاً كريماً، لم تهتد الشيعة الرافضة لمعرفته، ولذلك يطعنون في علي بما يظنونه مدحاً وما ذلك إلا لفرط جهلهم وعدم معرفتهم بما كان عليه السلف الصالح من الاحترام والإجلال لبعضهم بعضاً.
__________
1ـ البداية والنهاية 7/212 .
2ـ سورة الحجر آية: 47 .
3ـ من الآية رقم 93 من سورة المائدة.
4ـ البداية والنهاية 7/212 .
(3/1090)


وأما زعمهم أن عثمان رضي الله عنه "ترك ملقي بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن".
فهذا أيضاً: زور وبهتان، فقد قال الزبير بن بكار: "بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء1 يعني من نفس اليوم، وذلك سنة خمس وثلاثين2، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، وهو المظنون بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإنه لا يدخل في عقل أي إنسان سلم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاؤوا لحصاره وقتله، فالصحابة كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وما ذكر من الأقوال غير هذا فإنه لا يؤمن أنها من دس الشيعة الرافضة، الذي يقصدون منه التشنيع والطعن على خيار الأمة وحسبنا من مطاعن الشيعة على ذي النورين ما تقدم ذكره ولهم مطاعن فيه غير هذه المطاعن3 وكلها أباطيل وأكاذيب مفتراة من جنس ما تقدم في هذا المبحث، ومما يجدر التنبيه عليه أن مطاعنهم على الخصوص ليست قاصرة على الخلفاء الثلاثة بل اختلقوا مطاعن خاصة بكل واحد من العشرة4 المبشرين بالجنة حتى علي رضي الله عنه، ينسبون إليه قصصاً يظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة عيب فيه، وتنقص له من حيث لا يشعرون5، وقد اقتصرت على رد مطاعنهم في
__________
1ـ ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة: 2/459 .
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك: 4/415، الكامل في التاريخ 3/179، البداية والنهاية: 7/186، وما بعدها.
3ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: 3/30 – 40، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 1/49-63، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة: 3/173، حق اليقين: 1/189-195.
4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 2/60 وما بعدها.
5ـ من القصص التي يذكرونها ويظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة طعن فيه وقذف له بالكذب والأساطير المفتراة ما حكاه نعمة الله الجزائري في ذكره سبب تحريم عم المتعة حسب زعمه حيث قال:
(3/1091)


الخلفاء الثلاثة في هذه المباحث المتقدمة لأن الثلاثة يعتبرون صدر الأمة المحمدية وهم وعلي الذين أمرنا باتباع سننهم والاقتداء بآثارهم، وقد تبين مما تقدم أن مطاعنهم في الخلفاء الثلاثة كلها أكاذيب مفتراة لم يستقم لهم منها شيء وكلها منشؤها يرجع إلى أمرين اثنين: إما نقص العلم وإما نقص الدين 1 لا شيء غيرها أعاذنا الله من الخذلان.
__________
1ـ انظر: منهاج السنة 3/141 .
(3/1092)


المبحث الثامن: من مطاعنهم في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
لم تسلم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً من طعن الشيعة الرافضة ومن تنقصهم وعيبهم، فقد استحوذ الشيطان عليهم وتمكن منهم وحملهم على أن قالوا فيهن قولاً عظيماً، وأكثر ما طعنوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما يدل على خبث قلوبهم وعلى فساد عقولهم وليكن البدء في هذا المبحث بما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها، ثم نذكر ما قالوه من الطعن فيهن عموماً.
فمن مطاعنهم على عائشة رضي الله عنها: أنهم لم يرضوا تسميتها أم المؤمنين وزعموا أن الذي سماها بهذا الاسم هم أهل السنة والجماعة قال ابن المطهر الحلي: "وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك الاسم"1.
والرذ على هذا الهذيان:
أنه من البهتان الواضح الظاهر لكل إنسان ولا يصدر هذا الإنكار إلا من معاند لما في كتاب الله عز وجل، "إذ من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم المؤمنين، وعائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وسودة بنت زمعة وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حيي بن أخطب الهارونية رضي الله عنهن، وقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2، وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غيره
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/198.
2ـ سورة الأحزاب آية/6.
(3/1093)


وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن ولا السفر بهن كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه"1.
فالله تبارك وتعالى هو الذي سمى عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين، وليس أهل السنة والجماعة هم الذين سموا عائشة بأم المؤمنين كما يزعم ذلك الشيعة الرافضة إذ لما عميت بصائرهم عما دل عليه الكتاب وانضم إلى ذلك جهلهم ظنوا أن أهل السنة والجماعة هم الذين سموها بذلك الاسم، ونسوا أن الله ـ جل وعلا ـ هو الذي أكرم نساء نبيه بهذه الخصيصة الشريفة والمنقبة الرفيعة حيث جعلهن أمهات لجميع المؤمنين ومن شدة حقد وغل الرافضة لعائشة رضي الله عنها حسدوها على هذه التسمية الربانية بل وصل البغض ببعض الشيعة الرافضة إلى أن عاند تسمية الله لها بهذا الاسم وسماها "بأم الشرور"2 مع أن من تفوه به هو الأحق بهذا الاسم وأهله، أما عائشة رضي الله عنها فقد سماها الله "بأم المؤمنين" على رغم أنف كل شيعي رافضي وليمت بغيظه من لم يرتض لها هذا الاسم الإلهي.
ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها: الحديث الذي رواه البخاري عنها رضي الله عنها أنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" 3.
ووجه طعنهم عليها رضي الله عنها بهذا الحديث أنهم استنبطوا منه بأفهامهم
__________
1ـ منهاج السنة 2/198-199.
2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161.
3ـ صحيح البخاري 2/315.
(3/1094)


المعكوسة وقلوبهم المنكوسة " أنها حسدت خديجة لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من مدحها وثنى عليها، ولذلك عاتبته كما يزعمون فاعتذر إليها بإحسان خديجة إليه وحسن صحبتها له"1.
والرد على هذا الاستنباط الباطل:
أن الباعث لعائشة رضي الله عنه على قولها في الحديث هو الغيرة كما صرحت هي بذلك لا الحسد، كما يزعمه الشيعة الرافضة والغيرة كما هو معلوم جبلة في النساء ولا مؤاخذة على الأمور الجبلية الناشئة عن الغيرة، فلو صدر قول أو فعل مخالف للشرع تتوجه الملامة للغيرة، وقد ورد أن بعض أمهات المؤمنين غارت على أخرى حين أرسلت إلى رسول الله طعاماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في بيت من غارت، فكسرت قصعة الطعام وانصب الطعام على الأرض، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجمع الطعام ويقول "غارت أمكم"، ولم يعاتبها ولم يوبخها على ذلك وإنما غاية ما أمرها به أن تبدلها إناء بدل إنائها2 فكيف يسوغ بعد هذا للشيعة الرافضة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفاً لسهام مطاعنهم نعوذ بالله من الخسران.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها ـ ما ذكره ابن المطهر الحلي بقوله الذي خاطب به أهل السنة والجماعة حيث قال: "وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة إنك تكثر ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها فقال: "والله ما بدلت بها ما هو خير منها صدقتني إذ كذبني الناس، وآوتني إذ طردني الناس، وأسعدتني بمالها ورزقني الله الولد منها ولم أرزق من غيرها" 3
__________
1ـ انظر كتاب انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/291.
2ـ انظر سنن النسائي 7/70-71، المسند 6/148، 277، سنن أبي داود 2/267.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/182.
(3/1095)


والرد على هذا اللغو:
يقال لهم: "إن أهل السنة والجماعة لم يجمعوا على أن عائشة رضي الله عنها أفضل أمهات المؤمنين، لكن ذهب الكثير منهم إلى ذلك واحتجوا على ذلك بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 1، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال: قلت يا رسول الله أي النساء أحب إليك؟، قال: "عائشة" قلت: ومن الرجال؟ قال: "أبوها" ، قلت: ثم من؟، ثال: "عمر وسمى رجالاً" 2.
أما قولهم أنه قال لخديجة: "ما أبدلني الله خيراً منها" إن صح فمعناه "ما أبدلني خيراً لي منها فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيراً له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن يدرك إلا أول النبوة، فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسن ما لم يبغله غيرها، فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئاً، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعت بعائشة، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ ممن تفرق همه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله عنه خير له من هذا الوجه لكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك ـ ولهذا كان من الصحابة من هو أعظم إيماناً وأكثر جهاداً بنفسه وماله كحمزة وعلي وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وغيرهم ـ هم أفضل ممن كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر
__________
1ـ صحيح البخاري 2/308، صحيح مسلم 4/1895.
2ـ صحيح مسلم 4/1856.
(3/1096)


منهم كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما ـ ولسنا في صدد ذكر تفصيل الكلام في تفضيل عائشة وخديجة رضي الله عنهما ـ لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها وأن نساءه أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين"1.
والذي يشذ عن هذا الذي أجمع عليه المسلمون فشذوذه هذا يدل على مرض قلبه بداء النفاق والعياذ بالله.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها: "زعمهم أنها أذاعت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
والرد على هذا:
يقال لهم: لا شك أن الله جل وعلا قال في محكم كتابه: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 3.
وقد جاء في صحيح البخاري من حديث عبيد بن حنين، قال: سمعت ابن عباس يقول: "أردت أن أسأل عمر رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فما أتممت كلامهي حتى قال: عائشة وحفصة"4.
وهنا يقال عن الشيعة الرافضة: أنهم عمدوا أولاً إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاصي بينة، لمن نصت عنه من المتقدمين، ثم يعمدون إلى تأويلها بأنواع التأويلات وأهل السنة يقولون: إن أصحاب الذنوب تابوا منها
__________
1ـ انظر منهاج السنة 2/182-183.
2ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/184، و انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/292.
3ـ سورة التحريم آية/3.
4ـ صحيح البخاري 3/206.
(3/1097)


ورفع الله درجاتهم بالتوبة.
ويقال لهم ثانياً: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فيكونان قد تابتا منه، هذا ظاهر بنص قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة ولا يظن بهما انهما لم يتوبا مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبينا في الجنة، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك حرم الله على رسوله أن يستبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك2، ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن ـ ثم إن ـ الذنب يزول عقابه بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة.
ويقال ثالثاً: إن المذكور عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن علياً لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: "إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا علياً ابنتهم وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" 3.
فلا يظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
وكذلك لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية وقال لأصحابه: "انحروا واحلقوا رؤوسكم" فلم يقم أحد فدخل مغضباً على أم سلمة، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟، فقال: "ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع"
__________
1ـ سورة التحريم آية/4.
2ـ انظر الأقوال في ذلك: أحكام القرآن لابن العربي 3/1570-1571، الجامع لأحكام القرآن ../219-220.
3ـ صحيح البخاري 3/265.
(3/1098)


فقالت: يا رسول الله أدع بهديك فانحره وأمر الحلاق فليحلق رأسك"1 وأمر علياً أن يمحوا اسمه فقال: والله لا أمحوك، فأخذ الكتاب من يده ومحاه"2، فمعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال القائل: هذا ذنب كان جوابه كجواب القائل: إن عائشة أذنبت في ذلك فمن الناس من يتأول ويقول وإنما تأخروا متأولين لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة، وآخر يقول: لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تابوا من ذلك التأخير ورجعوا عنه مع أن حسناتهم تمحوا مثل هذا الذنب وعلي دخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين3.
وبهذا يبطل طعن الشيعة الرافضة على عائشة وحفصة رضي الله عنهما بأنهما أذاعتا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعمون وأنه على تقدير ثبوته فقد أحدثا منه توبة لأن الله دعاهما إلى ذلك ولا يجوز لأحد أن يلوم أحد، أو يعيره بذنب قد تاب منه.
ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها زعمهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة"4.
والرد على هذا الاختلاق: أنه لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً.
فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج للقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها5.
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 2/122، المسند 4/331.
2ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 2/122، صحيح مسلم 3/1409-1411.
3ـ انتظر السنة 2/184-185، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269-270.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/164.
5ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 8/18، سير أعلام النبلاء 2/177، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/600.
(3/1099)


وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي1 رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي رضي الله عنه غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول "والله ما قتلت ولا مالأت على قتله"2 وهو الصادق في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختياره وعائشة راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال، هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار"3.
ومما مطاعنهم التي تناولوا بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قولهم "إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 4، حيث خرجت في ملأ من الناس لتقاتل علياً على غير ذنب لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان"5.
والرد على هذا أنه باطل من وجوه:
الوجه الأول: أنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها كما لو خرجت للحج والعمرة أو
__________
1ـ قال رضي الله عنه يوم الجمل كما في مصنف أبي شيبة 15/282: "وددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة".
2ـ انظر البداية والنهاية 7/212.
3ـ منهاج السنة 2/185.
4ـ سورة الأحزاب آية/33.
5ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/293، مقدمة مرآة العقول 1/50، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161، الأنوار النعمانية 2/215-216.
(3/1100)


خرجت مع زوجها في سفر، فإن هذه الآية نزلت في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن بعد ذلك في حجة الوداع سافر بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها وأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن كما حججن في خلافة الفاروق، وكان يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في هذا، واجتهدت والمجتهد إذا أصاب في اجتهاده كان له أجران ـ وإذا كان مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة"1.
قال العلامة ابن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عائشة بآية الأحزاب السابقة: "تعلق الرافضة ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، إذ قالوا: "إنها خالفت أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وخرجت تقود الجيوش وتباشر الحروب وتقتحم مآزق الحرب والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها، ولقد حصر عثمان فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان بن الحكم: يا أم المؤمنين أقيمي هاهنا وردي هؤلاء الرعاع عن عثمان، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك.
وقال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ : "إن عائشة كانت نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستيحاء منها إذا وقفت إلى الخلق وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 2، وبقوله: {وَإِنْ
__________
1ـ منهاج السنة 2/185-186، انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/268-269.
2ـ سورة النساء آية/114
(3/1101)


طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 1، والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، حر أو عبد، فلم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة، فاحتملها إلى البصرة، وخرجت في ثلاثين امرأة قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة، برة تقية مجتهدة مصيبة ثابتة فيما تأولت مأجورة فيما تأولت وفعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب2، وقد بينا في كتب الأصول تصويب الصحابة في الحروب، وحمل أفعالهم على أجمل تأويل"3.
الوجه الثاني: أما زعمهم أنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً على غير ذنب فهذا كذب عليها فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضاً طلحة والزبير قصدهما القتال لعلي، ولو قدر انهما قصدا القتال فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 4 ، فجعلهم مؤمنين أخوة في الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتاً لمن هو دون أولئك من المؤمنين فهم به أولى وأحرى.
الوجه الثالث: أما زعمهم أن المسلمين أجمعوا على قتال عثمان، فهذا أيضاً
__________
1ـ سورة الحجرات آية/9.
2ـ هذا إذا كان المراد إصابة الأجر فهو صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وإذا كان المقصود إصابة الحق ففيه نظر للحديث لأن فيه أصاب وأخطأ. والحديث رواه الشيخان انظر صحيح البخاري 4/268، صحيح مسلم 3/1342.
3ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1535-1536، وانظر الجامع لأحكام القرآن 14/181-182.
4ـ سورة الحجرات آية/9-10.
(3/1102)


من أظهر الكذب وأبينه، فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله، فإن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وخيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان علي رضي الله عنه يحلف دائماً: "إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"، ويقول: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل"1.
لكن الرافضة لم يهتدوا لمعرفة براءة علي، من دم عثمان بل كذبوا عليه حيث قالوا: "إنه كان راضياً بقتل عثمان".
قال عبد الله شبر: "والعجب من المخالفين2 أنهم يستدلون على حقية خلافة المشايخ بسكوت علي الدال على رضاه، ولا يستدلون بسكوته عن قتل عثمان على رضاه"3.
وهذا من أظهر الكذب على علي رضي الله عنه من الشيعة الرافضة وقد قدمنا في المبحث الذي قبل هذا براءة علي من دم عثمان وعدم رضاه بذلك وأن الشيعة كاذبون مفترون عليه في أنه كان راضياً بقتله وهذا من طعنهم في علي رضي الله عنه.
ومما طعنوا به على عائشة ـ رضي الله عنه ـ: "زعمهم عليها أنها كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول: اقتلوا نعثلاً4 قتل الله نعثلاً ولما بلغها
__________
1ـ انظر منهاج السنة 2/186.
2ـ يقصد أهل السنة والجماعة.
3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192.
4ـ كان أعداء عثمان يسمونه نعثلاً تشبيها برجل من مصر كان طويل اللحية اسمه "نعثل" النهاية في غريب الحديث 5/79-80.
(3/1103)


قتله فرحت بذلك"1.
والرد على هذا الزور: يقال لهم: أولاً: أين النقل الصحيح الذي يثبت هذا عن عائشة.
ويقال ثانياً: إن المنقول عن عائشة يكذب ذلك ويبين أنها أنكرت قتله وذمت من قتله2. ودعت على أخيها محمد وغيره3 لمشاركتهم في ذلك.
ويقال لهم ثالثاً: على سبيل الفرض إن واحداً من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك كلمة على وجه الغضب لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة ولا يقدح في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما ولياً لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر بل يظن كفره وهو مخطيء في هذا الظن كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية أن غلامه قال: يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت إنه شهد بدراً والحديبية" 4.
وفي حديث علي أن حاطباً كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعلي والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب" فلما أتيا بالكتاب قال: "ما هذا يا حاطب" ، فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتداداً ولا رضى بالكفر ولكن كنت امرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30 ، ص/164، الأنوار النعمانية 2/216.
2ـ انظر ما جاء في إنكارها قتل عثمان . تاريخ خليفة بن خياط ص/175-176.
3ـ انظر المصنف لابن أبي شيبة 15/277، تاريخ الطبري 4/513.
4ـ الحديث في صحيح مسلم4/1942 من حديث جابر رضي الله عنه.
(3/1104)


عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدراً وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأنزل الله تعالى فيه أول سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1 الآيات، وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء، وكان رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى، وعثمان وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبته للمشركين وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله وكذب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدراً والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر، ومع هذا فقال عمر رضي الله عنه: "دعني أضرب عنق هذا المنافق" فسماه منافقاً واستحل قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة"2.
وبهذا الرد يبطل زعم الرافضة أن عائشة كانت في وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت "اقتلوا نعثلاً" ولما بلغها قتله فرحت بذلك، وأن هذا من اختلاق الرافضة وأكاذيبهم عليها وكلمة "نعثل" لم تعرف إلا من ألسنة قتل عثمان رضي الله عنه وأول من تفوه بهذه الكلمة منهم جبلة بن عمرو الساعدي وقد جاء بجامعة3 في يده وقال مجاهراً بوقاحته مخاطباً عثمان رضي الله عنه: "يا نعثلاً والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار"4.
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 3/200، صحيح مسلم 4/1941-1942.
2ـ منهاج السنة 2/188-189.
3ـ الجامعة: الغل يوضع في العنق.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/365.
(3/1105)


ولما تفوه بهذه الكلمة الخبيثة يوم الدار كانت عائشة رضي الله عنها حينذاك في مكة تلبي ربها عز وجل وتوجه قلبها إليه ولم تطرق هذه اللفظة سمعها إلا بعد رجوعها من مكة رضي الله عنها وأرضاها.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها: "أنهم يزعمون أنها سألت بعد أن قتل عثمان من تولى الخلافة، قالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان ثم يقولون ـ وأي ذنب كان لعلي في ذلك"1.
والرد على هذا الزور:
يقال لهم: إن القول بأن عائشة وطلحة والزبير اتهموا علياً بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب ظاهر وإنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم، لكن قتلة عثمان كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم، والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 2 وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله ـ وأما قولهم ـ "فأي ذنب كان لعلي في قتله" فهذا تناقض منهم ـ فإن الرافضة يقولون: "إن علياً كان ممن يستحل قتل عثمان وترى الإعانة على قتله من الطاعات والقربات، فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضاً"3.
ومن مطاعن الرافضة على عائشة رضي الله عنها " أنهم ينقمون عليها
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183.
2ـ سورة الأنفال آية/25.
3ـ منهاج السنة 2/192.
(3/1106)


مرافقة طلحة والزبير لها عندما توجهت إلى البصرة للطلب بدم عثمان، وقصد الإصلاح بين بنيها".
قال ابن المطهر الحلي: "وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره أو أخرجها من بيتها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له"1.
والرد على هذا الهذيان:
يقال لهم: هذا من تناقضكم وجهلكم معشر الرافضة، فإنكم ترمون عائشة بالعظائم ثم منكم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها2 وأنزل بتبرئتها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، والعجب من أمر هؤلاء فإنهم يعظمون عائشة في هذا المقام من أجل الطعن في طلحة والزبير ولا يعلمون أن طعنهم هذا إن كان متوجهاً إليهما، فالطعن في علي بذلك أوجه، فإن طلحة والزبير كانا معظمين لعائشة موافقين لها مؤتمرين بأمرها، وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها، فإن جاز للروافض أن يقدحوا فيهما بقولهم: "بأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها...إلخ، كان للنواصب أن يقولوا: بأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها وسقطت من هودجها وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها، ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل ... ولم يكن طلحة والزبير لا غيرهما من الأجانب يحملونها، بل كان في المعسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها، وخلوته بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع، وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز الكتاب والسنة والإجماع، وهي لم تسافر إلا مع ذي
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183.
2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/165.
(3/1107)


محرمها، وأما العسكر الذين قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب، ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها، وقالت: يد من هذه أحرقها الله بالنار"؟، فقال: "أي أخت في الدنيا قبل الآخرة" فقالت: "في الدنيا قبل الآخرة" فأحرق بالنار بمصر1.
وبهذا الرد يبطل طعن الرافضة على عائشة رضي الله عنها بمطاوعة طلحة والزبير لها وخروجها معها إلى البصرة وأن طعنهم الذي يوجهونه إلى طلحة والزبير ينقلب ما هو أعظم منه في حق علي رضي الله عنه، فإن قالوا إن علياً كان مجتهداً فيما فعل وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير يقال لهم أيضاً: وطلحة والزبير كانا مجتهدين.
ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها زعمهم: "أن عسكرها لما أتوا البصرة نهبوا بيت المال وأخرجوا عامل علي عثمان بن حنيف الأنصاري مهاناً مع أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
والرد على هذا:
إن هذه الأمور لم تقع برضاء عائشة ولا علمت بهذا العمل حتى أنها لما علمت ما حصل في حق عثمان بن حنيف اعتذرت له واسترضته، ومثل هذا العمل وقع من عسكر علي رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، فقد أحرقوا بيته ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة ومنهم مالك الأشتر3.
وما حصل من هؤلاء وهؤلاء لا يسوغ الطعن لا في عائشة ولا في علي
__________
1ـ منهاج السنة 2/194-195، وانظر خبر إحراق محمد بن أبي بكر: تاريخ خليفة بن خياط ص/192، تاريخ الطبري 5/104-105.
2ـ ذكر هذا الألوسي في مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/164.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269.
(3/1108)


رضي الله عنهما، فطعنهم على عائشة بهذا واضح البطلان.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها أنهم يقولون: "كيف أطاعها على خروجها إلى البصرة عشرات الآلاف من المسلمين وساعدوها على حرب علي ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت حقها من أبي بكر، ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة"1.
والرد على هذا:
يقال لهم: إن قولكم هذا من أعظم الحجج عليكم، فإنه لا يشك عاقل أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب إليهم من أهليهم وأنفسهم فلا يستريب عاقل أن قريشاً وغير قريش كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وعدي ولهذا لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر قيل لأبي قحافة "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "حدث عظيم، فمن ولي بعده؟"قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"2.
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة ولا أن لها حقاً عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا أنهما ظلماها ولا تكلم أحد في هذا بكلمة واحدة، دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها إما عجزاً عن نصرتها وإما إهمالاً وإضاعة لحقها، وإما بغضاً فيها، إذ الفعل الذي يقدر عليه
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161-162، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/292 وما بعدها.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.
(3/1109)


الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة، فإذا لم يرده ـ مع قيام المقتضي لإرادته ـ فإما أن يكون جاهلاً به أو له معارض يمنعه من إرادته، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته وهم يعلمون أنها مظلومة، لكانوا إما عاجزين عن نصرتها، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها، وكلا الأمرين باطلن فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا، وأبو بكر لم يكن ممتنعاً من سماع كلام أحد منهم ولا هو معروفاً بالظلم والجبروت واتفاق هؤلاء كلهم مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها مما يعلم بالضرورة امتناعه"1.
فلا استقامة لطعن الشيعة الرافضة على عائشة رضي الله عنها بمن خرج معها من الصحابة إلى البصرة وأن دعواهم أن ذلك العدد من الصحابة الذي يذكرونه أنهم نصروا عائشة على حرب علي ولم ينصروا ابنته على طلب حقها كل ذلك كذب وتمحل فعائشة ومن معها لم يخرجوا لحرب علي وقتاله كما يزعم ذلك الرافضة، وإنما كان خروج عائشة ومن معها لقصد الإصلاح بإقامة حد القصاص على قتلة عثمان، ومن جهلهم أنهم يستدلون بأدلة هي حجة عليهم فعندما يقولون إن عشرات الآلاف كانوا مناصرين لها ولم ينصروا فاطمة لما طلبت حقها ولم يتمكم أحد منهم ولا بكلمة واحدة، فهذا من أكبر الأدلة على أنها لم تهضم ولم تظلم مثقال حبة من خردل، وما يذكره الرافضة من أنها ظلمت من قبل الصديق أو الفاروق كله من القول بالباطل الذي لا صحة له ولا ثبوت بحال من الأحوال، ويكفينا هنا في هذا المبحث ما تقدم ذكره من مطاعنهم في أم المؤمنين ليعرف القاريء منزلة أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين عند الشيعة الرافضة وهي مطاعن كلها أكاذيب مختلقة وتقول عليها بما لم يثبت عليها أو يصدر
__________
1ـ منهاج السنة 2/196.
(3/1110)


منها رضي الله عنها وأرضاها.
وأما مطاعنهم على سبيل العموم في أمهات المؤمنين جميعاً فيكفي أن نسوق في ذلك روايتين:
الأولى: ما رواه الكشي: عن ابن عباس من حديث طويل وفيه: "لما هزم علي بن أبي طالب أصحاب الجمل، بعث عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلة العرجة، قال ابن عباس: "فأتيتها وهي في قصر خلف في جانب البصرة، قال: فطلبت الإذن عليها، فلم تأذن، فدخلت عليها من غير إذنها ـ وفيه أنه قال لها: وما أنت إلا حشية1 من تسع حشايات خلفهن بعده لست بأبيضهن لوناً ولا بأحسنهن وجهاً، ولا بأرشحهن عرقاً ولا بأنضرهن ورقاً ولا بأطرئهن أصلاً، قال ابن عباس: ثم نهضت وأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت عليها، قال علي: أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك"2.
الثانية: قال الطبرسي: وروى عن الباقر "ع" أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل، قال أمير المؤمنين "ع": والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله رجلاً سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي" لما قام فشهد؟ فقال: فقام ثلاثة عشر رجلاً فيهم بدريان وشهدوا: أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب "ع" "يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي" قال: فبكت عائشة حتى سمعوا بكاءها3 ...الحديث.
هاتان الروايتان فيهما بيان موقفهم من نساء النبي الطاهرات المطهرات من
__________
1ـ الحشية: الفراش المحشو بغيره. انظر لسان العرب 14/179-180.
2ـ رجال الكثي ص/57-60.
3ـ الاحتجاج للطبرسي 1/164.
(3/1111)


كل رجس.
فالرواية الأولى التي هي رواية الكشي: تبين مكانة أمهات المؤمنين عند الشيعة الرافضة وهي كما نرى أنه لا مكانة لهن عندهم، ولا قيمة لهن لديهم وأنهن بمنزلة الفراش المحشو بغيره فلا يكرمونهن ولا يحترمونهن.
والرواية الثانية التي هي رواية الطبرسي فيها بيان أنهم يعتقدون أن لعلي رضي الله عنه حق فصم عصمتهن من الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشا علياً وابن عباس أن يصدر عنهما ما ذكر في هاتين الروايتين وما ذكر فيهما إن هو إلا اختلاق وكذب وإفك عليهما، فقد أجمع أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف وقد عرفوا بامتيازهم بكثرة الكذب"1 ولذا فهم يكثرون من ذكر القصص التي فيها عيب وتنقص للصحابة ويوردونها دون أسانيد، ومن السهل على كل أحد أن يذكر ما شاء بدون إسناد ورحم الله عبد لله بن المبارك حيث قال: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"2.
وهذا دأب الرافضة يكيلون المثالب في الصحابة بدون وازع ديني يردعهم ولا ضمير يؤنبهم، وهذا لا يخفى على من يعرف ما لهم في هذا الباب من المصنفات وأن جميع مطاعنهم واعتراضاتهم على الصحابة من قبيل الهذيان نسأل الله العصمة من الضلالة والخذلان.
ونختم هذا المبحث بما يجب التنبيه عليه وهو أن مطاعن الشيعة الرافضة في الصحابة نوعان: أحدهما: ما هو كذب إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن.
__________
1ـ انظر منهاج السنة 1/13.
2ـ أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه 1/15، شرح السنة للبغوي 1/244.
(3/1112)


النوع الثاني: ما هو صدق وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية، ومنها الحسنات الماحية للذنوب فإن الحسنات يذهبن السيئات ومنها المصائب المكفرة، ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة"1 .
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 3/19.
(3/1113)


المبحث التاسع: آثار في ذم الرافضة
...
المبحث التاسع: آثار عن السلف في ذم الرافضة
بعد أن أسلفنا في المباحث السابقة ما بلغ إليه الرافضة من موقف سيء نحو خيار الأمة المحمدية وهم الصحابة الكرام عموماً وخصوصاً كما رأينا كذلك معتقدهم في أمهات المؤمنين الطيبات الطاهرات لكل رجس ودنس وعُلِمَ منه أنه موقف يدل على خبث معتقده وأنه مناف للإيمان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن، وجدنا أن سلف هذه الأمة ذموا الرافضة بما وجد فيهم من صفات ذميمة سيئة مختلفة.
فمما ذمهم به السلف الصالح عليهم رحمة الله ورضوانه أنهم أجمعوا على أن الرافضة أكذب الطوائف وأن الكذب فيهم قديم وأنهم امتازوا بكثرة الكذب1 فلم يقبلوا منهم الحديث ويردوا ما روي عنهم من الأحاديث لجرأتهم على الكذب.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز سئل مالك عن الرافضة فقال: "لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون".
وقال أيضاً: قال أبو حاتم الرازي حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي يقول: "لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة".
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: "نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون"2.
__________
1ـ انظر منهاج السنة 1/13.
2ـ هذه الآثار الثلاثة أوردها شيخ الإسلام في المصدر السابق أيضاً 1/13 وانظر قول الشافعي في كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1457.
(3/1114)


وروى مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه عن علي بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: "دعوا حديث عمرو بن ثابت1 فإنه كان يسب السلف"2.
وقال يحيى بن معين رحمه الله في تليد بن سليمان المحاربي: كذاب كان يشتم عثمان وكل من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"3.
وقال أبو العرب4 : "من لم يحب الصحابة فليس بثقة ولا كرامة"5.
وقال الإمام الذهبي في ترجمة إبان بن تغلب الكوفي بعد أن ذكر أنه ثقة وهو شيعي جلد، قال: "فلقائل أن يقول كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة، وجوابه على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج به ولا كرامة، وأيضاً: فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم
__________
1ـ هو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري أبو محمد ويقال أبو ثابت الكوفي من الثامنة. التقريب 2/66، تهذيب التهذيب 8/9-10.
2ـ مقدمة صحيح مسلم 1/16.
3ـ تهذيب التهذيب 1/509.
4ـ هو: محمد بن أحمد بن تميم المغربي الإفريقي من أولاد أمراء المغرب توفي سنة ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة، انظر ترجمته في تذكر الحفاظ 3/891-892.
5ـ هدي الساري ص/389.
(3/1115)


في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم والغالي في زماننا وعُرْفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً: فهو ضال مفتر"أهـ1.
وليس أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد وحدهم هم الذين عرفوا امتياز الرافضة بأنهم أكذب الناس بل من أهل البيت من عرف فيهم ذلك.
وقد جاء نفر من الناس إلى علي بن الحسين فأثنوا عليه، فقال: "ما أكذبكم وأجرأكم على الله عز وجل، نحن من صالحي قومنا"2.
فهؤلاء النفر الذين جاءوا إلى هذا السيد الهاشمي هم من الرافضة فقد عرف أن ثناءهم عليه هم فيه كاذبون، ولذلك وصفهم بأنهم أبلغ الناس في الكذب ومن أعظمهم جرأة على الله.
ومن فساد عقولهم وانتكاس قلوبهم أنهم يحبون الكذب على علي رضي الله عنه كما يحبون ويحرصون على إيقاع غيرهم في شركهم هذا.
فقد ثبت عن الشعبي رحمه الله، أنه قال: "ما رأيت أحمق من الخشبية3 لو كانوا من الطير لكانوا رخما، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمراً، والله لو طلبت منهم أن يملؤوا هذا البيت ذهباً على أن أكذب على علي لأعطوني ووالله
__________
1ـ ميزان الاعتدال 1/5-6.
2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/167.
3ـ هم ضرب من الشيعة وسموا بالخشبية "لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب" منهاج السنة 1/8، وقد بين البلاذري وجه تسميتهم بهذا الاسم حيث قال: "وكان أصحاب المختار يسمون الخشبية لأن أكثرهم كانوا يقاتلون بالخشب، ويقال أنهم سموا الخشبية لأن الذي وجههم المختار إلى مكة لنصرة ابن الحنفية أخذوا بأيديهم الخشب الذي كان ابن الزبير جمع ليحرق به ابن الحنفية وأصحابه فيما زعم، ويقال: بل كرهوا دخول الحرم بسيوف مشهورة فدخلوه ومعهم الخشب ولم يسلوا سيوفهم من أغمادها"أهـ أنساب الأشراف 5/231، وانظر اللباب في تهذيب الأنساب 1/444.
(3/1116)


ما أكذب عليه أبداً"1.
كما وصفهم رحمهم الله بأنهم أقل عقولاً في أهل الأهواء.
فقد قال: "نظرت في أهل الأهواء وكلمت أهلها فلم أر قوماً أقل عقلاً من الخشبية"2.
فالإمام الشعبي رحمه الله يعد من أخبر الناس بهم، ووصفه لهم بهذه الأوصاف الذميمة إنما هو من واقع أحوالهم لأنه كان بينهم في الكوفة.
ومما يذمون به أن السلف كانوا يحمدون الله تعالى أن عصمهم من سوء معتقدهم.
فقد قال أبو العالية رحمه الله: "نعمتان لله علي لا أدري أيهما أفضل أو قال أعظم أن هداني للإسلام والأخرى أن عصمني من الرافضة"3.
والأمر كمال قال رحمه الله تعالى فإن عدم الهداية لدين الإسلام والابتلاء بمذهب الرافضة كلاهما مهلكتان، بل واحدة منهما سبب واصل إلى الشقاء.
ومما ذمهم به السلف أنهم شر الفرق وشر عصابة وجدت على وجه الأرض ولم يكونوا يجيزون شهادتهم.
فقد روى أبو عبد الله بن بطة عن علي رضي الله عنه، قال: "تفترق هذه الأمة على نيف وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحل حبنا وتخالف أمرنا"4.
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: "أجيز شهادة أهل الأهواء كلهم إلا الرافضة، فإنهم يشهدون بعضهم لبعض".
__________
1ـ ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/6، أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1461.
2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/165.
3ـ المصدر السابق ص/148.
4ـ المصدر السابق ص/169.
(3/1117)



موسوعة سير السلف
مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

عبد الله بن سبأ : تراث ودراسات تراثية

عبد الله بن سبأ اليهودي اليماني بين الحقيقة والخيال

من وصايا ابن سبأ اليهودي للخوارج : إبدأوا في الطعن على أمرائكم تستميلوا قلوب الناس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..