الصفحات

الأربعاء، 19 يوليو 2023

أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رضي الله عنه/ سيرة

  اسْمُه وَنَسَبُه وَمَوْلدُه:
هو سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، الْخُدْرِيُّ، الْخَزْرَجِيُّ، الْأَنْصَارِيُّ. الإصابة (١٤٧/٧)، وأسد الغابة (١٤٢/٥).
والْخُدْرِيُّ نسبةٌ إلى بطن من بطون الْخَزْرَجِ يُقال لهم بنو خُدْرَةَ، وهو أحد أجداد أبي سعيد -رضي الله عنه-، وأُمُّه هي أُنَيْسَةُ بِنْتُ أَبِي حَارِثَةَ، الأنصاريَّة، مِنْ بني النَّجار، أخوال عبد المطلب جَدِّ النبيِّ ﷺ، وهي أيضًا أُمُّ الصحابيِّ الأنصاريِّ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، فأبو سعيد الخدريُّ أخو قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ لأُمِّه -رضي الله عنهم-. جمهرة أنساب العرب (٣٦٢)، والطبقات الكبرى (٣٦٧/٥).
وقد وُلِدَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رضي الله عنه- بِيَثْرِب سَنَةَ ثَلَاثٍ من بعثة الرسول ﷺ تقريبًا. المستدرك (٦٣٨٩) والاستيعاب (١٧٦١/٤).

🟡إِسْلَامُهُ وبَيْعَتُهُ:
أسلم أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ هو وأبوه وأُمُّه على يد مصعب بن عمير -رضي الله عنهم- قبل هجرة النبيِّ ﷺ إلى المدينة، وهو في الثَّامنة من عمره تقريبًا.
ولما هاجر إليهم النبيُّ ﷺ كان أَبُو سَعِيدٍ ابنَ عشـر سنين، وقد خرج الوالدان في جموع الأنصار الغفيرة لاستقبال رسول الله ﷺ عند قدومه في مشهد حافل لم ترَ البشريَّة مثله ولن ترى.
وأمَّا عن بيعته لرسول الله ﷺ فيُحدِّثنا عنها الصَّحابيُّ الأنصاريُّ سهل بن سعد السَّاعديُّ -رضي الله عنه-، فيقول: (بايعتُ النبيَّ ﷺ أنا وأبو ذرٍّ، وعُبادة بن الصَّامت، ومحمد بن مَسْلمة، وأبو سعيد الخدريُّ، وسادس، على ألَّا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال السَّادس، فأقاله). الإصابة في تمييز الصحابة (٦٦/٣).
ومنذ أن وقعـت عين أبي سَعِيد على النبيِّ ﷺ وهو يلازمه كظلِّه، ينهـل من علمه، ويتعلَّم من أخلاقه، إلى أن حاز في العلم مرتبة عالية وهو في سنِّه الصَّغيرة، حتى قيل: (لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَحْدَاثِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ﷺ أَفْقَهَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-). الطبقات الكبرى (٢٨٥/٢)، والسير (١٧٠/٣)، والإصابة (٦٦/٣).

🟡 أبُو سَعِيدٍ وأبُوه يَوْمَ أُحُدٍ:
وجاء شهر شوال من السَّنة الثَّالثة للهجرة وقد خرجت فيه قريش لقتال النبيِّ ﷺ والمسلمين في المدينة، فأحاط المهاجرون والأنصار وأبناؤهم رسولَ الله ﷺ ليرسموا صورة بديعة يتعلَّم المُتأمِّل فيها كيف يكون الحُبُّ والفداء.
ولمَّا أراد جيش الإسلام أن يتحرَّك نحو أُحُدٍ وجد النبيُّ ﷺ بين جموعه عددًا من أبناء الصَّحابة حَدِيثَةً أَسْنَانُهُمْ، فخشي عليهم فأمر بإرجاعهم، وكان من بين هؤلاء الأحداث أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ الذي خرج مع أبيه ليُقدِّما أرواحهما فداءً لله ورسوله، فأخذ والده مالك بن سنان -رضي الله عنه- يحاول إقناع النبيِّ ﷺ بإطاقة ولده للقتال، ولنترك الحديث لأبي سَعِيدٍ ليروي لنا القصَّة، فيقول -رضي الله عنه-: (عُرِضْتُ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَلِي ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَجَعَلَ أَبِي يَأْخُذُ بِيَدِي، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ عَبِلُّ الْعِظَامِ، -أي: ضخم العظام، انظر لسان العرب (٤٢٠/١١)- وَإِنْ كَانَ مُؤَذِّنًا، قَالَ: وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَعِّدُ فِيَّ الْبَصَـرَ وَيُصَوِّبُهُ، ثُمَّ قَالَ: «رُدَّهُ»، فَرَدَّنِي). مستدرك الحاكم (٦٣٨٩)، والمعجم الكبير للطبراني (٥١٥٠).
ووقف أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه- مع بقيَّة من رَدَّهُم النبيُّ ﷺ وأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ؛ حُزْنًا على فراقهم لرسول الله ﷺ.
وكأنِّي بمَالِكِ بْنِ سِنَانِ -رضي الله عنه- ينظر نظرة مُوَدِّعٍ إلى ولده وثَمَرَة فُؤَادِهِ وهو يُطَيِّبُ خَاطِرَه، ويمسح الدَّمع عن عينيه، وكأنَّه يشعر أنَّه آخر لقاء به في الدُّنيا. 
ووقف مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ -رضي الله عنه- أمام رسول الله ﷺ وكأنَّه يَشَمُّ رائحة الشَّهادة، فقال: يا رسول الله، نحنُ والله بَين إحْدَى الحُسْنيين، إمَّا يظفرنا اللهُ بهم، فهذا الَّذي نريد، فيذلهم اللهُ لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر، فلا يبقى منهم إلَّا الشَّريد، والأخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشَّهادة، والله يا رسول الله ما أبالي أيُّهما كان، إِنَّ كُلًّا لفيه الخير. مغازي الواقدي (٢١١/١)، وإمتاع الأسماع للمقريزي (٢٤٩/٩).
ولما دارت رَحَى المعركة شُجَّ رَسُولُ الله ﷺ فِي وَجْهِهِ، فَتَلَقَّاهُ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ -رضي الله عنه- فَلَحَسَ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ﷺ، فَمَصَّ جُرْحَ رَسُولِ الله ﷺ، ثُمَّ ابْتَلَعَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَشْرَبُ الدَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَشْرَبُ دَمَ رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ خَالَطَ دَمِي دَمَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ»، وفي لفظٍ: «خَالَطَ دَمِي بِدَمِهِ، لَا تَمَسُّهُ النَّارُ». المستدرك (٦٣٩٤-٦٣٨٦).

وقاتل مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ -رضي الله عنه- يَوْمَ أُحُدٍ أشدَّ القتال حتى رزقه الله الشَّهادة التي كان يرجوها، ثم بَلَغَ النَّاسَ في المدينة مُصَابُ رَسُولِ الله ﷺ، فيقول أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه-: فَلَمَّا كَانَ من النّهَارِ وَبَلَغَنَا مُصَابُ رَسُولِ الله ﷺ، جِئْت مَعَ غِلْمَانٍ مِنْ بَنِي خدِرَةَ نَعْتَرِضُ لِرَسُولِ الله ﷺ وَنَنْظُرُ إلَى سَلَامَتِهِ، فَنَرْجِعُ بِذَلِكَ إلَى أَهْلِنَا، فَلَقِينَا النّاسَ مُنْصَرِفِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا هِمَّةٌ إلَّا النّبِيَّ ﷺ نَنْظُرُ إلَيْهِ، فَدَنَوْت مِنْهُ فَقَبَّلْتُ رُكْبَتَهُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، ثُمّ نَظَرْتُ إلَى وَجْهِهِ فَإِذَا فِي وَجْنَتَيْهِ مَوْضِعُ الدِّرْهَمِ فِي كُلِّ وَجْنَةٍ، وَإِذَا شَجَّةٌ فِي جَبْهَتِهِ عِنْدَ أُصُولِ الشّعْرِ، وَإِذَا شَفَتُهُ السُّفْلَى تَدْمَى، وَإِذَا رَبَاعِيَتُهُ الْيُمْنَى شَظِيَّةٌ، فَإِذَا عَلَى جُرْحِهِ شَيْءٌ أَسْوَدُ، فَسَأَلْتُ: مَا هَذَا عَلَى وَجْهِهِ؟ فَقَالُوا: حَصِيرٌ مُحَرَّقٌ، وَسَأَلْتُ: مَنْ دَمَّى وَجْنَتَيْهِ؟ فَقِيلَ: ابْنُ قَمِيئَةَ. فَقُلْت: مَنْ شَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ؟ فَقِيلَ: ابْنُ شِهَابٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَصَابَ شَفَتَهُ؟ فَقِيلَ: عُتْبَةُ، فَجَعَلْتُ أَعْدُو بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيَّ، قَالَ: «سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ؟» قُلْت: نَعَمْ، بِأَبِي وَأُمِّي! ثُمَّ قَالَ رسول الله ﷺ: «آجَرَك اللهُ فِي أَبِيك». مغازي الواقدي (٢٤٨/١).
وكان أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قد علم أنَّ أباه قد استشهد في المعركة فانطلق وَعَيْنُهُ تَفِيضُ بالدَّمْعِ من جديد، وأقدامه تسابق الرِّيح حتى وقف على جثمان أبيه الحنون وهو مُجندَل في دمائه، ولنترك أبا سَعِيدٍ يُحدِّثنا بما فعل عندئذٍ، فيقول -رضي الله عنه-: (قُتِلَ أَبِي مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَنَقَلْتُهُ، فَلَقِيَنَا صَارِخٌ بَعَثَهُ رَسُولُ الله ﷺ أَنِ ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ أَدْرَكْتُمُ الدَّعْوَةَ، قَالَ: فَدَفَنْتُ أَبِي). رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة (٥٩٩٥).

🟡 جهاده مَعَ رَسُول الله ﷺ:
كانت أول مشاهد أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- مع رسول الله ﷺ غزوة بني المصطلق، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثم َشَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَشَاهِدَ كلَّها. المستدرك (٦٣٨٨).
وقد كان أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه- مع النبيِّ ﷺ في الحديبية، وكان ممن بايع تحت الشَّجرة، فهَنِيئًا له البُشـرى في قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: ١٨].

🟡 الزَّواج السَّعيد:
كان النبيُّ ﷺ حريصًا على تحصين المجتمع المسلم بالزَّواج، وكان حرصُه أشدَّ على الشَّباب، وها هو ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ الله ﷺ: «يَا مَعْشَـرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». رواه البخاري (٤٧٧٩)، ومسلم (١٤٠٠).
فعزم الشَّابُّ الصَّالح سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ الْخُدْرِيُّ -رضي الله عنه- على البحث عن فتاة مؤمنة تملأ عليه دُنياه سعادة، وتُعينه على أمر الآخرة، فرزقه الله الزَّواج من الفتاة الأنصاريَّة زَيْنَبَ ابنة الصَّحابيِّ الجليل كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وقد رزقه الله منها بعدد من الأبناء وهم: سَعِيدٌ الذي كان يُكْنَى به، وعبد الرحمن، وعبد الله، وحمزة، وبشير -رضي الله عنهم-. المعارف لابن قتيبة (١٥٣)، وجمهرة أنساب العرب (٣٦٢).

🟡 عِفَّتُه واسْتِغْنَاؤُهُ بالله:
عن أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: أَصَابَنِي جُوعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله ﷺ حَتَّى شَدَدْتُ عَلَى بَطْنِي حَجَرًا، فَقَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ الله ﷺ فَسَأَلْتَهُ، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، فَقُلْتُ: لَا أَسْأَلُهُ حَتَّى لَا أَجِدُ شَيْئًا، فَالْتَمَسْتُ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَوَافَقْتُهُ يَخْطُبُ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ سَأَلْنَا فَإِمَّا أَنَّ نَبْذُلَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ نُوَاسِيَهُ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنَّا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ سَأَلْنَا». قال: فَرَجَعْتُ فَمَا سَأَلْتُ أَحَدًا بَعْدَهُ شَيْئًا، فَجَاءَتِ الدُّنْيَا، فَمَا أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَكْثَرَ أَمْوَالًا مِنَّا. رواه أحمد في المسند (١١٤٠١)، والبيهقي في شعب الإيمان (٣٢٢٨).

🟡 النبيُّ ﷺ يُبَشِّرُهُ بالجنَّة:
كان أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه- مُلَازِمًا لمسجد رسول الله ﷺ، مُحِبًّا لحِلَقِ الذِّكْرِ ومجالس العلم، حتى إنَّه كان إذا خرج في سَرية للجهاد يبدأ عند عودته بالمسجد ليتعلَّم ما فاته من حديث رسول الله ﷺ، وكيف لا يكون هذا حاله مع مجالس الذِّكر وهو الذي يروي للأُمَّة قول النبيِّ ﷺ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَجْلِسُونَ مَجْلِسًا لَا يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ إِلَّا كَانَتْ عَلَيْهِمْ حَسْـرَة يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ». رواه النسائي (١٠١٧٠).
وكان هو يقول للنَّاس: (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يُصَلَّ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا كَانَتْ عَلَيْهِمْ حَسْـرَةٌ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ). رواه النسائي (١٠١٧١).
وكان أَبُو سَعِيدٍ -رضي الله عنه- يحبُّ مرافقة أهل الصُّفَّة وفقراء المهاجرين، فدخل النبيُّ ﷺ عليهم ذات مرَّة وهم يقرؤون القرآن فبشَّـرهم بالجنَّة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: جَلَسْتُ فِي عِصَابَةٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ العُرْيِ، وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا، إِذْ جَاءَ رَسُولُ الله ﷺ فَقَامَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ الله ﷺ سَكَتَ الْقَارِئُ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله إِنَّهُ كَانَ قَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا، فَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ»، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَجَلَسَ رَسُولُ الله ﷺ وَسْطَنَا لِيَعْدِلَ بِنَفْسِهِ فِينَا، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَتَحَلَّقُوا، وَبَرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لَهُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ عَرَفَ مِنْهُمْ أَحَدًا غَيْرِي، فَقَالَ ﷺ: «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَاكَ خَمْسُ مِائَةِ سَنَةٍ». رواه أبو داود (٣٦٦٦).

🟡 حِرْصُهُ عَلَى تَطْبيق السُّنَّة:
عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَخْطُبُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَجَاءَ الحَرَسُ لِيُجْلِسُوهُ، فَأَبَى حَتَّى صَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَيْنَاهُ، فَقُلْنَا: رَحِمَكَ اللهُ، إِنْ كَادُوا لَيَقَعُوا بِكَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَتْرُكَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله ﷺ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: «أَصَلَّيْتَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «صَلِّ رَكْعَتَيْنِ»، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ. البداية والنهاية (٢١٧/٨).

🟡 خَوْفُهُ مِنَ الدِّمَاءِ:
وفي سنة ثلاث وستين من الهجرة خلع أهلُ المدينة بيعةَ يزيد بن معاوية، وولَّوا على الأنصار عبد الله بن مطيع، وعلى قريش عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، فأرسل يزيدُ بنُ معاوية جيشًا لقتالهم؛ فحدثت فتنة عظيمة سُمِّيَت بوقعة الحَرَّةِ. رواه البخاري (٦٨٦٢).
فاعتزل أبو سعيد -رضي الله عنه- الفتنة، وذلك ليس جُبنًا منه، بل خوفًا من التَوَرُّطِ في الدِّماء، فقد قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا». ولزم أبو سعيد -رضي الله عنه- غارًا في جبل، وترك النَّاس وما هم فيه، ومع ذلك فقد دخل عليه رجل ليقتله، فيا ترى ماذا فعل أبو سعيد؟!
يخبرنا بذلك أَبَو نَضْرَةَ أحدُ تلاميذه، فيقول: (دَخَلَ أَبُو سَعِيْدٍ يَوْمَ الحَرَّةِ غَارًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِيْهِ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ تَقْتُلُهُ؟ فَلَمَّا انْتَهَى الشَّامِيُّ إِلَى بَابِ الغَارِ، وَفِي عُنُقِ أَبِي سَعِيْدٍ السَّيْفُ، قَالَ لأَبِي سَعِيْدٍ: اخْرُجْ، قَالَ: لاَ أَخْرُجُ، وَإِنْ تَدْخُلْ أَقتُلْكَ، فَدَخَلَ الشَّامِيُّ عَلَيْهِ، فَوَضَعَ أَبُو سَعِيْدٍ السَّيْفَ، وَقَالَ: بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، قَالَ: أَنْتَ أَبُو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْتَغْفِرْ لِي، غَفَرَ اللهُ لَكَ). سير أعلام النبلاء (١٧٠/٣).
وكان أبو سعيد -رضي الله عنه- مَحطَّ ثقة الناس، وموضعَ استشاراتهم في أمور دينهم ودُنياهم، فبعد وقعة الحَرَّة ارتفعت الأسعار في المدينة المنورة، وضاقت على النَّاس أمور المعيشة، فجاء بعض النَّاس إلى أبي سعيد يستشيرونه في أن يتحوَّلوا من المدينة إلى غيرها، وهذا أحدهم يُحدِّثنا عن ذلك، فيقول: إنَّهُ جَاءَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ لَيَالِي الْحَرَّةِ، فَاسْتَشَارَهُ فِي الْجَلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَشَكَا إِلَيْهِ أَسْعَارَهَا وَكَثْرَةَ عِيَالِهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنْ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى جَهْدِ الْمَدِينَةِ وَلَأْوَائِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ لَا آمُرُكَ بِذَلِكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا، فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا -أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا». رواه مسلم (١٣٧٤).

🟡وحان وقت الرَّحيل:
وبعد حياة طويلة عاشها أبو سعيد الخُدريُّ -رضي الله عنه- عابدًا وعالمًا ومجاهدًا تصل به الدُّنيا إلى آخر محطاتها، فلما شعر بقُرب أجله اتَّكَأَ على ولده عبد الرحمن ليوصيَه وصيَّة مُودِّع، ولنتركه يخبرنا بذلك، فيقول: (قَالَ لِي أَبِي: "إِنِّي كَبِرْتُ وَذَهَبَ أَصْحَابِي وَجَمَاعِتِي فَخُذْ بِيَدِي"، قَالَ: فَاتَّكَأَ عَلَيَّ حَتَّى جَاءَ إِلَى أَقْصَى الْبَقِيعِ مَكَانًا لَا يُدْفَنُ فِيهِ، فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ، إِذَا أَنَا مُتُّ فَادْفِنِّي هَا هُنَا، وَلَا تَضْـرِبْ عَلَيَّ فُسْطَاطًا، وَلَا تَمْشِ مَعِي بِنَارٍ، وَلَا تُبْكِيَنَّ عَلَيَّ نَائِحَةً، وَلَا تُؤَذِّنْ بِي أَحَدًا، وَاسْلُكْ بِي زُقَاقَ عَمْقَةَ، وَلْيَكُنْ مَشْيُكَ خَبَبًا"، قال عبد الرحمن: فَهَلَكَ -أي: مات- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ النَّاسَ لَمَّا كَانَ نَهَانِي، فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: مَتَى تُخْرِجُوهُ؟ فَأَقُولُ: إِذَا فَرَغْتُ مِنْ جِهَازِهِ أُخْرِجُهُ، قَالَ: فَامْتَلَأَ عَلَى الْبَقِيعِ النَّاسُ). أخرجه الحاكم (٦٣٩٢).
وارتجَّت المدينة بخبر موت أبي سعيد -رضي الله عنه-، وقد جاءها أبو عثمان النَّهدي زَائِرًا لها، فسأل النَّاس عن سبب بكائهم واجتماعهم، فقالوا له: لسْتَ مِنْ أهل البَلد؟ قالَ: نَعم، قالوا: صَدقتَ، لو كنتَ مِنْ أهل البلد لعلمْتَ، ماتَ أبو سَعيدٍ الخدريُّ. المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان (١٠٥/٢).
هذا وقد اختلفت الأقوال في سَنة موته، فقد قيل: سنة أربع وستين، وقيل: سنة خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين، وقيل غير ذلك، والله أعلم بالصَّواب. مشاهير علماء الأمصار (١١)، والإصابة (٦٥/٣)، والسير (١٧١/٣).

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..