الصفحات

الجمعة، 22 سبتمبر 2023

قصة بلسان الشيخ إبراهيم بن عبدان الشهري

 روى الشيخ  حفظه الله ورعاه فقال :
          "كنت طفلًا صغيرًا حين نشب خلاف بين أمي وأبي، فغادرت أمي بيتنا مصطحبة معها أخويّ الصغيرين، وتركتني باعتباري أكبر منهما مع والدي، وتزوج أبي زوجة أخرى وأنجب منها طفلتين.
وفي نحو سنة 1357 أجدبت ديارنا، وشحّت أرضنا، وانتشر الجوع والفاقة، وضاقت الأرض بما رحبت على أهلها، حتى أكلوا أوراق الشجر وجلود الحيوانات، حتى كان الرجل يبيع أرضه التي كانت أغلى من روحه من أجل وجبة عشاء يمنح بها نفسه وأهله فرصة أخرى قصيرة للحياة.
حينها شعر والدي بأنه يمثل عبئًا على والده "جدّي" وأنه لن يتمكن من الوفاء بحاجته وحاجة أطفاله، قرر الرحيل بنا، وخرجنا حتى وصلنا إلى الشعف ( شعف زهران ).
فالتفت إلي والدي وطلب مني الرجوع لأبقى مع جدي وجدتي، فاستجبت له ورحل ثم التفت يقول لي قبل الوداع: لعلنا لا نلتقى بعد هذه اللقاء أبدًا يا بني. 
إنها رحلة إلى المجهول، سفر بلا وجهة ولا هدف سوى البحث عن لقمة تسد رمق الطفلتين وأمهما.
وعدت مع جدي، وازدادت الأمور سوءًا، والجوع يخيم على المكان والزمان، والناس تفر من البلد، ولم يبق إلا كبار السن وبعض الصغار.
وحين خاف جدي علي أن أموت جوعًا، أشار علي أن ألحق بأمي وأخويّ الصغيرين عند أهلها.
فذهبت أمشي وأنا في حدود الثانية عشرة إلى أمي على بعد ثلاثين كيلا إلى الشمال من المندق (في منطقة الباحة السعودية) وبقيت أمشي من الصباح حتى جاء المساء، ووصلت إليها ففرحت بي فرحًا عظيمًا واستقبلتني، ورأيتها تبيع الحطب من أجل أن تسد رمق أخويّ الصغيرين، فأضفت إليها عبئًا جديدًا، ولم يمرّ وقت طويل حتى شعرت بأنها عاجزة عن إطعامنا، وخافت أن يقتلنا الجوع، فقالت: انزل يا بني إلى تهامة، لعلك تجد والدك أو تجد شيئًا تأكله. وأرسلت معي أخي الذي يصغرني، وتركت أصغرنا معها، وصحبنا ابن خالتي الصغير أيضًا.
 ونزلنا إلى تهامة أقود رحلة الأطفال البؤساء - حيث كنت أكبرهم - فوصلنا إلى تهامة، حيث تنتشر الملاريا والوباء، والناس يموتون فرادى وجماعات من فتك المرض، ولكن لا خيار لنا؛ الموت جوعًا أو وباء! إنها خيارات متقاربة، لابد من الركض إلى النهاية.
 مضينا حيث لا نعرف طريقًا ولا وجهة، نقترب في المساء من البيوت لنؤنس وحشتنا، ونأكل ما نجد في الطريق من الشجر، حتى وصلنا سوق الثلاثاء في قلوة اليوم، والناس يتبايعون الحبوب والتمر والزبيب، فنستبق إلى حبة سقطت هنا أو هناك، والناس لا يكترثون بمنظر الأطفال الجياع يبحثون عن الحبوب كالطير، وذلك لأن الفاقة تضرب الجميع والجوعى كثر.
تفرقنا في السوق، فلما جاء المساء لم أجد أخي ولا ابن خالتي.
بحثت عنهما طوال الليل فلم أجد أخي الصغير وعمره ثمان سنوات إلا في الصباح، فضربته بعنف لشدة خوفي عليه وألمي من فراقه ليلة كاملة، ثم ندمت ندمًا شديدًا على ضربي إياه وهو الصغير الشريد الجائع! فكنت أحتضنه طوال الليل وأبكي ندمًا ورحمة به، ولم أجد ابن خالتي إلا في اليوم الثالث، وجدته قد مات - جوعًا أو مرضًا-.
حينها قررت العودة إلى أمي في الحجاز، وقد خسرنا في الرحلة ابن خالتي، وصعدت بأخي الصغير إلى أمي، وأعلمتها بوفاة صاحبنا، فحزنوا إن كان بقي في قلوبهم حزن حينها، وبكوا إن بقيت لهم عيون يبكون بها.
وما إن وصلت حتى ارتفعت حرارة أخي الذي كان رفيقي في الرحلة، لقد أصابته الملاريا هو الآخر، وظلت أمي وأنا نسهر معه طوال الليل، وكنت أضمّه إلى صدري وأبكي، وحين بزغ الفجر أرادت أمي أن تذهب لتأتي بقربة ماء فناداها أخي المحموم بصوت خافت: لا تذهبي؛ إنني سأموت الآن قبل أن تعودي بالقربة، وبالفعل مات! شعرتُ أن أمي المسكينة لم يعد في قدرتها القيام بإطعامي مع أخي؛ فعدت إلى جدي في المندق لعل الأوضاع قد تحسنت، فإذا هي قد ازدادت سوءًا، والجوع قد كلح بوجهه في كل الزوايا!
 فاقترح عليَّ جدّي أن أنزل من جديد إلى تهامة إلى والدي في القرية الفلانية، فذهبت أمشي أربعة أيام في طريق المجهول، أقترب من المزارع آكل منها وأمضي، وفي ذات مرة اقتربت من بستان أقتات ما أستطيع منه، فإذا بي أرى أبي!
 فاحتضنني وبكيت بحرقة وأعلمته بوفاة أخي، وأخبرني بوفاة زوجته، وجعل يخفض من حزني ويقول: سوف أعود فآخذ أمك وأخوك ونعود إلى المندق ويلتئم شملنا من جديد.
فاجتاحني فرح أنساني كل أحزاني، وبشّرت أختيَّ الصغيرتين، وضممتها إليّ، وحدثتهما عن أحلامي وعودة أمي، وكانوا في حجرة صغيرة تحت صخرة في وادي تهامة، وقلت: سأذهب أجتني لكم النبق (وهو ثمر شجر السدر).
 وحين عدت بعد المغرب إذ أبي ينتفض من الحرارة، فجعلت أرشُّ عليه الماء وأضع النبق في فمه لعله يأكل، لكنَّ الأجل كان أسرع، ومات أبي وحبات النبق في فمه لم يتمكن من بلعها!
 وماتت الفرحة بسرعة، وجاء الناس حولنا حين سمعوا صراخي مع الصغيرتين فدفنوا أبي، ثم ذهبوا وتركونا في الغار وحدنا أنا مع أختيّ،

إحداهما في الثانية من عمرها والثانية في الرابعة.
وانضمّت أجسادنا واجتمعت علينا الأحزان، وتجاوبنا الدموع تلك الليلة الموحشة، لنستيقظ في الصباح على موت أختي ذات الأربع سنوات ولحاقها بأبي!
فدفنتها بجوار قبره، ورحلت بالطفلة ذات العامين أسير في حرّ الشمس حتى وصلت إلى قرية في وادي ثمران، حينها رأتني عجوز ورأت اختي على ظهري تصهرها الشمس فقالت: يا ولدي؛ اترك هذه الضعيفة معي فقد قتلتها الشمس، واذهب لعلها تتعافى ثم تعود إليها، أو تموت فتستريح فتركتها!
 وذهبت إلى جدي في المندق وأعلمته بوفاة والدي وزوجته وأختي الصغيرة؛ فبكاه بحرقة وظلّ يبكيه طويلًا حتى فقد بصره، ثم عدت بعد أيام ألتمس أختي عند العجوز فأخبرتني أنها ماتت بسرعة بمجرد فراقي لها!
واستمر الجوع فترة، ثم فرجها الله سبحانه، ونزلت الأمطار على البلد، وأغاث الله الخلق وكشف ما بهم". أهـ.
قال الراوي عن الشيخ إبراهيم: "هذا ليس فصلًا من رواية البؤساء، ولا مقطعًا من فيلم في الخيال.. إنها قصة إنسان في هذه الأرض قبل سبعة عقود فقط، قصة بقايا الآلام في وجوه الأحبة الذين ترونهم الآن في الثمانين والتسعين من أعمارهم.
اقرؤوا تلك القصص في وجوههم، دعوهم يحدثونكم عن ندوب التاريخ في وجوههم وأكفهم وقلوبهم.
حدثوا أطفالكم عن معنى المأساة والألم والأحزان والفاقة .
كافحوا أيها الأحبة من أجل الحفاظ على النعم بالعبادة والطاعة وترك المعاصي
والتعاون على البر والتقوى.
أكثروا من الدعاء، ودَعوا الإسراف والتبذير واالتفاخر والكبر، فإن الأيام دول.
تراحموا وارحموا الضعفاء والبائسين والمساكين.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..