وقد نتج عن هذا عدة كوارث منها:
١-كثرة الخصومات، لأن انتقادك لأي فكرة، أو مقولة، أو فتوى، تفسّر في السلوك الغوغائي على أنها انتقاص من القائل نفسه، وإذا كان هذا القائل ينتسب إلى جماعة فأنت تقصد الطعن في الجماعة كلها.
.
٢-غياب القدرة على التصحيح، فكثير من أهل العلم والفكر يتحاشون الدعوة إلى التصحيح، إما حبّا في بقاء روح الأخوّة والمحبّة، وإما تحاشيا لفتنة الخصومات والمناكفات.
.
٣-وقد ولّد هذا تكرار التجارب الفاشلة واستمرار المقولات القاتلة، والتي قد يكون ثمنها آلاف الضحايا مع ضياع البلاد والعباد، إضافة إلى العجز عن تشخيص الواقع والعجز عن حل مشكلاته سواء على مستوى الفرد في بناء شخصيته، أو الأسرة في تحقيق الانسجام والاستقرار، أو المجتمع في تحقيق النهوض ومعالجة كل أسباب التخلف.
.
من هنا كان علينا أن ننبه إلى خطورة هذا الدمج بين نقد الأفكار ونقد الأشخاص، ولنتمعن في النقاط الآتية
:
١-إن القول بصوابية قول فلان أو رأيه أو تجربته، لا تعني تزكيته شخصيا، كما أن القول بخطأ قول فلان أو رأيه أو تجربته لا يعني الطعن به.
فالعالم حينما يرجّح قول مفسّر على آخر، لا يعني أن الأول من أهل الجنّة والثاني من أهل النار.
وحتى حينما يقول المحدّث: هذا الحديث ضعيف لأن فيه فلانا وهو سيء الحفظ، بينما فلان أحفظ منه، فهو هنا يتكلم بمهنيّة عالية عن (الحفظ) فقط، ولا ينسحب هذا الحكم على الصفات والجوانب الأخرى.
ولذلك شاع عند العلماء من مفسرين ومحدّثين وفقهاء ترجيح هذا القول وردّ ذاك القول، دون أن يثير هذا حساسية أو ردة فعل سلبية.
الأغرب من هذا أنك تجد إماما كالنووي يذكر دليلا للشافعية وهو شافعي، ثم يضعفه، وتجد أبا يوسف يرد عشرات المسائل التي قال بها شيخه أبو حنيفة وهو حنفي.
.
٢-إن كثيرا من طلاب الشريعة خاصة في الدراسات العليا يقدمون رسائلهم وفيها كثير من الدراسات المقارنة، فتراه يرجح قول الأوزاعي على الثوري، أو مالك على أحمد، ويرجح مفسّرا على مفسّر، ومحدّثا على محدّث، ثم تستغرب بعد ذلك حينما ترى بعضهم يرفض نقد أي مقولة قالها شيخه في مدينته أو طريقته أو جماعته.
.
أذكر مرة زارني أخوان حبيبان وهما دكتوران في الشريعة، وكانا ينصحاني بأن أتجنب نقد الأخ فلان والأخ فلان. وأنا لحد اللحظة لا أذكر أني انتقدت شخصا في تدينه أو أخلاقه وإنما أوجّه النقد للقول والفكرة وأحيانا التجربة.
المهم؛ قلت لهما: هل تذكران لما ناقشت رسالتي في الماجستير والدكتوراه كيف خضت بين الأعلام كالغزالي وابن تيمية، نرجح هذا على هذا وهذا على هذا، بل حتى بين أقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قالا نعم. قلت فما كان موقفكما؟ التفت أحدهما على الآخر وهما يضحكان (إي والله صحيح) !
.
إنك حينما تواجه بعبارات من مثل: (هذا من أهل السابقة) و (هذا ممن ضحّى بنفسه وأولاده) و (هذا من قوّام الليل) حينما تحاول أن تصحح فكرة معيّنة، أو التنبيه إلى استدلال خاطئ بتفسير مغلوط أو حديث موضوع، فماذا يعني هذا؟
يعني أن هؤلاء لا يفرّقون بين تزكية الشخص من حيث التديّن والسلوك الحسن، وبين المعلومات التي في رأسه، والاجتهادات التي يجتهدها في ممارساته وتجاربه.
.
بقي عليّ أن أنبّه إلى جملة يتداولها بعض الذين لا نشك بنواياهم الحسنة، وهي (لماذا لا تكون النصيحة في السر) وفي رأيي أن هذا تجسيد آخر للخلط بين نقد الأفكار ونقد الأشخاص.
.
وهنا أقول لإخواني هؤلاء: حينما ردّ أبو يوسف عشرات المسائل التي قال بها شيخه أبو حنيفة، هل كان ذلك في السر؟ وحينما رد ابن تيمية عشرات المسائل التي قال بها الغزالي والرازي هل كان ذلك بالسر؟
.
يا إخواني يا أخواتي؛ عالم المعارف والعلوم والأفكار لا يمكن حصرها في السراديب والغرف، بل ينبغي عرضها كما هي تحت الشمس، وتراثنا الشرعي كله زاخر بالردود والمجادلات حتى ضمن المدرسة الواحدة.
.
أما (نصيحة السر) فتكون في السلوك لا في الأفكار، فلو رأيت أخاك ارتكب ذنبا فلا يجوز لك أن تفضحه.
.
وأنا قد ألزمت نفسي ألّا أشير إلى معصية أحد بعينه، حتى الذي يشرب الخمر أو يأكل الربا، أو يسرق أو يغش..الخ لكن لو قال قائل: إن الخمر ليست حراما، فإني سأرد عليه في العلن كما رددت على شحرور وغيره.
.
وإني أرى أيضا أن الرد على الفكرة الخاطئة التي يتبناها أناس معروفون بالعلم وبحسن السيرة والخلق أولى من الرد على غيرهم، لأن هؤلاء لهم مقبولية فمن الراجح أن يتقبل الناس منهم هذه الفكرة الخاطئة، بخلاف التافهين والمنبوذين.
.
وهنا نؤكد مرة أخرى: أن التزكية الدينية والخُلقية لا توفّر الحصانة أو العصمة العلمية والفكرية.
.
والله أعلم
٧:٣١ م · ١٦ نوفمبر ٢٠٢٥
· د. محمد عياش الكبيسي
@maiash10
مصدر
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..