يا لها من لقطةٍ تدرّس التاريخ في دقيقةٍ!
.
غرفةٌ بيضاويّةٌ تتدلّى على جدرانها صورٌ لأسلافٍ كثيرين، وتماثيلٌ نصفيّةٌ تحدّق في الحاضرين، ومكتبٌ عتيقٌ تلمع فوقه أختامٌ وصناديقٌ كأنّها تراكم أسرارَ قرنٍ بأكمله. أمامه صفٌّ مُحكَمٌ من وجوهٍ أوروبيّةٍ جلست متراصّةً؛ أكتافٌ مطويّةٌ، ودفاترُ صغيرةٌ وأقلامٌ مهيّأةٌ؛ هيئةُ تلاميذٍ مُجتهدين ينتظرون جملةً من المعلّم خلف المكتب.
.
ولكن من هو خلف المكتب؟
إنه رجلُ القوّةِ ، دونالد ترامب، الذي تُدار حوله المصابيحُ وتنعقدُ عنده النظراتُ؛ يشرح، ويُلوّحُ بكفّه، ويترك للجميع هامشًا ضيّقًا بين السّمع والطاعة.
.
*القوّةُ تُلقّن، والتاريخُ يدوّن، ومَن لا يملك منضدتَه صار دفترًا على منضدةِ غيره*.
.
أرجوكم، أعيدوا تأمّل المشهد؛ صدّقوني إنّه ليس مجرّد صورةٍ، بل مسرحيّةٌ كونيّةٌ صامتةٌ، وحفلةٌ بهيجةٌ لذاكرةِ الشعوبِ المقهورة.
هاهم أحفادُ شارلمان ونابليون وبيسمارك، وورثةُ ليوبولد الثاني البلجيكيّ المتوحّش، أصحابُ تلك العجرفةِ التي رسمت خرائطَ العالم.
.
كم تمنّيتُ لو كانت هناك شاشةٌ عملاقةٌ في ساحاتِ داكارَ والجزائرِ وبنغازي والكونغو وأديس أبابا وسومطرة، تُعرض فيها هذه الجلسةُ مباشرةً؛ لارتسمت على وجوهِ الملايينِ ابتسامةٌ بطيئةٌ وعميقةٌ، ابتسامةُ التاريخِ نفسِه وهو يقدّم فاتورةَ حسابِه المتأخّرة.
.
انظروا إليهم؛ يجلسون جلسةَ مَن يُصغي مُرغمًا… أين ذهبت أنوفُهم الشامخةُ التي كانوا يشمّون بها «همجيّة» الشعوبِ الأُخرى؟
.
*مَن كتب أسماءَنا بالسياط، يقرأ اسمَه اليوم بالذلّ والخور*.
.
يا للعِبرة! لحظةٌ ممتلئةٌ بالسخريةِ المُرّة: أُممٌ كانت يومًا تُمسك زمامَ البحرِ والبرّ، تأتي اليوم إلى هذا المكتبِ نفسِه تسأل عن «المصلحةِ العليا».
.
مَن كان يقيس القارّاتِ بالمسطرة، صار ينتظر الإملاء تحت مصباحِ مكتبٍ واحد، وخرائطُ الأمس رُسمت بالمدافع؛ بينا خرائطُ اليوم تُقرأ على مهلٍ وبابتسامةٍ بروتوكوليّةٍ. وأوروبا التي وزّعت وصايةَ «التمدين» على العالم، تبحث الآن عمّن يوقّع لها إذنَ الخروجِ من الحصّة.
.
*أصعبُ درسٍ في التاريخِ أن تتعلّم الجلوسَ في المقعدِ الذي كنتَ تُملِي على صاحبِه.*
.
وفي عرشِ القوّةِ يجلس ترامب، ذلك الرجلُ الذي—ولربّما دون قصدٍ—قدّم لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة أجملَ هديّةٍ: *لحظةَ الشماتةِ المُبرّرة هذه.*
لقد عاملهم بالمنطقِ نفسِه الذي عاملوا به العالمَ قرنًا كاملًا: منطقِ المصلحةِ المُجرّدة؛ لا قيمةَ فيه لصدافةٍ أو تاريخٍ.
.
لتبتسم اليومَ أرواحُ عمر المختار وجميلة بوحيرد، وعبد الكريم الخطّابي وسعد زغلول، ويوسف العظمة والمهديّ، وأبطالِ ثورةِ العشرين في العراق، وغيرِهم من مئاتِ القادةِ الأبطالِ الذين قاوموا الاستعمارَ الأوروبيّ؛ فها هي عجلةُ الزمنِ تدور دورتَها الكاملة، وتُجلسُ المستعمِرَ القديمَ في مقعدِه الصحيح:
مقعدِ التلميذِ الذي عليه أن يتعلّم أنّ الصدارةَ ظلٌّ زائلٌ، وأنّ سننَ اللهِ في الكونِ أقوى من كلّ الإمبراطوريات، وأنّ الأبطالَ لا يموتون؛ دماؤُهم تتحوّل ساعاتِ رملٍ تقيس الدوران.
.
*حين يُهان المستعمِر بمنطقِه، يبتسم التاريخُ كمن استعاد توازنَه*.
.
الصورةُ تعظ وتسخرُ معًا: الصدارةُ ليست نسبًا، بل عقدُ عملٍ يُجدَّد بالكفاءةِ كلَّ صباحٍ. مَن ظنّها لقبًا أبديًّا جلس—شاء أم أبى—في صفّ المستمعين. وسننُ الكونِ تدور بلا مجاملةٍ: *تداولٌ، فتداولٌ، فتداولٌ؛ مَن أخذ بالأسبابِ تقدّم، ومَن أغفلها ظلّ في الخلف.*
وأوروبا العاجزةُ هنا تبدو كمن فقد بوصلةَ القوّة؛ تتبادلُ النظراتِ، تُدوّنُ تعليماتٍ، وتنتظرُ إشارةَ الرسوّ في مرافئ السياسةِ بعد أن كانت تُسيّر الأساطيل. لتعطينا هذه الصورةُ الدرسَ الأهمّ: الكونُ لا يعترفُ بالدمِ الأزرق، بل بالعرقِ الذي يسيل.
.
*يا سادة: تدويرُ المجدِ سنّةٌ كونية؛ الثابتُ الوحيدُ هو الاستحقاق.*
بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
.
روابط المقالة :
تويتر:
الفيسبوك :

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..