الصفحات

الجمعة، 9 فبراير 2018

أسلوب الحصر في القرآن الكريم عند النحويين والبلاغيين

         قدمت هذه الرسالة استكمالا لمتطلبات نيل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها بكلية الدراسات العليا في جامعة اليرموك  1419 هـ / 1998م
الفصل الثالث
دلالات في أسلوب الحصر
      الكشف عن دلالات  أسلوب ا لحصر  بـ "إلا"  و "إنما" في القران الكريم يتطلب دراسة
فقه التراكيب أو فقه الدلالة فقه الأسلوب وتحليله . دراسة تتجاوز ظاهره إلى  معناه كما فعل شيخ عبد القاهر الجرجاني عندما درس أسلوب الحصر بـ "إنما" فقد كشف أن أسلوب الحصر بـ"أنما" يتضمن قيمة بيانية عالية بإفادتها التعريضإضافة إلى الحصر – كما مر سابقا - .

    من المسلم به إن علم النحو وعلم المعاني درسا فقه التراكيب ودلالتها إلا انه بالرغم من ذلك فإن كثيرا من الرسائل ما تزال دون نظر . ومن هذه التراكيب على سبيل المثال ، أسلوب الحصر في القران الكريم . فمسائل أسلوب الحصر في القران الكريم دقيقة ولافتة للنضر .والمتأمل في هذه المسائل يجد بينها فرقا دقيقا يمكن ان يلحظ من خلال دراسة هذا الأسلوب دراسة دلالية.

      في هذا الفصل يحاول الباحث الكشف عن الدقائق الحصر ضمن المبحثين الآتيين :

المبحث الأول : مقابلة أساليب المتشابهة من حيث أداة الحصر    المقصور عليه في سياقاتها المختلفة ومن ثم عقد المقارنة بينها

المبحث الثاني : الكشف عن دقة موقعية  أسلوب  الحصر "أنما" بالنظر إلى الأساليب الأخرى من خلال تحليل نماذج مختارة من القران الكريم

                                المبحث الأول

  يقوم هذا المبحث على مقابلة أساليب الحصرالمتشابهةمن حيث أداة الحصر "إلا" ، ومن حيث المحصور والمحصور فيه في سياقاتها المختلفة ، ومن ثم عقد مقارنة بينهما ، والأمثلة المعدة للدراسة الآيات القرآنية الآتية :

 ( أ )      إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( الشعراء ،115)

        وما أنا إلا نذير مبين ( الأحقاف، 9)

( ب )    إن هو إلا ذكر للعالمين (ص،87)

         ما هو إلا ذكر للعالمين (القلم ،52)

( ج )     إن هذا إلا أساطير الأولين (الأنعام ، 25)

         ما هذا إلا أساطير الأولين (الأحقاف، 17)

ونظراً إلى أن أسلوبي الحصر بـ " إن و إلا " ، " وما و إلا " متشابهان من حيث أداة الحصر ، والمحصور والمحصور فيه ــ يتبادر إلى الذهن التساؤلات  الآتية : هل يمكن لهذه الأساليب أن تتبادل المواقع في القرآن الكريم نظرا لتشابهها ؟ وهل يجوز أن يحل هذا الحرف مكان هذا الحرف ؟ وهذا يقودنا إلى التساؤل هل هناك ترادف في القرآن الكريم في أساليب الحصر ؟  وإذا كان ثمة فرق دقيق بين هذين الأسلوبين ، فما هو هذا الفرق بينهما ؟

  للأجابة عن هذه التساؤلات ندرس استعمال "إن" ، و "ما"  النافيتين ضممن السياق القرآني  عندما تقترنان بـ "إلا" و المقارنة بينهما من خلال المطلبين الآتيين :

المطلب الأول :  يتمثل بعرض معالجة علمائنا القدامى لـ "إن" و "ما" النافيتين ضمن السياق القرآني .

المطلب الثاني : المقارنة بين أسلوبي الحصر بـ " إن و إلا " ، " وما و إلا " ضمن السياق القرآني .

  المطلب الأول :

 يتمثل بعرض معالجة علمائنا القدامى لـ "إن" و "ما" النافيتين ضمن  السياق القرآني .

          فكما هو معلوم فإن "إن" و "ما" النافيتين تدخلان على الجملة الاسمية والفعلية ، فتفيدان معنى النفي ، وتعملان عمل ليس لذا فهما تشتركان في المعنى والعمل في بناء الجملة العربية .

          وبالرغم من اشتراكهما في المعنى والعمل في بناء الجملة فإن لكل منهما معنى وظيفيا مختلفا عن الآخر يقتضيه السياق القرآني ، فالسياق يكشف لنا بدقة الفرق بين "إن" ، و "ما"  النافيتين  يتضح ذلك في أثناء معالجة علمائنا القدامى لـ"إن" في السياق القرآني الذي ورد فيه. فاهو الفراء (1)  في معاني القرآن يذهب إلى أن "إن" بمنزلة "ما"  في الجحد . ولعل أقرب النحويين الفصل في هذه الأداة هو أبو علي الفارسي (2) في أن "إن" تأتي في الكلام لمطلق النفي ، و "النفي المطلق" ،و النفي المطلق  يعني أن "إن" تتمحض لنفي الماضي والحاضر والمستقبل حسب ما يقتضيه السياق . وهذا ما لم يذكر في النافية ، ويمكن أن نلمس هذا في ما ذكر أبو حيان الأندلسي في معنى قوله تعالى :( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (الزخرف، 81)، إذ يقول أبو حيان (3) : "لا يجوز أن تكون"إن"   بمعنى"ما" النافية ؛ لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت ، وهذا محال ".

        يلاحظ أن علمائنا القدامى قد فرقوا في الاستعمال بين "إن" ، و "ما"  النافيتين من حيث العموم ، ويلاحظ أيضا مما ذكر أبو حيان أن "إن" آكد من  "ما"  ، وأقوى منها إذ أن "ما"النافية لا يتوافر فيها نفي المستقبل في هذا السياق كـ"إن"  . وهذا يعني أن السياق القرآني الذي تصلح فيه "إن"  لا تصلح فيه "ما" .

       ينضاف إلى ذلك ما نص عليه العلماء أيضا من حيث الخصوص ؛ أي من حيث استعمال"إن" ، و "ما"  النافيتين عندما تقترنان  "إلا" ، فالرماني (1)   يرى أن كل "إن" بعدها "إلا" هي للنفي ،وما قاله الراغب الأصفهاني(2) أيضا في "إن" النافية إذ يقول :"وأكثر ما يجيءيتعقبه "إلا" نحو قوله تعالى : ( إن نظن إلا ظنا )( الجاثية ،32)، ويذكر السيوطي أن "إن" لا تأتي إلا مع "إلا".

    وكلام العلماء صحيح ، ولكن ليس على إطلاق ما ذكره السيوطي ، وهذا يعني أن "إن" النافية مختصة بأداة الحصر "إلا" دون غيرها من حروف النفي ، وهذا الاختصاص يزيد التأكيد قوة ،وسيتضح ذلك من خلال تحليل نماذج مختارة من أساليب الحصر بـ"إن" و "إلا" .

    يتضح أن العلماء نصوا في معنى"إن" و "إلا"  أنها تؤكد معنى النفي . وتزيد النفي قوة، لكن ما نصوا عليه يبقى كلاما عاما ، وغير كاف لننقل ماقرروا ، ومن ثم نقرر أيضا أن"إن" و "إلا" آكد من "ما" و"إلا" في القرآن الكريم ،إذ إن مثل هذا القرار يحتاج إلى أدلة وبراهين لإثباته من السياق القرآني مقارنة مع "ما" و"إلا".

  وهذا يقودنا إلى المطلب الثاني للتأكيد على خصوصية استعمال أسلوب بـ"إن" و "إلا"   في السياق القرآني مقارنة مع أسلوب الحصر بـ "ما" و"إلا".

  المطلب الثاني : المقارنة بين أسلوبي الحصر بـ " إن و إلا " ، " وما و إلا " ضمن السياق القرآني .

وتتم هذه المقارنة من خلال الآتي:

المسألة الأولى : الدراسة الإحصائية : إذ من شأن هذه الدراسة أن تكشف عن خصوصية استعمال أسلوب الحصر في السياق القرآني .

المسألة الثانية : دراسة القرائن أو الجمل الممهدة لأسلوبي الحصر  التي تعطي كلا منهما  خصوصية في الاستعمال .

المسألة الثانية : المقارنة العملية  بين أسلوبي الحصر بـ  " إن و إلا " ، " وما و إلا " ضمن السياق القرآني  من خلال ما تقدم من نتائج ، والتعقيب على هذه المقارنة .

المسألة الأولى : الدراسة الإحصائية :

         إذ من شأن هذه الدراسة أن تكشف لنا عن خصوصية استعمال أسلوب الحصر في السياق القرآني . والذي أغرى بهذه الدراسة الراغب الأصفهاني بقوله في "إن" النافية: " وأكثر ما يجيءيتعقبه "إلا" نحو قوله تعالى : ( إن نظن إلا ظنا )( الجاثية ،32)، وقوله تعالى: ( إن هذا إلا قول البشر )(المدثر، 25) ، وقوله تعالى :( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)(هود، 54)، لذلك تم إحصاء "إن" و "ما" النافيتين ضمن  السياق القرآني .ومن خلال الإحصاء وجدنا أن "ما" النافية استعملت في القرآن الكريم (388) مرة منها (188) مرة استعملت فيها مقترنة بـ "إلا" أي بنسبة قدرها (48%). أما "إن" فقد استعملت في القرآن الكريم (110) مرات منها (85) مرة استعملت فيها مقترنة بـ "إلا" أي بنسبة قدرها (77%).

   وعلى هذا فهذه النسبة تدل بشكل واضح على أن نسبة استعمال "إن وإلا" أكثر من نسبة استعمال " ما و إلا " . وهذا دليل على أن "إن" مختصة بـ "إلا" أكثر من "ما" واختصاصها يدل على أنها آكد من "ما" . فخصوصية "إن" باقترانها بـ"إلا" يعطيها قوة وتأكيدا ؛ وذلك لأن طبيعة تركيب جملة الحصر فيها قوة وتأكيدا ،وخصوصية "إن" تجعلها ضيقة ومحصورة في الاستعمال على "إلا" في الغالب .بينما "ما" النافية نجد أنها أوسع استعمالا وأعم وأشمل من "إن" النافية .

    ولعل عدم شيوع أسلوب الحصر بـ "إن وإلا" في النثر والشعر آتٍ من مسألة التضمين فكأنهم قالوا : لما كانت "إن" النافية بمعنى "ما" النافية أتوا بالأصل ، وتركوا الفرع متناسين الفروق الدقيقة بينهما .وهذا يعني لنا بوضوح أن ما تستعمل "ما" لا يصلح أن تستعمل فيه "إن" والعكس صحيح.



  المسألة الثانية : وتتمثل في دراسة القرائن أو الجمل الممهدة لأسلوب الحصر التي تعطيه خصوصية في الاستعمال غير موجودة في أسلوب الحصر الآخر . ويتم من خلال دراسة جملتين مؤكدتين لأسلوب الحصر تسبقانه هما :

أولا : جملة القسم

ثانيا : جملة النفي

أولا : ورد أسلوب الحصر بـ "إن وإلا" بعد القسم ، ولم يرد بعده أسلوب الحصر بـ " ما و إلا "، والغرض من القسم كما نص عليه النحويون : توكيد ما يقسم عليه وتقويته ، والاسم الذي يلصق به يعظَّم ويفخَّم ويؤكد ، ويطلق على القسم "الحلف" (1) ، وأصل الحلف اليمين(2) ، ومن معاني اليمين : القوة (3)  ، وقد قيل للحلف(4) : يمين باسم يمين اليد ، وكانوا يبسطون أيمانهم (أياديهم) إذا حلفوا وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا ، وحالف فلان فلانا فهو حليف ، وبينهما حلف ؛ لأنهما تحالفا "بالإيمان" أن يكون أمرهما واحدا بالوفاء . فلما لزم ذلك شيئا فلم يفارقه ، فهو حليفه حتى يقال : فلان حليف الجود ، وفلان حليف الإكثار ، وفلان حليف الإقلال .

وجاء في أساس البلاغة (5) : حلف بالله على كذا وكذا حلفا .. وحالفه على كذا وتحالفوا عليه واحتلفوا عليه         

  فجعل صاحب أساس البلاغة الحلف بالله المعنى الأول ، ونقل منه معنى الحلف الذي هو العهد والمحالفة والمعاقدة ، ولعل الذي جعله يضع  "الحلف بالله" في المعنى الأول اقتران الحلف بلفظ الجلالة "الله" ، فهذا الاقتران جعله في أقوى صورة .

وقد ورد أسلوب الحصر بـ "إن وإلا" بعد القسم بلفظ "الحلف" في سياقين اثنين في القرآن الكريم مفيدا القوة والتوكيد للحكم .

 السياق الأول : ويتمثل في قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)(النساء)

 السياق الثـاني :   وفي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (التوبة ،107)

   ففي السياق الأول ،واضح أن أسلوب الحصر بـ "إن وإلا" جاء ادِّعاءً كاذبًا بحلف كاذب على لسان المنافقين الذين لمسوا إنكارا قويا من الرسول صلى الله عليه وسلم لفعلتهم القبيحة عندما احتكموا إلى الطاغوت –إلى غير شريعة الله سبحانه وتعالى – لذلك أرادوا قلب اعتقاد الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءوا إليه شخصيا جميعا دون استثناء يعتذرون منه حالفين بالله له : " إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً؛ أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ، ولم نرد مخالفة لك ، ولا تَسَخُّطا لحكمك  فلا تؤاخذنا بما فعلنا (1)"

ويرد الله سبحانه وتعالى على ادعائهم  بأسلوب آخر من أساليب الحصر وهو "تقديم ما حقه التأخير" بقوله تعالى مباشرة ردا على ادعائهم (..أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ...)، والمعنى لا يعلم ما في قلوبهم من النفاق والغيظ والعداوة إلا الله .

        اما السياق الثاني : فقد جاء أسلوب الحصر بـ "إن وإلا" جاء ادِّعاءً كاذبًا بحلف كاذب على لسان المنافقين أيضا.

   ويرى الباحث أن القسم بلفظ "الحلف"  أسلوب الحصر في السياق الثاني كان أقوى في السياق الأول . ويدلل الباحث على ذلك من خلال عقد مقارنة بين أسلوبي الحصر في السياقين نظرا للتشابه الواضح بينهما من خلال الآتي :

1.   المخاطب في السياق الأول : هو الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حالة إنكار لما حدث ، وهو معين محدد . بينما في السياق الثاني المخاطب غير معين وغير محدد إلا أنه في حالة يجهل فيها ما يحدث وعدم تعيين المخاطب دال على احتمال كون الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم جميعا.

2.    المخاطب في السياق الأول اقتضى المجيء إليه للاعتذار منه وذلك لأن خطأ المنافقين (المتكلم) مكشوف للمخاطب الذي أنكر عليه ذلك . بينما المخاطب في السياق الثاني لم يقتض المجيء إليه ؛لأن خطأ المنافقين (المتكلم) لم يكشف ؛ لذا لم يكترثوا ، ولم يلقوا له بالا.

 إعداد :
فؤاد رشدي عبد اللطيف الحطَّاب





-


.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..