الصفحات

الأربعاء، 16 أغسطس 2023

النذالة

         لن تجد من يأمن شرورها عبر التاريخ، وحتى من يتقن ممارستها قد يقع فريسة لمصائبها ممن هو أكثر خبرة منه، فيجعله من ضحايا آفاتها.. وموضوعنا لا يقتصر على البشر فحسب كما نتوقع، فستجدها في أغرب الأماكن على الأرض، وفي الجو، والبحر أيضًا، وستجد ممارستها لدى أغرب المخلوقات، وإليكم بعض الأمثلة:

فرس البحر من المخلوقات الصغيرة، الجميلة والوديعة التي تمارس النذالة بأغرب الطرق.. تقوم إناث الفرس بالتخلص من بيضها الملقح ووضعه عند ذكورها.. وتترك غلابى الذكور ربما لتمرح الإناث أو "تكتشف ذاتها"، وكده يعني..
لا مؤاخذة الذكور "تتدبس" في المسؤولية الكبيرة، علماً بأن لديها أوعية تسمح بحمل البيض إلى أن يفقس.. نذالة أمهات.. وفي عالم الطيور، تقوم طيور الوقواق بحركة نذالة أغرب من الخيال.. تبحث عن عش طيور فيه بيض، وتقوم باستبدال بيض صاحبة العش ببيضها أثناء غيابها.. ثم تقوم بحركة نذالة تنعكس في التخلص من البيض المستبدل برميه خارج العش.. تخيلوا هذه القسوة.. ومن العجائب أنه يستبدل نفس عدد البيض.. يعني شغل مضبَّط حسابياً.. وللعلم، طائر الوقواق ليس الوحيد الذي يمارس هذه الأفعال المشينة، فهذه النذالة ضمن مجموعة سلوكيات "الحضانة الطفيلية" brood parasite، وما جاء أعلاه كانت أمثلة عن الممارسات المقززة في الكائنات البحرية والجوية.

وأما في عالم الكائنات الأرضية، فلن تجد من يتفوق على الإنسان في فنون النذالة وتطبيقاتها المختلفة، وأغربها على الإطلاق، ستجده في تطبيقات الاستراتيجيات العسكرية، وتحديداً في مجال الحرب النووية، وأود هنا أن أعرج عن صلب الموضوع بهدف إيضاح خلفيته.. وأعود بعد 135 كلمة إلى موضوعنا الأساس.. عندما قامت الولايات المتحدة بتطوير القنابل النووية عام ١٩٤٥، جندت بعضًا من أفضل العقول في العالم.. عشرات من عباقرة الفيزياء والكيمياء والرياضيات.. وكان العالم المجري الأصل "فون نويمان"، على وزن "فين نعمان"، من قيادات تلك المجموعات.. كان ذكائه وقدراته فريدة بمعنى الكلمة، ولذا، تم منحه العديد من المناصب القيادية في وزارة الدفاع الأمريكية، والوكالات المختلفة التابعة لها.. وكان لهذا العالم الفذ عشقاً خاصاً بألعاب الورق الشبيهة "بالبالوت" و"الطرنيب"، وبالذات تلك التي تتطلب إستراتيجية لعب.. وطور نظرية "الألعاب" التي تميزت باستخدام أنمذجة رياضية غنية للتنبؤ باحتمالات المكاسب والخسائر.. وقام بتأليف أحد أشهر الكتب في هذا المجال.. وإحدى النظريات المهمة في الكتاب كانت "معضلة السجين"، ومفادها أن في التحقيقات الجنائية، تسود سلوكيات النذالة إستراتيجيات البشر.. وأتذكر خلال دراستي أنني تحمَّست للتوغل في تفاصيل هذا العلم، بسبب عنوانه الشيق، ولكنني أصبت بالإحباط بسبب تعقيداته، ومعادلاته، وحساباته الرياضية الصعبة، وخصوصاً لأن استخدامات الحاسوب كانت محدودة في تلك الفترة البدائية.. ونعود إلى موضوع النذالة، فنجد أن معضلة السجين المشبعة بسلوكياتها السلبية يمكن تطبيقها على العلاقات الدولية المتعلقة بالصراعات الكبرى، وبالذات الاشتباكات النووية، بل وكانت تسود تلك العلاقات، وكانت هذه "الفرَّاخة النووية" وسيلة منطقية للخروج بأفضل المكاسب، وكانت انعكاسات مهمة للبكش، وعدم الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية، بالذات خلال سنوات الحرب الباردة.

* أمنيـــــــــة:

للأسف، إن مخاطر النذالة حولنا في كل زمانٍ ومكان، ولولا مردودها المرتفع، لما مارستها الكائنات المختلفة، ولما نمت بالوتيرة السريعة في عالمنا.. فضلا أنظر في الالتزامات الدولية التي يتم التوقيع عليها، لتصبح مجرد حبر على ورق.. أتمنى أن يقينا الله شرورها، وأن يلهمنا الحكمة لتجنب سلبياتها في كل مكانٍ وزمان، وهو من وراء القصد.

طارق علي فدعق

 
المصدر
 - جريدة المدينة

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..