الصفحات

الاثنين، 13 أكتوبر 2025

💢 الجريمة من شيءٍ ملموس إلى شيءٍ محسوس في الفضاء الرقمي!

من الفعل الواقعي إلى الفضاء الرقمي: قراءة في أركان الابتزاز الإلكتروني وتقنياته؟؟
لم تعد الجريمة في عصر التقنية محصورة في مسرحٍ ماديٍّ أو فعلٍ محسوسٍ باليد، بل تجاوزت حواس البشر لتستقر في فضاءٍ رقميٍّ لا تُرى فيه الأفعال، بل تُشعر آثارها.
لقد تحوّل الفعل الإجرامي من جريمةٍ تُرتكب في الواقع، إلى سلوكٍ يُدار عن بُعد، يجمع بين القصد والوسيلة والضغط النفسي، ويصنع أثرًا حقيقيًّا دون أن يترك أثرًا مادّيًا.
وهكذا انتقلت الجريمة من شيءٍ ملموس إلى شيءٍ محسوس، ومن واقعةٍ مادية إلى تجربةٍ رقمية كاملة يعيشها الضحية بكل تفاصيلها.

في قلب هذا التحوّل، تبرز جريمة الابتزاز الإلكتروني كأحد أبرز مظاهر الجريمة الحديثة، إذ جمعت بين البنية التقنية والدافع الإنساني، وتجاوزت المفاهيم التقليدية للأركان القانونية لتُنشئ بناءً جديدًا للجريمة في عالمٍ لا ملامح له.

الركن المادي: الفعل والوسيلة والزمن

الركن المادي في جريمة الابتزاز الإلكتروني لم يعد مجرد تهديد لفظي أو مادي مباشر، بل هو فعلٌ مركّب يبدأ من لحظة ضغط زر وينتهي بارتباك حياة إنسان.
الفعل هنا لا يتجسّد في "التهديد" فحسب، بل في الوسيلة التي يُمارس بها التهديد، وفي الزمن الرقمي الذي يتحرّك فيه.

1. الوسيلة:

الوسيلة هي مسرح الجريمة الإلكترونية، وليست مجرد قناة تواصل.
فهي التي تمنح الفعل صفته الإلكترونية وتحوّله إلى ابتزاز رقمي مكتمل الأركان.
وتأخذ الوسيلة صورًا متعددة:
رسالة بريد إلكتروني تحمل تهديدًا مبطّنًا.
حساب وهمي على مواقع التواصل يُدار لأغراض التشهير أو الضغط.
مقطع مصوّر، أو تسجيل صوتي، أو صورة شخصية تُستعمل وسيلة ابتزاز.

الوسيلة في القانون الرقمي ليست محايدة، بل فاعلٌ شريك؛ إذ تُسهم في نقل الإكراه من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، فتجعل من الجريمة عابرةً للحدود والزمان والمكان.

2. الزمن الإلكتروني:

في الجريمة الإلكترونية، الزمن ليس بالثواني والدقائق، بل هو لحظة رقمية تنتقل فيها المعلومة من ذهن الجاني إلى متناول الضحية.
فبمجرد إرسال رسالة التهديد، تتحقق بداية الفعل الإجرامي، حتى وإن لم تُفتح الرسالة، لأن الوسيلة التقنية أدّت وظيفتها في نقل الخطر.
والزمن هنا عنصر ممتد، فالجريمة تبقى قائمة ما دامت المادة المهدِّدة قابلة للنشر أو الاستخدام، ويظل الأثر القانوني مستمرًّا بتجدّد إمكانية الضرر.
ومن ثمّ يمتد الأثر الزمني للجريمة ليُعيد إحياء المسؤولية كلما أُعيد نشر المادة أو تفعيل الرابط المهدِّد، فيتجدد الفعل بتجدد الأثر.

3. الأثر المادي:

ليس بالضرورة أن يكون الضرر ماديًا، فالمساس بالسمعة، أو زعزعة الأمن النفسي، أو مجرد القلق من التهديد، كلها أضرارٌ معنوية كافية لتحقّق الجريمة.
فالقانون لا ينتظر وقوع الأذى الفعلي، بل يكفي أن يكون التهديد جديًّا قادرًا على التأثير في إرادة المجني عليه.

الركن المعنوي: القصد والنية والغاية

الابتزاز الإلكتروني جريمة عمدية خالصة، لا تقوم إلا على قصدٍ خاصٍ وإرادةٍ مبيّتة.
فالمجرم لا يهدد عبثًا، بل يهدف إلى تحريك إرادة الضحية نحو فعلٍ أو امتناعٍ تحت ضغطٍ نفسيٍّ مدروس.

القصد هنا مزدوج:
القصد العام: علم الجاني بأنه يستخدم وسيلة غير مشروعة لإرغام الضحية على سلوكٍ معين.
القصد الخاص: إرادة تحقيق منفعةٍ غير مشروعة مادية كانت أو معنوية  من وراء الفعل.

ولا يُشترط أن تكون المنفعة مالًا، فقد تكون سيطرة أو إذلالًا أو تشهيرًا أو انتقامًا.
وهنا يتجلّى الطابع الإنساني المظلم للجريمة الرقمية: فهي تجمع بين العدوان التقني والعداء النفسي.

الركن الشرعي: النص والنطاق

النص القانوني في الجرائم الإلكترونية نصٌّ متحرك، يتّسع بتطور الوسائل وتبدّل الأنماط.
فالقانون لا يُعاقب على الوسيلة بحدّ ذاتها، بل على المحتوى غير المشروع الذي تُستخدم فيه الوسيلة.
ولذلك توسّعت الأنظمة المقارنة كالنظام الفرنسي والمصري في مفهوم "التهديد" ليشمل كل فعل إلكتروني يُحدث رهبة حقيقية، حتى وإن لم يُصرَّح بلفظ "ابتزاز"،
وفي النظام السعودي، يُعد نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية (المادة 6 و 8 و 9) المرجع الرئيسي لتجريم الابتزاز الإلكتروني، حيث يوضح النص أن التهديد أو الضغط عبر الوسائل التقنية يُعد جريمة، ويعاقب عليها القانون بعقوبات حازمة.

ويتحقق الركن الشرعي متى كان النص النظامي واضحًا في تجريم التهديد عبر الوسائط الإلكترونية، ولو بصيغة عامة، طالما أن نية الإكراه والوسيلة التقنية حاضرتان في الواقعة.

الركن السببي: الرابط بين التهديد والامتثال

الرابط السببي هو الذي يوصل بين الفعل الإكراهي ونتيجته على الضحية.
فلا عقوبة على التهديد المجرد ما لم يكن هو الدافع الذي حرك إرادة المجني عليه نحو الخضوع أو الامتناع.
وفي الجرائم الرقمية، يُستنبط هذا الركن من التفاعل بين الطرفين:
تحويل أموال تحت الضغط،
حذف محتوى بطلب المبتز،
أو تنفيذ طلباتٍ غير مشروعة خوفًا من الفضح.

وفي الفقه القانوني الحديث، تُعتبر العلاقة السببية الرقمية قائمة حتى دون نتيجة فعلية، متى كانت الوسيلة التقنية صالحة لإحداث الإكراه.

الركن الزماني والمكاني: خصوصية الجريمة الرقمية

في الجريمة التقليدية يُقاس المكان بموقع الفعل، أما في الجريمة الإلكترونية، فالمكان يتوزع بين فاعلٍ في دولة، وضحيةٍ في أخرى، وخادمٍ في قارة ثالثة.
ولهذا اعتمد المشرّع الحديث مبدأ "مكان تحقق الأثر" لتحديد الاختصاص، لأن الجريمة تُقاس بالأثر لا بالموقع.

أما الركن الزماني، فطابعه الاستمرارية:
ما بقيت المادة المهدِّدة قابلة للتداول، بقيت الجريمة قائمة، وبقي الخطر القانوني حاضرًا.

الركن الشخصي: الفاعل والمجني عليه

الفاعل في الجريمة الرقمية ليس فقط من يرسل التهديد، بل كل من يُهيئ الوسيلة أو يُسهّل الوصول إلى البيانات المهدِّدة أو يُشارك بالتحريض أو النشر.
وقد يكون هناك شركاء خفيّون يزوّدون المبتز بالمعلومات أو الصور.
أما المجني عليه، فليس دائمًا شخصًا طبيعيًا، فقد تكون جهة اعتبارية أو مؤسسة، لأن الابتزاز قد يستهدف السمعة التجارية أو الثقة العامة.

استنباط المعلومة ودلالتها القانونية

في الجريمة الرقمية، الدليل لا يُقرأ من الجملة، بل من السلوك.
القاضي لا يبحث فقط عن عبارة تهديد، بل عن نمطٍ متكررٍ من الرسائل، وتوقيتٍ دقيقٍ للإرسال، وصياغةٍ نفسيةٍ للخطاب.
وهكذا يتحوّل التحقيق من تحليل "النص" إلى تحليل "السلوك الرقمي"،
ليتحوّل التحقيق من لغة الكلمات إلى لغة الأفعال الإلكترونية التي ترسم ملامح الجريمة في فضائها التقني.

الابتزاز الإلكتروني هو الجريمة التي تقف بين الفعل التقني والفعل الإنساني، بين اليد والعقل، بين الوسيلة والإرادة.
أركانها ليست محسوسة بالحواس التقليدية، بل تُدرك بفهمٍ قانونيٍّ للفضاء الرقمي، حيث البيانات سلاح، والوسيلة ميدان، والضغط النفسي جريمة.
إنها الجريمة التي غادرت الواقع لتسكن الوعي، وتحولت من شيءٍ ملموس إلى شيءٍ محسوس…
تُمارَس في الظل، وتُحاكم بالنور.
💢كتبه / مازن المليح .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..