الدكتور فاضل الربيعي صحفي وكاتب عراقي معروف مقيم في
هولندا التي يحمل جنسيتها، له تآليف كثيرة روائية وخلافها، وهو كاتب مبدع، ولكنه في الآونة الأخيرة دخل عالمًا يجهله، وهو التاريخ، وصنع هو من نفسه نجمًا من نجومه، وغدا يصول ويجول ويهرف بما لا يعرف، والآذان تصغي إليه، وبعض القنوات الفضائية تتسابق لاستضافته، وإجراء الحديث تلو الحديث معه حتى غدا حديث المجالس، وهو يشرّق ويغرّب، وينكر كلّما هو ثابت ومستقرّ من حقائق التاريخ لا لشئ إلا لمجرّد خالف تُعرف، خصوصًا وأنه يملك أسلوبًا مُقْنِعًا إلى حدّ ما يغطي به افتقاره وحاجته إلى ما يستدّل به على صحة أقواله. وكثيرًا ما تنطلي أقواله على بعض متابعيه، والمعجبين به بوصفه متحدثًا بارعًا، خصوصًا تلك التي يتناول فيها تواريخ العصور القديمة، ويفتي فيها بما يشاء، وكيفما يشاء دون رادع يردعه حتى تلك الأحداث التي جاءت إلينا بالتواتر، ومنها إنكاره لغزو إبرهة الحبشي لمكة المكرمة، وحادثة الفيل، والطير الأبابيل معللاً قوله بأن الأحباش أهل كتاب، وأهل مكة عبدة أوثان، فكيف ينتصر الله لعبدة الأوثان على أهل كتاب؟ ناسيًا أو متناسيًا أن قصد الأحباش هدم الكعبة المشرفة، وليس قتال أهل مكة المكرمة بدليل قول عبدالمطلب: "أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه". بل إن الدكتور الربيعي ينكر أن يكون إبرهة حبشيًا، وإنما هو يمني ونسبته الحَبْشِي (بسكون الباء) إلى جَبَل باليمن، وليس إلى الحَبَشَة (بفتحها)، وأنه كان مقيمًا في تعز، وليس في صنعاء، وما درى أن تعز ليست مدينة قديمة، وإنما تأسّست واتّخذت عاصمة لليمن الأسفل في زمن حكم الأيوبيين لليمن في القرن السادس الهجري، وهم من أسموها تَعِزّ (بزاي مشدّدة). وهكذا، فقد مرّت كل أحاديث د. الربيعي عن فترة ما قبل الإسلام، وانتقاده وتشكيكه وتسفيهه لكل روايات المؤرّخين والمفسرين والمحدّثين المسلمين، بدءً من الطبري حتى السيوطي - على حد قوله – بين مُعْجَبٍ بسفسطة الدكتور الربيعي، وبين مستسخفٍ لأقواله وطروحاته التي ما أراد بها – كما أسلفنا - إلا خالف تُعرف، وتحقيق الشهرة على حساب كثير من حقائق التاريخ التي وَأَدَهَا وداسها تحت قدميه على الرغم من أنها وصلتنا عن طريق المئات من علماء المسلمين الثقات ومؤرخيهم ومحدّثيهم ومفسّريهم، ناهيك عن عمالقة الدارسين المحقّقين المحدّثين الذين لا يزال كثير منهم أحياء بيننا، وهم لا يقرّون للدكتور الربيعي بما يطرح، بل إن معظم طروحاته محلّ استهجانهم واستنكارهم.
ولم يقتصر الدكتور الربيعي في تطاوله على أحداث التاريخ القديم، بل تعدّى ذلك إلى إنكار فتح العرب للأندلس واصفًا تلك الحقبة بالخدعة والأكذوبة، وأنه لا يوجد شيء أسمه الفتح العربي للأندلس، وأن الذي صار – كما يقرر الدكتور الربيعي – أن صلاح الدين الأيوبي قام باجتياح الفاطميين في شمال أفريقيا، فما كان من الشعب المورسكي الموجود – حينذاك – بأفريقيا إلا أن أخذوا مراكب شراعيّة أقلّتهم إلى الجزيرة الايبيرِيّة التي كلها حصون ونبلاء، وأنهم قبلوا بهؤلاء المهاجرين لحاجتهم إليهم، وأعطوهم إقطاعيات يزرعونها، وتركوهم يؤسسون دويلات وإمارات. ولما ظهرت الثورة الصناعية في أوربا، وانتشرت الرأسمالية، عملوا على طرد هؤلاء المهاجرين الذين وصفهم الدكتور الربيعي بالزّبالة التي كبّوها خارج حدود جزيرتهم، ويمضي الدكتور الربيعي قائلاً بصوته المبثوث في بعض القنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعية الحديثة: إن أصل الحكاية رواية شعبيّة كتبها كاتب مصري اسمه: ابن حبيب، ثم يتساءل: كيف بنى أولئك الأقوام بمهارة حضارة في الأندلس، وما بنوها في ديارهم؟
ومن يقرأ هذه الأقوال للدكتور فاضل الربيعي يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أنه يجهل التاريخ الإسلامي تمامًا، فقوله عن أن صلاح الدين اجتاح مصر، وشمال أفريقيا، وحطّم الدولة الفاطمية، ينمّ عن جهل مطبق؛ لأن الخلافة الفاطمية في عهد آخر خلفائها العاضد لدين الله، كانت تحتضر، وصلاح الدين الأيوبي، وهو سنيّ على مذهب الإمام الشافعي كان بيده الحل والعقد، وكل مقدّرات الدولة الفاطمية في يده وتحت تصرّفه بوصفه وزيرًا لها خلفًا لعمه أسد الدين شيركوه الذي لم يطل عهده في هذا المنصب، فاستغل صلاح الدين سلطاته المطلقة، وتحفّظ على الخليفة العاضد لدين الله، وأسرته، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله في بغداد في أول المحرم عام 567هـ، وبعد عشرة أيام مات الخليفة الفاطمي العاضد، وبذلك قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية، وسائر المظاهر الإسماعيلية الشيعيّة في مصر دون أن تنتطح عنزتان.
أما قوله بوجود الشعب المورسكي حين سقوط الخلافة الفاطمية في شمال أفريقيا فذلك جهل أيضًا، وينفيه أن المورسكيين لم يُعرفوا بهذا الاسم إلا بعد سقوط الأندلس في عام 897هـ/ 1492م، خصوصًا خلال القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي حينما أُطلق هذا الاسم على المسلمين الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحيّ، وأجبروا على اعتناق المسيحية، أو الذين أُجبروا على مغادرة الأندلس إلى شمال أفريقيا ومصر والشام، وليس بعد الثورة الصناعية، واستفحال الرأس ماليّة في أوروبا على حد قول الدكتور الربيعي؛ لأن الثورة الصناعية في أوروبا متأخرة نسبيًا عن طرد المسلمين من الأندلس، فهي لم تظهر إلا بعد المَكْنَنَة، وانتشار الرأسمالية خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين أي بعد حوالي قرن ونصف القرن من طرد العرب من الأندلس، وفي ذلك دليل على جهل الدكتور الربيعي بالتاريخ الحديث إلى جانب ما أوضحناه سابقًا من جهله بالتاريخ الإسلامي.
وبعد هذا التفنيد لأقوال الربيعي بخصوص دخول العرب إلى الأندلس نعود إلى السقطة الكبرى له حينما يُنكر الفتح العربي للأندلس، ويصفه بأنه أكذوبة، وبأنه خدعة، وأنه لم يكن سوى هجرات بواسطة مراكب شراعية حدثت نتيجة لسقوط الدولة الفاطمية وتحطيمها على يدي صلاح الدين الأيوبي، واجتياحه لمناطق نفوذها في شمال أفريقيا، أي بعد سنة 567هـ من سقوط الدولة الفاطمية كما قدمنا.
فإذا علمنا أن أول دخول للعرب الفاتحين إلى الأندلس كان في عام 92هـ في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، فإن المدة التي يعتبرها الدكتور الربيعي أكذوبة وخدعة هي تلك التي تقع بين عام 92 هـ، وهو تاريخ أول دخول للعرب إلى الأندلس بصفة فاتحين، وبين عام 567 هـ، وهو العام الذي أعقبه دخول من أسماهم الدكتور الربيعي بالشعب المورسكي إلى الأندلس بصفة مهاجرين إليها بالقوارب الشراعية، أي أن تلك المدة هي 475 عامًا، وهي التي أسقطها الدكتور الربيعي من التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس، وأعتبر كل الذي قيل عنها في المصادر التاريخية الموثوقة، وحفظته لنا آثارهم الشاخصة، ونقودهم المتداولة في مختلف عهودهم أكذوبة وخدعة ضاربًا عرض الحائط بجميع مراحل الفتح الإسلامي للجزيرة الايبيرِيّة، وقادتها الذين خاضوها بدءً من طارق بن زياد، مرورًا بموسى بن نصير إلى استشهاد عبدالرحمن الغافقي في معركة تور بواتيه سنة 114هـ. تلك المعركة الفاصلة التي عُرفت ببلاط الشهداء، وهي التي قال عنها المستشرق إدوارد جيبون: "لولا انتصار شارل مارتل في بواتيه لكان القرآن يدرس في جامعة أكسفورد وجامعة السوربون". وليس انتهاءً بقيام الدولة العباسية سنة 132هـ، إلى أن انتزعها منهم عبدالرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بعبدالرحمن الداخل الذي لقبّه أبو جعفر المنصور بصقر قريش، وفيها أسس إمارة مستقلة عن الخلافة العباسية في عام 138هـ، ثم توارثها أبناؤه وأحفاده عدة قرون بمن فيهم عبدالرحمن الناصر لدين الله، أول من دُعي له بأمير المؤمنين من أمويي الأندلس، وهو الذي بنى مدينة الزهراء الشهيرة التي استغرق البناء فيها والتأنّق في عمرانها وزخرفتها ست عشرة سنة حتى غدت أعجوبة زمانها. وخلاف ذلك مما شهدته الأندلس من أحداث شملت عصر ملوك الطوائف، وغزو المرابطين لها بزعامة يوسف بن تاشفين، ومعركة الزلاّقة الشهيرة الفاصلة، وأسر المعتمد بن عباد الأمير والشاعر الشهير، ووفاته عام 488هـ في مدينة أغْمَات بالقرب من مراكش في المملكة المغربية وضريحه مشهور بها حتى اليوم، فضلاً عن حروب الاسترداد التي خاضتها ممالك الشمال المسيحية ضد العرب والمسلمين ببلاد الأندلس والتي استمرت عدة قرون إلى أن انتهت بسقوط غرناطة، والقضاء نهائيًّا على آخر ما تبقى من الحكم العربي الإسلامي في الأندلس.
ومن هنا يتعيّن علينا طرح بعض الأسئلة على الدكتور الربيعي ومنها: هل الآثار الإسلامية الشاخصة حتى اليوم في الأندلس، وما أكثرها! أُكذوبة وخدعة؟ ومنها على سبيل المثال لا الحصر جامع قرطبة العريق، والأشرطة الخطيّة المنقوشة على واجهته، وتحمل من الأسماء والتواريخ ما يدحض قول كل مُتَقَوِّل. ومثلها مئذنة الخرالدة أو الخيرالدا (La Giralda) في جامع اشبيلية الشهير، ويعود بناؤها إلى عهد أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم، وإنما حُوّلت مع الأسف إلى برج كنيسة تقرع فيه الأجراس، وهي الأثر الإسلامي الذي يفاخر به أهل أشبيلية من الأسبان حتى اليوم، فهم يقولون: إن من يصعد برج إيفل في فرنسا يرى باريس كلها. أما من يصعد مئذنة الخرالدة في اشبيلية فإنه يرى الدنيا بأجمعها، وماذا عن العلماء والشعراء والكتاب والفلاسفة والعشاق، وهل ابن حزم الاندلسي (ت 456هـ) صاحب المُحَلاّ، والأنساب، وطوق الحمامة وخلافها كذب وخدعة؟ وهل معاصره ابن عبدالبر النمري (ت 463هـ) كذب وخدعة؟ وهل الجغرافي والبلداني أبو عبيد البكري (ت 487هـ)، ومعاصره، وأستاذه أحمد بن عمر بن أنس العذري (ت 478هـ) كذب وخدعة؟ وهل الأميرة الأموية الفاتنة ولاّدة بنت المستكفي (ت 484هـ)، ومعشوقها الشاعر والوزير ابن زيدون (ت 463) كذب وخدعة؟ وتمثالهما لا يزال شاخصًا حتى الآن في حديقة عامة بقرطبة لمن يزورها ؟
وهل الموشّحات الأندلسية، ذلك الفن الجميل الذي تغنى به كثيرون، وكان موضوعًا لكثير من الدراسات العلمية الجادّة التي نال بها أصحابها درجات جامعية عليا أكذوبة وخدعة؟ وهل هجرة الموسيقي الشهير زرياب من بغداد إلى الأندلس، وما أحدثه في الأخيرة من تغييرات وضجيج لازمه حتى وفاته في عام 243هـ أكذوبة وخدعة؟
وهل مفاخرة الأندلسيين بمدينة قرطبة على مدينة بغداد في العراق أكذوبة وخدعة؟ حين قال شاعرهم:
دَعْ عَـنْكَ حَـضرَةَ بغـدادٍ وبَهْـجَتَهَـا
ولا تعظِّمْ بـلادَ الفرسِ والصَّـيْنِ
فما على الأرضِ قطرٌ مثلُ قُرْطُبَةٍ
وما مشى فوقها مثلُ ابنِ حَمْدِيْنِ
وابن حمدين (ت 546هـ) هو قاضي قرطبة وحاكمها في المدة ما بين سقوط دولة المرابطين إلى سيطرة دولة الموحدين عليها، وهي مدة أوضح من الشمس في كبد السماء لمن لديه أدنى اطلاع على تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس.
هذه الأقوال والافتراءات التي يطلقها الدكتور فاضل الربيعي في بعض القنوات الفضائية، ووسائط التواصل الاجتماعي الحديثة، ويتناقلها الناس في المجالس تشكل خطرًا وكارثة على المعرفة البشرية بتاريخ العرب والمسلمين في الأندلس، وما بنوه على ترابها من حضارة زاهية، وحققوه فيها من رقيّ ورفاه وتقدّم وازدهار، ومعارف علميّة يشهد لهم بها العدو قبل الصديق، والبعيد قبل القريب، والمبغض الكاره قبل المُحبّ؛ لذلك يتعيّن علينا نحن المؤرخين أن نسدّ فاه كلّ ناعق ومنكر ومنتقص من ذلك المنجز الحضاري الذي وقف منه الأسبان سادة البلاد الأصليين حتى اليوم مبهورين ومندهشين، وكم جهدوا وحاولوا أن يقلدونهم، ولكنهم وقفوا عاجزين باعترافهم، وبشهادة التاريخ عليهم. وأجد لزامًا عليَّ في نهاية هذه المقالة أن أطلب من الدكتور فاضل الربيعي أن يتراجع عن أقواله تلك، وأن يسحبها، ويعتذر عنها على الملأ، فذلك حق ولا تثريب عليه؛ لأن الرجوع إلى الحق فضيلة، وإلا فإنني أتقدّم باقتراح الدعوة إلى عقد مناظرة علنيّة تُبَثّ حيّة على القنوات الفضائية، ومنها القناة الثقافية السعودية، بخصوص تلك الحقبة من تاريخ العرب والمسلمين في الأندلس، يكون أحد طرفيها سعادة الدكتور فاضل الربيعي نفسه، ويناظره في الطرف الآخر سعادة الأستاذ الدكتور خالد البكر، أستاذ تاريخ المغرب والأندلس المتميّز في جامعة الملك سعود، ويدير الحوار سعادة الأستاذ الدكتور عبدالله الربيعي من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويشهدها حضوريًا وعن بُعد بعض مشاهير محققي التراث العربي الإسلامي من أمثال الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف إلى جانب المختصين والمختصات في التاريخ الأندلسي. ويُستحسن أن ترتّب دارة الملك عبدالعزيز بالرياض لهذه المناظرة انطلاقًا من مسؤوليتها تجاه خدمة تاريخ العرب والمسلمين في كل مكان. فإما أن يدافع الدكتور فاضل الربيعي عن وجهة نظره، ويثبت صحة وصواب ما قال أنه خدعة وأكذوبة، وإما أن يَصْمُتَ، ويكفّ خيره وشرّه عن أن ينال من الثوابت التاريخية المستقرة دونما علم، وإنما مجرّد صفصفة كلام ليس إلا.
المقال - أ.د. أحمد بن عمر آل عقيل الزيلعي 14/11/2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..