الصفحات

الاثنين، 30 يوليو 2018

السعودية والحضارة الغربية 1 و٢

 [المقالة الأولى]‬
   الدولة السعودية والحضارة الغربية حديث في البواكير
       بعد معاهدة كارلوفيجي عام ١١١٠هـ والتي أعقبت هزائم متكررة للدولة العثمانية أمام ما عُرف بالحلف المقدس والمكون من إمبراطوريات كل من النمسا وروسيا وهولندا وليتوانيا ؛أدرك العثمانيون:أن هزائم الأوربيين وانكساراتهم على أيديهم طيلة ثلاثمائة عام قد استفاد منها الأوربيون في تطوير قدراتهم وآلاتهم ومهاراتهم العسكرية ، في حين بقيت الجيوش العثمانية على نمطها القديم الذي تركها عليه محمد الفاتح ، ورأوا ضرورة الاستفادة من الخبرات والمهارات والصناعات الحربية الأوربية لإعادة بناء جيوشهم ؛ من ذلك الوقت بدأ ابتعاث الضباط العثمانيين إلى فرنسا ليتعلموا فنون العسكرية الأوربية هناك ، وأيضا جلب الضباط الفرنسيين إلى إسطنبول لتدريب الجيوش العثمانية وبناء المعاهد لهم ، وجلب صناع المدافع الأوربيين ليقوموا ببناء المدفعية العثمانية ؛ كما جلب العثمانيون الخبراء الفرنسيين لإعادة ترتيب وتسليح البحرية  العثمانية.
ومع هذا الشعور بعظمة فرنسا والاحتياج العظيم إليها في الجانب العسكري بدأت العناية بالعادات الفرنسية تغزوا حياة الطبقات السياسية العليا والنبلاء الأتراك من أمراء وتجار وإقطاعيين ، حتى حياة السلاطين العثمانيين أنفسهم وأساليب حياتهم وترتيب أثاث قصورهم ، كل ذلك اصطبغ بالصبغة الفرنسية قليلا أو كثيراً ؛ ومع دخول الطباعة وانتشار الكتب دخلت الآداب الفرنسية والفلسفات والفنون الأوربية وبدأت تصبح محل عناية المثقفين العثمانيين واغتباطهم.
ولم يلبث هذا التأثر الكبير زمناً طويلاً حتى وصل إلى القوانين العثمانية التي بدأت تأخذ بشكل كبير ومتسارع من القوانين الأوربية .
كل ذلك كان تحت دعاوى الإصلاح ، وكان يتم تبريره على أنه مجرد جمع واستفادة من مختلِف الثقافات لكن الحقيقة كانت مُرَّة بشكل عَبَّر عنه بعض كتاب البلاط العثماني في رسائل عدة بعثوها للبلاط نقل أجزاءً منها برنارد لويس في كتابه”كيف تكونت تركيا الحديثة” فقد أدى هذا التأثر إلى ضعف الولاء للأسرة العثمانية الحاكمة والاستهانة بالشعارات الدينية التي قامت عليها الدولة وأصبحت الشعوب التي كانت تُقْبِل على الحكم العثماني لما يمثله من معاني دينية تسخر من تمثيل الدولة لهذه المعاني ولم يعد يربطها بها إلا القوة والمصلحة ؛ وقد برز ذلك في حادثتين متقاربتين:
الأولى:قيام الثورة الفرنسية عام ١٢٠٣ حين فوجئ السلاطين العثمانيون بأن قِيَم هذه الثورة حاضرة بقوة لدى الشباب العثماني في إسطنبول نفسها عاصمة الدولة من خلال قراءاتهم الكثيرة لفولتير وروسو وفيكتور هيجو ، ومن خلال التقاليد الأوربية التي أدخلتها الدولة في حياة الناس.
ثم تبعها بعد سنوات قليلة الغزو الفرنسي لمصر والذي استطاع فيه ثلاثة آلاف جندي فرنسي انتزاع مصر من الدولة العثمانية  وظهور عجز العثمانيين الكبير عن حماية ممتلكاتهم من الغزو الأوربي حيث لم يخرج الفرنسيون من مصر إلا بعد هزيمتهم أمام الإنجليز وتجلى للشعوب العثمانية أنه لولا انشغال الأوربيين ببعضهم لتم اكتساح الغرب لجميع أراضي الدولة منذ حين.
الآخر:استقلال محمد علي باشا بمصر والشام وغزوه الأناضول واقترابه من إسقاط عاصمة الخلافة ولم تتحرك الشعوب العثمانية حتى التركية منها لنصرة الدولة ولولا وقوف روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا في وجه محمد علي وإلزامه بالتراجع في معاهدة كوتاهيه(١٢٤٩هـ)لكان السلطان محمود الثاني[توفي ١٢٥٥هـ]آخر سلاطين بني عثمان .
وقد أدركت الدول الغربية منذ تلك الأوقات عن طريق ما كان ينقله لها سفراؤها مدى أهمية المد الثقافي الغربي بين المثقفين في إسقاط الدولة العثمانية ؛ وهو بالفعل ما وقع حيث سقطت الدولة على يد الاتحاديين الذين أجبروا السلطان عبدالحميد على توقيع الدستور المستقى من الدستور البلجيكي عام١٣٢٦هـ.
واشتغلت بقوة مشاريع المد الثقافي الغربي في جميع بلدان العالم الإسلامي تمهيداً لاحتلالها ، حيث وقع الاحتلال الذي سموه استعماراً وهو يَجِدُ في استقباله بيئات مثقفة تنتظره على أحر من الجمر ورحل من جميع تلك البلاد وقد غير في بنية جميع الشعوب المسلمة في ثقافاتها وتصوراتها وعاداتها إلى ما تقترب به من الثقافة الغربية .
ومضى الاستعمار تاركاً الشعوب في ولاية حكومات من أبناء البلاد تفشل في كل شيء إلاً في المشاريع التي تزيد في تقدم شعوبها نحو التغريب .
وقد عرف الملك عبدالعزيز رحمه الله جيداً مخاطر المد الثقافي الغربي على الدين والأمة ، ولذلك صرَّح في لقائه مع والي المدينة الأسبق من قِبَل العثمانيين فخري باشا: أن خصومته لم تكن مع الدولة العثمانية بل مع الاتحاديين ، وكان ذلك اللقاء في مكة سنة ١٣٤٤ بعد سقوط الدولة العثمانية.
كما حرص المؤسس رحمه الله وهو في طور تأسيس الدولة وقبل أن تتضح معالمها على تعريف الدول العظمى :أنه في سياق تأسيس دولة تحكم بالشريعة الإسلامية ؛ ففي التقرير الذي رفعه الكابتن وليم شكسبير إلى المعتمد البريطاني في الكويت يذكر فيه رفض الأمير عبد العزيز إعلان الحرب على الدولة العثمانية ويطالب بريطانيا بالاعتراف بحدوده إذ ذاك سنة ١٣٣٣هـ معلناً كون القضاء في المناطق التابعة له وفقاً للشريعة الإسلامية على أن يخضع لهذا القضاء جميع المقيمين في المناطق التابعة له حتى ولو كانوا من رعايا بريطانيا.
وكان اضطرار بريطانيا لإرسال وليم شكسبير للقاء عبد العزيز بالرغم من صعوبة الوصول إليه آنذاك بسبب تجاهله العرض الذي قدمه نائب المعتمد البريطاني في الخليج بأن ينضم عبد العزيز إلى شيخي الكويت والمحمرة لمهاجمة البصرة في مقابل الاعتراف به ودعمه.
ومن المثير في شخصية هذا القائد الفذ رحمه الله أن رفضه إعلان الحرب على العثمانيين كان أثناء موقعة جراب التي دعم العثمانيون فيها ابنَ رشيد بالمال والسلاح وحرضوه على القضاء على ابن سعود؛ وفعلاً انتصر ابن رشيد في تلك المعركة لكن عبدالعزيز لم يغير موقفه الرافض لمحالفة بريطانيا ضد العثمانيين ، وكانت ردة فعله أنه قام في هذا الوقت العصيب بمحاولة عقد مؤتمر لزعماء الجزيرة العربية لاتخاذ الموقف المناسب في هذه الحرب الدولية والخروج منها بأفضل المكتسبات للعرب والمسلمين، فأرسل دعوة لغرض الاجتماع والتدارس لكل من ابن رشيد والحسين بن علي وإمام اليمن يحي وابن صباح ، إلا أنه لم يستجب لهذه الدعوة سوى شريف مكة الذي أرسل ولده عبدالله ليتباحث أيضا مع ممثل للملك عبدالعزيز ، لكن الشريف طلب مشاركة عبدالعزيز في الثورة العربية ضد العثمانيين مستغلاً إنشغالهم في الحرب ضد الانجليز إلا أن عبدالعزيز اعتذر عن هذه المشاركة .
من يقرأ مراسلات المؤسس السعودي مع بريطانيا يجد أنه استخدم فيها قدراً كبيراً من الدبلوماسية والمداراة اللائقة بمؤسس دولة ناشئة مع أكبر دولة استعمارية ، لكن الحقائق تؤكد أنه لم يقدم لبريطانيا شيئاً مما كانت تريده منه ضد الدولة  العثمانية ، بالرغم من وقوعها تحت سيطرة الاتحاديين الذين لم يكن عبد العزيز يُكِنُّ لهم ودا ؛ وقد تفهم القادة العثمانيون ذلك وعبر عنه قائد الجيش الرابع ووالي الشام جمال باشا بقوله:”لم يكن في استطاعته أن يمد لنا يد العون المباشر لقربه من الإنجليز الذين كان باستطاعتهم إيصال الأذى إليه ، إلا أنه كان شخصياً نافعاً جداً ، إذ أرسل الجمال للجيش وسمح بتصدير التجارة من بلاده إلى سوريا”[الدولة العثمانية والملك عبد العزيز ٢٨٤] والجِمال التي أشار إليها جمال باشا هي أربعة عشر ألف جمل أمد بها الملك عبدالعزيز الجيش العثماني في حملتهم على قناة السويس وذكر الباشا تفاصيل إرسالها في مذكراته ؛ وقال القائد العسكري العثماني علي فؤاد باشا:”إن الأمير ابن سعود لم يقدم على معاونتنا مباشرة بالجند والعتادالحربي وكان على حق بموقفه هذا ، لأن قربه من المراكز البريطانية يجعله دوماً عرضة لانتقامهم، وقد يضر بلاده، ويضر القوات العثمانية أيضا فنضطر في هذه الحالة إلى إرسال القوات والذخائر الحربية لمساعدته ، فوقف على الحياد ،ووقوفه هذا كان لنا منه فائدة كبرى جناها جيشنا مدة الحرب العالمية”[المرجع السابق].
فإذا كان القادة العثمانيون المباشرون لعلاقة دولتهم بالملك عبد العزيز يقدمون هذا الوعي بحقيقة موقفه تجاههم ، فمن أين تأتي الحجة لمن يحاولون اتخاذ علاقته رحمه لله بالعثمانيين مطعنا في تاريخه .
د.محمد بن إبراهيم السعيدي
المصدر

------------------------------------
[المقالة الثانية]‬

السعودية والحضارة الغربية ٢

     شهد عام ١٣٤٤هجرية الفراغَ من توحيد كامل أقاليم المملكة العربية السعودية تحت مسمى المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها؛ وفي ١٧/ ٥/ ١٣٥١هـ صدر الأمر الملكي بتوحيد هذه الأقاليم تحت مسمى المملكة العربية السعودية بناء على عدد من البرقيات وردت إلى الملك عبدالعزيز من سائر أقاليم البلاد اشتهر منها تلك البرقية المطولة والصادرة من عدد من أعيان مكة وجدة والطائف إثر اجتماعهم في مدينة الطائف بتاريخ ١٢/ ٥/ ١٣٥١هـ .
لم يخضع الملك عبدالعزيز رحمه الله في سبيل هذا الإنجاز لأي ابتزازات غربية ولم يقدم أي تنازلات عن دينه ومبادئه التي جعلها أساس بنيان دولته طيلة فترة التأسيس الممتدة من عام١٣١٩هـ حتى الإعلان الرسمي لاسم الدولة .
وقد حاول الكثيرون من المناوئين للسعودية  ولا زالوا يحاولون إلصاق تهمة تكوينها بناء على إرادةٍ بريطانية مقابل تنازلات أو خدمات قدمها المؤسس للاستعمار ، لكن الجميع فشل في إظهار أي دليل على ذلك من أحداث التاريخ أو الوثائق الصحيحة المحفوظة في أي دولة من دول العالم ؛ مما جعل بعضهم لا يجد مناصاً لإيهام الناس بمزاعمه سوى الكذب والإفك بأن الملك عبدالعزيز أرسل ابنه فيصلاً لحضور مؤتمر باريس للسلام [١٥/ ٤/ ١٣٣٧]والتنازل هناك عن فلسطين في اتفاق مع حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية مستغلين تشابه الأسماء بين الأمير فيصل بن عبدالعزيز والأمير آنذاك فيصل بن الحسين الذي كان هو الحاضر فعلاً في ذلك المؤتمر ممثلاً لوالده ،والوثائق الإصلية والصور الفوتغرافية والمتحركة كلها تثبت ذلك ؛ كما حاول هؤلاء المناهضون الزعم للجهلاء أن المملكة العربية السعودية إحدى ثمار اتفاقية سايكس بيكو ؛مع أن هذه الاتفاقية لا تمت بأي صلة لتاريخ السعودية إذ هو اتفاق بين فرنسا وبريطانيا على تقاسم الشام والعراق ولم يتطرق بفقرة واحدة أو جزء من الفقرة للأراضي التابعة للملك عبد العزيز الذي رسم خريطة بلاده بجهده وجهود رجاله من أبناء هذه البلاد ، الأمر الذي جعل بريطانيا بعد معاهدة سايكس بيكو بثمان سنوات تتفاوض معه مباشرة حول الحدود بين بلاده ومحميتيها آنذاك الكويت والعراق في مؤتمر العقير الذي نتجت عنه اتفاقية العقير الحدودية عام ١٣٤١هـ ، والتي وقف فيها عبدالعزيز من بريطانيا موقف الند وطالبها بتسليمه الشاطئ الغربي لنهر الفرات  وحلب ونهر العاصي لتكون تلك هي حدوده الشمالية ، واستمر  النقاش قويا لمدة سبعة أيام بينه وبين المعتمد البريطاني في الخليج بيرسي كوكس وانتهى بما يقترب من الحدود الحالية وهو ما كان يقصده عبدالعزيز من مطالباته العميقة في داخل العراق والشام.
النتيجة: أن عبدالعزيز حال بين أراضيه وبين الوقوع تحت الاحتلال أو الانتداب من أي دولة من الدول ، كما استطاع صناعة دولة من العدم في تلك المناطق الشاسعة ، وتوحيد العديد من الإمارات والدويلات بين الخليج والبحر وبين الشام واليمن ،تحت رايته، لم تكن عرفت الوحدة منذ زمن سحيق إلا في عهده وعهد آبائه من قبله .
ثم لا تزال الأحقاد تملي على المناوئين للسعودية تصورات خرقاء بأن بريطانيا هي وراء تأسيس هذه المملكة ؛ ثم حين تسألهم عن مصلحة بريطانيا- لو كان قولهم حقا_ من جمع كلمة أهل جزيرة العرب بعد أن كانوا  مجموعات يصعب حصرها من المشيخات المتنافرة والبوادي التي يفني بعضها بعضا ؛ وما هي مصلحة بريطانيا من جمع منابع النفط وقبلة المسلمين ومهاجر نبي الأمة الكريم صلى الله عليه وسلم في دولة واحدة ؛ وماهي مصلحة بريطانيا من إنشاء أول دولة في التاريخ تسطر على رايتها شهادة التوحيد التي هي ركن الإسلام وجِماع أمر المسلمين ؛ وتدعو إلى العودة بالدين 
إلى ما كان عليه رسول الله وأصحابه ، وتنفي عنه البدع والخرافات وتجليه للأعين والقلوب نقياً رائقا أبيضاً ليله كنهاره لا يزيغ عنه إلا هالك .
حين تسألهم عن ذلك كله لا تجد عندهم إلا عَلْك الكلام ، والحديث عن المال الذي كان يأخذه المؤسس من بريطانيا وصَرَّح به عبدالله فيلبي في مذكراته ، ونقول لهم :ثم ماذا؟
نعم أخذ عبد العزيز بعض الأعطيات من بريطانيا كغيره من الشخصيات التاريخية القوية التي كانت الدولة العظمى آنذاك تحاول استقطابها ، وقَبِلَ ما قدمته بريطانيا من مبالغ كانت باعتراف المسؤولين البريطانيين آنذاك زهيدة جداً في مقابل ماكانت تمنحه لخصومه ، لكنه كان حقاً محتاجاً لها ، وقبلها لسد احتياجه ، لكن في المقابل ، ماذا قدم عبدالعزيز لبريطانيا ؟
الجواب : لاشئ ؛ لا أقول: لا شيء يذكر ؛ بل أقول: لاشيء مطلقاً ، سوى أنه لم يقم بغزو محمياتها في العراق والشام والخليج ، وقد اكتفت منه بريطانيا بذلك واعتبرت نفسها قد حققت إنجازاً عظيما حين أمَّنَت مستعمراتها من سنابك خيله.
وبعد هذا كله لا يجد هؤلاء المناوؤن حجةً لأحقادهم ومُتَعَلقاً يتعلقون به، إلا قضية فلسطين وصياغة الأساطير عن عبدالعزيز الذي باعها .
ومع أن السرد التاريخي المجرد يأبى هذا الطرح إلا أن القلوب الحاقدة لا تعتني بالحجج ولا المنطق التاريخي وإنما تتعلق بأي خيط لتبرير أحقادها .
فقد احتلت بريطانيا فلسطين عام ١٣٣٦هـ وليس لعبدالعزير أي حدود معها ، ودخلت الجيوش البريطانية إليها عن طريق مصر ، وبدعم مباشر من الجيش الحجازي الذي يقوده الشريف فيصل ولورانس ، ولم تكن بريطانيا في احتلالها لفلسطين في حاجة إلى رجل كالملك عبدالعزيز ، وهي من احتل 
 نصف بلاد الدنيا أو أكثر .
وقد أقامت دارة الملك عبدالعزيز  الحجة على كل من يتشدقون بإلقاء التهم على مؤسس المملكة حين قامت بجمع جميع الوثائق الخاصة بالملك المؤسس   وترجمة غير العربي منها في قرابة العشرين مجلداً وأتاحتها للباحثين الذين لن يجدوا فيها إلا ما يفخر به كل مسلم صادق وعربي أصيل.
نعم لقد كان عبدالعزيز رحمه الله سياسياً واقعياً يعرف كيف يخاطب الدول الأقوى في ذلك الوقت  ويدرك جيداً أن التعدي على مصالحها أو إساءة الخطاب معها أو التصلب في مفاوضتها يعني استعداءها ، وجعلها تعلن التعبئة ضده وتتخذ التخلص منه أولوية ؛ لذلك كانت مواقفه في مواجهة دول العالم العظمى في زمنه تتسم بالحنكة والدهاء وبعد النظر ؛ لذلك استطاع أن يأخذ من الجميع كل ما يريد ولا يقدم في مقابل ذلك إلا مايريد ؛ وساعده في ذلك اشتغال الدول العظمى في الفترة التي أسس فيها دولته بحربين عالميتين ، لعلهما من دفع الله تعالى الناس عنه.
وعوداً على قضية فلسطين فقد كان الملك عبدالعزيز أول قائد مسلم يستشعر ما يخطط لفلسطين من عدوان، ففي عام١٣٥٩هـ استشعر الملك عبد العزيز أن الحرب العالمية الثانية سوف تنتهي بالطريقة نفسها التي انتهت بها الحرب الأولى وهو تدخل الولايات المتحدة لحسم النزاع وبذلك سوف تكون الكلمة الفصل لها في جميع سياسات الدول الأوربية ، فأرسل إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت يُذَكِّره بواجب الولايات المتحدة في إيقاف الاستيطان اليهودي في فلسطين والذي تقف وراءه بريطانيا ، وكانت هذه الخطوة هي الأولى من نوعها في استشراف المستقبل الأمريكي في المنطقة وهي غاية ما كانت تستطيعه المملكة العربية السعودية في مواجهة بريطانيا أكبر دولة استعمارية في العالم.
وفي عام ١٣٦٤هـ وقبيل إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية أراد روزفلت اللقاء بالملك عبدالعزيز ضمن عدد من اللقاءات السرية  شملت فاروق ملك مصر وهيلاسيلاسي ملك أثيوبيا ؛ وكان أول إعلان لما جرى في هذا اللقاء بين عبدالعزيز وروزفلت بقلم وليم إيدي أول وزير مفوض للولايات المتحدة في السعودية وقد حضر هذا اللقاء وأدار عملية الإعداد له ؛ وسوف أقف في بقية هذا المقال عند نقطتين تسهمان في توضيح موقف عبد العزيز من مبادئه في مواجهة أول لقاء مباشر له مع الحضارة الغربية .
النقطة الأولى:حرص الملك عبدالعزيز على عدم التهاون بتعاليم دينه بل حرص أكثر على إبرازها وعدم التخلي عنها تحت وطأة البروتكول الأمريكي ، فقد أصر ممثل الملك عبدالعزيز على تصعيد عدد من الخِراف لتُذبح للملك ، وقد أكد قبطان المدمرة ميرفي التي جاءت لتقل الملك من ميناء جدة أن لديهم ما يكفي من اللحوم المجمدة وأن المدمرة لا تحتوي على حضيرة للبهائهم ، لكن أصر ممثل الملك على أن تحمل الكباش وأن يكون طعام الملك ومرافقيه على الطريقة الإسلامية مما اضطر طاقم السفينة إلى استحداث حضيرة في مؤخرة السفينة ، وموقد فحم لإعداد طعام الملك .
وعُرض على الملك في السفينة فِلمٌ عن المدمرة التي يعتلونها ويبدو أن الحديث جرى عن صناعة السينما فأفاد الملك أنه لا يريد نقلها إلى بلاده لأنها تشغل الناس عن عباداتهم .
كما اختار ممثلو الملك رحمه الله مكانه من السفينة بحيث يستطيع متابعة القبلة في أوقات الصلاة .
وبعد وصول المدمرة ميرفي إلى البحيرات المرة في قناة السويس ، انتقل منها إلى السفينة كوينسي حيث استقبله الرئيس روزفلت ، وكان الحديث عن حق اليهود في الاستيطان في فلسطين هو الأبرز في ذلك اللقاء ، وهو النقطة الثانية: حيث أثار روزفلت مسألة الاستيطان اليهودي في فلسطين وكأنه يستحضر رسالة الملك له في هذا الشأن قبل أربع سنوات ، فكان خلاصة رد عبد العزيز : أن الحلفاء إذا كانوا يعتقدون ظلم الألمان لليهود فعليهم أن يعطوهم جزءًا من ألمانيا وليس فلسطين ، وإذا كان اليهود كما يقول روزفلت لم تعد لديهم القدرة على العيش في ألمانيا فليتقاسمهم الحلفاء؛ وحين سأل روزفلت عن رأي الملك في اقتراح تشرشل إنزال اليهود في ليبيا بدلاً من فلسطين أفاد الملك بأنه لا يمكنه أن يرفض منح فلسطين لليهود ثم يوافق على منحهم بلداً آخر ليس له أي علاقة بما حصل لليهود من هتلر.
ويبدو أن هذا اللقاء قلب مفاهيم روزفلت عن المسألة اليهودية حيث نُقل عنه أنه قال بعد عودته لقد عرفت عن المسألة اليهودية من عبدالعزيز في خمس دقائق مالم أعرفه من عشرات المراسلات والمقالات.
كما ضلت قضية فلسطين قضية عبدالعزيز الأولى في كل لقاءاته بقادة العالم وسفرائهم ، وقد ذكر ديكسون في كتابه الكويت وجاراتها : أنه التقى الملك ثلاث لقاءات مطولة بعد قرار التقسيم وكان يفيض في الحديث عن السياسة البريطانية ومدى ظلمها للفلسطينيين ؛ والحقيقة أن موقف عبدالعزيز من قضية فلسطين يستحق مقالاً آخر .
د محمد السعيدي
‫⁦‪المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..