الصفحات

الاثنين، 29 أكتوبر 2018

تحقيق تسمية عام الحزن


       لقد اشتهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى العام الذي ماتت فيه خديجة - رضي الله عنها - وعمه أبي طالب بـ(عام الحزن).
ولم أقف على تحقيق لهذه التسمية إلا ما حققه الإمام الألباني -رحمه الله-  في كتابه:
"دفاع عن الحديث النبوي" (ص/18) حيث قال: "فإني بعد مزيد البحث عنه لم أقف عليه، (أي مسنداً)، ومما يدل على ذلك  أن المصدر الوحيد الذي رأيته قد أورده إنما هو القسطلاني في (المواهب اللدنية) فلم يزد على قوله: (فيما ذكره صاعد) وصاعد هذا هو ابن عبيد العجلي كما قال: الزرقاني في شرحه عليه (1/244) فما حال صاعد هذا؟ إنه مجهول لا يعرف ولم يوثقه أحد بل أشار الحافظ إلى أنه لين الحديث إذا لم يتابع كما هو حاله في هذا الخبر، على أن قول القسطلاني: (ذكره صاعد) يشعر أنه ذكره معلقاً بدون إسناد فيكون معضلاً فيكون الخبر ضعيفاً  لا يصح حتى ولو كان صاعد معروفاً بالثقة والحفظ وهيهات هيهات". انتهى المراد من كلامه.


قال مقيده عفا الله عنه: فعزمت على مزيد من البحث، فوجدت أن العيني قد سبق القسطلاني حيث أورده في "عمدة القاري" (7/98) بقوله:"قال صاعد في (كتاب الفصوص)[1]: فكان النبي يسمي ذلك العام عام الحزن". فظهر من ذلك أن صاعداً المذكور، ليس هو ابن عبيد العجلي كما قال الزرقاني، وتابعه عليه الإمام الألباني، بل هو صاعد بن  الحسن بن عيسى الربعي، الموصلي الأصل البغدادي اللغوي الأديب أبو العلاء، أخذ عن السيرافي وأبي علي الفارسي والخطابي وغيرهم، وكان عارفاً باللغة وفنون الأدب والأخبار، قال الحميدي في "جذوة المقتبس" (ص/223): "ومما ألف: كتاب (الفصوص) على نحو كتاب (النوادر) لأبي علي القالي". وقال ابن بشكوال في "الصلة" (1/232): "وكان صاعد هذا يتهم بالكذب وقلة الصدق فيما يورده عفى الله عنه". توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة.وقال الذهبي في "العبر" (2/232) في أحداث سنة سبع عشرة وأربعمائة: "وفيها توفي أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي البغدادي اللغوي الأديب، نزيل الأندلس. صنّف الكتب، وروى عن القطيعي وطائفة. قال ابن بشكوال: كان يتَّهم بالكذب". وقال في "تاريخ الإسلام" (28/ 420-421): "صاعد بن الحسن بن عيسى الربعي. أبو العلاء البغدادي اللغوي، مصنف كتاب: (الفصوص)... جمع (الفصوص) على نحو (أمالي القالي) للمنصور، فأثابه عليه خمسة آلاف دينار. وكان متهماً في النقل، فلهذا هجروا كتابه وقد تخرج به جماعة من فضلاء الأندلس. لما ظهر كذبه للمنصور رمى بكتابه في النهر. ثم خرج من الأندلس في الفتنة وقصد صقلّية، فمات بها". وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (12/21): "صاعد بن الحسن بن عيسى الربعي البغدادي صاحب كتاب (الفصوص) في اللغة على طريقة القالي في الأمالي". وقال ابن حجر في "لسان الميزان" (3/160): "صاعد بن الحسن الربعي أبو العلاء الأديب نزيل الأندلس عالماً باللغة شاعراً محسناً، تمكن من المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس  إلى أن غلب عليه مات في سنة سبع عشرة وأربع مائة عن سن عالية وهو من الرواة للحديث النبوي وإنما اتهم في اللغة وقد طالعت كتاب (الفصوص) له". ثم ذكره منه بعض ما فيه. وقال الحميدي في "جذوة المقتبس" (ص/224): "ومما يحكى عنه أنه دخل على المنصور أبي عامر وبيده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض البلاد اسمه مبرمان بن يزيد يذكره فيه (القلب والتزبيل) وهما عندهم من معاناة الأرض قبل زراعتها، فقال له: أبا العلاء! قال: لبيك يا مولانا، قال: هل رأيت بما وقع إليك كتاب (الوقالب والزوالب) لمبرمان بن يزيد؟ فقال: أي والله يا مولانا رأيته ببغداد في نسخة لأبي بكر بن دريد بخط كأكرع النمل، في جوانبها علامات الوضاع هكذا هكذا. فقال له: أما تستحي أبا العلاء من هذا الكذب، هذا كتاب عاملنا ببلد كذا وكذا، واسمه كذا يذكر فيه كذا للذي تقدم ذكره، وإنما صنعت هذا تجربة لك، فجعل يحلف له أنه ما كذب، وأنه أمر وافق. وقال له المنصور مرة أخرى وقد قدم طبق فيه تمر: ما التمركل في كلام العرب؟ فقال: يقال: تَمَركَل الرجل يتمركَلُ تَمَركُلاً إذا التف في كسائه. وله من هذا كثير، ولكنه كان عالماً".

فتبين من ذلك أن الزرقاني أخطأ في تعيين من هو صاعد. وثم أخطأ الإمام الألباني في متابعته على ذلك.

ورحم الله الإمام الألباني حيث قال في "الضعيفة" (1/44): "إن العلم لا يقبل الجمود، فهو في تقدم مستمر من خطأ إلى صواب، ومن صحيح إلى أصح، وهكذا... وليعلموا أننا لا نصر على الخطأ إذا تبين لنا".

ثم إن ابن سيدة المتوفى سنة (458هـ) ذكر هذه التسمية منسوبة إلى ثعلب عن ابن الأعرابي، فقال في "المحكم والمحيط الأعظم" (1/491): "وعام الحزن: العام الذي ماتت فيه خديجة وأبو طالب فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحزن حكى ذلك ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: وماتا قبل الهجرة بثلاث سنين".

وتابعه ابن منظور المتوفى سنة (711هـ) في "لسان العرب" (13/111). أما أبو حيان التوحيدي فنسبه  لثعلب فأسقط ابن الأعرابي فقال في "البصائر والذخائر"  (4/179): "قال ثعلب: مات أبو طالب وخديجة  في عام واحد وهو عام الهجرة، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحزن".

والأظهر نقل ابن سيدة، فبقى الأمر على ما قال الإمام -رحمه الله-: "إنه معلقاً بدون إسناد"، وابن الأعرابي مات في سنة إحدى وثلاثين ومائتين. كما في "سير أعلام النبلاء" (20/205).

أما تلميذه ثعلب فقد مات سنة إحدى وتسعين ومائتين كما في "سير أعلام النبلاء" (14/7). فيكون بينهما وبين والنبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوز!!  ولعل صاعد أخذه  عن ابن الأعرابي، ولم يذكر ذلك، لما عرف من حاله، ثم إنه ينقل عن ثعلب وابن الأعرابي في كتابه (الفصوص) وقد ذكر ابن حجر في "لسان الميزان (3/520) بعض ما نقله عنهما فقال: "وحكى فيه عن أبي سعيد عن الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال كان: يغشى مجلسي أبو محلم...". والله أعلم.

وقد أحسن الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- في كتابه "مختصر سيرة الرسول" (ص/131) حيث ذكرها بصيغة التمريض، فقال: "وقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي ذلك العام: عام الحزن".

ومع عدم الوقوف على إسناد لها، فهي متداولة في كتب العلماء:
فقال أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة (430هـ) في "ثمار القلوب" (1/644): "عام الحزن: هو العام الذي توفيت فيه خديجة رضي الله عنها وأبو طالب وكانت وفاتهما في عام واحد لسنة ست من الوحي فسمى النبي ذلك العام عام الحزن".

وقال الماوردي المتوفى سنة (450هـ) في "الحاوي" (14/17): "مات عمه أبو طالب، وماتت خديجة  في عام واحد عام الحزن، وذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين".

وقال النويري المتوفى سنة (732هـ) في "نهاية الأرب في فنون الأدب" (1/157) تحت "ذكر السنين التي يضرب بها المثل": "يضرب المثل: بعام الجراد: كان سنة ثمان من الهجرة. عام الحزن: وهي لسنة التي مات فيها أبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وخديجة رضي الله عنها وهي سنة عشر من الهجرة، وكان موتها بعده بثلاثة أيام وقيل بسبعة".

وقال الفيروزآبادي المتوفى سنة (817هـ) في "القاموس المحيط" (ص/1535): "وعام الحزن ماتت فيه خديجة رضي الله عنها وأبو طالب".

قال النجم عمر بن فهد المتوفى سنة (885هـ)في "إتحاف الورى بأخبار أم القرى" (1/305): "واجتمع على النبي - صلى الله عليه وسلم - بموت أبي طالب، وخديجة مصيبتان، وسماه عام الحزن".

وقال الحافظ السخاوي المتوفى سنة (902هـ) في "التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة"  (1/12): "كان - صلى الله عليه وسلم - يسمي ذلك العام عام الحزن".

ومن هذا التحقيق يتبين أن هذه التسمية لا يصح الجزم بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] في المطبوعة "النصوص" وهو خطأ، والصواب ما أثبته من كتب التراجم.

المصدر

---------------------
-


.... مواضيع مشابهة أو ذات علاقة بالموضوع :

هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى العام الذي ماتت فيه خديجة وأبو طالب بـ "عام الحزن"؟!

صحح تاريخك : عام الحزن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..