الصفحات

الاثنين، 15 أغسطس 2022

شيعة المدينة المنورة في عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله)

حال الشيعة في المدينة في عهد الدولة العثمانية

يذكر المؤرخون أن الأتراك في سياستهم المتَّبعة كانوا قد اضطهدوا الشيعة، ومارسوا

سياسة التمييز العنصري حتى في كتابة الصكوك الشرعية الرسمية، وكذا التمييز المذهبي، وخصوصًا تجاه شيعة المدينة.

وفي إطار المواجهة بين العثمانيين والصفويين الشيعة -كما قيل- ألّف ابن حجر المكي الهيتمي كتابه “الصواعق المحرقة” ودرّس علنًا في مكة([1]).

قال السباعي: “وقد تعلَّم الناس نبذ النخاولة (شيعة المدينة)؛ لأن العثمانيين كانوا حربًا على التشيع لأسباب سياسية… ثم قال: والواقع أن بعض المؤرخين يلغون عقولهم لدى نقل الروايات، وأن بعضًا آخر تتحكم أهواؤهم في معتقداتهم، فيسجلون لشهواتهم أكثر مما يسجلون للحقيقة والتاريخ”([2]).

وواضح أن السباعي كان يتحدث عن حياة التعايش في المدينة في العهد السعودي، واستنكر جر التاريخ القديم إلى الحديث وافتعال المعارك في وقتٍ الأمة أحوج ما تكون فيه إلى الوحدة.

وجاء في ذكر أسباب تسليم الأحساء للملك عبد العزيز من قبل بعض الشيعة أنهم فعلوا ذلك للمصلحة المعتبرة؛ إذ إنهم استحضروا وضع ذلك الإقليم وأهله في ظل الحكم الوحشي والمهين والاستغلالي البرتغالي والتركي على حد سواء([3]).

ويذكر بعض الباحثين الشيعة حالات التشنج التي كانت سائدة في ذلك الوقت عند بعض أهالي الشيعة في المدينة، والذين تأثروا بتلك الأجواء المشحونة وتأثيرها في العلاقة مع “النخاولة”، فأفرزت علاقات يشوبها الشك والتوجس، حتى في النوايا، وفي التعاملات اليومية التي تفرضها الحالة الاجتماعية، وبالخصوص مع النخاولة القاطنين داخل المدينة، إلى درجة أن بعض هؤلاء الأهالي كانوا يدرجون في وثائق وصكوك الوصايا والأوقاف عبارة تنص أن لا يباع أو يؤجر العقار “لبدوي” أو “نخلي” ومعلوم مغزى هذه الوصايا الموجهة لهاتين الفئتين، وأنّ العلاقة بينهما وحاضرة المدينة لم تكن تتسم بالوداعة والمحبة، ويتبين من استعراض الوثائق أن هناك نوعًا من عدم الاندماج بين أبناء الحاضرة من الأتراك وغيرهم وبين أبناء القبائل، لا فرق في ذلك بين المقيمين منهم في البادية أو المقيمين في ضواحي المدينة المنورة، كأهل العوالي وقباء ونحوهما، وهذا بخلاف ما أوجدته الدَّولة السعوديَّة وسعت إليه من القضاء على مثل هذا التمييز أو الاختلاف الاجتماعي([4]).

وهذا يبين لنا أن الشيعة عاشوا تحت الحكم العثماني في مشقة وعُسر، وأنهم وجدوا متنفسًا في الدولة السعودية التي ألغت التمييز العنصري، ولله الحمد.

دخول المدينة تحت حكم الملك عبد العزيز وإعلان العفو العام:

في عام 1344هـ دخلت المدينة المنورة تحت حكم الملك عبد العزيز، لتبدأ حقبة جديدة من تاريخها المجيد، وقد ذكر الرحالة روتر أن تعداد سكانها في حينها يصل إلى حدود (6000) نسمة([5])، وهذا العدد الإجمالي للسكان يعني أن الشيعة كانوا ضمن هذا النسيج، وهم قليل.

وقد دخل الأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود المدينة المنورة في 20/ 5/ 1344هـ، ليستقبل البيعة من أهالي المدينة بضعة أيام نيابة عن والده.

وفي اليوم الرابع عقد الأمير محمد بن عبد العزيز اجتماعًا كبيرًا مع أعيان أهل المدينة وكبار موظّفيها في دار البلديّة، وتحدث إلى الموجودين، فكرَّر إعلان العفو العام، وطمأن الأمير محمد جميع الموظفين ورجال الشرطة الذين يريدون البقاء في مناصبهم أنهم لن يعزلوا، كما طمأن أهل المدينة أنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأن شرع الله سيطبق على الجميع([6]).

وهكذا نجد العفو والمسامحة من أبرز سمات هذا العهد الجديد دون تفريق عقائدي بين السنة والشيعة.

ثم أرسل الأمير محمد بن عبد العزيز برقيَّة إلى والده يخبره أنّ أهل المدينة بايعوه نيابة عن أبيه، وطلبوا منه إبلاغ والده بالبيعة، وأبرق رئيس البلديَّة والقاضي ورئيس الحرم برقيّات مبايعة للسلطان، نشرتها جريدة أم القرى، وردَّ عليهم السلطان ببرقيّات رقيقة([7]).

 الملك عبد العزيز يؤكد على حقوق أهل المدينة، وهي حقوق عامة تشمل كل السكان:

وقد زار الملك عبد العزيز المدينة المنورة، وخلال هذه الزِّيارة اهتمَّ الملك بشؤون القبائل حول المدينة المنوَّرة، وزاره شيوخها ووفود كثيرة منها، ونالوا من الأعطيات والمنح، وأكَّد الملك على قضيّة الأمْن، وأمن الحجّاج، ومسؤوليّة القبائل عمّا يحدث في منطقتها، والحزم الشديد الذي سيطبَّق، وكان الملك عبد العزيز قد اهتمّ خلال زيارته للمدينة بأمور أهلها والقبائل المحيطة بها، ووجَّهها للإقامة في الهجر بعد انتهاء حروب الحجاز([8]).

خطاب الملك عبد العزيز ووصيّته للمهام التي يوكلها لنوابه على المدينة:

1- رسالة الملك إلى عبد العزيز بن إبراهيم ونائبه:

«من عبد العزيز بن عبد الرحمن إلى المكرَّمَين عبد العزيز بن إبراهيم وياسين الرواف، سلَّمهم الله آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… وبعد: فإنَّ الأمر الذي آمرك به أنت -يا عبد العزيز بن ابراهيم- أنّك وكيل المدينة على شرط أن تراعي النَّاس، وتأخذهم بالحقِّ واللِّين والطمأنينة، وهناك الحاضرة والبادية، أما الحاضرة فلك النَّظر في جميع الأمور التي تخلّ بالشرع أو تخلّ بالولاية أو تضر بالأهلين، وابن الرواف ينظر مع مجلس الإدارة فيما تحتاج إليه البلد من أمور داخلة ضمن صلاحيَّتهم المقرَّرة، ولكن لا يمضي شيء من ذلك إلا بإمضائك له بعد استيفاء المعاملات المقرَّرة ومراجعة النِّيابة فيما يحتاج المراجعة، وأما البادية فمرجعها كلّها إليك، ليس لمجلس الإدارة تدخل فيها، ولا بدّ لك من مراجعة النيابة في أمر البادية وإدارتها كما تعلم.

أكرب وجهك وأرخ يدك، أما القتل والنَّكال فهذا لا نجيزه إلا إنفاذًا لأحكام الشرع، وينبغي لك ألَّا تنفذ من الأحكام -كالقتل والنَّكال الشديد أو الحبس الطويل- إلا بعد مراجعة النِّيابة ونوال تصديقها.

واحرص كل الحرص على الطّرق وأمانها، وهذا لا تستبقِ فيها جهدًا إلا نفذته، وعمدة أمري إليك أن يكون الناس جميعهم راضين عنك، حاضرتهم وباديتهم، وألا تمضي أمرًا إلا بقضاء الشّرع، لأنَّ ذلك أتمّ لأمر الله وأحسن للنُّفوس..»([9]).

2- من رسالة الملك عبد العزيز إلى أهل المدينة:

«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فقد استأذننا ولدنا مشاري ترويحًا لنفسه من المرض الذي أصابه، ولم نأذن له لأوّل الأمر، ثمّ لما اشتد به المرض لم نر بدًّا من الرخص له.

وقد أمرنا عبد العزيز بن إبراهيم أن يكون وكيلًا للإمارة، وأن يكون ياسين الرواف معاونًا له. وقد أرسلنا من قبل هيئة التفتيش والإصلاح للنَّظر في شؤون البلد، وقد فوّضناهم في إمضاء بعض الأمور الضروريَّة، فيمكنكم مراجعتهم وتقديم الشكايات من كلِّ شيء لهم، فما كان داخلًا في صلاحيَّتهم أصلحوه، وما لم يكن في صلاحيتهم رفعوه إلينا، لهذا فقد برئت ذمَّتنا من قبلكم، وأصبحتم أنتم المسؤولين عن خلاص أنفسكم إن لم تبدوها.

 وقد أمرنا بحل مجلس الإدارة ومجلس البلدية ومجلس الأوقاف، وأمرنا بتجديد الانتخاب لهذه المجالس الثلاثة، فعليكم بانتخاب الرِّجال الأكفَاء الذين فيهم صلاح لأمر الدين والدنيا. وهذا وكيل أمير المدينة قادم إليكم، وربما بلغكم أخبار شدته، وهذا أمر لا حقيقة له، إنَّه شديد على العاني، حبيب لمن سلك الطريق المستقيم، وعرف حقّ نفسه، وزيادة على هذا فقد أوصيناه بما يلزم، وأكَّدنا عليه التَّأكيد التّام في جميع الأمور التي لا نغيِّرها إن شاء الله تعالى، وأما أعماله فهي -بحول الله- قائمة على الأحكام الشرعية، وقد أمرناه ألّا يظلم مثقال حبّة، وأمرناه أن يجري في أمور الدوائر حسب ما هو مقرّر لها في النُّظم التي أمرنا بوضعها موضع العمل من قبل كلِّ دائرة بحسب ما قرّر لها، لا يتعداه، ولا يتداخل فيه إلا بإمضاء الأوامر التي هو مأذون بإمضائها، وله النظر في جميع ما يجري مخالفًا لما شرع وتقرَّر فيما كان في البلد من أمور جزئية، فيمضي فيه على الوجه المشروع، وما كان مرجعه النيابة فهو يعتمد أمر النِّيابة فيه، وأوصيناه بالرفق وتقديم أوامر الله والأخذ بيد من قام بها، وستلقونه كما ذكرنا لكم وأكثر إن شاء الله، وأنتم تتساعدون وإياه على البر والتقوى، وتجتهدون في حسم مادة الشقاق والقيل والقال.

نرجو من الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته»([10]).

يلاحظ من خلال المخاطبات: أن الملك عبد العزيز رحمه الله كان أحرص ما يكون على إقامة العدل ونشر الطمأنينة في البلد وعدم تخويف الناس ولا استخدام العنف ضدهم.

استدعاء الملك عبد العزيز زعماء القبائل لبحث سبل استتباب الأمن:

استدعى الملك عبد العزيز جميع زعماء قبائل حرب وجهينة وبلى أواخر رجب 1344هـ، ولقيهم في منزله، ووعظهم وأكرمهم وأعطاهم، وأعلمهم بانتهاء عهد الخوف والغزو والسَّلب، وضرورة استتباب الأمن والاستقرار وتأمينهما، وقيام الدولة بمسؤلياتها في هذا الشأن بالاستعانة بالقبائل نفسها، وجعل كل عشيرة مسؤولة عن المنطقة التي تعيش فيها، وشيخ العشيرة هو الذي يمثلها ويتحمل المسؤولية الكبرى، فإن استطاع إدارة أمور عشيرته وتحقيق الأمن ثبت في مشيخته ونال أعطيات الدَّولة، وإلا عزل وبدّل أو عوقب([11])، وربما يطلب من شيخ العشيرة المجاورة التدخُّل لحفظ الأمن، فإن أبطأ أو عجز تدخّل الجيش ليفرض النِّظام ويوطِّد الأمن، وقد أبلغ الملك عبد العزيز شيوخ العشائر العقوبات الصارمة التي ستطبَّق على المخالفين، ثم قسّم الحجاز إلى مناطق، وحددها، وبين حدود كل قبيلة، واشترط عليهم:

1- الالتزام بشرع الله.

۲- أن يؤدوا الزكاة.

3- المشاركة في الجهاد عندما يقتضي الأمر.

4- المحافظة على عابري السبيل من الحجاج والجمالين والمسافرين.

وأعلن أنَّه ليس لهم شيء من الحقوق على الحجَّاج ولا على غيرهم من عابري السبيل، وأن جميع الحقوق السابقة باطلة، وليس لهم إلا ما يتفضَّل به عليهم جلالة الملك من بيت مال المسلمين على عادته من أعطياته لرعاياه وغيرهم، ومنع العشائر من أن تقيم مضاربها على الطُّرق العامَّة، ليبقى المسافرون أكثر شعورًا بالاطمئنان على أنفسهم وأموالهم وتجارتهم، وكان هذا أوّل عمل جادٍّ وحاسمٍ ينهي مشكلة الأمن وطريق الحج التي امتدّت أكثر من عشرة قرون([12]).

الملك عبد العزيز يأمر باستبدال أمير المدينة لضبط الأمن:

أقام الملك عبد العزيز في المدينة المنورة قرابة شهرين، وكان لزيارته آثار إداريَّة تنظيميَّة كبيرة، وكان أوّلها تبديل وكيل أمير المدينة. فقد كانت التقارير التي تصله من قَبْل تشير إلى ليونة الأمير إبراهيم السبهان، الأمر الذي أتاح الفرصة لترويج بعض الشائعات عن اضطرابات حصلت في المدينة المنورة، وتعدِّيات خارج حدودها، وقد أبرق الأمير السبهان يكذِّب هذه الشائعات، ويؤكِّد استتباب الأمن والاستقرار في ربوع المدينة، غير أنَّ التحول الكبير الذي أحدثه النظام الجديد في الأمن كان يتطلب مزيدًا من الحزم والمتابعة ليزرع الهيبة في نفوس اعتادت لسنوات طويلة تخطِّي تعليمات الأمن، بل واعتادت الاعتداء على المسافرين والحجَّاج والنَّهب والسَّلب، وكانت ليونة إبراهيم السبهان داخل المدينة تتمثل في هذه التجمّعات التي أحاط نفسه بها، والتي تسبَّبت في ظهور طبقة من المقرَّبين أو أصحاب الشفاعة، ولم يكن هذا الأسلوب يعجب الملك عبد العزيز، فعزم على تغيير الأمير.

 وبطريقة ما أحسَّ بعض أهل المدينة بعزم الملك عبد العزيز على ذلك، فكتب بعض الأعيان والمقرّبين في مجلس السبهان عريضة للملك يطلبون فيها تثبيت السبهان، وعندما عرضت العريضة على الملك زادته يقينًا بوجود هذه الطبقيَّة، فظهر الغضب عليه -كما يروي زيدان- وأصدر أمره الفوري بعزل السبهان، “فبعث إبراهيم العمير ليبلغه أنّه لم يعد الأمير”([13]).

موقف الملك عبد العزيز من المنكرات في المدينة:

كان لحماسة بعض الإخوان بعض الأثر في ولادة هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ويصف عبد الله الشهيل هذه الحالة -وهي تنطبق على المدينة- فيقول: “عند دخولهم الحجاز -يقصد الإخوان- رأوا فيه ما لم يألفوه، نظرًا لأوضاعه المختلفة، فظنُّوا أن كلّ من يختلف معهم ليس على صواب، واعتقدوا عن حسن نيَّة أن كلّ مظهر لا يتَّفق مع ما هم عليه منكر من الواجب إزالته، وهذا صحيح، بيد أنَّ المشكلة في معرفتهم الناقصة، فنصَّب كلُّ منهم نفسه حاكمًا، فأخذوا يضربون المدخنين، ومرتدي الأزياء الغريبة عليهم، ويقبضون على المجتمعين لذكر أو تلاوة على اعتبار أنَّها بدع لم تكن موجودة عند السلف الصالح، الأمر الذي وجد معه عبد العزيز ضرورة إيقافهم عند حدّهم، حرصًا على راحة الحجازيين وخوفًا من أن تمتدّ أيديهم -أي: الإخوان- إلى الحجاج، مما قد يعرض علاقاته مع الدّول للتوتر، وهو الذي يسعى من أجل كسب السمعة الطيبة، وثقة المسلمين، وإظهار القدرة على الضبط والربط، هذه التصرفات وضع لها الملك المؤسس حدًّا، فبادر بتعيين مجموعة من حرسه الخاص الأشداء المعروفين بالمرونة ودماثة الأخلاق والورع والطاعة لولي الأمر، وضع هؤلاء الحرس الذين هم محل ثقته لتأديب كل من تخوله نفسه تجاوز حدوده، وعين قاضيًا للنَّظر فيما يحدث من تعدِّيات الإخوان، وممارسات الأهالي والوافدين لبعض العادات المخالفة لحقيقة الدين، ومما يمكن اعتباره نوعًا من البدع”([14]).

وهكذا نجد الملك عبد العزيز رحمه الله يتخذ موقفًا شجاعًا تجاه الغلو في الدين، ولم يسمح للإخوان بممارسة دور القبض على المخالفين وضربهم من أجل تغيير المنكر، بل كوَّن جهازَ هيئة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يأمرهم بالتفريق في التعامل بين السنة والشيعة.

الملك عبد العزيز وتغيير البدع في المدينة:

وخلال وجود الملك عبد العزيز في المدينة المنورة أيضًا أصدر علماء المدينة -وفيهم مفتو المذاهب الأربعة- فتوى لهدم القباب المقامة على الأضرحة وهدم القبور العالية، وأصدروا فتوى حول آداب زيارة الحجرة النبوية تلغي البدع التي سادت من قبل، وتقرِّر آداب الزيارة وفق منهج السنة النبويَّة، وقد وقّع الفتاوى كل من الشيخ إبراهيم البري عن الحنفية، والشيخ زكي برزنجي عن الشافعية، والشيخ حميدة بن الطيب عن الحنبلية، والشيخ محمد صادق العقبي عن المالكية([15]).

ويلاحظ من خلال هذه الحادثة أن الملك عبد العزيز رحمه الله كان يحمل همّ تنقية الإسلام مما يشوبه من البدع والخرافات، ويوازن في تحقيق ذلك بين المصالح، ولا يفرق بين فاعل البدعة، سواء كان مرتكبه من الصوفية أو من الشيعة أو من غيرهم، إذ المعيار هو حجم المفسدة المترتبة على استمرار تلك البدع على عقائد الناس، وهناك قضايا اختلفوا حولها مثل طلب هدم القبة الخضراء وغيرها من الأمور التي رأى الملك عبد العزيز أن من المصلحة عدم التعرض لها، خاصة مع إمكانية النصح وعدم الإضرار المباشر بعقائد الناس.

الشيعة في الخارج وموقفهم من الملك عبد العزيز رحمه الله:

أدرك الشيخ رشيد رضا بدايات الفترة التي حكم فيها الملك عبد العزيز آل سعود الدولة السعودية كأول دولة سنية بعد انهيار الخلافة العثمانية، وبالتزامن مع ظهور تيارين معارضين لقيامها، هما التيار العلماني، والتيار الشيعي الرافضي.

وقد ألَّف في خضم تلك الأحداث الكبيرة كتابه حول الخلافات بين السنة والشيعة، وكان سبب تأليفه هو نشر مجلة “العرفان” اللبنانية مجموعة من المقالات التي حاولت فيها التفريق بين المسلمين السنة والدعوة الوهابية كما تُسمّى عند البعض، وصَوَّرت الدعوة الوهابية بما لا يتفق مع الإسلام وعقائده.

وكذلك تأليف المرجع الشيعي اللبناني محسن الأمين العاملي رسالة سماها: “الحصون المنيعة في الرد على ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة”، وهي رد على مقال نشره رشيد رضا للرحالة محمد كامل الرافعي البغدادي، رصد فيه بعض محاولات علماء الشيعة بث التشيع بين بدو العرب عن طريق إغرائهم بنكاح المتعة.

ومع أن الشيخ رشيد رضا دائمُ التأكيد على تمسكه بمشروعه الإصلاحي في ما يقول ويكتب، وهو ما يقوم أصلًا على محاربة التعصب المذهبي، الأمر الذي لم يدفعه للرد على مجلة العرفان ورسالة العاملي في البداية، إلا أنه رأى في الكتاب الثاني للعاملي “الرد على الوهابية” الذي ملأه بالأباطيل على أهل السنة وانتصر فيه للثقافة القبورية وهاجم فيه دولة آل سعود السنية الفتية أمرًا يجب التنبيه عليه من صاحب المنار، سيما أنه رأى أن كتابات العاملي ستلحق ضررًا كبيرًا بعقائد المسلمين إذا تم السكوت عنها.

وبعد أن خاض رشيد رضا تجربته المريرة مع علماء الشيعة بادروه التقية في مسألة الوحدة الإسلامية بعد انهيار الخلافة العثمانية، ولكن سرعان ما تعصبوا لضلالاتهم، وكشفوا عن الوجه العدائي الحقيقي لأهل السنة بعد قيام أول حاضنة عقدية لهم في دولة آل سعود([16]).

ومما قال عنهم: “وخصوا بالطعن أول ملك عربي اعترفت له الدول القاهرة للعرب والمسلمين وغيرها بالاستقلال المطلق والمساواة لها في الحقوق الدولية، طعنوا فيه وفي قومه بكتاب ضخم لتنفير المسلمين ولا سيما مسلمي العرب وصدهم عنه وإغرائهم بعداوته والبراءة منه، لا لعلة ولا ذنب إلا اتباع السنة وإقامة أركان دولته على أساسها، مع عدم تعرضه للشيعة بعداوة ولا مقاومة، بدليل اتفاقه مع دولة الشيعة الوحيدة في العالم وهي دولة إيران بما حمدناه لكل منهما، ورجونا أن يكون تمهيدًا للاتفاق التام بين الفريقين”([17]).

وهكذا نجد رشيد رضا يؤكد على عدالة الدولة السعودية في تعاملها مع الشيعة، وأنها لم تبادرهم العداء.

ومما قاله رشيد رضا صراحة في شيعة الأحساء: “إن السلطان ابن سعود لم يتعرض هو ولا عماله لحرية رعيته من الشيعة في الأحساء، ولا لتفضيل أهل السنة عليهم”([18]).

وهذا الكلام يقاس عليه في التعامل مع الشيعة في المدينة وغيرها من المدن تحت سلطان الدولة السعودية.

استمرار النهج… بعد رحيل الملك عبد العزيز:

يذكر بعض الكُتَّاب من الشيعة أن سياسة الأتراك -حين كانت المدينة تحت حكمهم- مليئة بالاستفزازات والمضايقات كما في إعطاء بعض المناصب المهمة للفئات المختلفة، وأنها لم تهدأ أو تنعدم إلا في العهود الأخيرة، وتحديدًا في بدايات الحكم السعودي الذي قضى عليها، وشدد على عدم إثارة النعرات والتجاوزات العقدية والعرقية، وقد عزا بعضهم ذلك لحادثة شهيرة تسببت في ذلك، وكانت مفصلية في الحياة الاجتماعية في المدينة، وهي ما تعرف بـ(الهوشة)، وهي فتنة جماعية حدثت في المدينة بين طرفين سنة وشيعة، وكانت أشبه بحرب الشوارع، استخدمت فيها الأسلحة البيضاء، وتدخلت فيها الجهات الرسمية لإنهائها([19]).

أسباب الهوشة:

بدأت شرارة هذا الحدث الذي استمرّ لعدَّة أيام في بداية عهد الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله عام 1374هـ، حينما كان يجلس مجموعة من الشبان “النخاولة” في إحدى المقاهي آنذاك في “المناخة”، فتعرّض لهم مجموعةٌ أخرى من شباب أحد الأحياء في تلك المنطقة، وأخذوا يستفزونهم بعبارات وألفاظ غير مقبولة من مثل: يا رفض -أي: يا رافضة- وغيرها، مما استثارهم، فكانت ردّة الفعل أن قام أولئك بعصيِّهم التي استلزمت ظروف ذلك الوقت أن يحملها كل من يتوقع شرًّا، فسالت دماء إثر هذه المضاربة، فاستنجد كلّ طرفٍ بمجموعة أخرى من مناصريه من شبّان الحارات الأخرى، وفعلًا امتدَّ هذا الشجار ليشمل أغلب حارات وشوارع المدينة ذلك الوقت، فقام أطراف من أهل المدينة بالاتصال بالحكومة ونقلوا لهم كما أشيع في ذلك الوقت بأنَّ “النخاولة” خرجوا للشوارع لإحداث شغب عام، تدخلت على إثرها قوات الجيش والأمن بآلياتهم والدخول إلى المدينة واعتقال الشبَّان، وأدخل منهم السجن أعداد كبيرة، كما تم اعتقال مجموعة من شيوخ “النخاولة” كان من ضمنهم الشيخ محمد علي العمري والشيخ عايد الطبيلي، ونفوا وقتها إلى جزيرة فرسان، واستبقوا هناك لمدة أربعة شهور تقريبًا حتى خمدت نار الفتنة نهائيًّا.

كان هذا الحدث المهمّ جديرًا لأن تتّخذ السلطات الأمنية آنذاك قرارًا نافذا لكل من يتعرض من أهل المدينة للنخاولة بأي استفزاز عنصري أو مذهبي، ليطبَّق عليه حكم بالإيقاف والسجن، مما كان له أثره الإيجابي في التخفيف من حدة هذه التشنجات والملاسنات المتكررة بفضل الحزم الذي أبدته السلطات؛ لتوفير وسائل الأمن والاستقرار، ومحاولة الوقوف على مسافة واحدة من جميع فئات المواطنين.

ختامًا: عاش الشيعة في سلام ووئام مع أهل المدينة وسكانها في عهد الملك عبد العزيز ومن بعده من الحكام، بعد أن كانوا مضطهدين في عهد العثمانيين، ثم جاءت أيام الطفرة الاقتصادية وما صاحبها من تغيير جوهري عمراني واجتماعي، فتغيرت معالم المدينة المنوّرة، وتغير معها مجتمع “النخاولة” ديموغرافيًّا. فقد تمتع “النخاولة” كغيرهم بالسعة المالية التي تدفقت على البلاد، فأثر ذلك على حياتهم، فبدلًا من البيوت المتواضعة في “الحوش” أصبحوا يسكنون الشقق والبيوت الحديثة([20]).

وكان الملك عبد العزيز رحمه الله يحمل همَّ استتباب الأمن في المدينة نظرًا لأهميتها للمسلمين، ومع إيمانه رحمه الله بالخلاف في العقائد بين الطوائف إلا أنه لم يجعل مدار التمييز في الحقوق بناء عليه، وكان الملك عبد العزيز ينهى عن بعض المنكرات، ويقوم بتغييرها بالهدم والإزالة أحيانًا أخذًا بفتوى العلماء، وهذا ليس خاصًّا بهدم مزارات الشيعة؛ بل يشمل كل مزارات الفرق والطوائف المخالفة كالصوفية وغيرهم.

علمًا أن الشيعة في الخارج كانوا يهاجمونه ويحرضون عليه على عدة مستويات، وقد أبان الشيخ رشيد رضا عن خبثهم وحقدهم على قيام الدولة السعودية وتمسكها بالسنة، إلا أن ذلك كله لم يؤثر في تعامله مع شيعة المدينة وغيرهم، وتحقيق العدالة بينهم، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) مقال بعنوان: النخاولة وصعوبة التاريخ، بقلم فيرنر إنده، مجلة الساحل، العدد 13، (ص: 23).

([2]) تاريخ مكة (ص: 94-95).

([3]) الشيعة السعوديون، للهطلاني (ص: 123).

([4]) النخاولة (التكوين الاجتماعي والثقافي)، حسن الشريمي النخلي (ص: 47).

([5]) انظر: المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري، صالح مصطفى (ص: ٢٨).

([6]) انظر: الشامل في تاريخ المدينة (3/ 163).

([7]) انظر: جريدة أم القرى ع 55، في 30 جمادي الثانية ١٣٤٤هـ، 10 يناير ١٩٢٦م.

([8]) انظر: جريدة أم القرى ع ١٢٢، في 13 شوال ١٣٤٥هـ.

([9]) انظر: جريدة أم القرى ع ١٤٨، ١٨ ربيع الآخر ١٣٤٦هـ، ١٤ تشرين الأول 1927م.

([10]) بتاريخ 10 ربيع الثاني سنة 1346هـ، انظر: الشامل في تاريخ المدينة (3/ 184).

([11]) انظر: جزيرة العرب (ص: ٢٢٤).

([12]) انظر: جريدة أم القرى ع 60، تاريخ 6 شعبان 1344هـ، 22 يناير 1926م.

([13]) انظر: ذكريات العهود الثلاثة، زیدان (ص: ١٢٥).

([14]) فترة تأسيس الدولة السعودية المعاصرة، عبد الله الشهيل (ص: 79-80).

([15]) انظر: جريدة أم القرى ع ١٠٤، ٤ جمادي الثانية ١٣٤٥ه، ۱۰ ديسمبر ١٩٢٦م.

([16]) انظر: مجلة الراصد عدد: 70، ربيع الثاني 1430هـ، مقالة بقلم محمد العواودة.

([17]) رسائل السنة والشيعة، لرشيد رضا (ص: 112).

([18]) نقلًا عن: الشيعة في المملكة العربية السعودية، حمزة الحسن (2/ 148).

([19]) النخاولة (التكوين الاجتماعي والثقافي)، حسن الشريمي النخلي (ص: 72).

([20]) نخاولة المدينة المنورة، د. محمد بن حمد الهوشان، منشور في موقع: إسلام ديلي.



للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة


ــــــــــــــــــ
#أوراق_علمية (321)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..