الصفحات

الخميس، 9 أبريل 2020

قصة شيمة الشلاقي

       هذه قصة من أغرب ما مَرّ علي، وجدتها في "معجم أسر بريدة للعبودي"، فنقلتها كما هي بلهجتها العامية، ولم أغير فيها سوى بعض الأخطاء الإملائية أو الطباعية.
يقول الشيخ محمد بن ناصر العبودي في كتابه: "معجم أسر بريدة" (6/186):
قصة شيمة سمعتها من دخيل الدخيل:
فيه رجل من سكان البر وله زوجة وله حلال كثير، وكانت زوجته حاملًا وهو أول حملها، وكان مع الرعاة، وفي يوم من الأيام غضب على زوجته لأجل شيء تافه، وقام عليها وضربها وهي حامل، وذلك في وسط الليل وفي ليلة باردة وفيها عج عظيم ومطر فما كان منها إلا أنها هربت وزوجها نائم وليس بقربها جيران، وأخفى المطر والعج أثرها.
فلما كان الصباح لم يطلبها زوجها ظنًّا منه أنها في أحد هذه الشجر وترجع إلى بيتها، ولكن لم ترجع.
وبعد ما صار اليوم الثاني ركب الناقة يطلبها ولم يجدها.
ذهب إلى أهلها ولم يجدها عند أهلها.
أخذت تمشي حتى منتصف الليلة الثانية، وبعدما انتصف الليل جاءتها الولادة وكانت في رأس نفود عالي جدًّا، وأنجبت بنتًا ولكن صار عندها نزيف،
وفي آخر النهار أحست بالموت، وإذا راعي ناقة يصل إليها، فقالت: "جزاك الله خير أنا أعرف أني ميتة، ومعي هذه الطفلة، فخذها معك، وهي أمانة عندك، وترى اسمها شيمة، وإن ماتت فالخلف من الله، والبنت تراها بنت ملفي منير الشلاقي الشمري.
وماتت الحرمة ودفنها في رأس النفود، وذهب، وحمل البنت  معه، وهو دوار يدوِّر على إبل له ضائعة.
ولما صار آخر النهار إذا هو يصل إلى بيت من العرب، وإذا فيه حرمة، أناخ الناقة وقال للحرمة: خذي هذه الطفلة فهي جائعة، وتراها أمانة عندك، وترى اسمها (شيمة)، وأعطاها عشرة ريالات فرنسي، فأخذت الطفلة، وركب هو الناقة ومشى، والحرمة كانت تظن أن هذا الرجل هو والد البنت، وأنه سيرجع بلاشك، ولم تسأله عن وضعها على أنه سوف يعود.
ذهب الرجل إلى أهله وقصّ عليهم القصة وأخبرهم باسم البنت واسم أهلها، ثم قال: بعد كم يوم ودي أذهب للمرأة التي ترضعها وآخذ البنت لأنها أمانة عندي، وأنا أحسّ بوجع، إذا خَفَّ عني الوجع فسأذهب لآتي بها.
لكن توفي بهذا المرض ولم يخبرهم عن مكان هذه المرضع ولا اسم العرب التي هي عندهم.
وكان هذا الرجل -زوج المرضع- ليس له من الذرية سوى ولد واحد اسمه فواز.
كبرت شيمة ولم يأت إليها أحد، ولم يسأل عنها أحد، وتم لها اثنين وعشرين سنة، وهي في غاية الجمال والعقل، والذين هي تربَّتْ عندهم لهم ولد أكبر من شيمة بسنة واحدة، فصارت أخته من الرضاعة، وبعدما صارت هذه البنت عندهم صارت الدنيا تنهال عليهم، وصاروا أكبر الأغنياء في زمانهم، وأينما نزلوا فهم في غاية الخير، ولم يحسبوا لهذه الأرزاق أي حساب.

وفي يوم قالت أمها من الرضاع: "ليتي يا شيمة ما أرضعتك حتى تزوجين ولدي ماجد".

قالت: يا أمي من أهلي أجل؟
قالت أمها من الرضاع: "جابك أبوك وأنت لك يوم مولودة وقال هذه أمانة عندك وترى اسمها شيمة وأعطاني عشرة من الريال الفرنسي وركب ناقته ولم أره حتى الآن".

دخلت شيمة في جو آخر، وصارت تضرب أخماسًا في أسداس، وليس لها حيلة من الحيل، ولعب الشيطان على أخيها من الرضاع، وصار يمازحها بكلام لا يصلح لمثلها، حيث إن فيها عفة وعقل ودين.

وفي يوم من الأيام قالت لوالدها من الرضاع:
يا أبوي ماجد يمزح بشي ما يليق معي، فقال: إنه مزح وأنتِ فيكِ جور!

فقالت لأمها المرضع : يا أمي ماجد يكثر المزاح الذي ليس له محل،
فقالت لها: أنت أصبحتِ كبيرة وصار كل شيء على بالك.
فسكتت على مضض، وكانت شيمة هي هي من تأتي لهم بالماء على الجمل من الدحل الذي يبعد عنهم مسافة يوم، تروح الصباح ولا تحضر إلا بالمساء.

ركبت الجمل على العادة وهم يحسبونها ستأتي لهم بالماء ولكن لم ترجع.

وفي الصباح ركب أبو ماجد الذلول وراح ولم يجد لها خبر وبعد كم يوم وإذا الجمل عندهم، فعرفوا أنها هربت، ومثل ما جاءت راحت.

أما شيمة فقد أخذت ثلاثة أيام وهي ذاهبة إلى الشمال، وفي اليوم الرابع عند الغروب تصل إلى أهل بيت ولم تجد عند البيت إلا عجوز، فسلمت على هذه العجوز، وقالت أنا ضائعة، فقالت العجوز: الله يحييك يا بنتي تفضلي.

فقامت العجوز وأحضرت لها طعام ولم يكن عندهم سوى قليل من الغنم، ولما كان المساء حضر ولد العجوز وقال من هذه الحرمة؟ فقالت إنها تقول أنا ضائعة، فقال اسأليها عن أهلها من هم حتى نتسبب لها بترجيعها إليهم، فقالت العجوز: من هم عربك يا الحبيبة حتى أن فواز يساعدك على إرجاعك لأهلك؟
قالت: الضيافة ثلاثة أيام وبعدهن أخبركم عن أهلي.
فسكتوا، وفي اليوم الثالث قصت القصة على العجوز أم فواز، وقالت: إني هربت عن الذين تربيت عندهم من سبب ليس بطيّب، فقلت الهرب ولا العار، والجمل الذي أنا قدمت عليه يُعرَف بسبب الوسم الذي عليه، وهو يعرف أهله.
فقالت العجوز وما هي قصتك؟
قالت أن التي أرضعتني تقول أن الذي جابك رجل وقال خذي هذه الطفلة تراها أمانة عندك واسمها شيمة وراح ولم يرجع ولم تخبرني عن هذه الأخبار إلا من قبل سنة أو أقل وأنا في غاية من الكد والتعب عندهم، ولما علمت أنني لستُ ببنت لهم إلا من قبل الرضاعة صار عندي انفعال حيث إنهم لم يرحموني، وابنهم صار مدلل عندهم، وخفت على نفسي، وقلت لن يحموني من الأمور الأخرى.
فقالت العجوز: أنت بنت منير ملفي الشلاقي الشمري.
فاندهشت شيمة من هذا الخبر فقالت ويش يدريك عن والدي؟
فقالت العجوز الذي أخذك هو زوجي، وهو الذي يقول إني وجدت حرمة عندها طفلة صغيرة فأخذتها وأعطيتها عربًا، حيث أني دوار وبعيد عن أهلي، ويقول إذا تعافيت فسأرجع لآخذها، لأنها أمانة عندي، وتوفي في مرضه، ولا أراد الله أن أسأله عنهم من أي العرب هم.
قال العجوز: وكان ولدي فواز صغير في ذلك الوقت، وكنت دائمًا أقول: ليت من يدري عن هذه البنت من هي عنده نجيبها، وأنتِ بنت منير ملفي الشلاقي الشمري، قاله الذي أخذك وكرر هذا الاسم أكثر من عشرين مرة، ولكن الموت لم يمهله حتى يرجع إليك.
وبعدما حضر فواز أعلمته والدته بالخبر السار ففرح وقال أمانة والدي أنا أتحملها، وكان فواز عاقل وفيه دين، ولكن الفقر مخيم عليهم، ولا يملكون غير خمسة عشر شاة وجمل.
فقالت العجوز: يا فواز ودنا نرحل لعلنا نحصل الربيع، وأرضنا عطشانة، فقالت شيمة: أنا تعبانة، اصبروا يبي يجيب الله السيل ولا ترحلون.
ولما جاء العصر وإذا السيل يغمرهم، وبعد أيام شبعت الغنم وصار فيها بركة لم تمر عليهم من قبل، وصارت شيمة تحلب الغنم، وتعمل أشياء بحكم خبرتها لم تعرفها العجوز، وبعد ستة أشهر إذا عندهم بقل وسمن، فقالت شيمة: يا أم فواز خلي فواز يبيع السمن والبقل ويشتري لنا بعض الحوائج.
فرحت أم فواز وقالت بع السمن والبقل وجب لنا كذا وكذا من اللوازم للبيت، وفعلًا باع السمن والبقل واشترى معاميل وقهوة وهيل وجاب عيش وتمر وصاروا في غاية الغناة.
وفي يوم قالت العجوز يا فواز لعلك تتزوج  شيمة، اللي شف البركة نزلت يوم صارت عندنا، قال أخاف يصير ما عندها رغبة وأنا ما ودي أكدرها وهي أمانة والدي.
فقالت العجوز أنا أجيب لك الخبر بدون أنها تكدر، فقالت: يا شيمة لو يجي أحد يريد الزواج منك هل نخبرك؟ والا ما تبين أحد ينكد عليك حياتك؟
فقالت شيمة : إذا كان فواز ماله فيَّ رغبة ولا يبيني فأنا ودي لعل الله يرزقني أولاد، لكن فواز هو البادي.
فأخبرت العجوز فواز وفرح وشالها هي ووالدته إلى أقرب بلدة فيها قاضي وعقد الملكة، ولما رجعوا كانت شيمة عقب ما هي يمنّون عليها كأنها ضيف هي راعية البيت، وصارت الدنيا عليهم كثيرة، وبعد ما تمت عشرين عام مع فواز وإذا لها أولاد وصار فواز عنده من الحلال ما لا يحصى، ومن يأتي إلى فواز يبي رفدة  يقول له : رح لشيمة أنا مالي حلال، وتخابر فيه الناس أنه لا يرد المرتفد.
وفي يوم من الأيام خطرهم رجل عمره يقارب الخمس والأربعين، وفي الصباح قال هذا الخاطر أنا ودي يا المعازيب، إن كان عندكم رعيّة أنا وراي عجوز وشايب في شدة من الفقر.
فقال رح للحرمة واسألها أنا مالي سنع.
فقال فواز هذا الرجل يقول: دوروا لي رعية وأنا عندي عجوز وشايب في شدة من الفقر.
ولما رأته قالت أنت ماجد بن فرحان الرحيمي؟
فقال نعم:  أنت أختي شيمة؟
وعرفها حيث إنه أخوها من الرضاع، وبكى من شدة الفرحة التي غمرته، حيث أن الفقر داهمهم وما شافوا السعادة من يوم راحت شيمة عنهم.

فقالت: وش لون أمنا  مزنة وأبونا  فرحان؟ فقال لا تسألين، فهم في غاية من الجوع الشديد، وأتلى علمنا بالخير يوم إنك مشيتي عنا.

قالت شيمة: اترك الكلام وخذ معك زهاب وجملين وأعطه أمي وأبوي " من الرضاع" بأسرع وقت.

فرح وأخذ الجملين وشال والده ووالدته وحضر عند شيمة، وبعدما شافوا هالحلال والأرزاق عندها عرفوا أن الله قد بارك لها، وتعجبوا من كونها صارت تأمر وتنهى ووضعت لهم بيت كبير غير بيتهم، وملأت هذا البيت من الأرزاق، وقالت :خلوكم في غاية الراحة عقب الفقر الذي مسكم، وصار والد ماجد يعتذر منها كل يوم، وأردف العذر بأبيات وردّت هي عليه، (الأبيات موجودة في المصدر لكن حذفتها للاختصار).
وبعد كم يوم نزل عندهم شايب لما سمع أنهم يعطون المسترفد، ومعه ولدين وبنت وأمهم، فقال: أنا فقير لا تلومونني، معي أولاد، ولي حلال لكن ذبحه الجرب والمحل، ولا بقى معي شيء.

فقال له فواز إذا صار بعد الغروب تعال تعش معي ويبي يسهل الله أمرك.

فلما صار بعد الغروب حضر هذا الشايب فقال فواز من أي قبيلة أنت، قال أنا من شمر.
وكانت شيمة تسمع كلامه وهي وراء رفة البيت، وكانت الناس قديما تتسلى بسماع قصص كبار السن من خلف رفّ البيت، فأشارت لزوجها فواز أن يسأل الشيخ ليحدثه عن حياته، ولما تعشى قال فواز يا عمي قص علي أول حياتك.
فقال: أنا أول حياتي غني وعندي حلال وعندي زوجة، ولما قال عندي زوجة بكى، وقال فواز: وراك بكيت؟ قال الشايب: أبكاني الحزن، أنا لما تزوجت أول زواجي على حرمة طيبة وجميلة وصاحبة دين وكانت حامل وفي آخر حملها، ولعب علي الشيطان وضربتها على غير خطية.
وفي وسط الليل في ليلة باردة وعلينا مطر وريح باردة واثرها "طَنْيَتْ" يعني: زعلت، وأنا أحسبها حول البيت، حيث ما عندنا جيران ولا حولنا عرب.

ولما صار الصبح قلت في نفسي مالها مراويح ك، أكيد انها في أحد هذه الشجر وترجع لبيتها، وأنا سرحت مع الرعاة على أنها ترجع، لكن لم ترجع، ودورت عليها خمسة أيام ولم أجد لها خبر.
وبعد خمسة أشهر وأنا سارح مع الإبل وإذا أنا أرى جثتها في نفود عالي يابسة، قد أخرجتها الرياح، فحفرت لها ودفنتها، وكل ما جاء ذكرها على بالي بكيت، لأني مخطي عليها، ولكن الندم ما ينفع لي فات الفوت.
هذا وشيمة تسمع، فقالت شيمة: أنت منير ملفي الشلاقي الشمري، ""؟
قال أنا هو يا الحبيبة، فقامت على طول وقالت أنت أبوي، وقصَّتْ عليه خبرها من أوله إلى آخره، وقالت أبشر بالخير يوم الله جابك عندي.

وفي الصباح حطت له بيت عندها، وملأته من الأرزاق، فسبحان الذي جمعهم بعد الفرقة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..