الصفحات

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

انتصار الليبرالية وانهزام الليبراليين!

انتصار الليبرالية وانهزام الليبراليين!
 
د. السيد ولد أباه

 



 





أذكر أنني سألت مرة المفكر المغربي الراحل"محمد عابد الجابري" عن سبب انتقاله من الدراسات الأبستمولوجية والتحليل الإيديولوجي إلى الأفق التراثي، فرد علي بالقول إنه توصل إلى أن المعركة الحاسمة بين التيارات السياسية تُخاض داخل حقل المشروعية الإسلامية التي هي المرجعية الحقيقية للجماهير العريضة.


تذكرت كلام الجابري في سياق التحولات الأخيرة التي عرفتها العديد من الساحات العربية إثر الحراك الثوري الذي حمل الاتجاهات الإسلامية إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع في الوقت الذي انهارت التشكيلات الليبرالية العريقة، بما فيها تلك التي ارتبطت بحركات التحرر الوطنية وبالديناميكية التحديثية.


في مصر، انهار حزب"الوفد" الذي قاد منذ بدايات القرن الماضي حركية المقاومة وبناء الدولة الحديثة، ولم تحصل الكتلة الليبرالية في مجملها إلا على مكاسب هزيلة في الانتخابات الجارية.


حدث الأمر ذاته في تونس، فشل التحالف الليبرالي الذي قاده المحامي اللامع "أحمد نجيب الشابي" في انتزاع مواقع مهمة في الاقتراع الذي فازت فيه حركة "النهضة" الإسلامية، على الرغم من تجذر وعمق التجربة التحديثية في تونس.كما سجل الاتجاه نفسه في المغرب بتقهقر "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" حزب النخب الليبرالية الذي ارتبط بحركية النضال الوطني ضد الاستعمار وبالكفاح السياسي الطويل من أجل الديمقراطية.


كيف يمكن تفسير ظاهرة تراجع التيار الليبرالي في تلك الاستحقاقات الانتخابية الحرة الأولى التي عرفتها البلدان العربية في مقابل صعود الاتجاهات الإسلامية التي كانت القوة الإيديولوجية والسياسية المستفيدة من الربيع العربي؟


يتعين منذ البداية الإقرار أن صانعي الثورات العربية لم يكونوا في غالبهم من المنتمين إيديولوجياً وتنظيمياً للتيار الإسلامي، بل كانوا أقرب في شعاراتهم وممارساتهم الاحتجاجية للاتجاه الليبرالي، حتى ولو كان للتنظيمات الإسلامية حضورها الذي لا ينكر في هذا الحراك.


قد يذهب البعض في تفسير انهيار التيار الليبرالي العربي إلى إحدى مقاربتين:


أولاهما:اعتبار المجتمع العربي غير مهيأ ثقافياً للفكر الليبرالي، إما لغلبة الأنساق العقدية الدينية المحافظة، أو لهيمنة السلطات الأبوية والبنيات القرابية والطائفية التي تعيد إنتاج أشكال التفاوت والتراتب السابقة على القيم الديمقراطية التعددية والمعيقة لاستنباتها وتجذريها في الأرضية المحلية.


من هذا المنظور ليس "المطلب الديمقراطي" حاجة موضوعية في النسق الاجتماعي، بل إن "المطلب الاستبدادي"(حسب عبارة عالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ)، هو الخلفية المؤطرة للمجال السياسي العربي. وبغياب الأفق الليبرالي خلفية فكرية ومجتمعية يتحول الرهان الانتخابي القائم على احتساب موازين القوة الاجتماعية إلى أرضية ملائمة لصعود وانتصار التيارات الدينية.


ثانيتهما:الاستناد إلى تجربة الثورات الحديثة الكبرى (الفرنسية والأميركية...) للتدليل على أن منطق التحول السياسي في العهود ما بعد الثورية يقتضي المرور بمراحل انتقالية من الفوضى والنظم الراديكالية المتطرفة، وصولاً في نهاية المطاف إلى حقبة الديمقراطية التعددية المستقرة القائمة على الخلفية الفكرية الليبرالية.


تقوم المقاربتان معاً على مصادرة "تخلف" المجتمع العربي وعدم نضجه للبناء الديمقراطي، واعتبار الثقافة الليبرالية الإطار النظري العضوي للنظام الديمقراطي.


وبغض النظر عن الإشكالات النظرية العديدة التي يطرحها هذا التصور، فإنه مما لا شك فيه أنه يقود إلى متاهات مسدودة. فما هو البديل من الاستحقاق الانتخابي: هل هو الديكتاتوريات العسكرية التي فشلت طيلة العقود الطويلة السابقة في تحقيق مشروع التحديث القسري، أم هو تمديد المراحل الانتقالية لتهيئة الأرضية الملائمة للديمقراطية الليبرالية عبر خلق ثقافة بديلة وإحداث خلخلة عميقة للبنيات الاجتماعية؟


ما نريد أن نبينه هنا أن علاقة الثقافة الليبرالية بالديمقراطية التعددية ليست بالتلقائية أو العضوية. فالأفق الليبرالي هو أفق الحرية الذاتية والفردانية الحرة، والديمقراطية التعددية هي آلية للتنظيم السياسي تعكس موازين القوة داخل مجتمع ما بغض النظر عن نمط تركيبته الاجتماعية ومستواه التحديثي. ولقد سبقت الأفكار الليبرالية والتنويرية النظم الديمقراطية بقرنين ولم تتأقلم معها بسهولة.


ومأزق الليبرالي العربي راجع إلى عقدة مستحكمة في التعامل مع الحقائق الاجتماعية تتلخص في مصاعب التوفيق بين السردية الكونية للحداثة الليبرالية وإكراهات الواقع العيني التي تقتضي تسويات مرحلية وأنماطاً من التكيف والتأقلم مع الثقل الاجتماعي والثقافي.


لقد قادت هذه المصاعب جيلاً كاملًا من الليبراليين العرب إلى الاصطفاف إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية سعياً لفرض صنوف التحديث الثقافي والاجتماعي بأدوات القهر والتسلط، مما أفقده حبال الوصل مع القاعدة الشعبية العريضة دون أن يتحقق في الغالب المكسب المقصود.


وهكذا كان من الطبيعي أن يدفع هذا الجيل ثمن أخطائه الاستراتيجية، في الوقت الذي فازت عليه التيارات الأيديولوجية التي عانت من قمع وبطش الأنظمة الديكتاتورية المنهارة.


بيد أن هذه النتيجة يجب أن لا تقرأ بصفتها هزيمة للأفكار والقيم الليبرالية وانتصاراً للتقاليد والمعايير الماضوية البالية. فغني عن البيان أن الشعارات والمفاهيم الليبرالية هي التي حركت وأطرت الحركات الاحتجاجية الشبابية وليس المقولات التراثية أو العقدية الدينية.


ولم يستقطب التيار الإسلامي الجديد الشارع الثائر إلا بتأقلمه مع التصورات الليبرالية وتعهده بحمايتها حتى في جوانبها الشخصية الفردية. ولم يفتأ قادة الأحزاب الإسلامية المنتصرة في تونس والمغرب يكررون أن مشروعهم سياسي وليس دينياً، ولا دخل لحريات الأفراد الشخصية فيه، ولا إقصاء فيه لأي لون سياسي أو إيديولوجي.


فالذي حدث هو تشبع الحقل السياسي بالقيم الليبرالية بما فيه التشكيلات الإسلامية التي أصبحت مضطرة – أو برضاها – للتموقع داخل الشرعية الليبرالية بدل الاكتفاء بالاتكاء على خطاب الهوية الدينية.


لم تنهزم الليبرالية العربية، بل كسبت مواقع قوية وفرضت نفسها على مختلف الفاعلين السياسيين بمن فيهم الإسلاميون، وإنما انهزم الليبراليون العرب الذين توهموا أن القيم الليبرالية مجموعة معتقدات دينية تنشر بلغة الوعظ والتبشير والجهاد والصدام.


ليس من المهم أن يكون الإسلاميون تقبلوا القيم الليبرالية تقية وبراغماتية، ففي هذا التحول وحده الدليل الملموس على عمق المنعرج الليبرالي واستعصائه على التجاوز والاختراق.

صحيفة الاتحاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..