الصفحات

السبت، 16 أغسطس 2025

💢 التنمر في التشريع المصري ومقارنته بالأنظمة السعودية مع إضاءة على القوانين الأوروبية؟

          بينما كنت أراجع النصوص القانونية المتعلقة بحماية بيئة العمل من السلوكيات العدوانية، استوقفني نص قانوني حديث في مصر جاء متطورًا ومواكبًا للتحديات الرقمية المعاصرة. 
فقد نصت المادة 32 من قانون العمل المصري رقم 14 لسنة 2025، على تعريف شامل لجريمة التنمر، حيث اعتبرت أن كل فعل أو سلوك في مكان العمل أو بمناسبته – سواء بالقول أو بالفعل أو استعراض القوة أو السيطرة على الغير أو استغلال ضعفه أو حالته – يعد تنمرًا إذا كان من شأنه الإساءة إلى الغير بسبب الجنس أو العرق أو الدين أو الصفات الجسدية أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بما في ذلك التنمر بالوسائل الإلكترونية أو وسائل الاتصال السلكية أو اللاسلكية أو أي وسيلة تقنية أخرى.

هذا النص أدهشني بجرأته، إذ تجاوز التعريفات الكلاسيكية التي كانت تقتصر على الإيذاء اللفظي أو الجسدي في الحضور المادي، وامتد ليشمل الفضاء الرقمي، معترفًا بما للتنمر الإلكتروني من أثر مدمر على العلاقات المهنية وكرامة الإنسان. كما أنه يُعد نموذجًا تشريعيًا متقدمًا يدمج الحماية التقليدية بالحماية في البيئة الرقمية، ويمنح المتضررين أساسًا قانونيًا صريحًا للمطالبة بحقوقهم.

انتقلتُ إلى الأنظمة السعودية للبحث عن نصوص مشابهة، خاصة أن المملكة تستند في تشريعاتها إلى الشريعة الإسلامية التي تؤكد على صون الكرامة الإنسانية ومنع الإيذاء، سواء بالقول أو الفعل أو حتى عبر الامتناع عن السلوك الواجب. وجدت أن نظام العمل السعودي ولائحته التنفيذية لا يستخدمان لفظ "التنمر" صراحة، لكنهما يتضمنان نصوصًا تحمي العامل من المعاملة الجائرة أو الإيذاء أو أي سلوك غير لائق. على سبيل المثال، المادة 81 من النظام تمنح العامل الحق في ترك العمل دون إشعار إذا تعرض لاعتداء أو معاملة جائرة أو إساءة. كما أن لوائح تنظيم بيئة العمل ألزمت أصحاب العمل بوضع سياسات تمنع الإساءة بجميع أشكالها، بما فيها الإهانات الإلكترونية، وإن لم يُذكر مصطلح "التنمر الإلكتروني" نصًا.
إلى جانب ذلك، يغطي نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية أي إساءة أو تهديد أو تشهير يتم عبر الوسائل التقنية، مع عقوبات تصل إلى السجن سنة وغرامة نصف مليون ريال، مما يشمل ضمنيًا حالات التنمر الإلكتروني. أما نظام مكافحة التحرش ، فيحمي الأفراد من أي فعل يمس الكرامة وله مدلول جنسي أو تحقيري، ويشمل ذلك الوسائل التقنية، لكن نطاقه يظل أضيق من التعريف المصري من حيث شمول الأوصاف والعوامل.

لكن، لم يقتصر بحثي على العالم العربي؛ فقد توجهت إلى القوانين الأوروبية لاكتشاف ما إذا كانت تبنت معالجة مشابهة. في فرنسا، نجد أن القانون الجنائي يجرّم ضمن المادة 222-33-2-2 أفعال العنف النفسي أو المعنوي، بما في ذلك التنمر في بيئة العمل (harcèlement moral)، ويشمل ما يتم عبر الوسائل الإلكترونية، مع عقوبات تصل إلى السجن والغرامة. وفي بريطانيا، لا يوجد تعريف موحد للتنمر في قانون العمل، لكن التشريعات المتعلقة بـ التحرش والتمييز ضمن قانون المساواة لعام 2010 تغطي الأفعال التي تسبب بيئة عمل عدائية أو مهينة، بما في ذلك الأفعال الرقمية، ويجري التعامل معها من خلال دعاوى مدنية وتعويضات مالية. أما في ألمانيا، فالمفهوم الأقرب هو "المضايقة" (Mobbing)، الذي تعالجه المحاكم من خلال أحكام القانون المدني عن الإضرار بالحقوق الشخصية، بينما يركز القانون الجنائي على أشكال معينة من الإيذاء أو التهديد.

من خلال هذه المقارنة، لاحظت أن النظام المصري يمتاز بوضوحه وصراحته في إدراج التنمر الإلكتروني ضمن تعريف قانون العمل، مانحًا بذلك أساسًا تشريعيًا مباشرًا للعقوبات والتعويضات. أما الأنظمة السعودية، فرغم أنها توفر الحماية من خلال مزيج من الأنظمة (العمل، الجرائم المعلوماتية، مكافحة التحرش)، إلا أنها لا تستخدم المصطلح نصًا، مما يجعل نطاق الحماية قائمًا على التكييف القضائي. بينما القوانين الأوروبية تميل إلى إدماج التنمر ضمن مفاهيم أوسع مثل العنف النفسي أو التحرش، مع تنوع في المعالجة بين المسار الجنائي والمدني.

أخلص إلى أن المادة 32 المصرية تصلح أن تكون نموذجًا لتوحيد الجهود التشريعية في مواجهة التنمر التقليدي والرقمي معًا، وأن المملكة يمكنها – دون تعارض مع الشريعة – صياغة نص صريح يدمج الحماية في بيئة العمل المادية والافتراضية، على نحو يحد من الاجتهاد المتباين، ويعزز مبدأ صون الكرامة الإنسانية الذي لا تحده المسافات ولا الفضاءات.
💢 كتبه / مازن المليح .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..