تسلل دعاة التخلف إلى المشهد العلمي التنويري منذ العصور
المتقدمة، ولكن لم يُكتب لدعواتهم الانتشار، فظل فعلهم مندساً خافتاً لقوة
القاعدة العلمية، ورفض المجتمع لطروحاتهم الداعية إلى الركون والاسترخاء.
ومع تراجع الحفاظ على نقاء العقيدة، وضعف الاهتمام بالتوحيد، وقلة العناية
بالإبداع الفكري تفشت بذور السقوط على يد غلاة التصوف، ودعاة الدروشة
والشعوذة، ومدعي العلم الذين راوحوا مكانهم باجترار القديم؛ اختصاراً
وتحشية، والخوض في تأليف موضوعات هامشية لا نفع من ورائها .
وإذا كان من الصعب تحديد بداية مرحلة السقوط فإن شواهد تغلغلها تعود إلى قرون متداخلة، أجمل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي المتوفى سنة 749هـ/ 1346م صورتها في عصره في أبيات منها:
وإذا كان ذلك حظ العلم في مرحلة التراجع؛ فإن المجتمع نفسه أخذ في الانحدار نحو هاوية التقديس الأعمى الذي تفشت نماذجه في القرن التاسع الهجري من مثل حطيبة، وكان عامياً سقيم العقل، ترجم له المقريزي فقال :
حطيبة واسمه أحمد: مجذوب، رأيته بدمياط وللناس فيه اعتقاد، وهو عاري البدن، بادي العورة، يهذي في حديثه، ولا يعي لما يفرط من لسانه، والناس تغشاه من كل جهة، وتأتيه من النواحي، ويتفاءلون بما يلقيه عليهم من الكلام، ويترجون بركة رؤيته، ويخشون بادرته.
كان تغلغل مثل هذه الخرافة وتفشيها في المجتمع ناتجاً من الموقف السلبي للعلماء والحكام الذين لم يؤدوا واجباً حتمياً كان عليهم القيام به، وهو الإنكار بالقوة؛ لأن التهاون والانسياق مع مواقف العامة هو ما جعل من تقديس الأفراد سِمَة في مجتمعات إسلامية كثيرة. وليس ببعيد عن القصة العبثية السابقة، خَبَرٌ يقدم صورة واقعية لما كان يجري في الاحتفال بالمولد عند ضريح البدوي في طنطا بمصر في القرن نفسه، ونص الخبر كما يقدمه شاهد عيان هو إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885هـ / 1480م) أنه :
في يوم الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الآخر [سنة 860هـ] هذا سافر الأمير بردبك الدويدار في البحر إلى مولد النبي ﷺ الذي يُعْمَلُ بمقام الشيخ أحمد البدوي في قرية طندتا (طنطا) من الغـربـيـة، وسألني في الذهاب معه، فاشترطت عليه إزالة ما يقدر عليه من المناكر، فأجاب وتوجهنا في سبع عشرة سفينة، وكان معه الشرف الأنصاري وشاهين الساقي الطواشي، وجمع من الفقهاء والترك وغيرهم، فوصلنا إلى زفتا يوم الأحد حادي عشرى الشهر، ثم توجهنا على الخيل فوصلنا إلى قرية نفيا صبح يوم الاثنين ثاني عشرية، فندب القراء الذين معه، فقرأوا في مقام الشيخ قمر الدولة كثيراً من القرآن، وعمل به مَولِداً، ثم توجه إلى طندتا صبح الثلاثاء ثالث عشرية، فإذا هناك من جموع الناس ما لا يحصيه إلا الله، وإذا هم يشدون إليه الرحال، ويأتون في المحامل؛ بل والمحفات، وذلك أمر عظيم في الدين وفتنة كبيرة، وإذا هناك من الفساد بالفسق بالنساء والصبيان وغير ذلك من المحرمات أمور عظيمة، وقد جرت عادتهم السيئة، أن يتسوق القبائل من العرب بخيولهم ويلعبون برماحهم لعباً يسمونه البرجاس، فربما قتل منهم الجماعة، فنادى الأمير حال وصوله بفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن من عُثر عليه بمحرم حَلَّ به ما يستوجبه من العقاب، وأمر بإبطال البرجاس، وشرع كل يوم ينادي بذلك، ويعظم النكير على من يفعل منكراً، فلم يتجاهر أحد بشيء من ذلك، وكانت عادتهم أن يأتي النساء إلى خانات هناك، ويأتي الكاشف بتلك البلاد، فتدخل جماعته فيفسقون في تلك النساء، ويجلسون على أبواب تلك الخانات يحمونهن ممن ينكر، فيصير الفسق جهاراً، فحصل بحلول الأمير رفع ذلك، ووعد أنه لا يمكن منه ما دام قادراً على إبطاله. وكان كل يوم يأخذ القراء الذين معه، ويذهب إلى المقام، فيقرأون إلى العصر أو المغرب، ثم ينصرف والناس يزدادون إلى أن ملأوا الفضاء، وكانوا عدد الحصا. وكان جماعة المتفقرة الجهلة يأتون ومع كل واحد منهم عصى غليظة جداً فيرقصون بها كل يوم وقت العصر، ويكون لهم ضجيج في الطرق والمقام ترتج منه الأرض، فلما كان يوم الخميس تكامل جمعهم، فأتوا من البرية وقد هاجوا بزعمهم، وتواجدوا، فمن كان منهم معه عصى فهي معه، ومن لم يكن معه عصى كسر مما مر عليه من الشجر فرعاً عظيماً فأتى به يحمله حتى يكون صحن المقام كأنه بستان، ويكون لهم من الرقص بذلك والضجيج أعظم من كل يوم. ويوجد في هذه الأيام في الجبانة التي هناك موتى على ظهور القبور ممن كان دفن قبل ذلك على هيئات مختلفة، يدعون أن الأرض نبذتهم، لكونهم كانوا ينكرون على طريقتهم، وأنهم يغيبون في الأرض بعد انقضاء المولد، يختدعون بذلك من لا عقل له، وهم غالب الناس. وأنا والله لا أشك أنهم هم الذين يخرجونهم، إلى غير ذلك من المناكير التي تصدر منهم قبحهم الله، وسدد من يسعى في إزالة ذلك. وقد كنت سعيت في إزالته في سنة إحدى وخمسين بعد أن أفتى جميع العلماء بتحريم ذلك، وشددوا النكير فيه، وألزمهم شيخنا، شيخ الإسلام ابن حجر بالكفر، لأمور يقولونها في حضور المولد من ثواب يرتبونه عليه، وأمور يختلقونها، وأبطله الملك الظاهر جقمق، ثم سعوا فيه بإعانة الدويدار الثاني دولات باي المؤيدي وأعادوه وآذوا كل من سعى في إبطاله أذى بالغاً .
وأخبرنا: أنهم يذهبون يوم الجمعة إلى الجامع قدام شيخهم الذي يسمونه الخليفة بعصيهم وأسلحتهم فأراحنا الله من ذلك، ولم نحـضـره، وسافرنا قبل الصلاة من هذا اليوم، وهو سادس عشري الشهر إلى زفتا، ثم انحدرنا إلى المنصورة.
*(المجتمع العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة 127-133)
جريدة الوطن السعودية
وإذا كان من الصعب تحديد بداية مرحلة السقوط فإن شواهد تغلغلها تعود إلى قرون متداخلة، أجمل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي المتوفى سنة 749هـ/ 1346م صورتها في عصره في أبيات منها:
إن الدروس بمصرنا في عصرنا
طبعت على لغط وفرط عياط
ومباحث لا تنتهي لنهاية
جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يُبدي مباحث كلها
نشأت عن التخليط والأخلاط
ومحدث قد صار غاية علمه
أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثاً عالياً
وفلان يروي ذاك عن آسـاط
ولى زمــانـي وانـقـــضــــت أربابه
وذهابهم من جملة الأشراط
ومباحث لا تنتهي لنهاية
جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط
ومدرس يُبدي مباحث كلها
نشأت عن التخليط والأخلاط
ومحدث قد صار غاية علمه
أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثاً عالياً
وفلان يروي ذاك عن آسـاط
ولى زمــانـي وانـقـــضــــت أربابه
وذهابهم من جملة الأشراط
وإذا كان ذلك حظ العلم في مرحلة التراجع؛ فإن المجتمع نفسه أخذ في الانحدار نحو هاوية التقديس الأعمى الذي تفشت نماذجه في القرن التاسع الهجري من مثل حطيبة، وكان عامياً سقيم العقل، ترجم له المقريزي فقال :
حطيبة واسمه أحمد: مجذوب، رأيته بدمياط وللناس فيه اعتقاد، وهو عاري البدن، بادي العورة، يهذي في حديثه، ولا يعي لما يفرط من لسانه، والناس تغشاه من كل جهة، وتأتيه من النواحي، ويتفاءلون بما يلقيه عليهم من الكلام، ويترجون بركة رؤيته، ويخشون بادرته.
كان تغلغل مثل هذه الخرافة وتفشيها في المجتمع ناتجاً من الموقف السلبي للعلماء والحكام الذين لم يؤدوا واجباً حتمياً كان عليهم القيام به، وهو الإنكار بالقوة؛ لأن التهاون والانسياق مع مواقف العامة هو ما جعل من تقديس الأفراد سِمَة في مجتمعات إسلامية كثيرة. وليس ببعيد عن القصة العبثية السابقة، خَبَرٌ يقدم صورة واقعية لما كان يجري في الاحتفال بالمولد عند ضريح البدوي في طنطا بمصر في القرن نفسه، ونص الخبر كما يقدمه شاهد عيان هو إبراهيم بن عمر البقاعي (ت 885هـ / 1480م) أنه :
في يوم الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الآخر [سنة 860هـ] هذا سافر الأمير بردبك الدويدار في البحر إلى مولد النبي ﷺ الذي يُعْمَلُ بمقام الشيخ أحمد البدوي في قرية طندتا (طنطا) من الغـربـيـة، وسألني في الذهاب معه، فاشترطت عليه إزالة ما يقدر عليه من المناكر، فأجاب وتوجهنا في سبع عشرة سفينة، وكان معه الشرف الأنصاري وشاهين الساقي الطواشي، وجمع من الفقهاء والترك وغيرهم، فوصلنا إلى زفتا يوم الأحد حادي عشرى الشهر، ثم توجهنا على الخيل فوصلنا إلى قرية نفيا صبح يوم الاثنين ثاني عشرية، فندب القراء الذين معه، فقرأوا في مقام الشيخ قمر الدولة كثيراً من القرآن، وعمل به مَولِداً، ثم توجه إلى طندتا صبح الثلاثاء ثالث عشرية، فإذا هناك من جموع الناس ما لا يحصيه إلا الله، وإذا هم يشدون إليه الرحال، ويأتون في المحامل؛ بل والمحفات، وذلك أمر عظيم في الدين وفتنة كبيرة، وإذا هناك من الفساد بالفسق بالنساء والصبيان وغير ذلك من المحرمات أمور عظيمة، وقد جرت عادتهم السيئة، أن يتسوق القبائل من العرب بخيولهم ويلعبون برماحهم لعباً يسمونه البرجاس، فربما قتل منهم الجماعة، فنادى الأمير حال وصوله بفعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن من عُثر عليه بمحرم حَلَّ به ما يستوجبه من العقاب، وأمر بإبطال البرجاس، وشرع كل يوم ينادي بذلك، ويعظم النكير على من يفعل منكراً، فلم يتجاهر أحد بشيء من ذلك، وكانت عادتهم أن يأتي النساء إلى خانات هناك، ويأتي الكاشف بتلك البلاد، فتدخل جماعته فيفسقون في تلك النساء، ويجلسون على أبواب تلك الخانات يحمونهن ممن ينكر، فيصير الفسق جهاراً، فحصل بحلول الأمير رفع ذلك، ووعد أنه لا يمكن منه ما دام قادراً على إبطاله. وكان كل يوم يأخذ القراء الذين معه، ويذهب إلى المقام، فيقرأون إلى العصر أو المغرب، ثم ينصرف والناس يزدادون إلى أن ملأوا الفضاء، وكانوا عدد الحصا. وكان جماعة المتفقرة الجهلة يأتون ومع كل واحد منهم عصى غليظة جداً فيرقصون بها كل يوم وقت العصر، ويكون لهم ضجيج في الطرق والمقام ترتج منه الأرض، فلما كان يوم الخميس تكامل جمعهم، فأتوا من البرية وقد هاجوا بزعمهم، وتواجدوا، فمن كان منهم معه عصى فهي معه، ومن لم يكن معه عصى كسر مما مر عليه من الشجر فرعاً عظيماً فأتى به يحمله حتى يكون صحن المقام كأنه بستان، ويكون لهم من الرقص بذلك والضجيج أعظم من كل يوم. ويوجد في هذه الأيام في الجبانة التي هناك موتى على ظهور القبور ممن كان دفن قبل ذلك على هيئات مختلفة، يدعون أن الأرض نبذتهم، لكونهم كانوا ينكرون على طريقتهم، وأنهم يغيبون في الأرض بعد انقضاء المولد، يختدعون بذلك من لا عقل له، وهم غالب الناس. وأنا والله لا أشك أنهم هم الذين يخرجونهم، إلى غير ذلك من المناكير التي تصدر منهم قبحهم الله، وسدد من يسعى في إزالة ذلك. وقد كنت سعيت في إزالته في سنة إحدى وخمسين بعد أن أفتى جميع العلماء بتحريم ذلك، وشددوا النكير فيه، وألزمهم شيخنا، شيخ الإسلام ابن حجر بالكفر، لأمور يقولونها في حضور المولد من ثواب يرتبونه عليه، وأمور يختلقونها، وأبطله الملك الظاهر جقمق، ثم سعوا فيه بإعانة الدويدار الثاني دولات باي المؤيدي وأعادوه وآذوا كل من سعى في إبطاله أذى بالغاً .
وأخبرنا: أنهم يذهبون يوم الجمعة إلى الجامع قدام شيخهم الذي يسمونه الخليفة بعصيهم وأسلحتهم فأراحنا الله من ذلك، ولم نحـضـره، وسافرنا قبل الصلاة من هذا اليوم، وهو سادس عشري الشهر إلى زفتا، ثم انحدرنا إلى المنصورة.
*(المجتمع العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة 127-133)
الخميس 06 نوفمبر 2025
- 15 جمادى الأولى 1447 هـ جريدة الوطن السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..