الصفحات

السبت، 1 يوليو 2023

ملخص علاقات الملك عبد العزيز مع الإنجليز ، منذ النشأة وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى .

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه     وبعد؛
فإن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود من أبطال التاريخ وأفذاذهم الذين تمتلئ الطروس دون استيفاء مآثرهم ، وتعداد آثارهم .

وكأمثاله من صانعي التاريخ المجيد لأممهم تعرضت سيرته وإنجازاته للكثير من محاولات التشويه ، وزاد حرصَ الحاقدين والمغرضين على تشويه تلك السيرة : أنها أسست دولةً بقيت بعده فكانت أعظم دُول المنطقة وأكثرها استقراراً وثراءً وإنجازاً وحفاظاً على تراثها الديني ، وشخصيتها العربية ، فكان كل ذلك وغيره من الأسباب محلاً لحسد الحاسدين وكيدهم ، فكان النيل من تاريخ المؤسس وسيلةً في نظرهم لتشويه هذه الدولة والنيل منها ، ومما تعرضت له هذه الدولة ولا تزال دعوى كونها صنيعةً للاستعمار البريطاني ، وهي فِرية مع كونها تفتقر إلى السند التاريخي والمنطقي إلا أنها لقيت من الإشهار حداً جعل الكثيرين يتعاملون معها معاملة الحقيقة من التصديق لها ، والحكم على تاريخ الدولة ومؤسسها من خلالها .

وقد بدا لي تلخيص مواقف المؤسس رحمه الله من بريطانيا ومواقفها معه في هذه الورقة المختصرة ، كي تكون في متناول الجميع ، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها ويجعلها عونا على كشف الحقيقة وتبديل الباطل ودرء الفتن .

توطئة:

في عام ١٣٤٣كان بين السلطان عبدالعزيز وبريطانيا خلاف على الحدود بين سلطنة نجد وإمارة شرقي الأردن  التي كانت بريطانيا منتدبة عليها، وكانت أيضا لدى  سلطنة نجد  مطالبات بسداد حكومة شرق الأردن منهوبات تم الاستيلاء عليها من التجار النجديين الذاهبين إلى سوريا ، ولم تشأ الإدارات الإقليمية البريطانية حسم النزاع ودياً ، فأرسل عبدالعزيز قوة لإنهائه عسكرياً بعد فشل ما سُمِّي بمحادثات الكويت ، فأرسلت القيادة البريطانية طائرات وعربات مدفعية قامت بقصف قوات السلطان عبدالعزيز والقبائل التي تصدت لها من بادية الشام دون تمييز بين من معهم ومن مع القوة النجدية، فتفرقت القوتان  وأَسَرت المدفعية البريطانية والعربية المتحالفة معها ثلاثين رجلاً من النجديين ، ضُبِط معهم صفائح حديد قد عبؤوها باللحم المقدد ليقتاتوا منه في السفر ، هنالك كتبت الصحافة العربية أنهم اكتشفوا دليلاً قوياً على صلة السلطان عبدالعزيز ببريطانيا وهو أن [التنك ]الذي استخدمه السعوديون لتخزين اللحم المجفف كان إنجليزي الصنع !

الطائرات والعربات الإنجليزية قذفتهم ، والقوات الإنجليزية أسرتهم  ،والمحللون العرب لا يرون في المشهد سوى تنك اللحم التي حفظ فيها هؤلاء الجنود اللحم المجفف بشكل بدائي .

ليبدأ من هناك نسيج قصة عمالة عبد العزيز لبريطانيا .

هذه القصة تجد في تاريخ السعودية وحاضرها مثلها كثير فالسعودية يَرَى القذاةَ في عينها دائما من لا يرى الوتد في عين سواها .

لكن علاقة السلطان عبدالعزيز  [الملك لاحقا] ببريطانيا أصبحت محل نسج الأكاذيب التي صار الكثير منها لشدة تداوله يعامل معاملة الحقيقة لكثرة تدويره وضَعْفِ انتشار الردود عليه ؛بل وصل الأمر إلى بعض النخب الوطنية فأصبحت دون نقاش تُسَلِّم بأن الملك عبد العزيز بطريقة ما أو في مرحلة ما كان صنيعة لبريطانيا ، حتى إنني قرأت نقاشاً في تويتر بين اثنين من المشتغلين بالتاريخ يقول الأول : ولكن الملك عبدالعزيز كان صنيعة لبريطانيا ، فيجيب الآخر : نعم ولكنه كان صنيعة لها في مرحلة متقدمة !

فإذا كانت هذه حال النُّخب الوطنية المشتغلة بالتاريخ ، فكيف إذاً حال خصوم دولتنا ودعوتنا والإعلام المعادي لنا والمتأثرين به ؟!

القارئ المنصف والقارئ غير المنصف كلاهما على حد سواء للوثائق الإنجليزية والرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز وممثلي بريطانيا ، وغيرها من الوثائق يتأكد له أن بريطانيا لم تكن يوماً من الدهر تريد وجود  السلطان عبدالعزيز  أو الإبقاء عليه أو دعمه ، والفضل الأوحد على عبدالعزيز هو لله وحده الذي هيئا له الظروف الدولية كلها لتكون إما في صالحه ، واستطاع هو أن يقرأها بشكل دقيق فينفذ بين دهاليزها إلى مايُريد وأحياناً كثيرة كانت تلك الظروف تتقدم به لينال مالم يكن في تخطيطه مطلقا أو مالم يكن في تخطيطه القريب.

وكذلك الفضل بعد الله تعالى لشعب عبد العزيز الذي آمن بقضيته ووقف معه وبَذَلَ من أجل تحقيق حلم هذه الوحدة الشيء الكثير من دمائه .

أما أن يكون صنيعة لأحد، بريطانيا أو غيرها فهذا حديث لا يصدقه التاريخ ولا المنطق التاريخي .

وقد كتبت هذه المقالة لألخص فيها مواقف ذا الحاكم الفذ من بريطانيا ومواقفها منه لكل شاب تتعمد وسائل الإعلام المعادية أو المثقفون المنهزمون أو الأعداء المغرضون العبثَ بعواطفه وتشويه تاريخه بين يديه تمهيداً للفتنة وسعياً لإعادة الفرقة التي من أدواتها تزهيد الأجيال بأمجادهم وحضارتهم ورموز عزهم .

وقد اعتمدتُ فيها على:

⁃ الوثائق المجموعة في موسوعة دليل الخليلج التي جمعها :ج ، لوريمر  ، وترجمها مكتب صاحب السمو الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني .

⁃ كتاب تاريخ نجد الحديث لأمين الريحاني والذي استقى كثيراً من معلوماته من الملك عبدالعزيز ومن الإنجليز أنفسهم.

⁃ كتاب السعوديون والحل الإسلامي لجلال كشك ، وهو بحق أفضل ما كُتِب عن الملك عبدالعزيز ووثق علاقاته الخارجية لاسيما بالإنجليز من المصادر الأصلية ، وأجاد الترتيب والتحليل .

وأعلم أن دارة الملك عبدالعزيز قد أعدت موسوعة فريدة بجميع الوثائق الخاصة بالملك عبدالعزيز لكنني لم أرجع إليها ، لأمرين ، أولهما أنني لا أملكها ، والآخر :أن ما أكتبه ليس بحثا ، وإنما هو مقالة لتقريب المعلومة وتيسير الحصول عليها .

وسوف ألخص علاقات الملك عبدالعزيز ببريطانيا حتى نهاية الحرب الكونية الأولى ، وآمل أن يُسعف الوقت لعمل مقالة ثانية تلخص علاقاته بها من نهاية الحرب حتى نهاية فتنة ابن رفادة .

البداية:

أواخر عام ١٣٢١هـ كان الإمام عبدالعزيز رحمه الله يبسط نفوذه من الرياض التي دخلها قبل عامين فقط إلى أقاليم الوشم وسدير والمحمل وماحولها وعدد من بلدات القصيم بل بسط نفوذه على القصيم كله بعد ذلك بقليل ، وكذلك جاء هذا العام وهو يبسط نفوذه على منطقة العرض وعالية نجد حتى مشارف الحجاز وإلى الجنوب دانت له كل أقاليم جنوب الرياض من الخرج وحتى وادي الدواسر ، على امتداد ما يزيد على ستمائة كيلوا مترا ، أي أنه في ذلك التاريخ كان بلا منازع رجل نجد الأقوى رغم أن وجوده فيها لم يتجاوز الثلاث سنوات ؛ هذا العام هو الموافق لعام ١٩٠٣ حيث تعرف البريطانيون لأول مرة على هذا القائد وذلك عن طريق ناصحٍ لهم في الأحساء تواصل مع البريطانيين في البحرين وأخبرهم بعبدالعزيز وتوقعاته الخاصة له بأنه سيسيطر على نجد ويسترد الأحساء ، هذه المعلومات حفزت الحكومة البريطانية في الهند التي كانت المنطقة تقع ضمن اختصاصها إلى اقتراح علاقة مع ابن سعود ، إلا أن الخارجية البريطانية في لندن وهي صاحبة القرار الفصل ظلت عشرة أعوام بعد هذا التاريخ وهي ممتنعة من أي إجراء كهذا كي لا تزيد توتر العلاقات بينها وبين الدولة العثمانية الداعمة لابن رشيد ولاعتقادها أن ابن سعود لن يستطيع مقاومة العثمانيين وأنه سرعان ما سيسقط أو يُحَجَّم وتعود السلطة في نجد لابن رشيد ، ولذلك لم تر بريطانيا أي فائدة من أي تواصل مع عبدالعزيز لما سيُشَكِّله من المتاعب للندن في علاقاتها ومقايضاتها مع الباب العالي .

إلا أن أخبار الشيخ مبارك بن صباح التي كان يزود بها المعتمد البريطاني عن وسط الجزيرة جعلت حكومة الاحتلال البريطاني في الهند بعد انتصار ابن سعود في موقعة فيضة السِّر تُجَدِّد الاقتراح للخارجية البريطانية بالتواصل مع ابن سعود لكن الحكومة في لندن تظل عند رأيها في النأي عن ابن سعود والاستمرار في المراقبة ، وأكثر من ذلك تقديم النصيحة لابن صباح بعدم تقديم أي دعم لابن سعود وترك نجد تصفي حساباتها بنفسها .

المواجهة الأولى مع العثمانيين:

إلا أن تعامل بريطانيا بشكل لا مبالي مع عبدالعزيز بعد انتصاره في فيضة السر قابله مزيدٌ من الاهتمام لدى العثمانيين حيث وصلت الأنباء بتجريد السلطان عبد الحميد قوات من البصرة والشام ومصر لتجتمع في المدينة ثم منها إلى القصيم لدعم ابن رشيد والقضاء على ابن سعود ،ويحمل قادة هؤلاء العساكر معهم  الإرادة السلطانية بإحضار عبدالعزيز بن سعود إلى إصطمبول حياً أو ميتا.

وأَعْتَقِدُ أن ابن سعود كان يعلم أن السلطان عبدالحميد الذي يعاني من تهديدات كبيرة في البلقان والقرم وغيرها لم يكن ليفكر في إلقاء هذا الثقل في الجزيرة العربية دون رأي الحليف الألماني الذي كان يخطط للاستيلاء عن طريق العثمانيين على النفوذ الكامل في العراق والشام ومزاحمة الإنجليز على الخليج ، وبهذا سيكون عبد العزيز أمام قوتين عظميين ليس لديه القدرة التي تُكافئهما وهما القوة العثمانية والألمانية ، وكانت ذاكرة إسقاط الدولتين السعوديتين الأُوليين على أيدي العثمانيين ماثلة بالتأكيد أمامه ، وهو الآن على وشك الدخول في أول معركة مباشرة مع الجيش العثماني والعتاد الألماني  ، لذلك كان الحل هو ضرب ألمانيا وحليفتها ببريطانيا ،وذلك بطلبه دعم بريطانيا عن طريق مبارك بن صباح مُعَرُّضَاً بأنه سبق وأن التقى عند مبارك سنة ١٩٠٢ بمبعوثَي روسيا وفرنسا وأن بإمكانه إذا لم توافق بريطانيا التواصل مع أيهما.

بادرت حكومة بريطانيا في الهند حين وصلتها رسالة الشيخ مبارك فوراً إلى توجيه النصيحة إلى الحكومة في لندن بالمبادرة لدعم عبدالعزيز قبل أن يسارع إلى طلبها من الروس ؛ إلَّا أن هذا الطُعم الذي رماه عبدالعزيز إلى البريطانيين لم ينفع ولم يشاؤوا الاستعجال بالدخول في صراع مع العثمانيين والألمان من أجل بقعة في وسط الجزيرة ليس لها أي تأثير وليس من المُرَجَّح أن تنتصر على خصمها العثماني الذي يُعْتَبَر حقا أضعف من بريطانيا لكنه كذلك أقوى من ابن سعود بمراحل .

أمرٌ آخر مهم فطنت إليه بريطانيا وهو الجانب العقدي ، فابن سعود لبس مجرد طالب سلطة كغيرة من الحكام ؛ وإنما صاحب عقيدة يرون أنها  تُشَكِّل خطراً على وجود بريطانيا لو انتشرت لدى شعوب مستعمراتها ، ومن هذا المنطلق تكلم وزير شؤون الهند في لندن قائلاً في رسالة له لوزير خارجيتهم بتاريخ٢٤مايو١٩٠٤ :” إن هدف ابن سعود هو بعث الملكية الوهابية في وسط الجزيرة وهو أمر يثير نتائج خطيرة ومن المحتمل أن يهدد سلطتنا في الكويت، ولذا نؤيد فكرة التركيز على حماية أراضي الكويت وانتظار التطورات”

وضمن محاولة عبدالعزيز التزود بالسلاح لمواجهة هذه الأزمة أرسل إلى الكويت مالاً يطلب به سلاحاً يتقوى به إلاَّ أن المال أُعيد إليه وتم الاعتذار  عن بيع السلاح

للرياض بغير العذر الحقيقي الذي هو حيلولة بريطانيا دون وصول السلاح إلى ابن سعود.

ظلت طوابير العساكر العثمانية وآلياتها تتدفق على ابن رشيد من عام ١٣٢٢وحتى ١٣٢٤ ودارت بينهم وبين عبدالعزيز عدد من المعارك الصغيرة والكبيرة ، كلها  ذاقت فيها الجيوش العثمانية الوبال ، المواقع الأمهات منها : البكيرية التي لم يُحسم النصر فيها لأحد لكن الخسارة في الأرواح كانت من الطرفين ، وكان أكثرها في الجنود العثمانية ، ثم قصر ابن عقيل[وتسمى أيضا الشنانة والرمة] وقد خسر فيها الترك أيضا خسارة بالغة ،وروضة مهنا التي كانت خسارتهم فيها أكبر فداحة ؛تخللت تلك المعارك وأعقبتها مفاوضات طويلة بين ابن سعود والعثمانيين انتهت بالتوافق على اعتراف عبدالعزيز للسلطان العثماني بالخلافة واعترافه له بالإمارة على نجد ؛ إلا أن هذا التقدم العظيم لابن سعود لم يغيِّر في موقف بريطانيا منه سوى سماحها للكويت بالاتجار بالسلاح معه بعد أن كانت بريطانيا قد منعتها .

أول تواصل بين بريطانيا وعبدالعزيز:

وبعد ذلك لم يكن ثَمَّ تواصل مؤثر أو تواصل يُشير إليه المؤرخون إلا في عام ١٣٢٩هـ يوافقه ١٩١١ مع الممثل السياسي البريطاني في الكويت وليم شكسبير ،وهو اتصال يقول الإنجليز إنه صدفه ، ويقول بعض المؤرخين إنه لم يقع أصلاً ، وإنما الذي وقع مع شكسبير كان في ١٦/ ٤ /١٣٣١ هـ يوافقه٢٥/ ٣/ ١٩١٣ وابن سعود كان معسكِراً قريباً من المجمعة ،وشكسبير في رحلة بحث علمي عن الموارد المائية في المنطقة ، ولما علم الأخير أن عبدالعزيز قريب منه ساقه الفضول إليه ، هكذا تقول التقارير  الإنجليزية ، وسواءً أصدقوا في ادَّعاء المصادفة أم كان لقاءً مدبراً ، فالمعلن هو مذكرة شديدة اللهجة صدرت من وزير الخارجية تُعَنِّف وليم شكسبير ، وأياً كان فإن ابن سعود استغله لمعرفة وجهة نظر بريطانيا فيما لو قام عبدالعزيز بالسيطرة على الأحساء وطرد العثمانيين منها ، وكان الجواب بأن بريطانيا لن تدعم هذا التوجه بل ربما تقف مع العثمانيين فيما إذا قاموا بعملية استرداد للأحساء والقطيف ، كما أنهم لن يقفوا ضدهم لو حاولوا غزو نجد ؛ عاد شكسبير إلى الكويت وكتب تقريره إلى حكومته يخبرهم بنية ابن سعود ضم الأحساء ويؤكد على خطأ بريطانيا في امتناعها عن التواصل مع عبدالعزيز وعقد علاقات معه .

لكن رسالة شكسبير لم تصل إلى حكومة بلاده إلا بعد فوات الأوان فقد كان عبد العزيز أسرع في الوصول إلى الأحساء وضمها إلى سلطانه من البريد والتقارير الإنجليزية حيث دخل بقواته الأحساء منتصراً بعد لقائه بشكسبير بأقل من شهر ونصف وذلك في ٢٥/ ٥/ ١٣٣١ هـ يوافقه ٥/ ٥/ ١٩١٣م ، والحقيقة : أن ضم عبد العزيز للأحساء والساحل الشرقي للجزيرة العربية كاملاً لم يكن ضربة للدولة العثمانية بقدر ماهو ضربة لبريطانيا ؛ وذلك أن الدولة العثمانية كانت قبل ذلك بقليل قد تنازلت عن قطر  المجاورة للأحساء لصالح بريطانياً في اتفاق شفهي وُقِّع فيما بعد ، وربما كانت ستفعل الشيء نفسه في الأحساء وتتنازل عنها لبريطانيا أيضا ، فقد كانت الدولة العثمانية من الضعف بحيث يمكنها أن تشتري مساندة بريطانيا لها بأي ثمن ، وذلك قبل أن تقلب الحرب العالمية الأولى الموازين، وهذا ما أدركه عبدالعزيز بحسه السياسي وأدركه عدد من رجالات الأحساء على رأسهم مفتيها الشيخ عبد اللطيف المللا ، الذين كتبوا لعبدالعزيز يشجعونه على ما هو يفكر فيه من ضم الأحساء  ؛ فالعثمانيون في ذلك العام نفسه ١٩١٣ خسروا حربهم في ليبيا لصالح إيطاليا ، وخسروا حربهم في البلقان المجاورة لهم لصالح النمسا ؛ولهذا حينما استسلمت القوات التركية في الأحساء وأمَّنهم عبدالعزيز وركبوا مغادرين من ميناء العقير اتجهوا إلى البحرين الخاضعة لبريطانيا ولم يتجهوا إلى قطر التي لم تزل حاميتهم باقيةً فيها حتى ١٩١٥ ، وهناك أي في البحرين شجعهم الممثل البريطاني في البحرين على العودة إلى العقير واستعادة الأحساء من ابن سعود ، وعادوا فعلاً لكنهم هُزموا ورحَّلهم عبد العزيز مرة أخرى ، هنالك  أرسل المعنمد البريطاني

رسالة اعتذار إلى عبد العزيز يزعم فيها أنهم رجعوا من تلقاء أنفسهم ودون علمه ، وهو اعتذار لم يكن أمام السلطان سوى تمريره وهو يعلم أنه كذب لأن الجنود الأتراك عادوا  من البحرين مسلحين ، من سلحهم في جزيرة صغيرة تحت الحماية البريطانية ، بل الاحتلال البريطاني الكامل؟!.

الحقيقة : أن بريطانيا خسرت بضم الأحساء لسلطة ابن سعود خسارة كبيرة في تلك الحقبة الاستعمارية حيث حال بينها وبين السيطرة على كامل شاطئي الخليج ؛ بل الشاطئ الغربي الذي هو أهم الشاطئين وبه تكتمل سلسة مستعمراتها من الكويت حتى بحر العرب .

وقد أوضح فيلبي بعد هذا التاريخ بثلاثين سنة أن هناك اتفاقاً عثمانياً بريطانياً على تقاسم المنطقة كان متفقاً على توقيعه سنة١٩١٤ حيث أفشله الله بإعلان الحرب الكونية ووقوف الدوليتين  في معسكرين متقابلين ، وتختلف التقارير في هل هذا الاتفاق يقضي بكون الأحساء من نصيب بريطانيا أم من نصيب العثمانيين ، وفي كلتا الحالتين فهو اتفاق في البداية والنهاية ضد ابن سعود .

ولا ينقضي العجب من السفه الذي يعاني منه بعض كتاب العرب الذين يحاولون إقناع الناس بأن ضم الأحساء كان بدعم بريطاني ويتجاهلون الوثائق التي تؤكد غير ذلك ، كما يتجاهلون : أن بريطانيا كانت قاب قوسين من تسلم الأحساء من العثمانيين بعد أن تسلمت قطر منها بكل أريحية .

استمع إلى ما يقوله بيرسي كوكس وكان منصبه يسمى رئيس الخليج :”يبدو غريباً أن يندفع ابن سعود إلى هذا العمل الخطير ، في نفس الوقت الذي تدور فيه المفاوضات التركية البريطانية ، وبعد لقاء ودي مع ممثلنا ، ولكن مهما بدت الملابسات غير مرضية ، فإن الظرف كان فرصة مرضية لابن سعود ، ولم يبق أمامنا نحن والأتراك إلا مواجهة الأمر الواقغ” فهو يقر بالتفاهم التركي البريطاني حول االأحساء وأن عبدالعزيز أفسد عليهم تآمرهم ولم ينتظرهم

ولم يكن في مقدور بريطانيا في تلك الأثناء الدخول في مواجهة مع عبدالعزيز ، بعد أن رأت انتصاراته على القوات التركية في أربع مواقع مهمة ، فقد كانت بريطانيا تحسب الأمور هكذا : إذا كان ابن سعود قد اكتسب جنودُه قوة معنوية إثر تدخل الأتراك جعلتهم يكسرون هيبة العثمانيين في العالم العربي ، فلا شك أن مكانته في العالم الإسلامي ومعنويات جنوده ستكون أكبر في حال استفزاز بريطانيا لأُسُود الدين والقِيَم والعروبة الحقة ؛ كما لم تكن ظروف بريطانيا تسمح لها بالدخول في مغامرة عسكرية في قلب الصحراء ، لاعتبارات عدة  منها : كثرة الخسائر المتوقعة ، وأن حرب مباشرة مع عبدالعزيز ستُكسبه رمزية لدى العالم الإسلامي في وقت تاريخي بدأت فيه اليقظة العربية والإسلامية ضد الاستعمار ، وأن الدولة السعودية هي منطلق الدعوة السلفية التي تأثر بها مسلمو الهند وكانت الفكر القائد لجميع الثورات ضد المستعمر البريطاني هناك منذ الشيخ ولي الله الدهلوي[تـ١١٧٦] حتى ذلك التاريخ الذي نتحدث عنه ، كما أن الدعوة السلفية في الهند كانت أحد الأسباب الرئيسة للنهضة العلمية فيها والتي نتج عنها إحياء علم الرواية والحديث ، والسبب الأخير والأهم لعدم إقدام بريطانيا على مواجهة عبد العزيز عسكريا : الصراعات الأوربية والتي كانت بريطانيا شريكاً فيها وأدت إلى الحرب العالمية الأولى التي شبَّت بعد دخول ابن سعود إلى الأحساء بأقل من عام .

ابن سعود والحماية البريطانية:

لذلك لم تجد بريطانيا مخرجاً من مأزق فوات الأحساء من يدها إلا التفاوض مع عبد العزيز وإقناعه بقبول الحماية البريطانية التي ستضمن له بريطانيا بموجبها الاعتراف الدولي في مقابل أن تستفيد هي من الأحساء بأكبر قدر مستطاع ، وأن تأمن أيضا أن يُعلن زُعماء المشيخات الخليجية ولاءهم له ، بعد أن كشفت السلطات البريطانية عن رسالة بعث بها أحد زعماء المشيخات المتصالحة يُقدِّم فيها ولاءه لابن سعود، مما جعلها تُحذر علناً هؤلاء الزعماء من التواصل مع ابن سعود ، وتُشجعهم على مواجهة قواته فيما لو حاول ضم تلك المشيخات إليه ، وترسل إلى عبد العزيز رسالة لطيفة في تركيبها هي بمثابة إنذار وتحذير له من التدخل في قطر أو مشيخات الخليج الأخرى ؛ثم  بدأت عرض حمايتها على عبد العزيز بمحاولتين مهمتين فشلت في كلتيهما .

الأولى :في نهاية العام ١٩١٣ أي بعد ضم الأحساء ببضعة أشهر حيث التقى شكسبير والممثل البريطاني في البحرين بالملك عبدالعزيز عند ميناء العقير ، ولم يحصلوا سوى على عكس ما كانوا يؤملون فقد أخبرهم عبدالعزيز أنه على استعداد لإقامة علاقات قوية مع العثمانيي تصل إلى حد الاعتراف بالولاية العثمانية إلا في حال محاولة العثمانيين استرداد الأحساء فسوف يقاوم بضراوة ، وقد أعقب هذا اللقاء رحلة إلى الرياض قام بها شكسبير ورأى الاستعدادات القوية للحرب عند عبدالعزيز وكتب تقريراً يتنبأ فيه بأنه سيكون حاكما للجزيرة بكل أقطارها وأن حكامها الحاليين ربما يكونون ولاة عنده ، وهو تقرير يحمل صفة التحذير .

والحقيقة أنه حصلت العديد من المداولات والمراسلات تتلخص في أن ابن سعود كان يهدد بريطانيا بالاتفاق مع تركيا ويهدد تركيا بالاتفاق مع بريطانيا وفي الوقت نفسه كانت تركيا تهدد بريطانيا بالاتفاق مع ابن سعود وبريطانيا تهدد تركيا بالاتفاق معه ، والخلاصة كان ابن سعود يمكر بالجميع ، وفي النهاية يسير بالشكل والطريق الذي يحلو له.

في الحرب العالمية الأولى:

لكن كل تلك المفاوضات بينه وبين الطرفين وإن كانت زادت من إقدام حكومة الاحتلال في الهند على التشجيع على التواصل معه إلا أن الكلمة النهائية بقيت للحكومة في لندن ، حيث استقروا على : البقاء في منأى عن عبد العزيز ، وعدم التفريط في تركيا من أجله ، أما الأتراك فقد خطبوا وده وكوَّنوا لجنة للتفاوض معه برئاسة طالب النقيب التقى بهم في الصبيحية إحدى ضواحي الكويت في٧/ ٦/ ١٣٣٢هـ يوافقه ٣/ ٥/ ١٩١٣، والتقى قبلهم بمندوب بريطانيا التي كانت تريد تكوين جيش من ابن سعود وابن صباح وخزعل الكعبي ليقوموا نيابة عنها باحتلال البصرة من يد حليفتهم تركيا ، وكان موقف ابن سعود رافضاً لهذا الاقتراح ،فأخبره المندوب بالتفصيل بالاختلاف حول التعاون معه بين الحكومة المركزية وحكومة الهند وأن القرار هو قرار لندن ؛ وفي الصبيحية وقَّع الاتفاق مع الدولة العثمانية ، والذي عُرِف باتفاق الصبيحية ، وخلاصته : اعتراف الدولة العثمانية بسلطة ابن سعود المطلقة على ما تحت يده واعترافه لها بالخلافة .

لكن البريطانيين انقلب عليهم الوضع ، فقد قامت بعد ذلك بقليل الحرب العالمية الأولى وأعلنت عليهم الدولة العثمانية الحرب ، وأصبحت حليفة لألمانيا وإيطاليا ، وهنا لاشك أنها ندمت على رفضها لأي تواصل مع ابن سعود الذي أصبح يسيطر سيطرة كاملة على منطقة من الخطير جداً أن تتخذها ألمانيا وتركيا منطَلَقا لها ؛ لذلك بادرت بإرسال أول موظف من موظفيها التقى سابقاً بابن سعود وأوصى بالتواصل معه ورُفِضت توصيته وهو النقيب وليم شكسبير الذي قدم مرة ثالثة إلى الملك عبدالعزيز  في أوائل عام ١٣٣٣هـ يوافقه أواخر عام ١٩١٤ وكان ابن سعود على وشك خوض معركة جراب بينه وبين ابن رشيد؛ التقى شكسبير بالسلطان عبد العزيز ، وطلب منه إعلان الحرب على ألمانيا وتركيا ، ورفض ابن سعود ذلك ؛ لكنه وعد بالحياد ، وكتب شكسبير تقريره وأرسله إلى الكويت من معسكر السلطان ، وأصر على المشاركة في حربٍ لا ناقة له فيها ولا جمل بزيه الإنجليزي فكانت سبب نهايته حيث قُتِل في معركة جراب  .

والحقيقة : أن ابن سعود التزم الحياد في الحرب العالمية ، بمعنى أنه لم يُعلن الحرب ضد ألمانيا وتركيا ، ولم يعلنها ضد بريطانيا وحلفائها ، لكنه كما يذكر جمال باشا قائد الجيش الرابع العثماني  في مذكراته أمَدَّ الدولة العثمانية بأربعة عشر ألف جملاً لجر المدافع وحمل المؤن العسكرية ، وذلك في حملتها لطرد الانجليز من قناة السويس ، وهي الحملة التي لو نجحت لتغيرت نتيجة الحرب الكونية الأولى مبكراً ، لكنها فشلت بسبب الشريف الحسين وولده فيصل.

الذي لم يذكره جمال باشا هو أن الدولة العثمانية خانت السلطان عبدالعزيز مباشرة بعد توقيعه معاهدة الصبيحية معها ، وعلم عبدالعزيز بهذه الخيانة بعد بداية الحرب العالمية من عدة جهات أهمها خصمه سعود بن رشيد ، إذ أرسل له عبد العزيز كما أرسل لقادة الجزيرة العربية الآخرين رسالة يُذَكِّرهم فيها بأن هذه الحرب ليس لهم فيها صالح ويقترح عليهم الاجتماع لتحديد موقفهم ، فكان جواب ابن رشيد :أنه تبع الدولة [العثمانية]يعادي من عادت ويصادق من صادقت ، وأنها أعطته عشرة آلاف بندقية سوف يكسرها على رؤوس أصحاب عبد العزيز .

وبالرغم من هذه الخيانة التي تسببت في هزيمة ابن سعود في معركة جراب إلا أن عبدالعزيز لم يقابلها بخيانة مماثلة ، وقدم للدولة ذلك الدعم العظيم في حملة ترعة السويس المتقدم ذكرها.

معاهدة دارين:

في ذي القعدة من عام ١٣٣٢ يوافقه أكتوبر من عام ١٩١٤ نجح البريطانيون باحتلال العراق وانتزاعه من أيدي العثمانيين ، وبعد ذلك بثلاثة أشهر تقريباً فشل العثمانيون فيما عُرف بحملة ترعة السويس التي تحدثنا عنها قبل قليل ، فأصبح عبدالعزيز محاطاً ببريطانيا من جميع الجهات ، بمستعمراتها في الشمال والشرق والجنوب وبحلفائها في الغرب ، هنالك التقت الرغبتان في توقيع معاهدة بين الطرفين بدأت المفاوضات حولها بعد وصول تقارير شكسبير إلى الإدارة البريطانية ، ومن أعجب هذه المراسلات إلى نفسي تلك التي أرسلها عبدالعزيز إلى رئيس الحكومة البريطانية في الهند يخبرهم فيها أن دولته التي سبعلنون الاعتراف بها بموجب المعاهدة المزمعة ستحكم بالشريعة الإسلامية ؛ وانتهت المفاوضات وتم الاجتماع للتفاوض المباشر حول الصيغة النهائية للمعاهدة والتوقيع عليها في جزيرة دارين قرب مدينة القطيف في تاريخ ١٨/ ٢/ ١٣٣٤هـ يوافقه ٢٦/ ١٢/ ١٩١٥م وهي معاهدة ممتازة ، من يقرؤها بإنصاف وهو يعرف الظرف السياسي والعسكري الذي تم توقيعها فيه لاشك سيُعجب بعبد العزيز وقدراته التفاوضية .

ولا أعلم كيف قرأها حافظ وهبة وأحمد عبدالغفور عطار والزركلي وغيرهم حتى ينتقدوها ، وقد سبقني إلى العجب الأستاذ جلال كشك رحمه الله في كتابه السعوديون والحل الإسلامي ، وأطال في التحليل والمقارنة للتأكيد على خطأ وهبة ومن تبعه في رأيه ؛ لكنه نحا منحى أشبه بالاعتذار لعبدالعزيز بظروف الوقت ، لكننا بقراءتنا لبنود المعاهدة لا نجد فيها أي مادة تشير لضعف الملك عبدالعزيز أمام الظروف السياسية والعسكرية التي لم تكن من صالحه في مقابل بريطانيا .

فمبوجب المعاهدة تعترف بريطانيا بسيادة عبدالعزيز وسيادة آبائه وسيادة أبنائه من بعده على نجد والأحساء والقطيف والجبيل وما يتبعهما ، وتلتزم بحمايته حينما يتعرض لأي اعتداء كما يلتزم بعدم التعرض لمستعمراتها ؛ وهذه البنود الكاسب الأكبر فيها هو عبدالعزيز ؛ ثم هناك بنود معلومة بالضرورة ، وهي حماية الحجاج العابرين إلى الديار المقدسة ، وأن يتعهد بأن لا يُسلِّم أي جزء من بلاده لأي دولة أحرى .

المادة الوحيدة التي أعتقد أن ملاحظة وهبة ومن تبعوه كانت عليها هي الثالثة ، والتي تلزم عبدالعزيز بعدم الدخول في أي معاهدة مع أي دولة قبل استشارة بريطانيا ؛ والحقيقة : أن ابن سعود وافق على هذا البند لأنه ليس في حاجة إليه ، وأي دولة سيحتاج عبدالعزيز إلى التعاهد معها وبريطانيا تحيط به من الجهات الأربع !

إن المعاهدة لا تحتوي على أي التزام لبريطانيا بوجود عسكري ، ولا أي التزام بمساعدتها بأي قوات سعودية في نزاعاتها ، ولا بتأمين أيٍ من شواطئها لعمليات بريطانيا العسكرية ، وليس في بنود المعاهدة أي إلزام لعبدالعزيز بالتخلي عن اتفاقياته السابقة ، وهي تحديداً : اتفاقية الصبيحية بينه وبين العثمانيين ، فقد ظلت سارية وعمل بها عبدالعزيز حتى سقطت الدولة العثمانية .

وليس في بنود دارين  ذكر لتأمين التجارة أو العمليات البحرية البريطانية في الموانئ السعودية .

بل إن هذه المعاهدة يُعْتَبَر بها عبدالعزيز أول حاكم مسلم في العصر الحديث تعترف الدول الاستعمارية الكبرى باستقلاله دون أن يُقَدِّم لها أي تنازل ، حتى إنه لم يقدم لها الحق في إرسال مقيم بريطاني أو سفير أو قنصل ، ولم يعطها ولو حُجْرة على الساحل ترفع عليها علمها ، فمن أين للبعض أن يأتي ويزخرف القول ويدَّعي أنها كانت معاهدة حماية أو يُشَبهها بما مضت عليه سُنَّةً المعاهدات البريطانية مع بيع البلاد الإسلامية وغير الإسلامية وحتى معاهداتها مع الهند والصين اللتين هما أكبر من نجد والأحساء مئات المرات ، وقد أحسن جلال كشك في رده  على نظرية الحماية التي يرددها البعض تعليقاً على هذه المعاهدة أيما إحسان وحديثه هناك مما تجدر قراءته ونشره .

بعثة هملتون وفيلبي :

حينما اتفقت بريطانيا مع

الشريف حسين على الثورة العربية خَشِيَت أن يُعِيقه السلطان عبدالعزيز عنها بأي مناوشات حربية ، فأرسلت بعثة هملتون وفيلبي إلى الرياض في شهر صفر ١٣٣٦هـ يوافقه ديسمبر ١٩١٧م ، للتفتيش عمَّا يُمكن أن يشغل ابن سعود ، فلم يجدا سوى أن يقوما بتشجيعه على حرب ابن رشيد ، وليس هذا تحليلاً ؛ بل هو ما نص عليه فيلبي في كتابه بعثة للجزيرة العربية ، والحقيقة أن هذا كان بالنسبة لابن سعود تحصيل حاصل ، وابن رشيد هو الخصم التقليدي له ولا يحتاج لمجابهته  إلى رأي بريطانيا ،لكن عبد العزيز مع هذا حاول الاستفادة من المُيُول البريطانية  باشتراطه للموافقة على هذه الحملة خمسين ألف جنيهاً ذهبياً وآلاف البنادق وعدد كبير من المدافع ، ووافقت البعثة البريطانية  ، إلا أن عبدالعزيز لم يصله من ذلك إلا القليل ، وقامت السلطات البريطانية في الكويت بمصادرة الباقي بعد أن سلمته بالفعل لوكيل ابن سعود في الكويت ، لأن بريطانيا غيرت رأيها ورأت الاعتراف بابن رشيد ودعمه ، ويفيد الدكتور جبار عبيد صاحب كتاب صاحب كتاب التاريخ السياسي لإمارة حائل ؛ أن آل رشيد رغم أنهم في المراسلات الرسمية يصنفون أنفسهم رعايا عثمانيين إلا أنهم مع ذلك كانوا يتلقون بين الفينة والأخرى دعما إنجليزيا على صورة مال أحيانا وأحيانا على صور تسهيلات تجارية وإعفاءات ضريبية.

ولقد رجعت الحكومة الإنجليزية إلى وجهة نظرها السابقة وهي عدم ترك وسط الجزيرة لابن سعود وحده ، خاصة وأن ابن سعود طالب بريطانيا بمنع الشريف من الاعتداء على واحتي تربة والخرمة ، وقد أفاده فيلبي بأن دولته لن تفعل لأنها تقر بأحقية الشريف بهاتين الواحتين ، وفي مؤتمر القاهرة بعد ذلك بأشهر أقرت بريطانيا خارطة الجزيرة العربية كما تُريدها هي وليس للوهابيين فيها كما قالوا سوى قطعة يسيرة في الوسط غير مبالين بالتزاماتهم في دارين التي تقدم ذكرها ، والعقير الآتي ذكرها ، ولكن ابن سعود حقا رسم خريطته بنفسه .

لقد أثمر مطلب البعثة عن ضده فبدلاً من أن يهاجم ابن سعود حائلاً ناوش ابن رشيد وقبائله مناوشات تقليدية ثم عقد صلحاً معه .

تربة والخرمة:

كان ابن سعود يرى أن واحتي تربة والخرمة تابعتين له لا لمملكة الحجاز ، وذلك لأمور منها :

ولاء أهليهما والقبائل المحيطة بهما للدولة السعودية منذ عهدها الأول ؛ وقد كانت تربة وقبائلها صاحبة مجد عظيم في المعارك التي دارت مع محمد علي باشا نفسه قبل أن يذهب ويبعث ابنه إبراهيم ، كما كانت الخرمة أيضا وكُبراؤها آل لوي منذ الدولة السعودية الأولى مع الدعوة السلفية وقادة دولتها آل سعود ، وكذلك كان أهل البلدتين وقبائلهما مع عبد العزيز .

وكانت معاهدة العقير تقضي بأن يضمن البريطانيون حماية دولة ابن سعود من أي اعتداء خارجي ، إلا أنهم في عام ١٩١٨ قرروا دعم الشريف حسين في الاستيلاء عليهما ، وبالفعل كتب الشريف يستأذن بريطانيا في ذلك ، فكان الإذن ، كما أرسلوا لعبدالعزيز أكثر من تحذير من مقاومة الشريف إذا فعل ذلك ، ورد عليهم ابن سعود بأن واجبهم أن يمنعوه من التقدم ، واستعد بقبول التحكيم بينهما ، وأخبر فلبي مشافهة بأن حكومته إن لم تمنع الشريف من الاعتداء على البلدتين فلن يكون مسؤولاً عما ينتج من عواقب ذلك.

وبعد انتهاء لورنس الضابط الإنجليزي من حصار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة الأمير فيصل بن الحسين ، واستسلام الحامية التركية ، عاد أخوه الأمير عبدالله بالقوات النظامية التي كانت مع أخيه من جيش الحجاز تحمل ما غنمته من المدافع التركية ، فلم ير الأشراف أن تُوَجه إلى جهة أفضل من هاتين الواحتين واعتقدوا أن هذه الأسلحة النارية الضخمة مع التفويض الإنجليزي ضد ابن سعود قادرة على سحق أي رد يمكن أن يقوم به عبد العزيز وقواته من إخوان من أطاع الله ، وتُفيد المذكرات المتبادلة بين المسؤولين الانجليز أنهم كانوا يشعرون الشعور نفسه ، ولم يخطر في بالهم أن قوات نظامية تحمل الأسلحة المدافع الأوتوماتيكية والرشاشات سوف تقهرها قوة بدائية أكبر أسلحتها البندقية التقليدية .

لكن عبد العزيز تعامل مع التهديدات البريطانية بهدوء فأرسل ألفاً ونيفاً من قواته إلى الخرمة في انتظار الشريف ، ونهاهم عن اتخاذ أي إجراء إلا بعد إذنه ، وبخصوص قطع المعونات البريطانية عنه فلم تكن تعني له شيئاً لأمرين : الأول : أنها بدأت مع فيلبي قبل عام ونصف وانقطعت أيضا قبل هذا الإنذار بعد اعتراف بريطانيا بابن رشيد وقرارها دعمه ضد ابن سعود وهو القرار الذي اعتمد رسميا في اجتماع القاهرة وتم إبلاغه لعبد العزيز على يد بيرسي كوكس .

الثاني :أن الدعم البريطاني المزعوم لا يساوي رعايا ابن سعود ورعايا آبائه في تربة والخرمة وباديتهما .

واحتل الشريف عبد الله تربة ، وأرسل قادة ابن سلطان بن بجاد يخبر عبد العزيز بما حدث فأذن لهم عبدالعزيز بالرد عليه إن هاجمهم ، وبالفعل أرسل الأمير عبد الله بن الحسين رسالة لسلطان بن بجاد وخالد بن لوي يقول فيها إن تربة والخرمة ليستا قصده ، بل قصده أن يصلي عيد الأضحى في الأحساء ، أي أن هذه المدافع جاءت لتدك كل معاقل ابن سعود حتى تستولي على الأحساء ، هنا رأى قادة عبدالعزيز أن واجبهم الوقوف في وجهه ، وبالفعل حدثت معركة تربة ، وتم فيها إبادة الجيش النظامي لعبد الله بن الحسين بأكمله وفرار قائده في ٢٠/ ٨ / ١٣٣٧هـ يوافقه ٢٨/ ٥/ ١٩١٩م .

وبعدها بأيام وصل سلطان نجد إلى تربة وآلمه ما حدث ، وأمر قواته بالعودة إلى نجد ، هنالك وصله رسالة من المعتمد البريطاني في جدة تطلب منه التخلي عن تربة والخرمة والعودة بجنوده من حيث أتوا  وإلا ستتولى بريطانيا ردعه ؛ وكان ابن سعود في طريق عودته فعلاً لكنه لم يتخل عن الواحتين كما طلبت منه الرسالة بل ثبت فيهما القضاة والأمراء ومعلمي الدين ثم اتجه إلى الخصم الآخر ابن رشيد الذي كانت بريطانيا قد أخبرت ابن سعود بحمايتها له واعترافها به .

خاتمة:

في سياق الحديث عن علاقة الملك عبد العزيز بالإنجليز  حدثت بعد هذه الواقعة أحداث كثيرة ، منها نزاعات القبائل في الشمال ،  ومؤتمر العقير ومؤتمر الكويت ، وضم الملك عبدالعزيز للحجاز وثورة الإخوان ومفاوضات النفط وثورة ابن رفادة وتمرد الإدريسي ؛ وكلها تؤكد الحقيقة التي أكدتها الأحداث التي تم تلخيصها في هذه الورقة ، وهي أن بريطانيا ليس لها أي فضل في تكوين المملكة العربية السعودية ؛ بل كانت عامل إعاقة وتأخير ، ولم تكن بحال ترضى بهذه بوجود هذه الدولة المباركة ، لكنها تركتها في بادئ الأمر لحسابات سياسية خاطئة كانت تعتقد من خلالها أن جميع من حول ابن سعود أقوى منه وأنه سيتعبهم ويستنفد قواهم فترة من الزمن وسيكون ذلك لصالحها ، ثم سيسقطونه وهو أيضا لصالحها ، لكن تقدير الله فوق تقدير محللي سياسات بريطانيا ، وعطاء الله هو العطاء ولا يزيده عطاء بريطانيا ولا يكدره منعها ، وقد ظلت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وهي تكيد له وتتمنى زواله .

وأما قول خصوم المملكة اليوم وأمس وغداً أن السعودية صنيعة بريطانيا فهو كلام لا وثائق تصدقه ، ولم يقل به البريطانيون أنفسهم ، ومن يقرأ مذكرات كل الإنجليز الذين عرفوه يدرك ذلك جيداً ، بيرسي كوكس ، وديكسون ، وفيلبي ، وكذلك المراسلات الرسمية في الوثائق البريطانية ، من يقرأ كل ذلك لن يجد إلا ما يؤكد له كذب كل ادعاء يزعم غير ذلك .

نعم كان الملك عبد العزيز سياسياً عظيما كما كان عسكرياً عظيما ، ورجل هذا شأنه لن تجد في لغته أو تصرفاته عنتريات وضجيج لاكتساب الجماهير وإرضاء الغرور النفسي ، وإنما سيجد محنكاً يعرف أقدار الخصوم ويحسن التحكم في صندوق صدره في مواجهتهم ، كما يتقن مهارة كسبهم ومداراتهم وتحييدهم متى ما أراد وجرهم للمواجهة متى ما أراد أيضا ، ثم الوصول إلى ما يريد ، فيما يعتقد السُّذَّج أن القائد هو مفضوح السريرة الذي يستطيع أعداؤه معرفة حجمه فيتركونه يستعرض عضلاته أمام الجماهير فترة من الزمن فإذا حان وقت قطافه قطفوه وأتلفوه .

إن عبد العزيز هو صاحب أول نصر إسلامي في هذا العصر الحديث الذي لم يكن قبله سواه بعد سقوط دولة أجداده سنة ١٢٣٣هـ ، وهو صاحب أول مشروع وحدة عربية ناجح حتى اليوم منذ مئات السنين ، أقول هذا ولا أبالي ، وكل أصحاب الدعاوى ضد الملك عبدالعزير ، لا يستطيع أحدهم أن يقدم لعالمنا الإسلامي قائداً فذاً يحمل سجايا وإنجازات الملك عبد العزيز منذ وفاة الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد رحمه الله .

ولا يستطيع أحدهم أن يقدم للأمة قائداً منذ ثلاثة قرون له على جيله من أبناء وطنه وعلى الأجيال من بعده من الفضل ماللملك عبد العزيز .

ويكفيه فخراً ويكفينا فخراً به أنه جاء في زمن عربي وإسلامي حالك صنعه الضعف العثماني وعوامل أُخر واستطاع أن يستخرج لنا من هذه الجزيرة المتشرذمة وطنا واحدا نحيا فيه بين أمم الأرض قوة صلبة دينا ودنيا لا يستخف بها إلا من في بصيرته خلل يعز عن العلاج .

د محمد بن إبراهيم السعيدي

 

للتحميل PDF اضغط هنــا  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..