الصفحات

السبت، 10 فبراير 2018

طيبة.. رحلة في الزمان والمكان / كاملة

    والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس القصد منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية، العهد الحميدي، والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية. فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام، ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
والحمد لله فاطر السماوات والأرض. أنعم على المدينة المنورة بنعم شتى، فالهجرة إليها والنصر منها والإيمان يأرز إليها، ضمت جسد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، إذ توفي فيها، كما ضمت الصحابة الأجلاء أنصاراً أو مهاجرين.
والحمد لله أن كانت المدينة المنورة الدار والإِيمان، لا ينشق عليها إلا ظالم لنفسه، ولا يتجنى عليها إلا من حرم نعمة الحب لتربة الحب، فالمدينة الحب أحبت من هاجر إليها، وأهلها أحبوا من هاجر إليها. والذين هاجروا كانوا هم الحب لها، وكانت المأوى والنصر.
فمن حق المدينة عليّ أن أكتب ذكرياتي عما شاهدت، وما عرفت، وكيف رأيت من أحوال وأحداث وما عرفت من رجال. ولن أقتصر في ذلك على الثناء والإطراء، بل من حق المدينة أن لا يدفن تاريخ الذين أساءوا إليها، والذين أجحفوا بها، حتى إنهم قد نزعوا من أنفسهم الحرمة لأرض الاحترام. فهل هناك مسلم ليست عليه بصمة المدينة المنورة، هداية ونصراً وعلماً وأدباً؟.. فكيف تسنى لإِنسان أن يلطخ هذه البصمة، يحيل الغرة البيضاء إلى لطخة سوداء؟!
كل هذا أرجو أن أوفق لكتابته في فصول متعددة عن المدينة ومن إليها وما إليها، وفاء بحقها، وحياة لبعض التاريخ، وتاريخاً لحياة من عاشوا للمدينة، ومن لم يعيشوا إلا على هامشها، فاخرين بأنهم الأبناء وما دروا أنهم لم يفعلوا وفاء الأبناء.
وهذه الذكريات تباطأت أن أكتبها، فحق علي اللوم والعتاب من الصحاب والأصدقاء، إذا ما سمعوا حديثاً تحدثت به إليهم قالوا.. أكتب. لماذا لا تكتب؟ بعضهم خطأني وبعضهم جرمني ولئن اعتذرت عن الخطأ في وقت ما فإني شاكر هذا التأخر، لأني لو كتبت من قبل لذهب الكثير مما أنا قد أحطت به علماً وفقهاً وفهماً.
فالبركة أن تأخرت، وما أحسن أن أرفع الخطأ وأرفع الجريمة، أبدأ أكتب هذه الذكريات.
جغرفة المدينة
المدينة المنورة روضة، غدير كبير، مجمع أبقعة. فالروضة والغدير وبقيع الغرقد وبقيع الخيل، كل هذا لأنها قد حصرت من الجنوب بالحرة المستعرضة، ومن الشرق بذراع الحرة ((حرة قريظة))، ومن الغرب الذراع اليسرى ((حرة واقم)). أما الشمال فالانسياح حتى أجد وحتى الغابة.
إن هذا الحصر للروضة، أعني الغدير. أما المدينة المتسعة فهي أعرض وأكبر من ذلك، فبعد الحرة شرقاً تمتد، وبعد الحرة غرباً لا تحد، وشمالاً لها المدد. أما الجنوب فهو متسع لها وإن هذه الجغرفة كانت هي الحافظ للمدينة المنورة، فهي لا تغري من الجنوب، لأن الخيل والجمال ليس لها مجال على الحرة ميداناً يصلح لحرب. وكذلك من الشرق مثل الجنوب. ومن الغرب أيضاً، وبرهان ذلك أن غزوة أُحد كانت في الشمال، أي في المتسع حيث لا حاجز. وغزوة الأحزاب حدد النبي صلَّى الله عليه وسلم مكانها، هو وجيشه بين الخندق و ((سلع)) في شمال المدينة الأقرب إلى غرب المدينة الأبعد، فاضطر المشركون أن يكونوا في مواجهة الخندق، فإذا هم في ملتقى العقيق ببطحان وقناة. أي كما قال المؤرخون ((ونزل المشركون في زغاب مجمع الأسيال برومة))، في مواجهة الجيش المسلم. ونزلت غطفان بقيادة عيينة بن حصن الفزاري في أعلى العيون بين أُحد ومجمع الأسيال.
إِن المدينة المنورة تحاط بوديان ثلاثة، بطحان ((رانوناء)) يمر وسطها، يسيل من أعلى الحرة، مسياله الآن بين قبا وقربان. ووادي العقيق غرب المدينة، يعانق الحرة الجنوبية، يمر بينها وبين جبل ((عَيْر)) ينساب إلى وجهته بين الجماء وحرة واقم. ووادي قناة يسيل من شرق المدينة يملأ ((العاقول)) الغدير البحيرة، يمر بين أحد والحزوم التي تشرف عليه.
فهذه الوديان الثلاثة تجتمع في ((زغابة)) تسيل وادياً متحداً، عندها يصبح اسمه وادي الحوش، يسيل إلى الغابة، يأخذ روافده من شعاب أحد، ثور ونقمى، حتى يجانب رضوى، يمر بين خيفين من خيوف ينبع النخل ((المبارك)) و ((البركة))، حتى يصب في البحر. فقد ذكروا أنه حول ((الوجه)).
فهل هذه الجغرفة، بالنسبة للوديان، لها فائدة علمية، أم إنها لا تزال ناقصة؟ لا أعرف مسيلها الأول، ولا الشعاب التي تمدها، لو سئلت عن مسيل قناة الأول لما عرفت، وعن مسيل العقيق لما أجبت، كما هو الوضع في كل الوديان.
ولقد بح صوتي وأنا أطالب الجامعات ووزارة الزراعة والمياه أن تجغرف لنا الوديان والجبال والواحات وما إليها في أطالس ننتفع بها. ولعلّ عند وزارة البترول والثروة المعدنية ووزارة المواصلات المادة العلمية من خلال الكشوف التي قاموا بها حين صوروا الأرض بالطائرات.
مدينة.. أم مدائن؟!
اسمها مدينة واحدة، ولكن وضعها جعلها عدة مدن. اختلاف السكان، الفصام بين السكان، كل ذلك جعل الساحة وذاروان وحارة الأغوات ومقعد بني حسين وسويقة، والمسجد داخل السور، كأنها مدينة وحدها.
وكأنما السور حجز الذين عاشوا داخله في هذه الحارات على طراز معيشي ولهجة خاصة ونوازع ملتزمة وعنعنات فاخرة، بل وحتى أنواع الآكال جعلتها مدينة مستقلة.
واتسعت المدينة خارج السور، فقد كان هناك التزام ألا يقام في المناخة بناء، حتى إن سوق الحبابة والتمارة والطباخة والبقالة وبعض المقاهي وعشة المحتسب (البلدية)، كلها لم تقم على بناء من المدر يفرض له الثبات، بل أقيمت كلها على عشش وصناديق يمكن إزالتها. وجمعت كلها في مناخ واحد خارج السور أمام الباب المصري لا تمتد إلى الشمال، وكل امتدادها إلى الجنوب، بل ولا تمتد إلا قريباً من مسجد المصلى ((مسجد الغمامة))، فبقيت المناخة سوحاً، مقراً لجمال الحجيج والشقادف وما إلى ذلك. وكان ذلك احتراماً للمناخة، لأنهم قالوا لنا إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد جعلها وقفاً، منع البناء فيها.
واتسعت المدينة فإذا البناء يتسع لأحوشة، في الجنوب المحمودية، حوش منصور، المراكشية، التاجوري، التاجورية، كلها في الجنوب لا تصل إلى المناخة، وخارج السور في الجنوب على السمت المنظم نشأت البربورية وأحوشة النخاولة. وكان لوقاية هذه الأحوشة في الجنوب أن تقام حواجز لسيل بطحان ((أبو جيدة))، فهذا السيل أو هذا الوادي كثيراً ما يأتي عرماً، وكان تسيله يطأ هذه الأحوشة التي في الجنوب الغربي ابتداء من حوش منصور إلى التاجور والتاجورية، وأول ما يطأ المحمودية والمراكشية والطيبية.
وأقيمت تلال من الجص تصد السيل لئلا يطأ هذه الأحوشة، والذي أقام هذه التلال من الجص كان جيدة جد آل برادة، ولعلّي أضيف معلومة أن بيت برادة أسرة قديمة في المدينة هاجروا إليها من القيروان؛ وكان منهم علماء، ومنهم أصحاب قيم في المدينة المنورة، من أشهرهم عبد الجليل برادة العالم وعباس برادة أحد أشياخ المدينة وكان رأساً على ((الوجاق)) الرابع وسيأتي فصل خاص عن هذه الوجاقات.
وحين أقيمت هذه التلال تصد السيل انساح في مجراه الجديد بين المشرفية وهذه التلال وبين صمد العنبرية ((النقا)) وبين مسجد الغمامة، يسبل حتى يصل إلى المساجد مجراه الطبيعي الأول.
ومعنى ذلك أن الأحوشة في جنوب المدينة المنورة قد حفظت من وطأة السيل، كما حفظت المناخة والأحوشة التي في الشمال الغربي لأن مجراه الأول يطأ بقيع الخيل، كأنما المناخة أولها بقيع الخيل.
وهناك خطأ عن بقيع الخيل، ففي بعض النصوص أن مسجد الغمامة ((المصلى)) هو بجانب البقيع، فحسب بعضهم أن مسجد الغمامة في شرق المدينة أي بجانب بقيع الغرقد. وهذا خطأ، فهو على الشرق من بقيع الخيل.
وحين تحاشوا البناء وسط المناخة بنى أعيان من المدينة المنورة خارج السور وعلى غرب المناخة بيوتاً لهم، كبيت البري على حافة النقا ((العنبرية)) وبيت الياس وبيت الكردي الكوراني والداغستاني وإبراهيم المفتي، بنوا بيوتهم على حافة المناخة، وكان هذا أول ما بنى خارج السور لأن هؤلاء الأعيان من سكان المدينة الأقدمين.
واتسع البناء مرة أخرى، فنحو الغرب كانت أحوشة العنبرية، حوش سنان (شنان) وقصر مراد باشا الذي تهدم وحوش مناع وأبو ذراع والسلطانية، سواء ما كان على النقا أو ما بني غرب سيل أبو جيدة.
وابتنوا بيوتاً أيضاً على حافة السيل فيما يسمى النورية، امتداداً لبيوت السيح، ثم بنى زقاق الطيار، حوش قره باش (الرأس الأسود)، حوش وردة، حوش خير الله، حوش قمر، حوش شلبية، حوش هتيم، حوش السمان، أم الورد، المجزرة.
واتسعت المدينة من الشمال الغربي فكان حوش خميس، القشاشي، الصديقي (علي خضر)، حوش السيد.
وكانت هذه الحوشة امتداداً لزقاق جعفر والبيوت التي حولها.
وبعد وصول السكة الحديد وكثرة المهاجرين اضطر بصري باشا إلى فتح الباب المسمى باسمه يهدم السور ويفتح الباب ليتصل سكان باب المجيدي والسحيمي عن طريق يمرون من الساحة أو من زقاق الحبس ليخرجوا من هذا الباب وليدخلوا منه، لأن البناء ابتدأ في باب المجيدي، فبنيت بيوت كثيرة.
وقبل باب بصري، وحين ابتدأ السلطان عبد المجيد العثماني بعمارة المسجد النبوي الذي تمثل عمارته ما هو باعد الآن ابتداءً من باب الرحمة وباب جبريل إلى المحراب والروضة وباب السلام، فالبناء الجديد في العهد السعودي هو من شمال باب الرحمة شيل الحصوة وما بعدها إلى الشمال.
ولكي تصل مواد العمارة في العهد الثاني - إلى المسجد فتح باب المجيدي من داخل السور قبل باب بصري.
من هنا بنى عثمان باشا بيوتاً باسمه، قام على بنائها وكيل عنه محمد حكيم واتسع البناء حول بئر ((حاء)) أول وقف خيري في الإسلام أوقفها صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أبو طلحة.
هذا الاتساع جاء من كثرة المهاجرين الذين بنوا هذه البيوت، مغاربة وتركستانيين وأناضوليين ومصريين ونجديين. ويعني ذلك أنهم جاءوا بمال، هاجروا من أرضهم بأموالهم فأفتنوا وبنوا. أما الأفارقة السمر ونسميهم في المدينة ((التكارنة))، وهذه اللفظة محرفة عن لفظة ((دُكرور))، فالعرب الأوائل يطلقون على إفريقيا ((أرض دكرور))، وانحرفوا عن هذه اللفظة في مصر فكانوا يسمونهم أخذاً من لغة الفرنجة ((نيقرو))، فقد هاجر من هؤلاء الأفارقة إلى المدينة كثيرون جاءوا للحج فسكنوا المدينة وكان لهم صولة تحت زعامة الشيخ الألفا هاشم، لأنه حفظ بقاءهم في المدينة لا يخرجهم فخري باشا منها، فتم للألفاهاشم الفوز حين رضي فخري باشا أن جعل هؤلاء ((التكارنة)) جنوداً دربوا فكان منهم ضباط كبار. كما أنهم بقوا جنوداً في حكم الأشراف حتى أصبحوا هم الحراس لأمير المدينة الشريف علي بن الحسين.
إن هذا التنوع في سكان المدينة له ما بعده فيما يتم شرحه في الفصول التالية.
الأحواش
ولعلّ من الجغرفة للمدينة المنورة أن نحيط القارئ بما تم من سعة لها وذلك حينما أضع أمامه اسم الحوش ولماذا بني.. وما أكثر عددها.. حين كانت المخافة مسلطة من البادية على الحاضرة وأحيطت المدينة الأولى بالسور بنوا بيوتهم داخل أحواش، خلف البيوت سور وواجهة البيوت على الحوش، فالمدينة داخل السور لم تخل من الأحوشة حذراً واحتياطاً وصوناً.. فبداخل السور وعلى أول الساحة حوش الباشا، ولعلّ نسبته كما سمعت إلى عبد الرحمن إلياس.. وأكثر سكانه من أهل القصيم.. ثم حوش فواز وسقيفة الأمير وزقاق الطوال وزقاق الحبس وحوش الجمال.. وبعد الخروج من الساحة جنوباً بشهان العينية، وقد كان مغلقاً داخل السور ولكن فتحه فخري باشا ينصب في وسطه قضبان السكة الحديد.. يدخل منها القطار إلى المسجد.. يحمل السلاح والذخيرة، أي إن فخري باشا جعل المسجد النبوي مستودعاً للذخيرة لأنه يخاف من طائرات الإنجليز حلفاء العرب حينذاك أن تلقي قنابلها على القلعة، فكان من حماقة الرأي أن جعل المسجد النبوي أي في شماله مستودعاً للذخيرة.. وهو لم يحسب حساباً أن قائد الطائرة الإنجليزي إذا ما أراد أن يدمر الذخيرة لا يسأل عن المسجد. وبعد العينية سقيفة الرصاص، زقاق الزرندي، زقاق الخياطين، ثم إلى الجنوب ((بروان)) أي ((زاروان)) لأن البيوت بنيت وبقي هذا الاسم لأنه كان يطلق على بئر زاروان جنوب البيوت وعلى طريق باب العوالي.. وكانت خلف البيوت بئر زاروان التي تحدثوا أن الساحرة اليهودية دفنت السحر فيها.. غابت عنها عصمة الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلم وتأتي بعد ذلك حارة الأغوات كأنها مدينة وحدها وهي شرق المسجد وفيها بيت أبو أيوب الأنصاري وغازي باشا والشعاب أبو الجود والغالي ثم باب المسجد المجيدي وباب السور المجيدي وعلى زقاق البدور بنيت المدرسة الإِعدادية وبيت الشيخ العزيز ابن الوزير وبيت الرفاعي. وفي داخل ((جوا)) المدينة.. السوق، الشونة مقعد بني حسين، كلها أزقة وأحوشة كفلت الحماية، وفي حلقة ثانية الأحواش خارج السور.

-------------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (2)
جغرفة الإنسان بعد جغرفة المكان
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس القصد منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. كتب هذه الذكريات ليس فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
وجغرفة المدينة عن طبيعة الأرض سبق ذكرها، وبقيت علينا جغرفة السكان والمجتمع، فمن العجيب أن تكون مدينة واحدة يعرف سكانها كل سكانها يتقابلون أو يتزاورون، فتجد الأفندي من الذين هم داخل السور، يختلف عن أكثر الذين هم خارج السور، لا يتفقون على لباس واحد، فالذين هم من داخل السور يتزيون بالجبة والعمامة والحزام الثمين والرقيق، كأنه جزء من (الشاية)، وأحذيتهم غير أحذية أولئك، جوالد وجزم، ما كانت تستورد لأن في المدينة صناع الجزم (الكندرجية) (عارف جمال سعيد أفندي.. وغيرهما)، أما الذين خارج المدينة فإن لباسهم يختلف أيضاً، فسكان حوش الباشا وأكثر السكان في شمال غرب المدينة أو في شمالها يتزيَّوْن بالعقال المقصب صناعة محمد القين والأشمغة والغتر، سواء كانت من الشاش أو من الغباني المطرز بالحرير الخفيف، أما غرب المدينة (زقاق الطيار والسيح والعنبرية) فيحتزمون بالكشميري أو الدسماك، والتياهون يحتزمون بالسليمي ويعتمون بالبر يسمى الأحمر من الحرير، وأحذيتهم من صنع النجديين سواء من يصنعها داخل المدينة أو من يستوردها من بريدة يطلقون عليها (الشرقية)، لأنهم يطلقون على نجد اسم الشرق، وعلى سكان المدينة من هؤلاء اسم ((الشروق))، وأما جنوب المدينة فمشالح وعمائم من الشيلان، وهذا في الأكثر، وكما اختلفوا في الأزياء، اختلفوا في الآكال، داخل السور الخضروات والمحاشي والكنائف واللقيمات والمشويات.. ونسينا سكان باب المجيدي، فأزياؤهم تختلف والآكال مغربية (الكسكوسة وكعب الغزال ولحم بين نارين) وآكال تركية أشبه ما تكون بآكال الأفندية داخل السور، ثم الآكال التركستانية الرز البخاري واليغمش والشوشورة والفرموزة.. الخ، فالتركستانيون من بخارى وطاشكند وانديجان كانوا أهل ثروة بنوا بيوتاً كالمغاربة كبعض الهنود، فلم نعرف في أيامنا الأولى التنور والتميز لأنهم لا يحتاجون إلى هذه المهنة، ولأن كل بيت في المدينة يعجن دقيقه حتى يختمر ثم يصنعونه أقراصاً يخبز في الأفران، والأجرة للفران (حنانه) قرص صغير..
ويخضعني هذا إلى أن أجدول ساكن المدينة بالألقاب التي يحملها، ترك من الأناضول. تركستان من تركستان. مغاربة. نجديون من القصيم الذين كان منهم عقيل وهو جيش قوة للحكومة، أو تجار يبيعون المشالح والدخان العمايدي حتى المضير والعطور والعود. وصعايدة، كثروا أغلبهم من أسيوط ومن قنا، وإن كان بعضهم من الفيوم يعدون من جملة الصعايدة، ثم السادة العلوية جمل الليل والصافي وبافقيه والحبشي والجفري والسقاف ومن إليهم، النخاولة في حوش السيد أو في الزقاق المعروف باسمهم أو في العوالي وقربان وقباء والعيون فهم النخليون يعملون بالفلاحة، وداخل المدينة يعملون جزارين وخضرية..
لعلّي أنكر العيب عليهم كسلوك وإن كانوا بالاسم شيعة، من الشيعة الإِمامية ولعلّ الكثير لا يعرفون أن المدينة وما حولها كانت بيت التشيع أيام جعفر الصادق وأخيه إسماعيل وابن عمه عبد الله المحض وابنه محمد (زكي الدين) الذي قتله المنصور عباسي قتل العلوي، يعني هاشمياً. فبنو أمية لم يقتلوا إلا اثنين الحسين وحفيده زيد، أما العباسيون أبناء العم القريب فقد أسرفوا في قتل بني عمهم، شهوة السلطان والدفاع عن السلطان..
فالمدينة عدة مدن وعدة أجناس، ومن عجب أن (التكارنة) تأقلموا فيها، وأكثر الآخرين لم يتأقلموا إلا بعد حين، إن الذين اتسع بهم البناء هم المهاجرون إلى المدينة، حتى إن وادي مشعط (باب المجيدي) كان أهل المدينة الأوائل يبتعدون عنه ولكن اتساع الهجرة اتسع به البناء، فالمغاربة والأتراك وغيرهم بنوا في وادي مشعط، ونعود إلى الأحوشة خارج السور بعد، في الشمال الغربي على الحزم دون سلع (حوش خميس، القشاشي، الصديقي، حوش السيد، حوش الرشيدي) كما أن بعضهم استغل بعض الأمن فبنوا تحت سفح الجبل أو في شرق الجبل على الهضبة الضرس من سلع، كبيت توفيق عبد المطلب وبيت السيد علوي المنفلوطي وبيوت أخرى كبيت الداغستاني حسن ثم بيوت العطن وفي شرق الطريق من باب الشامي بنوا بيوتاً أشهرها بيت سليم (مصطفى) ثم بيت الجلوني، إن بيت سليم كان خارج باب الشامي على طريق التمار وشمال سقيفة بني ساعدة وغرب باب المجيدي، سكنه في آخر أيام بصري باشا وأول أيام فخري باشا الشريف علي بن الحسين وأخوه الشريف فيصل، وقد كانا يعدان للثورة مع بعض قبائل المدينة ومع أهل العوالي أشراف بني حسين، وغريب أن أعرف ذلك ولما أبلغ العاشرة من عمري ولم يعرفه فخري باشا.. وللحديث صلة.
ومن الغريب أن الحضرميين كانوا في مكة وجدة ولم يكن منهم أحد في المدينة، أعني من غير السادة العلوية، طوال مدة الأتراك ولكن أيام حكم الأشراف وجدنا ثلاثة من الحضارمة، بادرب.. باظبي.. باعامر الفوال، ذلك أن أهل المدينة ليسوا في حاجة إلى هؤلاء، وهؤلاء يسكنون البلد الذي هو في حاجة إليهم، أو الذي يستطيعون فيه ممارسة البيع والشراء، وما أكثرهم في جدة ومكة، فأصبحوا من خير أهلهما، تأقلموا وأقلموا..
الأحوشة
وذكرنا الأحوشة داخل السور، ولنذكر عدداً منها خارج السور، في شمال غرب المدينة على الحزم من باب الكومة ودون سلع، حوش خميس حوش القشاشي وسكانهما عرب من قبائل شتا، بيت الجيار، الصرير، ابن مطلق، ابن فضلون، ثم حوش الرشيدي، قالوا إنه ملك البرادعي الجهيني، وقد خلا من السكان، ويقابل هذه الأحوشة، حوش الصديقي، أو هو على خضرة ومن أبرز سكانه محمد القين ورشوان، وبعده إلى الغرب الحوش المستقل بذاته حوش السيد، سكانه ينسبون أنفسهم إلى مزينة، وهم نخليون كان أنظف الأحوشة لأنه لا تدخله الحيوانات فهو نظيف يرش بالماء، وفي الليل يجتمع الرجال في وسط الحوش والنساء أمهات وبنات يجتمعن بعيداً عن الرجال يتغنين بالرجيعي، يضربن الدفوف، طيران لا تستورد، فهم يصنعونها، ومن الطرف الظريفة أن شاعر المدينة وهو في مكان الرئاسة ومن سكان زقاق جعفر يخرج إلى هذا الحوش ومعه الأستاذ أحمد عابد الشاعر أيضاً التابع للأفندي أنور والتلميذ له، يخرجان سوياً يدخلان حوش السيد، يجلسان وحدهما بعيداً عن النساء قريباً من الرجال ليسمع الأفندي أنور الغناء إِنه ابن العقيق عامل الوراثة فيه قوي، وسمع مرة مطلع هذه الأغنية (يا سيد.. ياللي ساقك يشبه الماء.. ويش أسوي كيف يخرج الماء من الماء) فأطربه هذا المعنى، يقول لأحمد عابد ما أحسن أن ينظم في قصيدة، وقال أحمد عابد يذكرنا هذا بقول الشاعر:
صاح في العاشقين يالكنانة
رشأ ٌ في الجفون منه كنانه
بدوي بدت لواحظ خديـ
ـه فكانت فتّاكة فتانه
خطرات النسيم تجرح خديـ
ـه ولمس الحرير يدمي بنانه
وتأتي الأحوشة الأخرى زقاق جعفر في حوش العبيد ثم أحوشة زقاق الطيار حوش كرباش. خير الله، قمر، وردة، الجربي، الرشايدة، شلبية، السمان، فسيح، العريضة، والقماش، أما العنبرية فحوش سنان، أبو جمر، الراعي، أبو دراع، مناع، ولعلّي نسيت بعضها، ثم جنوب المدينة حوش منصور المراكشية، المحمودية، الطيبية، الجديدة التاجور، والتاجورية، والبربورية، إن هذه الأحوشة بناها الحذر والخوف كل حوش كأنه حصن والسكان لديهم البنادق لأن حرمة المدينة كان يهتك الخصام بين البادية والحاضرة، وبناء السور ما كان إلا حرزاً وعن خوف، الأبواب تغلق في الليل وسمع الرجال مرهف..


---------------------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (3)
تركة محمد علي باشا في المدينة
الإنسان ما له وما عليه..
ولعلّي أترك الذكريات عن الأرض جغرفة، لأكتب عن إنسانها ساكنها ومن حولها، كيف كانوا يعيشون الانفصام مع الحاكم والخصام مع البادية التي حولهم.. ومن هو صانع ذلك؟!
كم هي حرمة المدينة المنورة عظيمة في نفس المسلم.. عظيمة في صفحات التاريخ، سواء كان التاريخ المسلم أو التاريخ الآخر.. هي دارة الهجرة.. هي الدار والإِيمان (إن الإِيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)، فهذه القيمة للمدينة المنورة كيف يتأتى أو يجوز لعربي مسلم صاحب سلطان، أو صانع فتنة، أن يهتك حرمتها؟ حتى لا يصح لي أن أقول ما من بلد أعطى عطاءها، إيواءً ونصراً.. وعلماً وفقهاً، كأنما هي ومكة المكرمة الحرز الحريز والذخر السرمدي لهذه الأرض جزيرة العرب كلها، بل وللمسلمين كلهم في أي مكان، أقول ما من بلد هتكت حرمته الفتن، كالمدينة المنورة. ومن عجب أن الهاتك لحرمتها وصانع الفتنة فيها وعليها كلهم من بنيها، لم يصلها برتغالي ولا صليبي ولا تتري ولا استعماري، إنما الذي قطع وصلها وكاد يمزق أوصالها والذي عقّ اتصالها ما كان إلا من بنيها!! السلطان في أمية فعل ذلك حين انشق عليه بعض أهلها، والسلطان من بني العباس فعل فيها أكثر من أمية، والقبائل حولها انفعلت وتفاعلت فإذا هي تفعل ما ينكره إيمانها وما يجفوه احترامها.
وملوك الطوائف، وحتى بنو عثمان والفاطميون والمماليك كانوا يفخرون بها ويتأخرون عن نجدتها، لا من عدو أجنبي، وإنما هو العدوان من أهلها على أهلها، لقد سرقت الحجرة أكثر من مرة ونهبت أسواق المدينة أكثر من مرة، كل ذلك فعله عجز الحاكم هاشمياً علوياً وجمازياً، كل ذلك فعله القبلي حولها، لم يألفوه ولم يألفهم، يتأخر عن غزوها إذا ربّعت الأرض، حتى إذا جاع جاء نهاباً.
فالقبائل غرب المدينة، قلّ أن تفعل ذلك، أما من كان شمالها فقد فعل بعض ذلك، وأما من كان شرقها فقد فعل كل ذلك، ومن الغرابة بمكان أن السلطان في مكة أو في المدينة كان صاحب فلسفة يزعم أن شراسة القبائل بينها وبين الحاضرة، مانع لطمع الأجنبي، يعني أن السلطان يخيف ملوك الطوائف حتى وصل به الأمر إلى أن يعتقد أن هذا الوضع وضع الفتن، وحرب القبائل هو الذي أخاف الاستعمار أن يصل إليها.. وما درى أن صلاح الدين الكردي الشامي المصري، والعراقي قبل ذلك هو الذي حمى الحرمين من الصليبي، وأن الملك المظفر قطز، الملك مرتين والعبد مرتين هو الذي حماها من التتار، طوعهم لذلك حماية الله للحرمين، شراسة القبائل وحربها لا تخيف الأقوياء من الغزاة، وإنما هي حماية الله قبل بينما حماة المسلمين خافهم المستعمر فلم يجرؤ على أن يصل إلى الحرمين.
لكن هذه الفلسفة السلطانية، كانت من العجز بمكان.
واستشرت الفتن، كل يوم نهّاب، كل يوم سالب، فإذا السور يُبْنَى، يحيط داخل المدينة والمسجد، يحجز النهابين والسالبين، إنهم بنوها هم الذين حين جاروا عليها جاروا على أنفسهم فإذا هم مزق تبدل الأسماء حتى أصبح النسب الجد يترك ليكون النسب الخلف.
مقدمة طرحتها لأكتب عن تركة محمد علي.
تركة محمد علي
ولعلّ بعض أولئك من الناس ينكرون عليّ الرضا والثناء على ما نحن فيه الآن مع أنهم لو ذاقوا ما ذقناه، ولو كانوا من جيل الحمد، جيل التجربة نحن، لفرحوا بالرضا ولكان عملهم، تحت راية هذا الكيان الكبير ثناء لا بالكلام وإنما بالوئام تضيء على وجوههم بصمة الكيان الكبير، لتذهب وصمة الفرقة والتنابذ بالألقاب والتنافس بالغارات.
لقد ترك محمد علي خديوي مصر، تركة أثقلت كاهل الحجاز كله.
وكان ثقلها على المدينة المنورة أكثر.. كيف كان ذلك؟ كان ذلك على صورتين:
1 - لقد ورثت المدينة عن حكم محمد علي بعض ما لم تستطع إزالته كالمخزن والأردب والوجاق.
2 - الإتاوات والحضارات التي خلفها وراءه للقبيل الذي نصره.
فالمخزن خمسة عشر ذراعاً في خمسة أذرع بالمقاس البلدي وهو بالمقاس المصري ستة أمتار في سبعة أمتار، يعني أن مساحة المخزن اثنان وأربعون متراً مربعاً، بينما هو بالمقاس البلدي خمسة وسبعون ذراعاً مربعاً، فالمقاس المصري هو أن المخزن يساوي واحداً من مائة من الفدان، يعني أن مائة مخزن سطحاً واحداً تساوي مساحة الفدان التي هي (ستون متراً في سبعين متراً) وقد بقي هذا المقاس، فإذا الأرض تباع في المخزن.
أما الأردب فاسم مصري أيضاً يختلف في المدينة عنه في مصر، فالأردب المصري ثمانية عشر مداً، أي إن المد ست أُوقات، أما الأردب المديني فأربعة وعشرون مداً، وهذا الخلاف بين الأردبين عملية لقسمة الجراية (وهي أرادب من القمح حبسها وقفاً رجال أرادوا الإِحسان إلى المدينة). إِن الثمانية عشر مداً احتالوا بها بالوفر حيث جعلوا الأردب المصري أربعة وعشرين مداً مدنياً، فالستة أمداد في الفرق، كم تكون النتيجة في أكثر من عشرين ألف أردب؟ وفر كسرقة، ومع هذا فأرادب الجراية لا تصل إلى المدينة أو مكة إلا وقد سرق منها الأمناء عليها يقصبون بالقصبة كيس الحنطة يخرجون القمح ويضعون مكان ما سرقوا رملاً، واكتشف الحاكم ذلك فغيروا الأمين إلى أمين، وأصبح كما تقول العامة (مثل أخيك مثل عنبر تحله) يعني كلهم على ذلك.
أما الوجاق فلا أعرف ترجمته إلى العربية، وفاتني أن أستعين بالأستاذ عزيز ضياء ليترجمه لي، ولعلّه حين يقرأ هذه الذكريات يتلفن إليّ بالترجمة أكتبها بعد، إن الوجاق الذي أعرفه هو موقد النار في هجرة العربي الذي يصب فيه القهوة للضيوف، يقول السيد لخادمه أو لابنه (شب النار في الوجاق) وفي نجد يسمون هذا الموقد ((الصلل)) فهل صلالة العمانية من ذلك؟ لا أدري..
إن محمد علي الخديوي أسس في المدينة من لهم حكم الزعماء، فكانت وجاقات أربعة.. السباهية، يعني الخيالة، لحمزة ظافر أولاً ثم سعود دشيشه ثانياً تنضم إليه بيوت من المدينة.. ظافر الدشيشة خوج وغيرهم..، والقلعجية، انتهت إلى عباس قمقمجي، يعني حماة القلعة، والنوباتشية حماة الأبواب انتهت إلى عباس برادة، والبيرقدارية يعني أصحاب البيرق (العلم أو البنديرة أو الراية) وانتهت إلى محمد سعيد حواله، فقد كان هؤلاء وبيت البري والكردي الكوراني وبيت عباس والنحاس هم أكثر تقادماً في المدينة المنورة، فكانت لهم هذه الوظائف، كما أحدث وظيفة (باب عرب) انتهت لدياب ناصر، وهو الذي ينتهي إليه أمر القبائل العربية، إذا ما اختلفوا يحكّمونه.
كل هذا كان في المدينة من تركة محمد علي، وحين بسط العثمانيون سلطانهم على المدينة، فبسط السيد أحمد أسعد نفوذه عليها بل إن نفوذ أحمد أسعد قد انتشر على الحجاز كله، فالشريف عون كان به وعمر نصيف كان له، فاستأخرت البيوت القديمة فأصبح النفوذ للذين كانوا للسيد أحمد أسعد، بل إن نفوذ أحمد أسعد قد استحوذ على الخديوي إسماعيل، ودعوني أترك ذلك لتفصيل أتوسع فيه، أما فيما يخص الأمن داخل المدينة فإن الباشا سواء كان عثمانياً أو مصرياً فهم لا يتحركون إلا ونفوذ السيد أحمد أسعد أمامهم لأنه كان ذا حظوة عند السلطان عبد الحميد.
من هنا اتسع الخصام بين بيوت المدينة الجديدة بنفوذ السيد أحمد أسعد والقديم الراسخ لما ورث، حتى إن ترحيل بعض أشياخ المدينة من بيت البري والداغستاني ومن إليهم، كان من عمل الباشا مسخراً بهذه الخصومة، أمسك بهم فنفاهم إلى الطائف، ومن المصادفات الغريبة أن يكون نفيهم إلى الطائف مواكباً لنفي مدحت لينقلوا رفاته إلى تركيا وجاء وفد أذن لهم الملك عبد العزيز بذلك، لم يعرف قبر مدحت إلا الصديقان محمد خوجه، وأخوه كمال خوجه دلوا الوفد التركي فنبشوا القبر وحملوا الرفات، تقاليد لا يقرها الإِسلام.
أما أهل المدينة فقد وصلوا إلى جدة، ورغم أن نصيف كان نصيراً لأحمد أسعد لم تعبأ جدة بهذا الموقف فأغلقوا الحوانيت وأبدوا الحزن، فإذا آباؤنا في المدينة يحمدون لأهل جدة ذلك حتى ترسخ الحب بينهم، وحين مروا بمكة المكرمة لم يعبأ بهم الشريف عون فمروا لا يرون حزناً على أحد ومكثوا في الطائف حتى إذا سقط السلطان عبد الحميد أطلقوا سراحهم فإذا الأعيان من أهل الطائف بيت كمال والقاضي عرب ومن إليهم يفتحون أبوابهم، الغداء عند هؤلاء والعشاء عند هؤلاء والكرامة عند هؤلاء فإذا آباؤنا في المدينة يحمدون لأهل الطائف صنيعهم الجميل.
وانتهى عصر عبد الحميد فانكمش نفوذ أحمد أسعد، وانتهى عصر عون، ومات عمر نصيف فإذا الاتحاديون الذين ثاروا على السلطان عبد الحميد يتغير بهم الكثير في الحجاز..
الاتحاديون
ثاروا على السلطان عبد الحميد، شعارهم كان مقتبساً من الثورة الفرنسية، وهو (حريات.. عدالات.. مساوات)، ولم يطبق هذا الشعر لأن القومية الطورانية تنافي هذا الشعار، فالعرب أنكروا على الاتحاديين نزعة التتريك، فقد فتحوا في المدينة ثماني عشرة مدرسة، لم تثمر إلا فك الحرف، صنعوها للتتريك، أما المدرسة التي أثمرت، فهي التي أسسها السلطان عبد الحميد في باب المجيدي، ورثناها وكنت أحد تلامذتها، تخرج منها علماء في الرياضة والتاريخ وما إلى ذلك، كما أسست مدرسة سميت دار المعلمين، وكانت في الساحة في بيت اسمه (دار جونة)، كان ملكاً لبيت مظلوم باشا المصري وكان الوكيل عنهم في تأجيره هو أستاذنا السيد أحمد صقر، وهو من أعيان أشراف قنا الجمازيين المخادمة، فهم وأشراف العوالي بنو حسين يتصلون بالجد جماز، حتى إن الشريف (شحاذ بن علي)، زعيم أشراف بني حسن وقائمقام المدينة مدة الأشراف، استنجد بالسيد أحمد صقر، يصنع شجرة النسب لأن الشجرة التي لديهم احترقت يوم هتك فخري باشا العوال، نخلاً وإنساناً.
مدرسة دار المعلمين فيها أعجوبة، لأن السيد أحمد صقر وزين بري كانوا رجالاً، تتلمذوا في المدرسة، وكان السيد محمد صقر طفلاً ابن السيد أحمد تلميذاً في المدرسة نفسها، ومن زملائه الدكتور العالم المصري عبد الحميد بدوي باشا، يوم كان أبوه يعيش في المدينة، لم نعرف ذلك من أهلنا وإنما عرفناه من كلمة الدكتور طه حسين، وهو يقدم عبد الحميد باشا إلى مجمع اللغة، فقد قال طه حسين (لقد حفته بركة المدينة حيث أول ما فك الحرف فيها).
إِن الاتحاديين لم يحرصوا على بقاء الإِمبراطورية مزقوها ببقاء المركزية وبالتتريك، إن الثماني عشرة مدرسة ما نالت التتريك، وإنما كان النوال منها أن المدينة المنورة قد انمحت منها الأمية، من هنا اتسع المجال لأبنائها، كانوا للاسلكي ولسكة الحديد بين الرياض والأحساء ومشروع الخرج ولوزارة الدفاع والمالية، فما أكثرهم حين عملوا لكل ذلك.
ـ الباشا.. الحاضر الغائب في المدينة
ـ العدوان في المدينة.. من أهلها على أهلها..
ـ مدارس التتريك.. محت الأمية في المدينة!
ولعلّي لا أهمل التاريخ، فالذي قاد الانقلاب العثماني زعيم للاتحاديين قبل طلعت باشا وقبل أنور هو محمود شوكت باشا الشركسي العراقي لأنه كان هو وأخوه حكمت سليمان الذي أحدث ثورة في العراق كانوا من موالي داود باشا الذي ثار على السلطان وأسس ملكاً في العراق وصك عملة على أحد وجهيها ((يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض)) وانتصر عليه السلطان حتى إِذا أسروه رحلوه إلى المدينة المنورة، فبستان الداودية خارج باب الشامي كان باسمه ولا أدري هل الداودية في مكة مثل الداودية بالمدينة أم هو داود آخر.
محمود شوكت استعرق عراقياً عربياً حتى إذا استترك قاد الانقلاب وكان عالماً رياضياً لأنه من سلاح المدفعية، أول ما تعلمنا الرياضة واحتجنا إلى جداول اللغرتمات لم نجد إلا نسخة واحدة عند الأخ محمد نيازي بالتركية مؤلفها محمود شوكت.
الحاكم بلا سلطان
والباشا التركي في المدينة، كان أشبه بالرمز لا يمارس سلطانه ليحفظ الأمن، يسمع بأن إبراهيم ملا من أعيان المدينة قد قتل السيد مالك مدني، من البيت الكبير، وأخوه السيد عبد الله مدني. والأخوة الآخرون والصهر لبيت أسعد والبرزنجي وأزبك والرفاعي، مكّن لهم نفوذاً قوياً. فلماذا لم يقم الباشا العقاب على القاتل؟، لقد عفّ السيد عبد الله مدني والد السيدين عبيد وأمين، أن يلاحق إبراهيم ملا، لا يطلب من الباشا العقاب، ولا يدعو حليفاً من القبائل يأخذ الثأر، عف السيد عبد الله وإخوانه عن ذلك، وأطلق سراح إبراهيم ملا، حتى إن بيت المدني رفضوا قبول الوجاهة وتركوا الأمر لئلا يتسع الشر. وحين مات عبد الله مدني أعلن السيد زين العابدين مدني العفو عن الثأر ليملك إبراهيم ملا الحرية، مع أنه كان محصناً بشجاعته وبحراسة عبيده، ولكن الأمن بالعفو كان فضلاً، قطع دابر الشر، الذي لم يقطعه الباشا، وقتل ولد أبي الجود أحد أبناء الحلواني فأعطوا العاني مدة من الزمن لا يأخذون الثأر، غير أن ولد أبي الجود هرب إلى خيبر حتى إذا تم العاني ذهب أبوه ليأتي به، وفي ليلة القدوم كان الاحتفال فرحاً في بيت أبي الجود، وكان البكاء في بيت الحلواني، غير أن الحلواني طلب من حليفه صالح الجدي من ولد محمد أن يأخذ الثأر من ولد أبي الجود، فركب الجدي الجبل ضرت من أحد، عرفنا اسمه (شكيم الديب) يعني مشفر الديب، ومر أبو الجود وابنه، هو علي الشداد والابن رديف فإذا صالح الجدي ومن مكمنه يطلق رصاصة يقتل أبا الجود، فإذا الفرح عند أبي الجود حزناً والترح عند الحلواني فرحاً، كل ذلك يجري ولا عمل للباشا، وكان هناك شاب مصري من الفيوم نشأ في المدينة له عضل قوي، وكان شرساً قتل اثنين ومشى بدمهما لم يثأر منه أحد ولم يعاقبه الباشا، وتسلط هذا الفيومي وكان صاحب طاحونة على حسين زيدان والدي، صبر عليه مدة عام وكان الوالد إذا (عزّل) الدكان يذهب إلى المسجد لصلاة المغرب، فإذا الشرير يثير الوالد بكلمة (زيدان.. حوش النبوت من كم الزعبوط)، يعيره بلغة الصعيد، صبر والدي عليه سنة، وفي ذلك اليوم صعد الوالد إلى العوالي ليقبض ثمن ما ابتاعه أصدقاؤه من مطير، وكان مروره على البربورية، فإذا هذا الولد يرفع صوته بالمعايرة فقال له أبي: (دحين أرجعلك) وقبض ثمن البضاعة ومر على شجرة إثل، قطع عوداً منها طوله باع ثقيل، لأنه أخضر فوضعه وراء ظهره وأقبل على هذا المعيّر، ويداه خاليتان، فالعصا وراء ظهره دفع نفسه قليلاً عليه ليتحرش به فنهض المعيِّر يسل خنجراً يريد أن يطعن حسين زيدان، فتأخر الوالد قليلاً وكان ذا عضل وقوة وسحب الأثلة يضربه على يده يكسر ذراعه يسقط الخنجر، وكال له ضربة ثانية ألقته صريعاً وجاء الناس (ليش.. ليش) قال: كاد يطعنني بالخنجر فالتقطت العصا مصادفة أدافع عن نفسي، كل هذا يجري ولا شأن للباشا به وما أكثر ما وقع من ذلك.
وحكاية عن إبراهيم ملا يرحمه الله، فقد كان من المطاليب على الرغم من أنه من أسرة أفندية عشراؤه حمزة لبان والسحلول وصالح النانية وعبد المعين كعكي وعيد بنا وحسين عامر، كان من المشاكلة وصادف أن سال العقيق وخرج والدي ومعه ابن عم لنا اسمه سيد كرام يذهبان إلى العقيق كأنما أبناء النيل أحبوا أن يروا صورته في سيل العقيق، وفي وسط حرّة واقم. أقبل إبراهيم ملا وبيده الشون ومعه صديقه الشهاوي وإذا إبراهيم ملا يكرش العصا في الأرض يتحدى وكان أبي معه عصاة (شون مزقرة) أي معصبة بجلد في آخرها، فقال أبي لسيد كرام (أشغل الشهاوي وأنا لإِبراهيم)، وكان أبي رجلاً طوالاً قوي العضل والقلب وأخذا يتقاشعان يلعبان بالعصا، وكان الطول مكّن والدي من أن يهزم ملا، أطار العصا من يده فإذا إبراهيم ملا يقول جدع يا حسين.. يتعانقان..
ولكن الباشا وبحزم بيت الكماخي أنزل العقاب بخادم الكماخي وهو من التركستان قتل أسرة من بيت الكماخي، اغتالهم، فإذا الأب والأم والأطفال هلكوا حين اغتالهم هذا الخادم، وعلم الشيخ أحمد كماخي، أحد أفاضل المدينة وقضاتها فأصر علي بصري باشا بالتفتيش عن المغتال.. فتشوا عليه داخل المدينة فلم يجدوه.. لأنه ركب رجله فلم يجدوه إِلا في رابغ، أمسك به حسين بن مبيريك، وقد كان ابن مبيريك على وئام مع الدولة العثمانية، وجاءوا بالمغتال فإذا جمع من أهل المدينة يتحلقون في حلقة واسعة والقاتل وسطها معصوب العينين، ولا أدري كيف عرف أن الشريف علي بن الحسين وأخاه فيصل كانا واقفين في شرق الحلقة يشاهدان قتل المغتال، فرأيت القاتل وكنت أحد الواقفين يزحف مشرقاً يتدحرج ليصل إلى الشريفين، يطلب منهما الشفاعة فابتعدا عنه وأمسكا به وقطعا رأسه بالسيف، ومعنى ذلك أن الباشا أقام العقاب لا بوازع منه وإنما بإصرار بيت الكماخي..

------------------------------------

طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (4)
المسجد أول جامعة في الإِسلام
المسجد - السكة الحديدية - ضم المدينة للشام
والكلام عن المسجد النبوي يشتمل على كثير مما ينبغي ذكره بل ومما يجب له، فالمسجد كان مدرسة جامعة وللصلاة وهو الصلة لأن صلاة الجماعة تتقوى بها الصلات بين الذين يصلون فيه، والمسجد في بدء الإِسلام كان منار العلم فيه تعقد حلقات الدرس ويتعلم الجاهل ويتخرج العالم ويهتدي بالعلم (( الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه )) .
فالنبوة على حراء (( اقرأ )) كانت المدرسة الأولى.. والرسالة على الصفا كانت المدرسة الثانية، أما المدرسة الثالثة فقد كانت على الصفا أيضاً، فهي في دار (( الأرقم بن أبي الأرقم )) المشرف على الصفا حتى قالوا لو أن أحداً مد يده من الطاق في دار الأرقم لانتزع قلنصوة المنصور وهو على الصفا.
أما المدرسة الرابعة كبرت واتسع فيها العلم فهي الجامعة الأولى في الإسلام أعني المسجد النبوي.
إن المسجدين المسجد الحرام والمسجد النبوي، والمربدين مربد البصرة والكوفة قد طبعت بصمة كل جامعة من هذه الأربع على كل خريج من مدرسة أو جامعة.
فعلى الأزهر بصمة المسجدين والمربدين وعلى الجوامع في تونس والجزائر والمغرب وحتى قرطبة في الأندلس، الإِمام الأول، المعلم الأول لهؤلاء هو الإِمام في المسجدين والإِمام في المربدين وحتى كل الجوامع والجامعات شرق السويس وشرق بحر العرب لم تكن إلا والمسجدان والمربدان كانوا لها وتكون علم عالمها حين كانوا بها.
إن المسجد النبوي يعرف الكثير من القراء سير الأئمة الذين كانوا فيه فلا حاجة لي تدعوني أن أذكر قارئاً بهم، غير أن ذكرياتي عن علماء المسجد وأئمة الصلاة فيه أذاكركم بها مذكراً بمرحلتين: مرحلة أن سمعت عن علماء المسجد في العهد العثماني ومرحلة أن رأيت فيما بعد.
فقبل أن أرى أو أن أسمع وبعد العشرينات إلى الثلاثينات من سني الهجرة، عرفنا كيف كثر العلماء في المسجد النبوي ومن هم، فمن المغرب كله حمدان بن الونيس، العزيز بن الوزير، عبد الحميد بن باديس، البشير الإِبراهيمي، وعمر حمدان المحزري، والطيب العقبي والشيخ الحبيب، والخضر بن ما يأبي الحكني الشنقيطي، الألفا هاشم والفلاتي، والمالي والشيخ حميدة، محمد الطيب الأنصاري المعروف بالتمبكتي. ومن الهند عبد الباقي الأنصاري، حسين أحمد خليل أحمد صاحب ((بذل المجهود في الشرح على أبي داود)).
ومن مصر الشيخ العايش، والأخميمي، ومحمود شويل، ومصطفى صقر، ومحمد صقر وحسن الشاعر، ومن ((القصيم)) صالح الزغيبي، محمد العلي التركي.
ومن الشام عبد القادر الطرابلسي الأول، عبد القادر الطرابلسي الشلبي الثاني وجمال الدين القاسمي في زورة لم تطل أيامها.
ومن أفغانستان حبيب الرحمن الذي أفاد الكثيرين: أما من هم من أهل المدينة فالمفتي الداغستاني وأبو بكر الداغستاني وجعفر البرزنجي وأحمد البرزنجي وابنه زكي البرزنجي وإبراهيم البري وابنه عمر بري ومحمد زاهد وقبلهم مأمون بري وابن أخته عمر الكردي الكوراني حفيد الشيخ إبراهيم الكردي الكوراني الذي انتهى إليه السند العالي والذي أخذ عنه شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب ثم ((حمد كماخي)).
كان المسجد النبوي بسط حلاه وتقواه على هؤلاء العلماء كانوا أعلاماً ولا بد أن نأتي بطُرف عن بعضهم عرفناها.
حمدان بن الونيس قرأنا عنه ما كتبه أمير البيان أبو غالب شكيب أرسلان في حواشيه على الكتاب ((حاضر العالم الإِسلامي)) ترجمة عجاج نويهض، أحد الذين أشبعونا بالترجمة عادل زعيتر، فتحي باشا زغلول.
كان الأمير شكيب قد وصل إلى المدينة المنورة ومعه من مصر عبد العزيز جاويش أحد زعماء الحزب الوطني وعبد القادر المغربي أحد الأعلام مغربياً وشامياً، جاءوا إلى المدينة ليؤسسوا الكلية الإِسلامية، وبدأ البناء بالفعل، ثم الأساس، وارتفع بعض سورها، ولكن العمل توقف حين بدأت نذر الحرب العالمية الأولى، لم نقرأ لعبد العزيز جاويش ولا لعبد القادر المغربي ما كتبوا عن علماء المسجد.
إن الأمير شكيب أرسلان أعجبه حمدان بن الونيس حتى أكاد أزعم أن هذا الحديث الذي كتبه في حاضر العالم الإِسلامي لم يشتهر لدينا على الأقل إلا من صنع شكيب حين تكلم عن ابن الونيس، فالحديث هو يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على القصع.. قالوا أمن قلة يا رسول الله، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم لا، ولكن غثاء كغثاء السيل إنما يدرككم الوهن.
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟
قال عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا وكراهية الآخرة أو كما قال حب الحياة وكراهية الموت.
أعجب الأمير شكيب بابن الونيس وأعجبه الشيخ حسين أحمد شيخ الجامعة الهندية الإِسلامية جامعة ديوباند. وحسين أحمد هو ابن المدينة أيضاً حتى أطلقوا عليه حسين أحمد المدني وأخوه السيد أحمد ((الفيض آبادي)) مؤسس دار العلوم الشرعية وأخوه جميل أحمد أول من ابتعث من المدينة المنورة إلى الآستانة في أواسط العشرينات. وهنا ينبغي أن أستدرك على الذين ظنوا أن عبد الرؤوف صبان هو أول مبتعث من الحجاز لأن قبله جميل أحمد وقبله أيضاً حسين طه وأحمد أبو بكر حمد الله، كما كان قبله محمد المغيربي وعبد القادر عبد الجواد.
عبد الرؤوف ابتعث إِلى مصر عام 1328هـ بعد حج الخديوي عباس، فالخديوي عباس كان يقلد السلطان عبد الحميد يريد أن يجمع حوله رجالاً من هنا وهناك، كما أخذ من المدينة حسن ناصر بن دياب ناصر وكما التفّ حوله بعض الذين ظن أنهم يصلحون سنداً له أو دعاة للخلافة التي يطمع فيها، ولا أدري كيف كان ذلك كأنه لم يحسب حساباً للمندوب السامي كرومر ومن جاء بعده حسن أحمد وكما ذكر عبد الحميد بن باديس شيخ المسجديين الذين نهضت بهم الجزائر، فعبد الحميد بن باديس الذي نأخذ ما ذكر عن حسين أحمد، هاجر إلى المدينة فراراً من الاستعمار الفرنسي حتى إذا اجتمع بالسيد أحمد، قال له: لماذا جئت هنا وماذا تصنع؟ قال: أفكر لعلّ فرصة تسنح لشن الحرب على الفرنسيين.. فقال له حسين أحمد إذا انتصبت للجهاد فكن في أرض الجهاد.. ارجع إلى الجزائر.. وعاد عبد الحميد بن باديس وكان الشيخ الأول لثورة الجزائر.. فهو لم يكن عربياً عرقاً لأنه صنهاجي بربري، إذا أسقطنا عن البربر نسبهم الحميري من أنسال الحميريين جند ذي القرنين المصعب ابن الحارث اليماني.
فهو إن لم يكن عربياً عرقاً فهو المسلم معرقاً والعربي استعراقاً.. الله أكبر.. ألم يعرّبه القرآن؟
عبد الحميد بن باديس هذا الصنهاجي حين شبع من القرآن دافع عن بني هلال فبعض من هم هناك يذم بني هلال وسليم بأنهم خربوا حين عبثوا بقرطاج.. فقال هذا القرآني العربي يدافع عن العرب.. لئن قيل إنهم خربوا فلنقل: إنهم عرّبوا. لقد صدق، فالفتح الأول لم يعرب الأكثرية، من المغرب وإنما الذي عرب الكثرة فبنو هلال وبنو سليم، ولا ننسَ من تناسل من إدريس بن إدريس بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
أما جمال القاسم العالم السلفي صاحب التفسير فقد اتصل بعالم المدينة حينذاك أحمد البرزنجي صلة توثقت بينهما وقطع صلته بعبد القادر الشلبي حيث اختلفا في المشرب، ذلك السلفي والثاني ماتوردي حتى إنه قسا عليه في مذكراته.
لقد ترك هؤلاء بصماتهم على طلبة العلم في المسجد، وما دامت الذكريات تتسع لبعض الطرف فلأتوسع، كنا في بستان العمرانية قبل الظهر جماعة من الأصدقاء نقيل هناك وكنا نسمع أغنية محمد عبد الوهاب ((علموه كيف يجفو فجفا)) فإذا الحارس الذي يخطرنا بمن نخافه أو من نستحي منه ونحن نسمع الأغنية أخبرنا وهو يسرع الشيخ إبراهيم بري.
فأسرع أخوه الشيخ عبد العزيز بري يرحمه الله يسكت الأغنية وقمنا نحيي الشيخ إبراهيم بري فلما جلس قال: أعيدوا ما كنتم فيه لقد سمعت شيئاً أعجبني.. فأعدنا الأغنية فقال:
إنه أحمد شوقي.. إنه محمد عبد الوهاب.. وخطرت على بالي سابقة لمعاوية بن أبي سفيان كأنما إبراهيم البري ابن العقيق قد ورث عن عبد الله بن جعفر ابن عمه، قال البري كما علمنا أنهم من ولد محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب. ورث حلي العقيقي يوم كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حارس الفن، كل مجلسه طرب وزاره معاوية بن أبي سفيان ومعه عمرو بن العاص وفي زعمهما أو عزمهما أن ينكرا على عبد الله بن جعفر هذا الترف. هذا الطرب وحين علم ابن جعفر بحضور معاوية وعمرو بن العاص أسكت الغناء - كما فعلنا - حتى إذا أخذ معاوية مجلسه قال لعبد الله أعد ما كنت فيه فارتفع صوت لا أدري أهو صوت طويس أو عزة الميلاء من وراء ستر فاهتز معاوية طرباً، فقال له: عمرو هوّن جئت تنكر عليه، فقال معاوية: دعني فإن الكريم طروب.
السكة الحديد
ـ ووصل القطار يجري على سكته الحديدية إلى المدينة المنورة فإذا هو بعد يحدث التطور.. كثرة المهاجرين.. تنويع الآكال كثرة المجلوب من الشام كالبرتقال والبطيخ اليافاوي والدقيق ((الفرخة)) وحنطة الجولان وأنواع الياميش، كأنما المدينة أصبحت سوقاً لخيرات الشام.
الدقيق ((الفرخة)) له عرق تصنع منه الفطائر فإذا هو يأخذ من المدينة ميزة وهي صناعة قوس الرق أي الفطائر وأنواع البوريك والمطبق.. كانت المدينة تمتاز بهذا لأن حنطة المعية التي هي من نبات المدينة أو من نبات عالية نجد لها عرق يصنعون منها الرقاق والفطائر حتى قال أهل مكة إن أهل المدينة يصنعون الفطائر.
كان ذلك حيث لم يصل إلى المدينة الدقيق ((الفينو)) فالامتياز ليس من صنعة الصانع فحسب وإنما هو من مرونة الدقيق من دقيق المعية. وحين كثر الدقيق الأبيض أصبح كل من هب ودب مطبقانياً يعني ((أهله سيبوه والجن استلقوه)) فأول التطور حرب على المعية كان الدقيق الأبيض من الشام، ثم الدقيق الأبيض الفينو من الأرض التي صنعته.
واحتفلوا بقدوم القطار.. وعز علينا وقد كنت طفلاً أن نعرف من حضر يشارك في هذا الاحتفال من الأقطار العربية والمسلمة.. غير أن صلة صديقنا الشيخ محمود شويل علمنا منه أن من الذين حضروا الاحتفال كانوا علي كامل صاحب اللواء، شقيق مصطفى كامل زعيم الوطنية في مصر ولطفي السيد صاحب الجريدة لسان حال حزب الأمة، والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الذي كان مصرياً وخديوياً، ومحمود شويل حين عرف ذلك لأنه اتصل به واقتنصه علي يوسف فاختاره مراسلاً للمؤيد.. لماذا كان ذلك؟
لطفي السيد ((مصر أمة وحدها)) لا شأن له بما يجري في المدينة وعلي كامل ((مصر الخلافة العثمانية)) لا يحتاج إلى مراسل في المدينة أما علي يوسف فلهوى الخديوي أحب أن يقتني مراسلاً كما هي رغبة الخديوي في جمع بعض الرجال حوله.
إن السكة الحديدية لم يقتصر تطويرها على الدقيق وعلى بضائع الشام وإنما جاء معها تطور أكبر نكتبه بعد.
صلة المدينة بالشام
وكانت المدينة تقليدياً تابعة لشريف مكة لا نفوذاً له وإنما هو شيء من التنفس والحرص على وحدة الحجاز.. فعزم الاتحاديون وبتطور السكة الحديدية أن يفصلوا المدينة عن مكة فما انتدبوا تركيا وإنما كان مندوبهم علي رضا الركابي، ضابطاً من نوابغ السوريين تولى رئاسة الوزارة بعد في الشام وفي الأردن.. كان من الأذكياء لكنه لم يؤخذ بالقومية، فقيمته الشخصية أن يكون عثمانياً.
جاء إلى المدينة وسعى إلى الكبار من أهلها، فالقدامى من الأسر لم يلبوا طلبه والمحدثون منهم كانوا له.. ولم يشذ عن الأسر القديمة إلا الشيخ أبو الحسن السمان، فهؤلاء وافقوا علي رضا ووقعوا مضبطة فيها طلب فصل المدينة عن مكة وضم المدينة إلى الشام والحجة هي سرعة الاتصال.. القطار والتلغراف.. فالتلغراف وصل إلى المدينة عام 1318هـ وكان في خفارة علي ناصر.. وتم فصل المدينة. والواقع أن ذلك قد يسَّر كثيراً من الأعمال بينما شريف مكة الحسين بن علي يرحمه الله قد غضب فعاتب السمان لأنه ابن لصديقه، كان مرًّا في عتابه وقاسياً في شكيمته ولكن لا حول ولا قوة له فمضى الأمر.
ولا بد لي من أن أستطرد في بعض الذكريات عن الطرائف والمواقف لعلماء المسجد النبوي، ليكون التمام على ما سبق.
فالسيد حسين أحمد كان في المدينة ولعلّه لم يزمع الخروج منها يذهب إلى الجامعة المسلمة (ديوبند)، ولكنه لسبب تصورت أني علمت فدونت، بينما الواقع أنه لم يكن ذلك هو الحق، كنت أظن وهو في المدينة، وقد اتسعت صلاته بعلماء المسجد ينصح بن باديس ليعود إلى الجزائر، كما سبق أن ذكرت ويعجب الأمير شكيب أرسلان به، كنت أظن أن (إحسان الله) قد كتب تقريراً عنه إلى المخابرات البريطانية، فإذا هم يتربصون به، يقع في قبضة أيديهم، يُنفى إلى مالطا، وكان هذا الظن خاطئاً، والصحيح أنه جمع أموالاً تبلغ أكثر من مليون روبية، فذهب بها إلى الطائف عوناً للباشا التركي ضد موقف الحسين بن علي، فحكومة الشريف هي التي سلمته للإنجليز.. ينفى إلى مالطا لأنه وقد كان في المدينة لا تصل إليه يد الإنجليز.. ومن هو إحسان الله؟‍..
إنه رجل من مسلمي الهند بقي مدة ثمانية عشر عاماً في المدينة المنورة بواباً على باب النساء أحد أبواب المسجد النبوي، بينه وبين الصديقين الأخوين عبد الحق النقشبندي وعبد الحميد عنبر قرابة من ناحية النساء، فكانت هذه القرابة الساترة لحاله، لم يعرف أهل المدينة عنه إلا أنه البواب على باب المسجد، ويا للغرابة التي دهشت رجالاً من أهل المدينة، كانوا في دمشق حين رحلهم فخري باشا من المدينة، منهم زين صافي وزين مدني، وبعض الشباب أسعد طربزوني إبراهيم شاكر وغيرهم حتى إذا احتل فيصل بن الحسين دمشق حين نزح عنها جمال باشا وحين دالت الدولة على حكم الأتراك، وحتى إذا رأوا المرشال الإِنجليزي ((اللنبي)) داخلاً دمشق ليوطد الأمر لفيصل رأوا البواب على باب النساء إحسان الله ضابطاً كبيراً يدخل مع ((اللنبي))، أدهشهم ذلك يقيم في المدينة بواباً لمدة ثمانية عشر عاماً.. بينما هو من رجال المخابرات البريطانية وأحد الضباط الكبار في حاشية المرشال البريطاني، أهو ذكاؤه كتم أمره، أم هي الغفلة، حتى إن الباشا التركي سواء كان بصري أو فخري لم يعرفا عن إحسان الله أنه رجل مخابرات بريطاني؟‍ وقبض الإنجليز على حسين أحمد ثم أطلق سراحه ليكون أحد شيوخ الهند المسلمة.
وزار مدرستنا في المدينة المنورة فحييته بخطب، وفي رحلتي إلى الهند بصحبتي للشيخ محمود شويل، زرناه في ديوبند وأعد لنا عشاءً لم أذق مثله أرزاً له نكهة وله طول لم نعرفه في المدينة فسألته من أين هذا الأرز؟ لعلّه قال لي إنه من (سهر أسبور) وكان من أهل الحديث غير أنه متعصب لأبي حنيفة كأنه من تلامذة الطحاوي أو محمد بن الحسن الشيباني، واختلفنا معه قال: أنتم العرب السبب في استعمار الهند: أسقطتم الخلافة فقوي نفوذ الإِنجليز في الهند. وأجبته: إمبراطورية الهند هي السبب في استعمار العرب، فالذي أسقط الدولة العثمانية هو خط برلين بغداد وبعض سلطانها على قناة السويس، فحين كان العرب في طريق الهند استعمر الإنجليز العراق وفلسطين وقبلهما مصر. ودَّعناه شاكرين ولم يأت الخلاف في هذه النقطة إلا ونحن نذكر له الخير.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، ففي أواخر أيام الأشراف بقي في المدينة شيخه خليل أحمد ليكمل شرحه لأبي داوود، وسماه (بذل المجهود في شرح أبي داوود) أكمله في المدينة وكان ضيفاً صديقاً في دار العلوم الشرعية التي أسسها صديقه تلميذه أخو حسين أحمد، السيد أحمد الفيض أبادي، وكما أضيم السيد حسين أحمد لأنه نصير العثمانيين فقد أضيم خليل أحمد حين أغلق الشيخ عبد القادر شلبي الطرابلسي دار العلوم الشرعية في أواخر عهد الأشراف بحجة أنها مدرسة وهابية، والسبب أن خليل أحمد وحسين أحمد وكل جامعة ديوبند أهل حديث ينصرون مذهب أبي حنيفة، كما قلنا على طريقة الطحاوي، أما الشيخ عبد القادر شلبي وعبد الباقي الأنصاري وهو من لكناو، فقد كانا من قسم الأحناف، الذين لهم آراء ليست من الحب لرسول الله كما زعموا.
أما البشير الإبراهيمي، فقد زامله أستاذنا السيد محمد صقر يدرسان على الشيخ العزيز ابن الوزير الجزائري أو التونسي، ورجحت الجزائري لأن بيته الكبير في المدينة في زقاق البدور الذي كان اسمه في عهد النبي (المناصع) والذي علمت عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله - كما هو نعت الإِمام مسروق لها - حين علمت بلغو الإفك من عمتها وهي ذاهبة للمناصع تقضي الحاجة، إن بيت العزيز بن الوزير وراء المدرسة الإِعدادية ثم الراقية ثم المناصرية وعلى طريق بيت الرفاعي كان القيم على البيت وحافظ المكتبة الكبيرة هو أستاذنا (العريف محمد بن سالم) الجزائري العقبي.
البشير الإبراهيمي توثقت صلته بالسيد أحمد البرزنجي، ومن مزايا البشير أنه صاحب عيون البصائر التي حجزها أحمد بن بيلا مع أن صاحبها كان من زعماء ثورة الجزائر، ولعلّ الشاذلي بن جديد قد احترم البشير الإِبراهيمي، فوزير خارجيته طالب الإِبراهيمي هو ابن الشيخ البشير، كان همّ البشير أن يلتفت العلماء إلى دراية الحديث، فليس لهم حاجة في الرواية لأن كتب السنة قد دونت وطبعت، فالرواية شغل يفخر به الرواة، أما الدراية فعنها ينتشر الفقه ويعرف ما ترمي إليه السنة، وكان ينازع في ذلك السيد الشيخ عبد الحي الكتاني، وإبان الثورة وبعدها لجأ البشير الإِبراهيمي إلى المملكة فأحاطه الملك فيصل بكل التكريم، فموقف محمد سرور الصبان مكرماً للبشير الإِبراهيمي، لم يكن إلا عن طريق تكريم الملك فيصل له، كان حاجاً ضيفاً على محمد سرور الصبان، وكان مفتي مصر السابق محمد حسنين مخلوف ضيفاً كذلك، جمعهما الصيوان في عرفات، وأخذ المستفتون من الحجاج يتوافدون يسألون مفتي الديار المصرية حتى إذا طرح السائل مسألته يسأله الشيخ مخلوف (إيش مذهبك؟) فإذا كان ينتسب إلى مذهب، أفتاه بقول المذهب، واشتد البشير يطلب من محمد سرور أن يغلق الصيوان لا يدخل أحد وقال لمخلوف: لماذا تسأل عن المذهب فأنت تعرف القاعدة الأصولية العامي لا مذهب له، المذهب للمفتي، إن رأى مخرجاً يسر عليه وإن رأى مسرفاً عسر عليه. كلمة حق ينتصر به الحق ولا يهزم المذهب وأراد طبع عيون البصائر فأعطاه محمد سرور أجرة الطبع ولكن البشير أنفق المال على من احتاج إلى مال، ثم طبعت عيون البصائر مرة أخرى.. يرحم الله علماءنا.
أما أحمد البرزنجي فقد كان المفتي ولكنه عزل لأن منافسيه وقد ذهب نفوذ أحمد أسعد بصولة الاتحاديين سعوا إلى عزله، حتى إذا تمت الصلة بينه وبين جمال الدين القاسمي، طلب من جمال الدين أن يسعى له يعود للإفتاء، ذكر ذلك جمال الدين في مذكراته، بقي أن نعرف هذه النسبة (البرزنجي) فالذين لا يعرفون أصل هذا النسب يحسبونه نسبة إلى (البرزان) أو (الطروبيته) التي ينادي بها الجنود (للكروانة) يعني العشاء أو الغداء، إن أصل هذه النسبة إلى الأكراد البرزانية في شمال العراق ولعلّكم سمعتم اسم زعيمهم مصطفى البرزاني، فهي في العراق برزاني، وفي الشام برازي، ومنهم بيت كبير في الشام كان من بينهم رئيس وزراء وفي المدينة البرزنجي على الطريقة التركية، هاجروا إلى المدينة من العراق، من القسم الكردي بينما هم من الأشراف فهم سادة وكانوا بيت علم، آخرهم قاضي المدينة طيب الذكر السيد زكي البرزنجي خال السيد عبيد والسيد أمين مدني، وإلى ما يأتي بعد.


---------------------------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (5)
أئمة المسجد النبوي.. مواقف وطرائف
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية، العهد الحميدي، والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام، ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة، وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات ليس فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
ـ والمسجد النبوي يلزمنا أن نذكركم بالإِمام والمؤذن كما ذكرّناكم بالعلماء، فالأئمة الذين يصلّون بالناس كانوا طبقة لها امتيازها.. فالأئمة والخطباء من الأحناف لا غيرهم وهم (الخاندانة) أي إنهم الطبقة العليا، ولم يكن الإِمام أو الخطيب بما هو مؤهل به كفقيه وإنما هي - أعني الإِمامة - رتب يمتازون بها ومنح يصدر بها فرمان..
فالإِمام الذي يصلي بالناس أول الأمر لا بد أن يكون حنيفاً لأن مذهب السلطان العثماني كمذهب الخديوي في مصر - هو مذهب أبي حنيفة.. فإذا صدر الفرمان بأن يكون الأفندي (فلان) إماما،ً فأبناؤه يرثون الإِمامة، ولا يسألون أن يقوموا بالوظيفة، فالواحد منهم ولو لم يفك الحرف - إمام بالوراثة - حتى إذا وصل إليه الترتيب لأداء الصلاة يتخذ قارئاً ينوب عنه في أداء المهمة.. فهي مراتب افتخار يمتازون بها ويحرصون عليها.. فالصلاة الجامعة يؤديها الإِمام الحنفي وبعده يأتي الإِمام الشافعي يصلي بالذين لم يدركوا الجماعة الأولى وهو أيضاً صاحب رتبة منح الإِمامة بالفرمان..
إن الفرمان هو المرسوم السلطاني مكتوباً بالخط الديواني الجليل رأينا كثيراً من صوره في إدارة الأوقاف.. وإن تخلف بعض المصلين يأتي إمام على مذهب مالك يصلي في محراب المواجهة.. فعجيب أن يكون إمام دار الهجرة ليس له حظ من هذه الحظوة التي منحت للأحناف والشافعية.
أعرف من الأئمة المالكية أستاذنا السيد أحمد صقر ولم يكن بذلك قد منح الإمامة بالتشريف وإنما هو بأداء التكليف ((إمام بلا فرمان أما الإِمام المالكي المشرف بالفرمان فهو من بيت عبد الحفيظ)).
ولعلّك تسأل عن إمام في عهد الأتراك أو عهد الأشراف تابع لمذهب الإِمام أحمد.. ليس هناك أحد.. فالجفوة لمذهب ناصر السنة على هذه الصورة جاءت من تركة السلطان محمود ومحمد علي في حربهم ضد آل سعود وشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب، مع أنه يوجد من أهل المدينة القدامى بيت النعمان فهم على مذهب أحمد.
ـ ويأتي المؤذنون وجلهم فرمانيون، غير أن حسين بخاري وعبد الستار شرفهم صوتهم فكان فرماناً على الفرمان.. وأحسب أنهم كلفوا بأمر محلي لا بفرمان سلطاني.
ـ وقل مثل ذلك في الكناسين وهم أيضاً أصحاب رتب يشرفهم أنهم يخدمون المسجد وينظفونه.
ـ وظاهرة لا بد أن نذكركم بها، فخلال إقامتي الطويلة لمدة واحد وعشرين عاماً أعني المدة التي أدركتها من عهد الأتراك والمدة التي عشتها في عهد الأشراف لا أعرف من ارتقى المنبر على الدوام غير هؤلاء الأربعة: حمزة أركوبي، جلال إلياس، أبو الفرج إلياس، زين بري، لعلّهم كانوا يؤدون واجبهم وواجب غيرهم بالإِنابة.. إن زين بري - كما ذكرنا من قبل - كان يأتي بخطبة الجمعة إلى أستاذنا السيد محمد صقر يقرأها عليه.. يستمع له.. يتعهده بالصواب نحواً وصرفاً لا فكرة. لكن هناك إمامين ذاع لهما الصيت وأحب المصلون أن يصلُّوا وراءهما لإتقان التجويد ولتجويد الإتقان بالصوت الجميل على النغم الموسيقي هما كامل توفيق (جد غالب توفيق الذي كان مديراً للأمن) وأخوه سعد توفيق (جد صديقنا حاتم توفيق)، فكامل توفيق وأسعد توفيق جمَّلهما الله بالوقار والصوت الحسن فلعلهما - قبل زكريا أحمد وعلي محمود - أتقنا سلم الأنغام، فما أسعد الأذن إذ تسمع كامل توفيق وأسعد توفيق!! وهما من أسرة تركية شركسية لهما حظ في وقف السلطانية ولهما الحظ الأكبر أن كانا من أعيان المدينة وأحسن أئمتها.
لقد كان لهما هذا الموقف في آخر عام 1342هـ يوم أقامت المدرسة الراقية احتفالاً بأول وآخر الخريجين منها وهم الأربعة المحمدون (محمد سالم الحجيلي المروحي السالمي الحربي الذي نشأ يستروح النسيم من وادي سجسج حول الروحاء ومن شعاب الجبل الأشم ورقان ((أو)) الأشعر ومحمد إلياس توفيق ولا قرابة له بالإِمامين السابقين وإنما هو لقب بيت آخر من قدامى الأتراك ومحمد نيازي (القازاني) وكان من روسيا البيضاء وفيها كثرة مسلمة حينذاك، وكاتب هذه السطور أبوه من صعيد مصر ومن أسيوط بالذات وأمه من الفضول من قبائل نجد نشأ في بيت شعر بدوياً آبداً تعلم من الرجال فاحتفل بسير الرجال. هؤلاء الأربعة المحمدون هم أول وآخر من تخرج من الراقية وأقيم الحفل في صالون المدرسة الراقية (الناصرية بعد) ولم يكن هناك زخرف مادي وإنما كان هناك الزخرف المعنوي.. كان كامل توفيق وأخوه أسعد يقرآن فاتحة الحفل بل وكل الحفل. وقد حضر هذا الحفل أمير المدينة حينذاك الشريف علي بن الحسين قبل أن يصبح ملكاً، وطبعت الشهادات لكن الأمير سافر، كما لم يرجع الشيخ عبد القادر شلبي عميد المدرسة إلى وكيل الأمير - وكان هو الشريف أحمد بن منصور ليصدق على الشهادات وبالتالي تأخر التصديق وضقنا ذرعاً فلجأنا إلى أستاذنا محمد صقر - وكان جريئاً على الشلبي فتداولوا الأمر وصدَّق الشهادات عبد المجيد باشا الحاكم العسكري.. صدقها وهو في قلعة سلع والمدينة محاصرة ليكون ضمها خاتمة التكوين لهذا الكيان الكبير.
وعن كامل توفيق وأسعد توفيق وسلم الأنغام نذكر هذه الطرافة كان البناني - أستاذ من تغنى.. العارف بالأنغام - هو الذي يكبر للصلاة.
إذا كان الإِمام هو كامل توفيق أو أسعد توفيق.. فالطريقة هي أن البناني يخرج من نغم إلى نغم وهو يكبر ليتحدى كامل أو أسعد وهما يجهران بالقراءة لا يعجزهما أن يسيرا مع تحدي البناني.. كان ذلك شيئاً مطرباً ولكن أحسبه يخرج بهم عن أدب الصلاة لأن الإِمام والمؤذن مشغولان بتحري النغم.. ولكن هكذا كان..
إن سلم الموسيقى الذي عرفناه منهم يشير إلى ما ذكره الأصفهاني في الأغاني عن عدد الأصوات، صوتان.. ثلاثة أصوات ولا أريد إلا أن أذكر بذلك.. فهناك نغم رصد (إذا جن ليلك فارصدي) هو أساس السلم الفارسي وتأسس عليه السلم التركي.. إن نغم الرصد - كأساس - ليس بالصاد وإنما هو هكذا الرست (بالسين) يعني الأساس.. ثم يأتي بعده نغم ((دوكا)) يعني صوتين (فدو تعني اثنين) ثم يأتي سيكا يعني ثلاثة أصوات.. فالتركيب الفارسي هو ((سي)) يعني ثلاثة ((وكا)) يعني صوتاً.. ويأتي بعده الجاركا هو بالفارسية ((جهاركا)) ((جهار)) يعني أربعة - ويأتي بعده ((البنجكا)) يعني خمسة أصوات لأن الأرقام الفارسية هكذا: يك.. دو، سي، جهار، بنج..
وتفرعت من هذه الأسس أنغام أخرى لا أعرفها وإن كان أكثر من سبعين بالمائة من شباب المدينة كانوا يعرفون هذا السلم حينذاك.
وكان من العارفين أيضاً: عبد الستار، وعلي براده، وصديق البناني عمر عبد السلام الذي كان يطرق الحديد طول نهاره فهو حداد - وفي مجالسه يتعلم الشباب منه الأنغام.. من هنا قلت إن الغناء في المدينة المنورة قد تأثر بالسلم التركي، فما من بيت من هذه البيوت إلا وفيه آلة الطرب العود، الكمان، أما خارج المدينة وفي الوطن وعند البادية فالربابة وعند أولاد الحارة - الشلاوية والمشاكلة، وأهل الوديان حول المدينة - فيتقنون المزمار من البوحي وهو صانع الجذب والهستيريا الراقصة حين يقيمون ((سيدي علي البدري)) و((الزير)) و((الزار)) و ((المزمار)) يعتقدون تصريف الجن بهذه الحفلات بينما هم يمرضون أنفسهم بهذه الأوهام هكذا كان ولكنه زال..
معلومة.. وطرائف.. وحواشٍ..
والمعلومة التي لم تفتني فيما سبق هي الإضافة إلى التعريف (بالمستر إحسان الله) عرفنا من هو في المدينة ومن هو في دمشق، بقي أن نعرف كيف هو في جدة، عرفنا بالمشاهدة والتعامل معه، فيما لو أردنا السفر إلى الهند وما إلى ذلك مما هو تحت سلطان بريطانيا العظمى حينذاك، عرفناه وهو في القنصلية البريطانية في جدة، سواء كان وكيلاً أو أكبر من وكيل، كان يعرف كل شيء عن المطوفين والأدلاء، كأنما هو الرقيب عليهم لتكون الرقابة حيث يصلون.
وصل إلى جدة في عهد الأشراف وبقي إلى أوائل هذا العهد، عهد الكيان الكبير. وفي أواخر جمادى الثانية عام 1352هـ حصلنا على تأشيرة الدخول إلى إمبراطورية الهند، كاتب هذه السطور والأستاذ محمود شويل، وكانت التأشيرة سهلة لأننا كنا ضيفين على المضياف الشيخ محمد حسين عمر نصيف تغمده الله برحمته، وكان إحسان الله يعرف محمود شويل من المدينة، تلميذاً للشيخ فالح الظاهري، الذي له مكانة في الحجاز وليبيا، كما يعرف عن محمود شويل صلته بالخديوي عباس، وانكشف لي ذلك حين رست الباخرة (علوي) في عدن، وإذا بمناد يدعونا، وقفنا على ضابط الجوازات، جلس على مكتب أعدّ له.. نظر في جوازات المسافرين إلى الهند وهم بقية الحاجين ولم يكن ذلك كثيراً، وقفنا أمامه ضابط بوليس.. رُبعه أقرب إلى القصر وإلى السمنة، لم أر شعراً شديد الحمرة كشعره، لعلّه صبغه بالحناء أو أنه موّلد (خلاسي) الأب عدنياً والأم إنجليزية أو غير ذلك، اكفهرّ يستغلظ قال: محمود شويل؟ ((من ساعة ما ركبتوا الباخرة عندنا خبر)). والشيخ محمود سريع البادرة غضوب، أمسكت بيده ألا يجيب وأجبته أنا، قلت له: يسرنا ذلك، لأن رقابتكم نوع من الحراسة لنا أو الحماية علينا، فحيثما نكون نجد هذه الرقابة، ليست هي التهديد وإنما هي حرصكم، وكاد يبتسم ولكنه قال: سنسمع.. سنسمع، وسمع ثم سمعنا حين امتد بنا العمر، زوال الإمبراطورية واستقلال الهند بقسميها الباكستان والهندستان.
وهكذا كان إحسان الله رجلاً حقق وطره وانتشر خطره، ولا يفوتني كمعلومة أن إحسان الله يحيط الذين يحملون الجنسية البريطانية بشيء من الرعاية، ولو كانوا يحملون جنسيات أخرى، ولعلّي أذكركم بأن أول قنصل لفرنسا في جدة في العهد العثماني الأخير كان ذلك الضابط الشاب (كاترو) الذي أصبح الجنرال (كاترو) من عناصر المقاومة لاحتلال النازيين من شيعة الجنرال ديجول، ولقد كان قد احتل الشام في الحرب العالمية الثانية حين هزم النازيون، ولكن الجنرال (سبرز) البريطاني والمستر تشرشل، قد كتبوا عليه الجلاء من سوريا حتى إن ديجول أخذ يشتم سبرز، ورد عليه تشرشل: ((أحب أن يذكر الجنرال ديجول أن سبرز هو الذي حمله من فرنسا إلى حيث نجا من النازية وتزعم المقاومة)).
الطرائف
هي عن بعض أشياخنا الكبار، مع الألفاهاشم ومحمد العلي التركي ومحمد الطيب الأنصاري، كانت عن مشافهة معهم، شرفوني بها، وعن فالح الظاهري وحمدان الونيس، كنت تلميذاً وفي السنة الرابعة راقية وفي الامتحان الخصوصي في شهر شعبان سنة 1342هـ، وكان الشيخ عبد القادر شلبي عميد المدرسة يباهي بالتلاميذ أيام الامتحانات فيدعو بعض كبار العلماء أو الأعيان، كمميزين وليمنحوا العلامات لكل تلميذ ولعلّه كان يمسكهم يجودون على التلاميذ بعلامة إضافية فرحاً بالتلميذ ومجاملة للشيخ يعني ((حج وبيع مسابح)) ولم يكن ذلك اليوم يوم امتحان لنا نحن تلامذة السنة الرابعة الراقية بل كان لتلامذة السنة الثالثة. وكان رئيس الفصل صديقنا إبراهيم عبد الرحمن فقي الصديقي من أسرة المفتي في مكة، سكن أبوه المدينة وكانت أمه من بيت الطيار الكبار.. ومن زملائه السيد يوسف مدني والسيد ماجد مدني وحسن إسماعيل والسيد عبد الهادي برزنجي، وكان الامتحان في مصطلح الحديث وأستاذه السيد محمد صقر والمميزون، تصوروا من هم؟!
الخضر بن مايأبى الجكني، المحدث ومن أعيان شنقيط وهو والد صديقنا محمد الأمين سفير الأردن سابقاً، والشيخ إبراهيم البري والشيخ الحبيب المغربي والشيخ الألفا هاشم المالي الفلاتي، ولعلّ إبراهيم مفتي لم يجب صواباً فنطق الخضر ينتقد، فهو حاد المزاج فإذا الشيخ عبد القادر شلبي يرفع صوته يرد الانتقاد بالجدل فهو ليس على درجة من معرفة المصطلح كما الشيخ الخضر، اتسع الجدل ولم يتدخل الآخرون، فإذا أستاذنا محمد صقر يخرج من الحلبة (فين الزيدان.. فين الزيدان..؟!) (لبيك) قال (ادخل فك العجة).
قلت: ليس هو لنا هو امتحان سنة ثالثة قال: (ادخل يا واد.. هو إنت اللي راح تفك العجة) وهمس في أذني على الجواب الصحيح، ودخلت والشيخان يتجادلان، سلمت بصوت جهير فرد السلام الأشياخ وجلست على الكرسي أرفع صوتي أقول: أنا تلميذ في الامتحان لا ترعبوني الخوف يسقطني، وكأنما أعجب كلامي شيخنا الخضر، وطفق يسألني عن الجواب فأجبت، وهدأت العاصفة بين الشيخين، ولم أدر ماذا جرى عني بعد، ولا يفوتني أن أقول إن الشيخ الخضر فيه دعابة فقد كان يشاهد ارتفاع البناء في بيته في زقاق الطيار فوقف مرة وهو يشاهد ارتفاع البناء، فقال لحاشيته (أنا من علامات الساعة من الحفاة العراة يتطاولون في البنيان).. وقفت على درسه ذات مرة في شهر رمضان أسمع، فقد كان يلهج بغنة شنقيطية وكان الحديث عن سجود السهو قبل السلام بعد السلام فارتفع صوته برنين وكأن عباءته قد ضاقت عليه يقول (لله در مالك علم أن السجود قبل السلام عن نقص وبعد السلام عن زيادة فما حصره قبل السلام دائماً ولا بعد السلام دائماً) ومشيت هكذا المغاربة أهل الحفاظ فما زالوا المحافظين على مذهب أهل المدينة وعلى قراءة أهل المدينة، أعني مذهب مالك وقراءة نافع مولى ابن أبي نعيم، الذي دفن في البقيع وقبره بجانب قبر مالك ويخطئ الأدلاء يحسبونه نافع مولى ابن أبي عمر.
أما ما جرى بعد أن خرجت من الامتحان الصوري فقد علمته بعد، كنت في رواق باب الرحمة قبل صلاة المغرب وساعة الأذان فإذا الشيخ الألفا هاشم يقف على رأسي (زيدان قم) وأخذ بيدي أسير بجانبه إلى الروضة.. (وتعال شوف الناس) يصل الخبر إلى والدي.. الشيخ ألفا هاشم ومعه ولد يصلي في الروضة، أكبروا ذلك وكبّر الأصدقاء، وبعد صلاة المغرب بسط الشيخ المحفظة فأخرج الدواة وقلم البوص وورقة مسطرة، أمسكت بالقلم وأخذ يمليني هكذا.
((يا زيدان يا من بزينة العلم يزدان.. يا زيدانُ إن المفرد العلم زيدانَ له مثنى زيد لقد دانا.. يا زيداني أضفتك إلى نفسي لأنك إلى محبوبي من العلم دان)).
وعرفت السبب فحين خرجت من الامتحان اختلفوا في إعراب اسم الزيدان فحقق الألفا هاشم إعرابه إعراب المفرد لا إعراب المثنى.
والخاتمة في هذه الحلقة عن الألفا هاشم أيضاً وهو يلقي درسه في الضحى في شهر رمضان، وقفت أسمع وأنا ذاهب إلى المدرسة وإذا هو يفسر قوله تعالى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (الضحى: 4)، ألقى التفسير المجمع عليه الآخرة يوم القيامة.. والأولى الحياة الدنيا، ثم أردف ذلك وبلهجته المالية الإفريقية قال (وقال بعضهم الآخرة ((المدينة)) خير لك من الأولى ((مكة))) وانصرفت ألقيها بلهجته الضاد ظاء حتى قلت: إفريقي مغربي يحافظ على مذهب مالك وهو بعد مديني يحب مدينته.. يرحمه الله.
وللطرائف ملحق..
ملحوظة:
في حلقة سابقة تقدم اسم لطفي السيد لقب دكتور.. علماً بأنه ليس بدكتور.. وإنما هو أبو الدكاترة.
 
---------------------------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (6)
العهد العثماني.. ومن إليه من الرجال
ـ لم ير العرب في العثمانيين استعماراً..
ـ السلطان عبد الحميد بنى المسجد النبوي على الطراز البيزنطي..
ـ أعمدة المسجد الأرجوانية جاءوا بها من جبل بالمدينة..
وكانت المدينة المنورة أيام حكم الطوائف، أميرها التقليدي من أشراف ذوي حسين، أي من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب، بينما الأمراء التقليديون في مكة من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، لهم سلطان في المكتبين، فأحياناً يصفو الجو بينهم ليكون الأمير في المدينة على علاقة طيبة مع الأمير في مكة، ليس لديهم قوة رادعة وإنما هو التقييم من الملك الطائفي لهاتين الأسرتين.. لم يخضعوا للسلجوقيين وآل بويه.. ولم يكن لهم هذا التقييد أيام العباسيين، وإنما كانوا ذلك أيام العباسيين، وإنما كانوا ذلك أيام الفاطميين في مصر والأيوبيين والمماليك، ولم يكن لحاكم الشام هذا السلطان إلا لمحمود نور الدين زنكي، ولعلّه عن طريق صلاح الدين، حتى إن الظاهر بيبرس أحد المماليك، يوم وصل إلى المدينة كان الحاكم التقليدي هو (الشريف فليته) فهو ومن بعده ومن قبله يعرفون بآل جماز، ثم عرفوا بالشقادمة، وظاهرة لا بد أن نذكرها هي أن العلويين سادوا في قبائل العرب على صورة من الإمارة على القبيلة أو هي الصورة على أن الشريف شيخ القبيلة، لم يكن في الحجاز وحتى في نجد يوم كان بنو الأخيضر هناك إلا الأكثرية من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، فليس هناك ولد الحسين كان له سلطان إلا الجمازيين في المدينة المنورة، أما القبائل الأخرى كجهينة وعتيبة وهذيل وبالحارث، فالذين سادوا لديهم هم من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب..
وكانت قرية (السوراجية) شرق المدينة وقرية (الحفنة) كذلك تابعة للمدينة لقربهما ومن فيها من الأشراف حسينيون، فأشراف قنا المحافظة المصرية جمازيون حسينيون، وانضم إليهم حسينيون من أشراف وادي فاطمة، وحتى أسرة الحفناوي في مصر تنسب إلى آبائهم في قرية الحفنة، ولا أنسى أن قرية في غرب المدينة تقع بجبل الرس من جبال المدينة قرب ذي الحليفة ولعلّه من تضاريس الجماء أو العير وقد تأكد لي ذلك من خلال بحث الابنة أميرة المداح في بحثها الموسوم بعنوان ((العثمانيون والإِمام القاسم بن محمد بن علي في اليمن)) وهذه القرية خرج منها أئمة اليمن الذين تم لهم سلطان الإِمامة في اليمن وهم الأشراف الرسيون.
أما الذين سادوا في جهينة، فلأنهم مكثوا فيما ورثوا من أملاك جدهم الإِمام علي كريم الوجه رضي الله عنه ويعرفون بهذا (ذوي هجار) ومنهم الأسرة المالكة في المغرب..
وهكذا كان الأمر بين الحاكم التقليدي تشريفاً له بينما السلطان للأيوبيين أو الفاطميين أو المماليك. وحينما تم للسلطان سليم العثماني النصر على الطوائف دخل كل العرب تحت سلطان العثمانيين ولم ير المسلمون والعرب أن في ذلك استعماراً، وإنما كان سلطان مسلم لعلّه يمتاز بالوحدة التي ضمت الجميع أكثر من ملوك الطوائف الذين كانوا عاجزين عن صد التتار ومقاومة الصليبيين، والعثمانيون لهم فضل لا ينكر، صمدوا أمام تيمورلنك وحجزوا الصليبيين أن لا يعودوا، كما أنهم أضعفوا انتشار التشيع في قبائل العرب، وإن بقي في اليمن وإن بقي في الحجاز، فقبائل العرب شرق المدينة بقي فيها التشيع كما بقي داخل المدينة وفي العوالي وما إليها كذلك..
إن إطلاق اللسان باسم القومية على العثمانيين بأنهم استعماريون غض من الجامعة الإسلامية، بل أصبح الآن كأنه الرفض للجامعة الإِسلامية، صفقت للقومية العربية، ولكني الآن وبالحال الذي نحن فيه شلت يدي إن صفقت لهذه الإِقليمية..
مقدمة لا بد منها، ليس هي كل التاريخ وإنما هي ملامح من استقراء التاريخ، لأجد نفسي أسجل ذكريات عن أربعة عهود عثمانية، عهد عبد المجيد وعهد عبد الحميد وعهد محمد رشاد وعهد الاتحاديين، وإن كان يحسب من عهد رشاد، لا أذكر أثراً في المدينة قبل هذه العهود، لأني أجهله، فمثلاً ليس للسلطان محمود فيما عرفت أثر إلا المكتبة المحمودية، ويمكن التجاوز عن تركة محمد علي لنعدها من آثار السلطان محمود، كالباب المصري مثلاً، وباب الكومة ومدرج العنبرية، كبرزخ يصل داخل المدينة بخارجها، أعني العنبرية..
أما السلطان عبد المجيد، فله الأثر المحمود والأثر الآخر غير المجحود، فأثره المحمود هو بناء المسجد النبوي، بناء أصبح تحفة، زينة قام على تنظيمه وتنسيقه مهندس عظيم لا أدري أهو سنان باشا ومعه مهندسون وبناؤون امتلكوا الذوق فبنوا المسجد على طراز (أيا صوفيا) فأيا صوفيا هي الكنيسة الكبرى في اسطنبول حولها إلى مسجد مما يعطي محمد الفاتح أنه في عداد الفاتحين، لأن أمية وسيف الدولة والسلاجقة وآل بويه والأيوبيين والمماليك لم يستطيعوا إسقاط روما الشرقية، فالذي أسقطها وجعل بيزنطة اسطنبول عاصمة مسلمة تعمر بالمساجد، وما كان إلا محمد الفاتح، فعيب أن نعد الملك الخامس في ملوك الإِسلام مستعمراً تركياً، فهل أنا الذي وطأني الاستعمار إنجليزياً وفرنسياً وإيطالياً ويهودياً وروسياً حين أصبحت المستقطب له أفتح أشداقي أتشدق على الذي أنهى حكم الرومان من أرض الإِسلام؟
السلطان عبد المجيد الذي بنى المسجد النبوي لم يبخل على المهندسين بشيء، لا أدري بماذا أصف المهندس الذي حرص وقد نصب الأسطوانة الجديدة تقوم عليها القباب، كيف لم يبعدها عن الأسطوانة القديمة، فكل الأسطوانات القديمة أزيح شكلها بناؤها وبقي وضعها وموضوعها، فمثلاً أبقوا أسطوانة أبي لبابة رضي الله عنه وغيرها، لم يأخذهم العجز أن يسأموا وإنما أخذهم الفن والذوق والتاريخ أن يستاموا. المسجد النبوي قلنا إنه على طراز بيزنطي، كآيا صوفيا، لا أدعي أني أطرح هذه المعرفة من علمي أو فهمي أو ذوقي، وإنما علمنيها أستاذ ومهندس، فالأستاذ هو شيخنا محمد عبد القادر الكيلاني التونسي المصري التركي اليوناني المديني، أخبرني أن المسجد النبوي على طراز رومي بيزنطي، كما آيا صوفيا، فقلت له لئن أضفت لي معلومة فقد أضفت لي مفهومة وهو أن المهندس حين رسم الطراز تجنب أي شبهة تجعل هذا البناء كأنه آيا صوفيا، يعني أنه رسم الفن وصب فنه على الفن..
أما المهندس الذي أكد هذا الخبر فهو المهندس المصري البارع راشد رستم، عرفته فأكد هذا الخبر، ولكن أريد أن أسأل المدينة شيبا وشباباً هل عرفوا أن الأسطوانات ذات اللون الأرجواني جلبت من بعيد؟ أم هي حجر المدينة؟ اليقين عندي أن أكثرهم لا يعرف، هذه الأسطوانات الأرجوانية من الحجر الرملي ليست صواناً ولا مرمراً، قاسية نوعاً ما، لينة بكل عطاء الماء، أتدرون من أين قطعوها؟ إنها في داخل (الجماء) لو سرتم إلى آبار علي وملتم إلى اليمين تدخلون في دحال أو شعاب الجبل الجماء فستجدون مقاطع هذا الحجر رأيتها وكبرت، أحترم القوة التي تفعل وأصفق للذوق الذي انفعل، الجماء هي الجبل على حافة العقيق من الغرب طولها من آبار علي إلى الطرف الأول من باحة الأعياص أي سلطانة أي مجمع الأسيال أي مكان الجامعة الإسلامية، هذه الجماء هي التي عناها سعيد بن العاص صاحب القصر الذي ترمل لا بفقد زوجة وإنما هو الأرملة نفسها، كأنه اليتيم لم يبق غيره حوله، رأيتها جداراً أو جدارين أكل منه الزمن، كبناء ولكن الزمن لم يأكله كتاريخ، قال الأمويون له وهم في دمشق: تعال إلينا، فقال:
القصر فالنخل فالجماء بينهما
أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
فجيرون من أسماء دمشق.
أما الأثر الثاني للسلطان عبد المجيد فليس هو عطاؤه للسيد صافي الجفري بين البيوت الكبيرة في الساحة، وإنما كان حين صك الريال المجيدي، أنهى به التعامل بالريال الفرنسي، لأن هذا الريال الفرنسي قد جلبته الحملة الفرنسية على مصر والشام، أعني حملة نابليون، فجزيرة العرب هي التي بقي التعامل لديها بالريال الفرنسي لم تتعامل به مصر ولا الشام، بل كان التعامل به في نجد والحجاز واليمن، وهو ليس ريالاً فرنسياً وإنما هو ريال نمساوي فالصورة التي عليه هي صورة الإِمبراطورة (ماري تريزه) إمبراطورة النمسا، أم الإمبراطورة (ماري أنطوانيت) فهي التي قصلتها الثورة الأفرنسية على المقصلة..
وهكذا تفعل الغوغاء:
تم طبع الريال الحميدي والريال الرشادي، كما شاعت العملة التركية الهللة واسمها يوناني (هالة لوه) كانت أولاً من النحاس ثم صارت من النيكل، والجنيه الذهب العثماني فقد عرفنا أشكالاً من الجنيهات الإنجليزي والعثماني والمسكوفي نسبة إلى موسكو والإِفرنسي واسمه (البنتو) إن العملة تطلق عليها أسماء المصدر أو الجالب فالجنيه في المغرب أطلقوا عليه اسم (لويزا) يعني لويس وبعض العامة يحسبون أنه تصغير (لوزة) إن الشام لم تتعامل بالريال الفرنسي ولكنها ورثت من حملة إبراهيم باشا على الدولة العثمانية يصل إلى سوريا ولبنان، فإذا هم يطلقون على النقد أو العملة في سوريا يطلقون (مصريات) في لبنان (مصاري) نسبة إلى مصر، وحتى إني كتبت مقالاً افتتاحياً في جريدة البلاد رداً على شيخ مسلم في لبنان بعنوان (لبنان المصاري أم لبنان المصير) أعجب الكبير فينا..
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
فلا زال غضباناً عليّ لئامها
نأتي للسلطان عبد الحميد تولي الأمر يرث تركة مثقلة بالديون، كما هو تعبير سعد زغلول، ثورة في البلقان الجيش الروسي على أبواب الآستانة، استقلال داود باشا في العراق، الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي الحرب في اليمن، مدحت باشا والدستور، مكث عبد الحميد ثلاثة وثلاثين عاماً، والأيام تلد كل يوم مشكلة. فاضطر إلى أن يكون صديقاً وحليفاً لألمانيا الإمبراطورية القوية فاستطاع بعون (بسمارك) ومطاوعة ((دزرائيلي)) رئيس الحكومة البريطانية أن يجتمع في برلين يطلبون من جيش الإِمبراطورة كاترين الروسي الانسحاب عن حدود الدولة العثمانية، وكان عبد الحميد قد أحاط نفسه برجال أربعة ظناً منه أنهم يسكتون أوطانهم عن الثورة عليه. وهم أبو الهدى الصيّادي شيخ الطرق الذي إذا أراد أحدكم أن يعرفه فليقرأ ولي الدين يكن في كتابه المعلوم والمجهول، وعزت العابد رئيس البابين يعني الديوان الملكي وهما شاميان أما الاثنان الآخران فهما السيد أحمد أسعد المدني ومحمد ظافر المدني الليبي، اتخذ منهما عوناً لتهدئة الحجاز وليبيا، ولعلّي أضع ترجمة لأسرة أحمد أسعد أخذتها من (قرمية الأنصاري) واسمها تحفة المحبين، ترجم الأنصاري لأسر في المدينة المنورة أضع هذه الترجمة الآن لأعقب عليها بعد بما فعل أحمد أسعد في الحجاز ومصر وبما فعل محمد ظافر في ليبيا وارثاً لما فعل أبوه حمزة ظافر.. وإليكم الترجمة للأسرة لنعرف أن أحمد أسعد لم يصل إلى هذا المركز من فراغ..
بيت السيد أسعد أفندي
((بيت السيد أسعد أفندي)) مفتي المدينة المنورة..
أصلهم أبو بكر أفندي بن أحمد بن عبد الله الأسكداري المجاور بالمدينة المنورة في حدود سنة 1040هـ قدمها على قدم التجريد والعبادة فنال بذلك الحسني وزيادة. سكن في رباط ((قره باش)) حتى صار شيخاً على الرباط المذكور. وأجرى شرط واقفه المسطور في جميعه الأمور. ثم خرج منه وتزوج الشريفة أم الهدى، أخت السيد إبراهيم المدرس المجاور الرومي. وأولدها السيد أسعد وأخاه السيد إبراهيم مات ولم يعقب في سنة 1115هـ.
وأما السيد أسعد المذكور فمولده كان في حدود سنة 1050هـ فنشأ وطلب العلوم من المنطوق والمفهوم، وبرع حتى فاق الأقران. وصار من الأعيان. وتزوج مريم بنت القاضي محمد مكي أفندي، ورزق منها عدة أولاد أمجاد، أكبرهم السيد محمد، والسيد عبد الله، والسيد إبراهيم، والشريفة فاطمة..
ولما رأى صهره محمد مكي أفندي [فيه] كمال الأهلية نزل له بمنصب الإِفتاء وعرض له إلى الدولة العلية، وذلك في سنة 1092هـ ثم رفع في سنة 1102هـ بالخطيب البري. ثم أعيد إليه ثم رفع في سنة 1116هـ بالشيخ حسن المنوفي المصري فتوفي معزولاً في 28 رمضان سنة 1116هـ فأما السيد محمد المزبور فمولده في سنة 1088هـ وجد واجتهد في طلب المعالي، فتولى منصب الإِفتاء بالمدينة المنورة في سنة 1118هـ إلى أن رفع في سنة 1125 بالخطيب عبد الكريم الخليفتي ثم سافر إلى الدولة العلية إلى أن استشهد ليلة المعراج 27 رجب سنة 1143هـ طعنه أحمد كحيلان بسكين عند رأس زقاق الزرندي فتوفي في 28 رجب.. وقبض على قاتله وشنق بباب المصري - قاتله الله تعالى..
وكان - رحمه الله [تعالى] - ذا أخلاق رضية وكمالات مرضية، يميل إلى الصالحين ويحب الفقراء والمساكين، وأعقب ولداً سماه عبد المحسن، وبنتاً سماها ((صالحة)) توفيت سنة 1187هـ..
فأما عبد المحسن فمولده في حدود سنة 1128هـ نشأ في حجر والده، وتزوج الشريفة نفيسة ابنة عمه السيد عبد الله.. وولدت له ولداً سماه السيد سعد الدين، مولده في سنة 1152هـ وقد تزوج الشريفة آمنة بنت السيد عثمان الصعيدي، ولم يولد له فلعلّه عقيم. وتوفي في ربيع الآخر سنة 1194هـ..
وللسيد عبد المحسن المذكور بنت أيضاً تسمى ((سعدية)) تزوجها عباس ابن الأخ علي الأنصاري، وهي موجودة الآن..
وله ولد أيضاً يسمى محمد من الشريفة فاطمة بنت مولاي المغربي الفيلالي. مولده سنة 1166هـ وتوفي في محرم الحرام سنة 1196هـ عن بنت قاصرة تسمى ((صالحة))..
ثم بعد وفاة السيد عبد الله تولى منصب الإفتاء السيد عبد المحسن.. وجاءته الرؤوس من شيخ الإِسلام وبقي مفتياً إلى أن امتحن في سنة 1182هـ بأن قبض عليه شاهين أحمد باشا وأرسله إلى مكة للشريف مساعد. ومثله السيد [سيف] كتخداي القلعة السلطانية سابقاً، وأحمد خضر، وعذيب وذلك في ليلة هلال رمضان بسبب غضب الشريف مساعد عليهم. فلما وصلوا إلى مكة وبخه الشريف بعد حبسه عنده أياماً إلى أن وصل الحاج الشامي فتشفع له عثمان باشا فسمح عنه الشريف ورده إلى المدينة بمنصبه، فوصل إليها في أول المحرم صحبة الحاج الشامي. وبقي بها إلى أن توفي في 28 محرم المذكور رحمه الله تعالى رحمة واسعة..
وأما أصحابه الثلاثة فأرسلوهم في الحديد إلى جزيرة القنفذة وحبسوا فيها إلى أن سمح عنهم الشريف فرجعوا إلى مكة في رجب الحرام. ما عدا السيد ((سيف)) فإنه توفي في البحر، ودفن بطرف الساحل..
وأما السيد عبد الله أسعد فمولده في حدود سنة 1090هـ ونشأ نشأة صالحة وجد واجتهد في طلب العلوم حتى بلغ منها ما يروم. وسافر إلى الروم في سنة 1135هـ وكان يدرّس بالمسجد النبوي.. وله نظم ونثر حسن وتولى الإفتاء بعد وفاة أخيه السيد محمد، وامتحن كثيراً من الأشرار ونفي في 4 محرم 1154هـ وتزوج الشريفة فاطمة المكية بنت السيد يحيى الأزهري، وولدت له محمداً في سنة 1144هـ وعبد الله في سنة 1155هـ ونفيسة، وأم الهدى، وعائشة..
فأما محمد فنشأ نشأة صالحة. وتولى الإِفتاء بعد وفاة ابن عمه السيد عبد المحسن من طرف الشريف، ولم يعرض له إلى الدولة، ولم يأته منهم تقرير فيها، فتوجه الخطيب تاج الدين الياس بنفسه إلى الدولة العلية وطلبها منهم، فوجهت له في محلول السيد عبد المحسن وذلك في سنة 1186هـ ثم رفعت عنه، ووجهت للخطيب عبد الله الخليفي بموجب أنه وكيل فراشة السلطان عبد الحميد في سنة 1188هـ وتزوج السيد محمد جفصة بنت الحاج عبد الله المغربي، وولدت له عدة أولاد وبنات هم اليوم موجودون على قيد الحياة..
وأما أخوه عبد الله فنشأ نشأة صالحة. وتزوج زبيدة بنت الشيخ أحمد ابن عثمان الحجار - ومات عنها في سنة 1175هـ..
وأما السيد إبراهيم أسعد فمولده في حدود سنة 1100هـ ونشأ نشأ صالحة. وكان يحب الصالحين والفقراء والمساكين، ويواسيهم بماله وحاله. وتزوج على الشريفة زينب بنت السيد يحيى الأزهري.. وولدت له بنتاً سماها سعاد. وتزوجت على الخطيب عبد الرحمن الخياري، وهي والدة ولده الخطيب علي الخياري. وبعد وفاتها تزوج الشريفة فاطمة بنت السيد أحمد ميرزا. وكانت عاقراً، ثم تسرى على جارية حبشية اسمها حبيبة، ولدت له ولدين ماتا مراهقين في عام واحد. وتوفي سنة 1180هـ..
وأما الشريفة فاطمة الأسعدية فتزوجت على السيد عبد الله السقاف باعلوي وتوفيت..
ملحوظة:
أستاذنا السيد محمد صقر كان واحداً من الأئمة المالكية وليس السيد أحمد صقر الذي كان من الأحناف كما ورد في حلقة سابقة.
--------------------------------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (7)
في عهد الملك عبد العزيز
عرفت المدينة نعمة الأمن
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات ليس فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
كان لـ.. القوزيته سلطان على السلطان
المركزية آفة الإمبراطوريات..
يتأتى منها الهمس ليكون بعد ذلك الانحلال
عهد العثمانيين
عبد المجيد وعبد الحميد ورجالهما
والمدينة المنورة لقيت عنتاً شديداً صبرت وصابرت فكلما اشتدت اللأواء فيها بقيت أسر صبرت على اللأواء، ومن اللحظة الأولى التي اغتال الجناة الخليفة الراشد، ثالث الخلفاء ذا النورين عثمان بن عفان، ومن اللحظة الثانية التي خرج من المدينة ساعتها الخليفة الراشد رابع الخلفاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن عثمان، من هاتين اللحظتين فرغت المدينة من حماتها، فإذا هي لا تخرج من فتنة إلا إلى فتنة، أهلها في داخلها ثائرون، وأهلها في خارجها يثأرون، والأقرب من حولها، إذا شبعوا أشبعوها، وإن جاعوا عبثوا بها، مئات السنين كان حال المدينة قد أبكى التاريخ فإذا الناس من الأمة المسلمة يتمذهبون، من هو أموي ومن هو عباسي ومن هو طائفي، فلا تجد إلا الذين ارتضوا هؤلاء ولا تجد إلا الذين أبغضوا هؤلاء، كأنما المدينة التي انبعث منها نور النصر وهداية الفتح قد انبعث منها ذلك الشقاق، وعجيب أن يكون فيها المسجد الثاني في الإِسلام بعد المسجد الحرام، والأول للمسلمين قبل المسجد الحرام، فالعجب ألا يخشى العابثون من حرمة المسجد، ولا يحترمون ثراها وروضتها وبقيعها والحجرة وما إليها، لكن المسجد النبوي هو العجيب أيضاً فحين خرج علي بن أبي طالب بقي فيها عبد الله بن عمر وأُبي وزيد بن ثابت، كانت حياتهم ولو ماتوا حياة العلم في المسجد، وحين هتكت المدينة في وقعة الحرة، كان المسجد عامراً بسعيد ابن المسيب ومن بعده عروة بن أذينة وربيعة الرأي وابن حزم، لا أدري هو أبو بكر أم عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعلي زين العابدين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، كان المسجد عامراً بهؤلاء، حزانى، لكنهم أضحكوا الفقه وابتسم لهم التاريخ، حين قتل المنصور محمد بن عبد الله ((النفس الزكية)) داخل المدينة كان المسجد عامراً بمالك بن أنس يصل إليه سفيان بن عيينة وعطاء بن رباح وحتى سفيان الثوري وحتى أبو حنيفة، كأنما المسجد بطهره ينادي الطاهرين وينأى عن الآخرين، مالك بن أنس إمام دار الهجرة من شيوخه جعفر الصادق، ولماذا أنسى أول أشياخه وألصق أشياخه نافع مولى ابن عمر؟ ومالي أنسى الذي عانق قبره قبر ابن أنس، القبر بجانب القبر في بقيع الفرقد ألا وهو نافع مولى ابن أبي نعيم حافظ القرآن، الأول في الحفظة السبعة. ويخلط بعض الأدلاء يقولون لمن يزور القبور هذا قبر نافع مولى ابن عمر.. لا.. ولا، إنه قبر نافع ابن أبي نعيم، كأنما المسجد حظيرة، أو كأنما الروضة الجنة كان بهما المسجد صوناً ونعيماً على علمائه، من هنا قلت إن الإِمام في المسجدين والمربدين قد انفصل عن السلطان ليتم على يديهم ما تم من هذه النعمة ملأت كتب التراث فقه الأئمة موطأ مالك كتاب سيبويه صمود الثوري والحسن البصري.
وي.. لا تعجبوا من الإِسلام ومساجده فكلهم بهذا الإِسلام قد صانهم الإِسلام فصانوه وازدانوا به.. وحتى في آخر الأيام وفي أيامنا نحن تتخطف الفتنة الرجال ويرحل الناس إلى الشام ولكن المسجد بقي عامراً يسأل عمن فيه ولا يكترث بمن حوله فما زال عامراً بالبري والبرزنجي والكماخي وألفا هاشم وحميده والعايش والإِخميمي ومحمد صقر، علماء.. المسجد بيتهم بل إن بيوتهم طوقها المسجد.
هذه المقدمة لها ما بعدها.. أوله عن الرخاء والاستقرار نوعاً ما وبلا أمن ما أيام السلطان عبد المجيد وأيام السلطان عبد الحميد ودعوني أرفع رأسي بالكلمة الصريحة لا أجدف فيها لعبد العزيز بن عبد الرحمن ولا أتملق بنيه وإنما هو صدق التاريخ بصريح القول أرفض الذين يقلدون تميماً بسب خالد بن الوليد من أجل مالك بن النويرة، أو حنفياً يكره خالد ابن الوليد من أجل مسيلمة إن المدينة المنورة بما ذكرت من قبل لم تستقر أحوالها ولم يتسع مجالها ولم يأمن رجالها إلا حين رد لها الاعتبار عبد العزيز بن عبد الرحمن أمر واضح لو أنكره هاشمي لقلت منشداً:
ولو أني بليت بهاشمي
خؤلته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى، ولكن
تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
لقد بلينا بالذين ليسوا في العير ولا في النفير، وإنما هم لو تنافروا مع قبلي يلبس شملة لا تغطي أرساغه لنفرهم ولقال لهم: من أنتم؟ فلن يقولوا إلا ((نحن الأهالي)) ((اثنين أهالي واحد شرقي)) إن عبد العزيز بن عبد الرحمن لا أستعجل بذكره الآن فذلك سيأتي وقته، ولكني وشرحاً للمقدمة وحسرة على ما كان بها أقول: إنه من الساعة في ضحى نهار السبت التاسع عشر من جمادى الآخرة أو من هو الأولى، إن خانتني الذاكرة، من ذلك اليوم يوم السبت التاسع من جمادى سنة 1344 هجرية، أصبحت المدينة تعيش الأمن والاستقرار وآلاف الحجاج يصلون للمسجد بلا إتاوة ولا خفارة ولا يقتل في الساحة المناخة قتيل، لا يعني به عسكري ولا يقاد قاتله إلى حاكم، ففي يوم واحد رأيت ثلاثة قتلوا وكأنهم لا شيء..! ابن سمرة شيخ بني رشيد قتل في المناخة أمام الكباس، وظل ساعات لا يحمله المسلمون إلى قبر، وفي حوش درج بعد ساعة قتل محمدي وبعد العصر قتل رحيلي، فلا عسكر ولا أمين ولا قائمقام. أما اليوم فلا قتل وإن وقع فالقصاص.
السلطان عبد المجيد
ونعمت المدينة برخاء منذ تولي السلطان عبد المجيد يبني المسجد النبوي تكثر الخيرات يهدأ الناس إلا في بعض الحالات لعوامل الشحنات التي بقيت، فعصر عبد المجيد يحمد للعثمانيين غير أن الأمن لم يستتب لسلطان القوة وإنما هو بشيء من الرخاء، فالشحناء بهذا التنابذ بين سكان المدينة ((أهالي مجاورين وتكارنة وبدو))، مع أن الأهالي والمجاورين والتكارنة لم يكونوا إلا أبناء المجاورين، هذا التشاحن مات الآن فعهد السلطان عبد المجيد كان خير العهود العثمانية، لم يتفوق عليه إلا عهد عبد الحميد، وقد كان من رجال عبد المجيد جمل الليل وسنتحدث عنه بعد، والسيد الصافي الجفري وإن بدأ دور أحمد أسعد يتحرك ليصل إلى الذروة في عصر عبد الحميد.
السلطان عبد الحميد
وانتشر الرخاء في المدينة في عهد عبد الحميد، أوصل إليها السكة الحديدية والتلغراف والمدرسة والعطاية، ولم تكن هذه العطاية من ميزانية أي دولة بل هي من أوقاف المسلمين، منعها حكام الأقاليم عن الحجاز يوم اشتعلت القومية بل وامتنع عنها عبد العزيز لا يطالب بها.
إن السلطان عبد الحميد كان هو عنوان الرجل المريض، اللقب الذي أطلقه الأوروبيون على الدولة العثمانية ولئن جفونا الاستعمار وحملناه الكثير من الأوزار، فإن السلطان عبد الحميد عليه مسؤولية ذلك، لأن المركزية العارمة أثارت عليه البلقان لو أدرك ما تحيكه بريطانيا وفرنسا وما فعلته إيطاليا باحتلال ليبيا بعد أن احتلت بريطانيا وفرنسا الشمال الإفريقي، لو التفت إلى ذلك لأعطى دول البلقان استقلالها فبدل أن تكون مستعمرة تصبح صديقة ولما جرت مذبحة الأرمن، ولما ذر قرن القومية العربية ولما اضطر أن يجامل الخديوي في مصر. إن المركزية آفة الإمبراطوريات، يتأتى منها الهمس ليكون بعد ذلك الانحلال.
إن السلطان عبد الحميد ظن أنه في منعة لصداقة ألمانيا وبموقف بسمارك بالذات، حالف ألمانيا، حتى أخذت امتياز خط برلين بغداد فإذا بريطانيا تتنمر لأن وصول الألمان إلى الخليج عن طريق بغداد معناه الوصول إلى الهند وما إليه، قطعت الطريق على ألمانيا وفتحت الطرق لهولندا، في أندونيسيا، فكان الشرق أتت منه الحرب العالمية الأولى تهزم ألمانيا وتتمزق الدولة العثمانية، لأن الاتحاديين وكانوا عسكراً تخرجوا من أكاديمية ألمانيا اتكلوا عليها حتى إذا هزمت كانوا منهزمين.
أما الرجال عند عبد الحميد فهم كما قلنا من قبل أبو الهدى الصيادي، وعزت العابد وأحمد أسعد، ومحمد ظافر وسنترجم لكل واحد منهم له وما عليه.
وما زلت مع عبد الحميد، فالرجال الذين حواليه بعضهم كان معه ولم يكونوا له وإنما كانوا عليه، وبعض الرجال كانوا له ولم يكونوا معه، وما كانوا عليه.
وهكذا يمضي الأباطرة يحسنون الظن بالذين لا يستأهلون ذلك ويسيؤون الظن بالذين يستأهلون حسن الظن، فالذين كانوا معه وكانوا عليه هم الطرقيون، أبو الهدى الصيادي ومن إليه والبكتاشية الذين هم أنصار مصطفى صبري شيخ العلماء الأتراك. إن أبا الهدى الصيادي جر على السلطان عبد الحميد أن يصبح الرجال الذين كانوا له وما كانوا عليه بعيدين عنه هو أبعدهم من حيث إِنه لم يتقبل نصحهم، أبعد مدحت باشا إلى الطائف وعبد القادر كردي إلى المدينة، فإذا الأكراد والشباب من الترك غاضبون. حتى الأغوات كانوا يفرضون سلطانهم على كل من يقترب من السلطان. لأنهم يستمدون سلطانهم من ((الحرمليك)) وكان عبد الحميد يسمع للحرمليك، خصوصاً إذا كان الكلام من السيدة الأولى في ((يلدز)) القصر الإمبراطوري، إن هذه السيدة واسمها ((القوزيته)) أي الوردة الحمراء، كانت ذات سلطان على السلطان لها حظوة، والحرمليك كلهن حولها.
لقد كان الصدر الأعظم من أذكى الرجال في عصر عبد الحميد وهو ((دلي فؤاد)) اسمه فؤاد لقبوه بالمجنون لفرط ذكائه ولدقة أحكامه فكلمة ((دلي)) بالتركية تعني المجنون، إن هذا الصدر أي رئيس الوزراء كان يعالج الغزو الروسي للدولة العثمانية فالإمبراطورة كاترين التي خلفت زوجها بطرس الأكبر على عرش الروس حشدت جيوشها على الأناضول، ضربت حصاراً على القسطنطينية، لقد جلس دلي فؤاد يفكر ينتظر ما ينجم عن مؤتمر برلين بين بسمارك موحد ألمانيا ودزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا وهو يهودي تظاهر بالتمسح، وكان رئيساً لحزب المحافظين، كان دلي فؤاد يفكر ينتظر أن تسحب كاترين جيوشها أو أن أمراً آخر سيحدث وبينما هو كذلك مر كبير الأغوات الحارس الأول للحرمليك، فقال لدلي فؤاد ((إيش فيه يا باشا؟)) فقال الصدر الأعظم: ((خليك في حالك.. ما في شيء)) وانتفخت أوداج الآغا كيف يجيبه دلي فؤاد هكذا، وما كاد يلتفت ليذهب إلى الحرمليك حتى فطن دلي فؤاد إلى خطأ كبير كيف ينهر كبير الأغوات، سيذهب إلى الحرمليك يثير عليه ثائرة القوزيته، يغضب السلطان لربما يقيله أو لربما يستقيل.. كيف هذا؟ كيف فعل ذلك وهو ينتظر انسحاب الجيش الروسي فأسرع ينادي كبير الأغوات: تقول إيش فيه؟ مع إنك أنت شايف الجيش الروسي على أبواب الآستانة، فأنا أفكر في ذلك، فقال الآغا الكبير ((يوه.. يوه يا باشا دحين مولانا بندر الصنجك.. علماء كبراء فضلاء يقرأون مثنوي بعدين روس.. هوف.. هوف.. هوف.. الصنجك يعني البيرق والمثنوي لجلال الدين رومي الذي كان في ((قونيا)) عاصمة السلاجقة والأم الأولى لبني عثمان.
وسمع دلي فؤاد كلام الآغا فقال الكلمة المشهورة يرويها الأتراك الآباء للأبناء رفع رأسه للسماء يدعو يقول: ((يا رب يا تديني عقله أستريح أو يأخذ عقلي يجنن)) هكذا كان الإِمبراطور، ومع كل ذلك أحبته الشعوب المسلمة، وثار عليه من رأوا انحلال الإِمبراطورية إذا ظل الحال على هذا الحال، فولي الدين يكن الشاعر الناثر المصري استعراقاً التركي إعراقاً له كتاب اسمه (المعلوم والمجهول) فمن أراد أن يعرف الكثير عن السلطان عبد الحميد وعن أبي الهدى الصيادي فليقرأ المعلوم والمجهول، وما كنت أعرف هذا الكتاب ولكن أهدانيه الصديق كامل الخلق عبد الوهاب آشي يرحمه الله.
هناك فقرة أحفظها من هذا الكتاب تعني ما يلي: ويصدر أمر السلطان إلى محمد الجركسي ليقود فلان كما الآخرين يمسك به الجركسي يضعه في شوال مثقل بالحديد يرميه في البسفور طعام الحوت. ولا تمضي أيام حتى يصل رسول السلطان إلى بيت هذا الزعيم الهالك يقول لأهله ((إذا غاب حاميكم فأمير المؤمنين حاميكم)) هنا يقول ولي الدين ((يا رب)) إنهم يخدعون عبادك يسرقون منهم الدعاء للسلطان، إنهم يخدعون المساكين ولكن أنت القاهر فوق عبادك.. المنتقم من الظالمين من هنا قال حافظ إبراهيم الحكاية الهلكى في البسفور طعام حوت، قال هذا البيت من قصيدة طويلة:
مشبع الحوت من لحوم البرايا
وفجيع الجنود تحت البنود
صدق حافظ لأنه لم يكن لعبد الحميد جيش، أما الذين كان لهم جيش بعد فالاتحاديون، لأنهم كانوا ضباطاً فكونوا جيشاً عظيماً برز منهم قواد كبار، وضباط عرب لم يكملوا التعليم، فالضباط الكبار من العرب ياسين الهاشمي وأخوه طه الهاشمي وسليم الجزائري وعزيز علي المصري أما الذين لم يكملوا كلية أركان الحرب فنوري السعيد وجعفر العسكري ولا تستغربوا حين أقول لكم إن أمين الحسيني الزعيم الفلسطيني كان من هؤلاء الضباط ((نم زاد)) أعني الذي لم يتم الدراسة عرفت هذا من صديقه حسني العلي المقدسي المديني كان صديقاً لأمين الحسيني رأيت هذه الصداقة حين زار أمين الحسيني المدينة لم يفارق حسني العلي إلا ساعات قليلة.
رجال عبد الحميد
أكتب عن أولهم لأن الكتابة عنه تعنيني، هو محمد ظافر والد صديقنا نجم الدين ظافر. فهو مديني من بيت كبير في المدينة لهم زعامة أو قيادة ((السبهية)) يعني الخيالة لأنهم الوجاق الأول من الأربعة الوجاقات، وكان سعود دشيشة هو رأس الوجاق السباهي بعد ظافر، إن محمد ظافر ليست له ترجمة عندي وأول ما عرفت عنه هو ما علمته عن أبيه حمزة ظافر فلقد وقع في يدي خبر في جريدة ليبية فيه أن أول من أنهض الليبيين وبصرهم بما ينبغي هو حمزة ظافر المدني قدرت أنه والد محمد ظافر الرجل الثاني عند السلطان عبد الحميد، الأول أحمد أسعد، وأردت أن أعرف أكثر عن حمزة ظافر فتلفنت للسيد عبيد مدني بقية الناس أسأله فقال هذا صحيح مذكور في كتابه عن تاريخ طرابلس الليبية، ولم يسكت السيد عبيد مكتفياً بالإِجابة المتلفنة وإنما أعطاني هذا الكتاب، فعرفت قيمة حمزة ظافر كيف أنهض الليبيين على صورة غير صورة ما أحدثه محمد السنوسي، ومع هذا فلئن كان محمد ظافر مدنياً فإن محمد السنوسي مكي مستعرق وإن كان مغربياً إعراقاً، وخلف محمد ظافر أباه في ليبيا حتى إن ليبيا أصبحت عثمانية وكأنها قطعة من الأناضول، ابنها بشير السعداوي ينصب قائمقام ينبع، الصلة متينة مكينة بين الليبيين والعثمانيين حتى إن أنور باشا وعمه خليل باشا ومعهما شكيب أرسلان كانوا سنداً لأحمد السنوسي في مقاومة الغزو الإِيطالي، وكلهم كانوا رجالاً بلا جيش فانسحبوا.
وللذكرى أيضاً فإن ما أعرفه عن ثلاثة من المصريين كانوا مشتركين في الدفاع عن ليبيا، أولهم عبد الرحمن عزام الذي كان ليبياً أكثر من أي ليبي ومغربياً أكثر من أي مغربي، وحافظ عفيفي، وسيد كامل، حافظ وسيد انسحبا أما عبد الرحمن عزام، فقد كان في القاهرة ردءاً وعوناً لكل المغاربة ليس أولهم أبو رقيبة وليس آخرهم بشير السعداوي.
وانتهى عصر عبد الحميد وبقي لمحمد ظافر ابنه نجم الدين في المدينة وأحفاد في ليبيا عرفت منهم واحداً كان يعمل في جدة وفي السفارة الإِيطالية. والليالي من الزمان حبالى وإلى تكملة أخرى.


-------------------------------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (8)
في العهد العثماني: لا يسعل الموظف إلا بإذن السلطان.
ـ أستاذ الرياضيات يدرس التاريخ.. والمعمم يفك اللوغاريتمات.
ـ مذهب إمام دار الهجرة.. عاش الغربة في دار الهجرة.
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
ومن المآخذ التي حسبت على أواخر العثمانيين أنهم، قادوا الشعوب العربية برجال لهم زعامة نصبوا كل واحد منهم حاكماً على إقليم فإذا السلطان يقر هذا بل ويحميه من غضب الشعب، في سوريا (اليوسف) صاحب سلطان في دمشق، وفي لبنان (بشير الشهابي) وفي عكاظ نصب على أغلب فلسطين (الجزار) وفي مصر (الخديوي) وفي تونس (الباي) وفي الحجاز (شريف مكة)، ولم يكن ذلك إلا امتيازاً تقليدياً لهذا الزعيم، ولا يعني الحكم الذاتي للإقليم ولا حتى قبول الشكوى من الشعب، يكفي أن هذه الأقاليم عثمانية في المظهر..
وعجيب أن نتهم الاستعمار الإنجليزي والفرنسي بأنه هو الذي قسم أرض الشام ((سوريا.. فلسطين.. لبنان)) إن هذا التقسيم تم في عهد الدولة العثمانية، وظاهرة أشد غرابة أن حاكم الإقليم لا يستطيع أن يعين موظفاً أو يفعل شيئاً من ذلك إلا بعد أن يستأذن السلطان في مركزية صارمة ولا مركزية ظالمة يتمتع بها الحكام، ويفعل بها ما يريد من مطالبه.. ومن قوة هذه المركزية ما حدث بالنسبة لتعيين أستاذ الرياضة في مدرسة المدينة التي أسسها السلطان عبد الحميد، وكان يضيف عليها، كل سنة فصلاً أعلى فاحتاجت المدرسة إلى أستاذ رياضة عالية.. فكتبوا الطلب إلى الديوان السلطاني (المابين) فوصلهم الأستاذ الذي طلبوه معلماً للرياضة العالية، فإذا هو شيخ معمم بكاتاشي، لا يعرف من الحساب إلا عدد المجيدات يقبضها راتباً له، وفي الوقت نفسه طلبوا أستاذاً للتاريخ والأدب فوقعت القرعة أو المصادفة على الأستاذ الرياضي بشير فؤاد، المعمم يقبض راتب الرياضي، والرياضي يقبض راتب المعمم، ووضعوا الحل أعطوا المعمم دروس التاريخ ونهض بشير فؤاد العالم الرياضي بحق يعلم الجبر والمقابلة واللوغاريتمات وكان من أنبغ تلاميذه صديقنا (كامل هاشم) وهو ليس من بيت هاشم الموسويين أهل البيت الكبير في الساحة، وإنما هو اسم أبيه هاشم.. أدى الامتحان صواباً بكل معنى الكلمة، وكان بشير فؤاد يعجب بكامل لأنه رياضي أيضاً، وظهرت النتيجة، كل التلامذة خمس من عشر.. ست من عشر، ولا أكثر، إلا إجابة كامل عليها شرح (برافو.. برافو.. برافو.. أفرين.. أفرين) ووضع العلامة على الجواب الصحيح تسعة من عشرة، فراجعه تلميذه كامل، يراطنه بالتركية.. كيف يا أستاذ تعطيني تسعاً من عشر، لازم أنا عشر من عشر.. فضحك بشير فؤاد، وأجاب تلميذه.. لا.. لا عشر من عشر بشير فؤاد، أنا لما أعطيت تسعاً من عشر يعني أنت بشير فؤاد رقم اثنين)..
هذه القصة حدثني بها كامل نفسه، وكلمة (أفرين) حرفتها العامية العربية حيث نقول (عفارم عليك) ومادام الشيء بالشيء يذكر فقد كنا نحن الأربعة المحمدين، ندرس الرياضة العالية على أستاذنا حسين طه في سطح المدرسة، نستعين على الفانوس بنور القمر، نصلي المغرب في المسجد.. خطوات قليلة إلى المدرسة.. نركض على الدرج نجد الأستاذ قد جلس، كنا نحيا ذلك والمدينة محاصرة، الدويش في قباء والفرم في العوالي والنشمي في العيون والمدينة محكومة بحكام أربعة كل على حاله..
وفي إحدى الليالي ونحن نقرأ، مرت على سماء المدرسة قنابل ثلاث، واحدة بعد الأخرى أطلقتها قلعة (سلع) على جنوب المدينة فقلنا، ليس ببعيد أن تسقط وشهدنا أيضاً - ولله الحمد - الخلاص من التتريك ومن بعثرة الحكام إلى ما نحن فيه الآن..
وعن حكام الأقاليم يذكر ساطع الحصري - أبو خلدون يرحمه الله - أنه، ويعني ((اليوسف)) حاكم دمشق والشهابي حاكم لبنان أو هو الأمير والجزار حاكم عكا، قد اجتمعوا في عكا يخططون لثورة ضد السلطان يفصلون فيها الشام عن الأناضول ثم يفصلون الشام قطعة.. قطعة يلبسها الواحد منهم. يقول ساطع الحصري: لقد اجتمع هؤلاء ولكنهم تفرقوا سريعاً لأن قبائل عربية زحفت من نجد على الشام عن طريق بادية الشام، فإذا بهؤلاء الزعماء يرجعون إلى عواصمهم وهم يقولون (الوهابية.. الوهابية)، إن ساطع الحصري يورد هذا الأمر بأن آل سعود وبعقيدة السلف هم كانوا قوميين عرباً، وأنقذوا الدولة العثمانية من الثورة الشامية وعاش ساطع الحصري حتى كانت الشام المعول الأول الذي هدم الدولة العثمانية، كان ساطع الحصري فرحاً بذلك لأنه قومي ولو عاش إلى الآن لترح من ذلك لأنه ليس إقليمياً..
الرجال
والرجال الذين نتحدث عنهم في الذكريات، ينبغي أن يكون الحديث شاملاً عن المكان الذي هم فيه والمكان الذي لهم والإِمكان الذي تسلطوا به، فلهم إحسانهم وعليهم أخطاؤهم..
إن المدينة المنورة ظل قضاؤها - أي محاكمها الشرعية وعن طريق الوارثة القديمة للإِمارة ذوي حسين الجمازيين التي عاشت دهراً طويلاً - ظلت هذه المحاكم وقضاؤها على فقه الإِمامية، يعني فقه جعفر بن محمد الملقب (بالصادق) مؤسس المذهب الإِمامي، وعندما اضمحل سلطان الأشراف ذوي حسين، بسبب النزاع فيما بينهم حتى هاجر بعضهم إلى مصر فأقطعهم السلطان - وأحسبه ((الصالح أيوب)) - أرضاً في أقصى الصعيد هي قنا فانتشروا فيها إلى الآن، وبعضهم نزحوا إلى الوارقية والحفنة وبعضهم مكث في العوالي، فحانت الفرصة بهذا العجز وبسلطان القوة التي ملكها (ابن فرحون) فألغى القضاء الشيعي وأصبحت المحاكم على فقه المذاهب الأربعة، حنفياً في الأكثر تبعاً للسلطان وأحياناً شافعياً أكثر ومالكياً أقل وحنبلياً نادراً..
وعجيب أن يكون مذهب إمام دار الهجرة قد عاش الغربة في دار الهجرة، قلتها وكنت جالساً في بعض الكليات وفي مكة زائراً وجاء أستاذ طويل عريض قد أرخى لحيته وما صغرت عمامته يقول لمأمور المكتبة الباكستاني: خط مسند أبي حنيفة ومسند أحمد، فقلت بحرقة وأين موطأ مالك؟! فقال الشيخ (بعدين.. بعدين) قلت: لقد أنصفت مالك حين سجلت لنا أنه يعيش الغربة في وطنه.. أحسبك ما ذكرت أحمد بن حنبل إلا تزجية ولا تزكية من هيبة مشايخنا، فازور واكفهر وقال للمضيف.. من هذا.. من هذا؟! ((يعنيني))، قلت له: طالب علم من دار الهجرة وعلى مذهب مالك، فانصرف غاضباً، ولكني أدعو له يرحمه الله..
إن ابن فرحون أرخ عن هذه الحقبة وكتابه موجود ومخطوط، فأرجو الجامعة الإِسلامية أن حال ما في أواخره عن طبعه فلينهض رجال يلخصونه تحت عنوان (خلاصة تاريخ ابن فرحون أو ما إليه) خروجاً من الحرج وخروجاً من أن يطبع جزء من الكتاب ولا يطبع الباقي، فالتلخيص جائز، فمن أعاظم الكتب ما لخص..
وصنيع ابن فرحون واللفيف الذي التف حوله في داخل المدينة، أشاع نوعاً من الضغط على بعض أهل المدينة القدامى سواء كانوا من الأشراف أو من غيرهم..
وسمعنا عن السيد جمال الليل لعلّه من بقايا عصر عبد المجيد وأكثر عصر عبد الحميد أو الجد الأعلى قبل ذلك. جمال الليل ننطقها في المدينة (جمل الليل) هو من أعيان السادة (آل باعلوي) عظم نسلهم في حضرموت كثرة ومكانة وإمكانة..
فالسيد في حضرموت له المقام الأول، وانتشر أعيان منهم في ماليزيا وأندونيسيا (كالكاف والسقاف وجمل الليل) وانتشر في المدينة وفي مكة، ولهم احترام كبير، فالحبشي والعطاس والسقاف والبيتي والمحضار والبار وباروم وباجنيد والجفري، كل هؤلاء يحفظون نسبهم وهم أشد الأشراف صوناً لشجرة النسب، وهم من ذرية الحسين بن علي، فالحسينيون أشراف المدينة الأولون وآل باعلوي والبطاطخة والمخادمة في قنا وآل بدر الدين في بخارى والكتانيون في المغرب كل هؤلاء حسينيون. وكان لآل باعلوي امتياز، فشيخ السادة في مكة وفي المدينة هو منهم، وعرفت في المدينة أول شيخ لهم السيد علوي سقاف جد السيد عمر السقاف الوزير ثم السيد عبد الله جمل الليل ثم السيد بافقيه، ولا أدري بعد أن خرجت من المدينة من هو الشيخ..
وما ذكرت جمل الليل إلا لأنه حمل عصاه كأنما هو ورث ابن فرحون اشتد ضغطه على الشيعة، لماذا كان ذلك، لو كان الأمر متعلقاً بغيره لما سألت، إن هذا السيد له البيت الكبير قصراً فخماً في مقعد بني حسين على حافة السور الغربي للمدينة بمحاذاة باب المصري، هو من القصور التي تعد، ولا يكاد يشبهه في المدينة إلا بيت البري على حافة العنبرية وأمام مسجد الغمام وبيت الرفاعي في شرق المدينة على حافة السور كأنما بيت جمل الليل وبيت الرفاعي قلعتان، إني أسأل كيف استطاع جمل الليل الجد الأعلى لهذا البيت أن يملك هذا في مقعد بني حسين، وقد كان هذا المقعد سكناً للذين سمي باسمهم، هل اشتراه من مالكه الأول الحسيني؟ ولعلّه كان قصر الأمير، هل ملكه بالوراثة؟ لأنه نمى إلى علمي أن جدته (من بيت سبتي) الذين هم كبيت النحاس والمشيخ من أقدم بيوت الشيعة.. إن هذا البيت يغري كل من رآه أن يقول (يا ليت لي بيت زيه) هو أشبه ما يكون ببيت موسى بغدادي في جدة الذي أصبح مكاتب جفالي ومن إليه، وليس هو شبيه بقصر شبرا أو القصر المشنشن في مكة يعني القصر المحروق (أيضاً ((جفالي أخوان))).
السيد الصافي
ومن رجال عبد المجيد ولم يلحقه أذى في عصر عبد الحميد هو السيد الصافي الجفري، عاش كثيراً في اسطنبول وارتبط بصداقة قوية مع جمال الدين الأفغاني وفي عصر عبد الحميد صار شيخاً في المدينة، أنا شهدته عام 34 هجرية ولما أكمل العاشرة كان يركب عربة يدفعها خادمه لأنه لا يستطيع المشي، بنى بيوته في الساحة، واقتنى أغلى المجوهرات يقولون (ثلاث عرايس في المدينة يمكن أن يتحلوا بمصاغ جارية من بيت الصافي) أدوات المائدة ما أحسب أنها موجودة عند أحد الآن، لأن الترف ضاع بشيء من السرف لبسه الاستعجال لا الذوق، ابنه زين صافي الأكبر وابنه أحمد كان أحد الطلائع في المدينة..
جعفر حبشي ابن السيد علي، أحمد الصافي، عمر كردي قبلهما، عبد الله مدني، يحيى محروس، حمزة غوث، دياب ناصر، علي ناصر أحمد كماخي، حسن داغستاني، كانوا فبانوا يرحمهم الله.
وللسيد الصافي طرفة فيها كبرياء، كانت مع السيد أحمد أسعد وللسيد الصافي شهادة عن علاقته بجمال الدين الأفغاني، وجمال الدين الأفغاني يرحمه الله أدى فريضة الحج مسلماً ناصر عقيدة السلف ناضل عن الإِسلام ولكن الطرقيين والمتحذلفين والصبية المغفلين يتسافهون عليه، حتى أصبح الموت لا حرمة له..
الطرفة مع السيد أحمد أسعد أنه عندما تولى رشاد واستغول الاتحاديون رجع السيد أحمد أسعد إلى المدينة فزاره السيد الصافي وإذا هو يرى على السيد أحمد (صاقو) أي الجاكيت الذي يرتديه من السليمي أغلى الصوف وأغلى الحرير فلما انتهى السيد الصافي من كرامة التزاور دعا السيد أحمد إلى الغداء في بيته الكبير في الساحة واسمعوا ماذا صنع أو اقرأوا.. (أهي التلفزة والإذاعة حملتني أن أقول اسمعوا بدلاً من اقرأوا؟!).
أعد المائدة في المجلس الأعلى ليكثر عدد الدرج، لماذا؟ لأنه فرش الجر السليمي من باب البيت عتبة عتبة إلى المجلس الفوقي بهذا القماش الحرير السليمي الذي كان الحزام فيه - في ذلك الزمان بأكثر من مائة جنيه ذهب أفكم قيمة هذا الجر السليمي الذي فرشه السيد الصافي حليته على الدرج تحية للسيد أحمد أسعد أو هو يقول له هكذا صنع لي عبد المجيد فماذا صنع لك عبد الحميد.
شغل أكابر:
أما عن جمال الدين فقد كنا عصر يوم عند الشيخ عبد القادر طرابلسي وكان المجتمعون ماجد عشقي حسين طه أحمد صقر محمد زيدان عثمان حافظ، وجرى الحديث فإذا الشيخ يسب جمال الدين لأنه كان صديقاً ليوسف النبهاني، فالشلبي والنبهاني لهما رأيهما في جمال الدين، فقال الشيخ عبد القادر: وهابي جمال الدين ما يحب النبي، فنهض السيد أحمد صقر يقول: لا يا مولانا رأيت بعيني كتاباً من جمال الدين إلى السيد الصافي جاء فيه (لقد أديت فريضة الحج وحبسني حابس الفيل عن المسجد النبوي فأرجوك أن تقف أمام قبر رسول الله تقرئه سلامي تقول ((تابعك خادمك جمال الدين يقرئك السلام)) وأشرقت وجوه واكفهرت وجوه.
اللَّهم امنعني عن سب الأموات وارحمني بالكف عن أذى الأبناء بسبب الآباء..

----------------------

طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (9)
الملك عبد العزيز لم يصادر ملك أحد من الأشراف
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها ((الأنا)) وإنما كلها الـ ((نحن)).
السيد أحمد أسعد:
وليس أحمد أسعد أول الرجال عند السلطان عبد الحميد إذا نظرنا النظرة العامة بالنسبة لشؤون الدولة العثمانية وإنما هو أول الرجال بالنسبة لما فعل في الحجاز وفي مصر.. كان طوال حياته التي عاشها - أيام السلطان عبد الحميد - مكلفاً بما ينبغي للحجاز أو بما يريده السلطان عبد الحميد وفي مكة كان الشريف عون الرفيق عبدلياً من أبي نمي استطاع أحمد أسعد أن يسحب صلته بمصر لأن أسرة أبي نمي العبدلي كانت ذات علاقة قوية بأسرة محمد علي وبكثير من المصريين لأن محمد علي هو الذي نصب محمد بن عون بدلاً عن الشريف غالب.. ولكي يحافظ الشريف عون الرفيق على إمارته لم يجف مصر كل الجفوة وإنما هو تعلق بأحمد أسعد فإذا هو يخطب ابنة السيد أحمد أسعد وأحسب أن اسمها فاطمة زوجاً للشريف عبد العزيز بن عون الرفيق.. كانت هذه المصاهرة التي أعطت للشريف عون الثبات على إِمارته فلم يعزل رغم كثرة الشكوى منه إلى السلطان فأيما شكوى وصلت إلى السلطان عبد الحميد يراها أحمد أسعد برغبة السلطان وآخر شكوى وصلت (إلى المايين) كانت مضبطة وقعها أعيان مكة عرفت منهم عن طريق الرواية عميد آل الشيبي لا أدري أهو عبد القادر أم غيره والشيخ عابد مالكي ومن إليهم أخذ المضبطة أحمد أسعد وأرسلها للشريف عون فإذا الشريف يدير الأمر بحكمة فلم يدع أحداً من هؤلاء الذين وقعوا المضبطة بل أمر محمد عبد الواحد الكاتب والد درويش كاتب أن يخبر هؤلاء بأن الشريف علم عنهم فخافوا بطشه وخرجوا إلى الطائف.. وهنا العجب.. كيف أمنوا في الطائف هل لأنه تركهم أم لأن نفوذه ليس قوياً على الطائف.. على ثقيف.. على بني سفيان.. على النمور سيان ولكن عون أقسم أن يرفعوا الأقلية عن الأكثرية أو المقلين عن الكثيرين..
تجنبت ذكر الكلمة نصاً سمعتها من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن تغمده الله برحمته وهو يدفع عن نفسه أن يكون مثل من سبق وجدير بي أن أؤيد ذلك فعبد العزيز بن عبد الرحمن لم يصادر ملك أحد من الأشراف ولم يرزأ أحداً منهم بسوء حتى أبناء عون حينما كشف أمرهم خرجوا بسلام ومعهم ما يملكون وآل غالب لم يصادر لهم شبراً من الأرض بل فعل العظيم من فعله دعاهم أن يرجعوا إلى مكة من الأناضول.. أبناء عمهم لم يرجعوهم وأرجعهم عبد العزيز وأعطاهم ما يملكون فإذا هم في العزة يعيشون وفي الوطن لا يغتربون.
أحمد أسعد ثبت عوناً في إمارته طول حياته ومات عون في أواخر عصر عبد الحميد وفي جدة كان مع الأفندي عمر نصيف يساعده ينصره على موسى بغدادي حليف العبادلة فمكث عمر نصيف السيد في جدة يصاهره أحمد هزازي والحاج زنيل وبيت طبيله والمغربي لقد صنع أحمد أسعد لعمر نصيف الشيء الكثير وقد رأيت الأفندي محمد حسين نصيف وكان له في جدة وفي العالم الإسلامي وعند آل سعود ومشايخنا مقام كريم رأيته الوفي لأسرة أحمد أسعد.
أما في مصر فهي العجيبة والعهدة على الرواة سمعنا أن الخديوي إسماعيل لجأ إلى أحمد أسعد ليصدر فرماناً من السلطان بحصر وراثة الخديوية في إسماعيل وبنيه فلم يتول الأمر في مصر بعد إسماعيل إلا بنوه توفيق وابنه عباس وحين خلع عباس - على يد الإِنجليز - تولى السلطان حسين كامل لأن الإنجليز ألغوا الخديوية وأحدثوا السلطنة ثم تولاها الملك فؤاد بن إسماعيل ثم ابنه فاروق ((وتلك الأيام نداولها بين الناس)) إن ذلك يدل دلالة أكيدة على خطورة ما صنع أحمد أسعد ولا أريد أن أنسى أن الملكة دينا ابنة الشريف عبد الحميد بن عبد العزيز بن عون كانت جدتها بنت أحمد أسعد.
وفي المدينة المنورة ارتفع قدر بعض الأسر الذين كانوا لأحمد أسعد أصهاراً أو أصدقاءً وللإنصاف لم يضغط أحمد أسعد على الأسر القديمة وإنما هي الأسر الجديدة التي ترسخت لها أقدام في المدينة هي التي ارتفعت بنفوذ أحمد أسعد ولا حاجة لذكر الأسماء حديثها وقديمها.
ودالت الأيام وفي عهد الأشراف فرغت - يد السيد أبو السعود بن أحمد أسعد - فإذا بابنه هاشم مفتش في البلدية وإذا بالسيد عبد المحسن أسعد وحسن أسعد يعيشون في مصر فتناسلوا هناك لأن القصر في مصر حفظ لأحمد أسعد صنيعه.
ولا أنسى مرة أخرى أن الخديوي إسماعيل عندما تلقى الفرمان وهب السيد أحمد أسعد خمسة عشر ألف فدان من الأرض الجيدة فرفض قبولها أحمد أسعد وقال: لا آخذ أجراً أو رشوة على عمل كنت الوسيط فيه لدى السلطان.
وفي هذا العهد - عهد المملكة العربية السعودية أقص خبرين عن أبي السعود أحمد - أو هما أخبار ثلاثة.
فالخبر الأول كان في حفل زواج ابنة السيد أحمد أسعد على محمد رضا والد السيد أحمد رضا وأرسل الشريف عون من يمثله وموسيقاه على رأسها يوسف قطان ويذهب عمر نصيف يستقبل الضيوف كأنه من أهل البيت فقال أبو السعود لعمر نصيف (خلي الشيخ يوسف قطان يدخل مع الضيوف) فقال عمر نصيف لا.. خليه يحافظ على مقامه فيما هو موكل إليه).
والخبر الثاني وفي هذا العهد الميمون في أوائل الخمسينات الهجرية وصل إلى المدينة يوسف قطان وابنه عباس ورغب أن يشتري أرضاً في المدينة ولعلّكم لم تعرفوا أن عبد الله باشا باناجه ويوسف قطان وبعض العبادلة كانوا أصحاب ملك في مصر وبواسطة السادة آل المدني زين العابدين وإخوانه توسطوا عند أسعد إبراهيم أسعد فاشترى حصته من أرض السبيل أمام باب الشامي أمام شيخ النمل أمام سقيفة بني ساعدة وعند كتابة الصك يبيع أبو السعود أسعد حصته من السبيل كان القاضي السيد أحمد البرزنجي فعز عليه ألا يعلم أبو السعود أسعد عن هذا الذي يقسم أرض السبيل قسمين فبصورة وبأخرى أجل كتابة الصك لليوم الثاني وأخبر أبا السعود أسعد عن الصفقة وما كاد القاضي ينص الإِفراغ بيع النصف ليوسف قطان حتى أوقف أبو السعود أسعد نصف السبيل مشاعاً فأوقف ما يملك ليعطل القسمة تباع لما يملك ابن أخيه كبرياء وأي كبرياء مع أنه كان في حاجة ماسة إلى قيمة هذا النصف لو باعه وبلغ التعصب المديني يحيى أبو السعود أسعد ولكن الملك عبد العزيز عوض عباس قطان بأرض المرادية على عدوة بطحان ((أبو جيده)) وعلى الشرق من حزم العنبرية.
أما الخبر الثالث ففي ضحى يوم كنت أجلس عند الصديق صلاح الدين عبد الجواد في دكان أبيه في سويقة فإذا أبو السعود أسعد وصل إلى حيث نجلس قادماً من جهة المسجد وإذا أبو أحمد سعود دشيشة قادم من جهة باب المصري إلى المسجد فأمامنا والشارع ضيق تحاذى كتفا الرجلين فلم يقرئ سعود دشيشة السلام على أبي السعود ولم يقف ليحييه حتى إذا مر خطوة التفت أبو السعود أسعد ينظر إلى سعود دشيشة نظرة محترقة حارقة.. إنها خصومة محمد ظافر وأحمد أسعد بعد أن زال كل شيء لهما بوفاة السلطان عبد الحميد فسعود دشيشة كان لمحمد ظافر والأيام دول..
المدرسة وخريجوها
وقلت أكثر من مرة إن الأمية قد انمحت من المدينة قبل أكثر من مائة عام.. مدرسة إعدادية.. وثماني عشرة مدرسة تحضيرية.. وأكثر من خمسة عشر كتاباً، ومدرسة دار المعلمين كل هذا الكم مضافاً إلى المسجد محا الأمية فإذا أبناء المدينة يحملون عبء الوظائف في اللاسلكي ومشروع الخرج والسكة الحديد ووزارة الدفاع وفي مصالح أخرى.. الأمية حين انمحت أصّلتهم والقسوة حين اشتدت أرسلتهم..
إن الذين تخرجوا من المدرسة الإِعدادية كانوا طليعة الرجال في المدينة. لم تحتج وظائف الدولة إلى مجلوب أو متقاعد ولعلّي أسرد أسماء الذين تخرجوا من هذه المدرسة من الفوج الأول جميل أحمد، ماجد عشقي، محمود أحمد، صالح كردي، أكلوراني، إسماعيل حفظي، حامد حمد الله.. وبعدهم طالب توفيق، عباس توفيق، عبد الله توفيق وبعدهم حسين طه، أحمد أبو بكر حمد الله، محمد علي طه، محمد مغيربي، عبد القادر عبد الجواد وبعدهم مصطفى عطار، صالح طوله، محمد خاشقجي، علي حمد الله، أحمد زارع سنده، كامل هاشم.. كل هؤلاء عملوا وكانوا الطليعة.
وأحب أن أضع تعريفاً ليس هو الترجمة لواحد من الذين ذكرتهم والذين خرجتهم المدرسة فأصبحوا الرجال أدوا الواجب نحو أنفسهم وما تأخروا عن تحمل ما ينبغي لمدينتهم، أحب التعريف لهم بالقدر الذي عرفت به كلهم رأيتهم وعرفت أكثرهم معاشرة أو مصادقة أو سماعاً.
ماجد عشقي
السيد ماجد عشقي ما كان يصلح صاحباً وإنما هو الصالح بكل الصدق صديقاً، ابتعد عن الكثير واقتربت منه قلة تصادقه عقله أقوى من عاطفته، لأن عاطفته حصرها في الحب العظيم فاقتصرت على هذا الحب، تزوج هذه الحبيبة وهي ابنة زين العابدين توفيق أبو السيد ماجد خاله، فهي من نسل عمته، أحبها، سعد بها، لكنها ماتت نفساء في أيام قاهرة يوم احترقت القلعة في باب الشام.. يومين متتالين قذفت قنابلها على البيوت التي هي قريبة منها (زقاق جعفر، حوش العبيد) كان الحريق لم يتجه إلى سمت الجنوبي، ولم يغرّب ولم يتشامل، ماتت الزوجة فبقي السيد ماجد ثمانية عشر عاماً لم يتزوج ثم تزوج ابنة أستاذنا الشيخ قاسم أنديجاني فهي أم بنيه الآن، وحين تخرج السيد ماجد عين مديراً للمدرسة الرشدية في جدة، ومصادفة غريبة - أو هي حبيبة - أن يتولى إدارة مدرسة جدة اثنان.. صديقان ومن زقاق جعفر الأول ماجد عشقي في عهد الأتراك والثاني السيد أحمد صقر في عهد الأشراف، وأصبح الاثنان بعد زميلين كأستاذين لنا..
وحدثت للسيد ماجد طرفة، حانت الإِجازة وعزم على الرجوع إلى المدينة، أحب الرجوع سريعاً.. لم يركب الجمل من جدة إلى المدينة فالمراحل طويلة لعلّها تبلغ أكثر من ثمانية أيام، فعرف أن السفينة الشراعية مسافرة إلى ينبع، فأراد أن يختصر الزمان.. هي ليلة من جدة إلى ينبع في السفينة وأربع ليالٍ من ينبع إلى المدينة، ذهب إلى السفينة وقد طلع الهلال، رأى الهلال على وجه أحد مودعيه فتفاءل برؤية الوجه الجميل ولكن لم يصل إلى ينبع إلا بعد ثمانية عشر يوماً! لأن (الحاية) أي الريح عاكست السفينة الشراعية.
وجاء يوم وإذا هذا الشاب أصبح رجلاً كبيراً قيمة ومقاماً يحييه السيد ماجد عشقي، يكتم الضحكة في صدره ثم يقصّ عليّ هذه القصة، قلت له لقد شاب، وحين رأيته الآن لم يكن الهلال، مرضت بذات الرئة كان يزورني وفي آخر زورة قام ليترك المكان إلى الزائرة (المحترقة) التي أحرقت المرض عني.
لقد كان السيد ماجد ذواقاً، فحين خرجت أزور المدرسة وأنا في دور النقاهة قال: كانت تلك الزائرة هي العافية للعافية، وحين احترقت لم أخبره لأني لم أرد نكء جراحه الأولى التي ما نساها إنما هو يتناساها.
حامد حمد اللَّه
لعلّه من الفوج الأول من الذين تخرجوا من المدرسة الحميدية. هو من أهل ينبع من بيت حمد الله وزارع أخاه علي حمد الله وأبناء عمه آل زارع، رأيته في ينبع أيام فخري باشا حينما سافرنا إليها، ابن عمه أبو بكر حمد الله كان مدير المدرسة. رأيت حامداً أبيض طوالاً كان في ينبع مديراً للسوقيات وحسين باسلامة رئيساً للبلدية بعد عبد القادر عبده والسيد مصطفى الخطيب القائمقام، السوقيات هي تموين الجيش الشريفي، سواء ما يسمونه عرض الشريف علي في ((الفريش)) أو عرض الشريف عبد الله في ((وادي العيص)) أو عرض الشريف فيصل يوم تشامل حتى العقبة وبعد العقبة كان التموين له عن طريق آخر، ولكن كيف أصبح مديراً للسوقيات؟
يتسلم كل ما يصل إلى ينبع عن طريق العون الإنجليزي من المال والدقيق والسكر والشاي وما إلى ذلك. كان المدير الأول للسوقيات صادق باشا يحيى المصري الذي أصبح فيما بعد وزيراً للحربية المصرية، وضاق الحسين بن علي به كما ضاق بعزيز علي مصري وكما ضاق بكامل القصاب فقال الحسين يرحمه الله من لي بحجازي، يدير السوقيات فكان حامد حمد الله هو الذي أمسك بها.
والغريب أنه ما ترك ثروة وراءه ولقد تولى بعد ذلك رئاسة ديوان أمارة المدينة قبل عبد الله عمير أو قبل رشيد أفندي، أما أخوه علي حمد الله فكان في الديوان مسؤولاً عن البرقيات والشفرة، حامد حمد الله مدير بنك القاهرة وعلي حمد الله والد حامد حمد الله الذي كان سكرتيراً لوزير المالية للمملكة العربية السعودية حتى عهد معالي الوزير محمد أبا الخيل..
----------------------------------
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (10)
عهد الاتحاديين.. هل كان صحوة الموت؟!
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
ـ في عهد السلطان محمد رشاد.. عرفت المدينة الترف
ـ امتياز خط برلين - بغداد سبب في موت الرجل المريض
السلطان محمد رشاد والاتحاديون
وفي عهد السلطان محمد رشاد، في أواخر العشرينات إلى أوائل الثلاثينات.. عاشت المدينة المنورة في رخاء بلغ حد الترف سواء في الحاضرة أو من حولها من القبائل.. توسع فيها البناء، فقد كان أهل المدينة الأوائل يبتعدون عن البناء في شمال المسجد المقارب له أو البعيد عنه، أعني ما يسمى بباب المجيدي، غلب هذا الاسم على هذه الناحية، لأن أهل المدينة تجنبوا البناء هناك، عن عقدة تروى لهم. وهو أن وادي مشعط موبوء، كما تجنبوا البناء شرق المدينة لا يقتربون من البقيع ولا يحبون أن يقطعوا النخيل في أرض الصدقة فأول ما اتسع البناء خارج السور كان في غرب السور، الأحوشة في سفح سلع وزقاق الطيار والسيح والعنبرية وأحوشتها، وفي الجنوب التاجوري والتاجورية والجديدة والبربورية، وأزقة النخليين حتى باب العوالي، لكن الكثرة المهاجرة من التركستانيين والأتراك والمغاربة توسعوا في البناء فكانت الأرض التي اتسعت لهم هي أرض باب المجيدي، لأن هؤلاء المهاجرين جاءوا بأموال ونمت إليهم بأموال من عملهم في المدينة، فأول بناء قام هو بيوت باشا من طابقين أرضي (حجرات) وفوقي (غرفات) حول بئر (حاء) ثم بنى البشناق وأبو عزة بيوتهم وبنى كذلك عبد الجليل مدني بناء على شارعين في باب المجيدي أمام بيت الدكتور أمين أفندي الطبيب التركي، وقد انفرد بيت الطبيب باللون الأبيض، وقد آلت ملكيته بالشراء إلى الشيخ عبد الرحمن القصيبي والد الدكتور غازي القصيبي فكلما وصل إلى المدينة يسكن هذا البيت وفي آخر الأيام من إقامتي في المدينة سكنت باب المجيدي وتركت بيتنا في السيح وبيتنا في زقاق الطيار لمستأجرين، وكان ذلك لأكون قريباً من بيت والد الزوجة محمد أبو داعوس ومن القرب لدار الأيتام التي تأخذ مني النهار كله وبعض الليل. حماسة أحمد الله عليها. وكلما وصل المدينة عبد الرحمن القصيبي كنت قريب الصلة به فأول ما عرفته أنا والشيخ محمود شويل يوم كنا في بومباي، فما استطاع مكتب الحاج علي زينل أن يهيئ لنا سرعة الرحيل إلى المدينة على الباخرة لأن العودة كانت في وسط شوال عام 1352هـ، فلجأنا إلى القصيبي واستطاع أن يعجل لنا السفر، من هنا عرفناه.
أما البناء بعد أن فتح بصري باشا الباب في السور فكانت هذه البيوت، بيت السيد محيي الدين والد السيد أسعد وجد السيد ماجد ثم بيت السيد علي الذهبي، وقد كان هذا البيت ينزل فيه الأمير شكيب أرسلان يوم جاء إلى المدينة هو مع عبد القادر المغربي الدمشقي لأن صلة شكيب أرسلان بالسيد علي الذهبي أتت من صلته في ليبيا، أيام كان الأمير شكيب هو وأنور باشا وخليل باشا مع السيد أحمد شريف السنوسي لمقاومة الغزو الإيطالي، لأن الذهبي ليبي من أعيان ليبيا، وكان هذا البيت أيضاً على مدخل الفيروزية التي هي من أملاك بيت حماد، وعلى المدخل الغربي بنى السيد زين العابدين مدني بيتاً كبيراً لم ينتفع به، كما أن السيد عبد الجليل مدني لم ينتفع ببيت باب المجيدي، كما أن السيد عبد الله مدني قد بنى البيت الكبير في باب المجيدي حول (صيّادة) البستان القديم من عهد الرسول صلَّى الله عليه وسلم لم ينتفع أيضاً به، كان بناؤه كفندق ولكن كان النفع لأبني السيد عبد الله مدني، حيث كان السيد عبيد عضو مجلس الشورى وله مقامه وله مكانة من الصداقة لمحمد سرور الصبان فاستطاع السيد عبيد أن يبيع هذا الفندق بواسطة محمد سرور إلى الملك سعود يرحمه الله، وكان في ذلك له قيمة من الشكر لمن بنى الفندق ولمن باعه ولمن اشتراه، والله يضع البركة حيث يشاء.
وكان باب المجيدي قد اتصل بالتمار حيث بنى السيد علي حبشي بيوته هناك، وكذلك آخرون، أما خراج باب الشامي فهناك بيتان شهيران، كما ذكرنا من قبل بيت الجلوني من أغنياء مصر وقد كان لهم ملك في المدينة، الجلونية في قربان وخيف السيد على حافة وادي قناه، على مدخل العيون، وقد اشترى إبراهيم فراج والد عيد فراج وعلي فراج، هذا الملك من الجلوني وبيت فراج لعلّه على صورة ثانية من محمد محروس بالنسبة لما ملك من النخيل، ومصادفة أن إبراهيم فراج ومحمد محروس من صعيد مصر ومن مديرية قنا، أعرف أن محمد محروس صاحب الملك الكبير في العيون من (أبنود) وقالوا لي إن إبراهيم فراج ومصطفى عبد العال التاجر الذي حمل كتاب الشريف شحاذ بن علي إلى الملك عبد العزيز يرحمه الله، يطلب منه أن يرسل أحد بنيه ليدخل المدينة سلماً، مصطفى عبد العالم أيضاً هو من صعيد مصر كمحمد محروس، ككاتب هذه السطور، غير أن أولئك من قنا ومن أبنود، أما كاتب هذه السطور فمن أسيوط ومن قرية المطيعة بالذات. وهناك معيرة لأهل أبنود لأنهم يحترفون التجارة وجمع المال أذكره وأرجو ألا يغضب الابن نذير محروس ومن إليه من أولاد العم حين أذكر هذه المعايرة.
(عاشر يهودي ولا تعاشر أبنودي!!) يعني أنهم أكثر عملاً في جمع المال، وقد صح هذا المثل في جمع المال من الذين ذكرناهم، أما كاتب هذه السطور فقد ورث من البداوة بعثرة المال.
إن هذا العهد الرخي جعل الناس في المدينة يستبشرون بعهد السلطان رشاد كما كانوا مستبشرين بعهد السلطان عبد الحميد.
لقد تولى السلطان رشاد ملك آل عثمان بثورة حزب الاتحاد والترقي تحت شعار ما تلقفوه من الثورة الفرنسية (حريات.. عدالات.. مساوات.. أخوات) إن هذا الشعار لم يكن إلا عن عنعنات وسبيلاً إلى السلطان فقط، فلا حرية للبلقان ولا عدالة للأرمن ولا مساواة مع العرب ولا أخوة مع مصر بصور خاصة..
إن الاتحاديين أعلنوا التعاون مع ألمانيا بصورة جهيرة فأكثرهم ضباط تعلموا في مدارس ألمانيا، كان رئيس الوزراء الصدر الأعظم طلعت باشا فانتشر اسم طلعت في العالم العربي، وكان من الوزراء ومن كبار الاتحاديين أنور باشا وانتشر اسم أنور، كما كان نيازي من كبار الاتحاديين وانتشر اسمه كذلك، كما انتشر اسم جمال وفخري وكلهم من الاتحاديين، ويعني ذلك من انتشار هذه الأسماء أنهم مكان إعجاب فالعواطف أعجبت ولكن النتيجة لو عرفها أهل العواطف لما كان هناك هذا الانتشار لأسماء الاتحاديين، كل أقطار الدولة العثمانية كانت تطالب باللامركزية، ببعض الحكم الذاتي ولو عقل الاتحاديون ما ينذر به المستقبل من وراء صداقتهم لألمانيا ومخافتهم من روسيا وعداوة الإنجليز والفرنسيين لهم لما أسرفوا بهذه القومية التركية فأعلنوا الطورانية، إن لم يذكروها بلسان فقد نصبوا التتريك في المدراس، التعليم في المدرسة التحضيرية إلى غيرها كلها بالتركية، فلم يعد هذا الأمر يطاق فاحتضنت فرنسا مؤتمر باريس المشكل من الشباب السوريين ومن إليهم خليل عبد الكريم والزهراني وغيرهما ومن تأسيس حزب العهد.
ياسين الهاشمي فيصل وعبد الله بن الحسين وغيرهما من العرب ولما اتهموا عزيز علي المصري حتى كادوا يشنقونه مع ياسين الهاشمي وعزيز المصري من كبار قواد الدولة العثمانية، لقد بقي عزيز المصري قائد الجيش الثامن، وهو القومي العربي مع الدولة إلى أن سقط جمال باشا في دمشق وإلى أن دخل فيصل بن الحسين دمشق، وفاء عربي وانضباط عسكري يرحمه الله ياسين الهاشمي ولا بد أن أذكر موقفاً كحادثة بسيطة بالنسبة لمكانة ياسين الهاشمي يوم كنت قومياً أحمر قبل أكثر من خمسين عاماً، كنت ألقي درساً في التاريخ في المدرسة الأميرية، يوم كنت أستاذاً فيها، وجاء قاصد يقصدني الأستاذ حسام الدين مصطفى مأمور اللاسلكي والمنتدب لتدريس اللغة الإنجليزية في المدرسة جاء قال لي: ثورة في العراق قتل ياسين الهاشمي، فما استطعت أن أتماسك جلست على الأرض على ركبتي حسرة وأخيراً خرجت من الفصل أستأذن أذهب إلى البيت، حسام الدين مصطفى عرف الخبر سمعه من اللاسلكي، لأن المدينة حينذاك لم يكن فيها راديو وفي العصر بعد أن استرحت ذهبت إليه فعرفت التفصيل لم يقتل ياسين باشا يعني أنهم لم يسيلوا دمه في العراق وإنما هم قتلوه وحين رحل من بغداد يموت في بيروت.
ما أكثر خسارة العرب لهؤلاء الرجال وما أكثر خسارة العرب بالسيّىء من الرجال.
والاتحاديون ورثوا عن علاقتهم بألمانيا السبب الذي كان من الأسباب التي أشعلت الحرب العالمية الأولى أو هو السيف الذي أجهز على الرجل المريض كأنما عهد الاتحاديين صحوة الموت لأنه والحق يقال عسكر الدولة العثمانية كونوا جيشاً واقتنوا سلاحاً جديداً ومتطوراً في ذلك الوقت مدداً من ألمانيا، فازداد كيد الإنجليز وازداد نفوذ الفرنسيين.
بين أهل الشام (فرنسا الأم الحنون) صداقة ألمانيا وتكوين الجيش والسلاح وخط برلين بغداد هي التي عجلت بالموت للرجل المريض.
إن خط برلين - بغداد امتياز أعطى لألمانيا سبب غضب الإِنجليز لأن وصول ألمانيا إلى بغداد والخليج يعني وصولهم الهند. وحين سقط العرش العثماني ونهض مصطفى كمال لا يسأل عن أقاليم غير الأناضول، كل عقله وعواطفه مع الأناضول، لم يكن كأنور باشا عاطفياً، فبعد هزيمة الدولة ذهب أنور التركستاني طفرانياً فإذا هو يجيز الروس على السيطرة على تركستان ولا يمكن أن يحتمل أنور هذا السبب وإنما هي القشة قصمت ظهر البعير.
فالاتحاد السوفيتي روسيا الجديدة لا بد أن يحتل تركستان غير أن عمل أنور عجل بذلك.
مصطفى كمال كتب في مذكراته عن خط برلين - بغداد ما يعيب الاتحاديين وهو منهم غير أنه لم يكن من الجنرالات الكبار أول العهد، قال إن امتياز خط برلين - بغداد كان خطأ كبيراً فقد جاء في نص الامتياز أن هذا الخط لا تنحصر مساحته في ممر القضبان أو إقامة المحطات بل جاء في النص أن لصاحب الامتياز إمبراطورية ألمانيا حينذاك الحق في امتلاك ثلاثة كيلو مترات شرق الخط يعني عرض الأرض لمرور هذا الخط ليست بضعة أمتار إنما هي ستة كيلو مترات من شمال الأناضول إلى شط العرب، يقول مصطفى كمال إن هذه الستة كيلومترات ستصبح سكناً وملكاً لستة ملايين ألماني فماذا نصنع مع هؤلاء الألمان حين يصبحون ستة ملايين ألماني سوف لا يكون أتراك، إنه يعيب هذا الامتياز من الناحية الوطنية سلب الأرض بينما عابه غيره بأنه السبب في موت الرجل المريض.


-------------------------








.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..