الصفحات

الأحد، 2 يونيو 2019

تنوع العبادات بتنوع الطبائع والأحوال "

‏-1- سأتحدث إليكم قليلا وربما أطيل. كثيرا مايأخذني التأمل في مفهوم العبادة، ومعنى التعبد. أتأمل حكمة الشرع، وأتأمل أفعال الناس، يمكنني وضع عنوان عريض لهذه الخاطرة فأقول
" تتنوع العبادات بتنوع الطبائع والأحوال "



-2- حينما خلق الله الإنسان بطبائع مختلفة، جعل عبادته أشمل من أن يحكمها رسم معين، فمن الممكن أن يتقلب الإنسان في عبادة ربه وهو يعيش حياته العادية، إذا أحضر نيته، وعرف شمولية العبادة. ( أما أنا فأنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني)


-3- يشدني طويلا حديث (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) وإني لأكاد أسمع جلبتهم وهم يمهدون الظل للصائمين، ويهريقون قرب الماء. تأمل. هؤلاء صائمون. وهؤلاء مفطرون. لكنهم يخدمون. ويبذلون. فلو صام الجميع لانقطع الجميع، ولكنها عبادات متعددة، تتسع لطبائع متنوعة. في شرع عظيم، من رب حكيم.

-4- عندما تتأمل أركان الإسلام تجدها متنوعة، فالشهادتان اعتقاد وقول، والزكاة بذل مال، والصيام إمساك عن الشهوات، والحج أعمال مخصوصة في مكان مخصوص، والصلاة يومية لأنها تشملها كلها، فهي قول واعتقاد، وأفعال مخصوصة، وترك شهوة، وبذل وقت يمكن التكسب فيه (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)

-5- ثمة أقوام جبلوا على هيئة ساكنة هادئة يجدون أنفسهم في عبادات التأمل والخلوة والاعتكاف، وآخرون جبلوا على الحركة وعدم المكوث يجدون أنفسهم في الحج وأعماله أو في خدمة الآخرين وبذل المعروف لهم. ومنهم من ليس في هذا ولا هذا، ولكن أنفسهم سخية في بذل المال في وجوه البر.

-6- ومنهم من يمشي بين الناس بالخلق العظيم، والابتسامة، وسلامة الصدر. وتلك عبادة عظيمة لو كنتم تعلمون. فالرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم رجل من هذا الباب هو من أهل الجنة. كان شيخا كبيرا ليس بكثير قيام ولا صلاة. إنما كانت علامته الفارقة أنه ينام سليم الصدر .

-7- وحين تضيع بوصلة العبادة، ويعوج الفقه، تحدث مفارقة مشوهة، وازدواجية سقيمة، فربما رأيت من يحفر بئرا في بلاد بعيدة وهو يماطل أجيره أجرته، أو من يختم كل ثلاث ليال وقد عضل بناته لحاجة دنيوية، أو من يعمر المساجد وهو ممن يمنع الماعون أو يمتنع عن فتح طريق ينفع المسلمين.

-8- أو موظفا ينشغل بقراءة القرآن مغلقا بابه عن المراجعين. وقد ذكر الله هذا الازدواج فقال ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) ألا وإنه لايتفطن لذلك إلا من أراد الله به خيرا، وآتاه الحكمة. و ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )

-9- إن القلب ليوجل وهو يقرأ عن مآلات مفزعة يوم القيامة، عن أناس يأتون بأعمال كالجبال يجعلها الله هباء، حيث شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا. وعن ثلاثة هم أول من تسعر بهم النار، قارئ قرآن، ومنفق، ومجاهد. وعن بغي تدخل الجنة بكلب سقته، وعن رجل أخر غصن شوك، فغفر له، فأدخله الجنة.

-10- يحدثني أحدهم أنه دخل على رجل وكان جالسا يقرأ ورده في مسجد فسلم عليه فلم يرد عليه السلام! إنما مد يده على هيئة من يقول: انتظر حتى أفرغ من الذكر! وهذا جهل منه في مفهوم العبادة. وهي صورة قد تتعدد على هيئات وأحوال مختلفة. وقد يسوقنا ذلك إلى سؤال مهم آخر وهو: ماهي أفضل العبادات؟

-11- يعود ذلك لأمرين: حال الشخص، والحالة التي هو فيها. عندما كان الصحابي يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل الأفضل؟ كانت إجابته تختلف من رجل إلى آخر، وقد علل العلماء بأنه كان يجيب كل سائل بما يصلح له، وحين سأله شاب المضي للجهاد سأله: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد.

-12- كذلك ماقص علينا في حادثة جريج وتردده في الموازنة بين صلاته وبين أمه. وأن ثمة عوارض قد تعرض للعبادات فتحول واجباتها إلى ماهو أوجب منها. ذلك وإني لأقف طويلا عند مرونة الشرع لهذا التحول لدرجة تأخير الصلاة إذا حضر الطعام. لأن مراعاة العبادة أولى من مراعاة محلها.

-13- وإنك حين تمعن النظر في نهي الشرع عن بعض العبادات في بعض الأوقات لتكاد ترى حكمة التحول إلى عبادات أخر، عبادات غير الصلاة النافلة وقت العصر، غير الصيام أيام الأعياد، فتتعبد لله بالأكل والشرب وذكر الله، وتتعبد له بالتزاور وصلة الرحم، وتتعبد بالسلام والدعاء والتبسم والمؤالفة.

-14- ولما كتب أحدهم للإمام مالك ينكر عليه اشتغاله بالعلم عن العبادة أجابه إجابة عالم ملئ حكمة وفقها، حتى لقد أصبحت إجابته قاعدة ونبراسا يقول:


-15- وللإمام ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين) بسط جميل عن الخلاف في أفضل العبادات. يرجح فيه أن أفضل العبادة "العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته" فالأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بواجبه، والأفضل في وقت استرشاد الطالب: الإقبال عليه وتعليمه.




-16- هذا كله تجمعه وصية النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ أن لايدع دبر كل صلاة أن يقول "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" كما يزداد إعجابك بفقه شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف العبادة وأنها "اسم جامع لكل مايحبه الله من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة"
والله الموفق.

كتبت على هيئة تغريدات
بواسطة :  مبارك المحيميد
 ‎@mubarak_am

المرجع

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..