الصفحات

الجمعة، 30 مارس 2012

عبدالناصر راح يُؤلِّب العسكر في بلاد العرب على الشرعية فانشغلت الجيوش بالسياسة


أحمد بن خالد الأحمد السديري - محامٍ سعودي

في عدد أمس قدم المحامي أحمد بن خالد الأحمد السديري رؤيته لشخصية الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، وربطها
بقراراته السياسية وتأثيرها على الأمة العربية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
واليوم ينتقد أحمد السديري ما يسميه تأليب عبدالناصر العسكر في بلاد العرب على الشرعية، وما نتج عن ذلك من انشغالٍ للجيوش بالسياسة وتوالٍ لانقلاباتٍ عسكرية في المنطقة تتخذ من تحرير فلسطين هدفاً كي تسدي شرعية على بقائها في الحكم.
ويرى «السديري» أن «عبدالناصر» حينما قرر الوحدة بين مصر وسورية لم يأبه بحقيقة أن لكل وطنٍ عصبياته أو بتأكيد المؤرخين عن استحالة توحد بلدين باتفاق، كما يتطرق إلى وقوع عداءٍ بين بعثيي العراق وسورية من جهة وعبدالناصر من جهة، رغم اشتراك الطرفين في عقيدة اليسار والقومية.
وتأتي كتابات أحمد بن خالد الأحمد السديري تعليقاً منه على حلقات الكاتب المعروف مشعل السديري «هل تجنّى هيكل على عبدالناصر؟»، التي انفردت «الشرق» بنشرها على مدار ثماني حلقات في الفترة من الثالث من مارس الجاري وحتى 11 من الشهر نفسه.
 

عبدالناصر.. السياسة.. والفهلوة (2-2)

عبدالناصر راح يُؤلِّب العسكر في بلاد العرب على الشرعية فانشغلت الجيوش بالسياسة

عبدالناصر اعتبر معركة 56 نصراً له وليست هزيمه

فلسطين ذهبت كلها في يَمِّ الضياع وضاعت أقدار مصر والعرب في لعبة قمار
انتصارات عبد الناصر في 56 تتهاوى أمام النتائج الحقيقية لقرار تأميم القناة المرتجل
لكي يُشفي غليله ممن ظن أنهم وراء انفصال سوريا.. أَقدَم على إرسال قواته ليحمي ثورة اليمن
وهكذا ذهبت فلسطين كلُّها في يَمّ الضياع وضاعت أقدار مصر والعرب في لعبة قمار باعثها الجهل والصلف والفهلوة، والواقع أن السابر للحياة السياسية لعبد الناصر يُلفي مسارها ممهوراً بالتقلُّب والمغامرة ، يقدم على اتخاذ قراراته دون أن يتدبَّر ما قد تفضي إليه، لأنها مبنية على ردَّات فعل حاديها في الغالب روح المغامرة غير آبهٍ بما قد يتحدَّر منها من أهوال وغوائل، فالمهم أن يستطيب هو بوادرها بتهليل الجماهير، وبارتفاع صيته كمحرر ومنقذ، فتأميم قناة السويس لم يكن مخططاً له من قبل، بل أجزم أنه لم ينتوِ التأميم حتى إلى عهد قريب من امتناع أمريكاً عن تمويل السد العالي ، واتخاذه ذاك القرار كان كردّة فعل لإباء أمريكا المساعدة في هذا المشروع ، وهذا يقطع أنه أقدم على ذلك القرار كمغامر غير واع بعاقبة ذلك، فقد غاب عنه أن اليهود يتحيَّنون الفرص وأنهم سيستغلون تلك الأزمة، وأنهم سينجحون في إقناع فرنسا وبريطانيا لشن حرب.ولذا لم يلو على نُذُر الحرب التي تبدَّت إرهاصاتُها، والدليل أنه فوجىء بإنزال اليهود جنودهم فى ممرات (المتلة ) في سيناء، وبالهجوم الكاسح لجيشها، بل إنه لم يأبه لأخبار الحشود البريطانية والفرنسية فى جزيرة قبرص، واعتبر أن ذلك مناورة أي أنهم (يبلفون) كي يصلوا إلى حل وسط بالنسبة للقناة، وما يؤكِّد هذا أنه قال هو نفسه أنه لم يصدِّقْ نوايا الإنجليز والفرنسيين، فقد اعترف هو قائلاً بأنه قد بُهت بأزيز الطائرات الحربية البريطانية والفرنسية وهى تُغير على مطارات مصر، وحين رأى بعينيه تلك الطائرات عند صعوده إلى سطح منـزله ليتأكَّد من الأمر عندما كان مجتمعاً مع السفير الإندونيسي، صحيح أنه حقق بفضل أمريكا انتصارات سياسية تمثَّلت فى وقف الحرب وانسحاب الفرنسيين والإنجليز واليهود، وهو ما غيّبَ الهزائم، وصحيح أنه أهاج الشارع العربي وتبدَّى (مؤقتا) وكأنه قائد العرب وحاميهم من العاديات، وصحيح أنه جَذَّرَ دعائم حكمه، لكنها انتصارات تتهاوى أمام النتائج الحقيقية لقرار التأميم المرتجل ذاك، فقد كانت الغوائل التي عانى منها العرب ومصر خاصة، فالعرب أدلجوا وكأن على عيونهم غشاوة في تيه من الأوهام بعد تلك الحرب التي قيل لهم أنها انتصار وما هي بانتصار. وغدا عبدالناصر حجة الله البالغة وزعيماً لا ينطق عن الهوى، وأنه صلاح الدين الجديد، إذ أوهمهم بأنه هزم في تلك الحرب دولاً ثلاث، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من القضاء على دولة اليهود، وأنه قادر طبقاً للوعود التي ردَّدها سرفاً فى خطبه على فعل ذلك فى ثلاثة أيام لولا الاستعمار والغرب اللعين الذى يذود عنها..هكذا، ثم راح يؤلِّب العسكر فى بلاد العرب الأخرى على الشرعية فأخذت الانقلابات العسكرية تأتي رسلاً الواحد بعد الآخر، فانشغلت جيوش العرب بالسياسة، فراحت تعتلث تحرير فلسطين كهدف كي تسدي شرعية على بقائها في الحكم. عندها غاب الاستقرار والإنتاج والبناء، أما مصر فقد كانت تلك الحرب أول المصائب التي أخذت تهمي عليها، فهي قد أضرَّت باقتصادها، لأن الخسائر المادية والمالية التي أخذت تترى عليها كانت أضعافاً مضاعفة لما درّته القناة من ريع خلال السنوات الثمان التي تلت، أي الباقية من الامتياز، ولو انتظر انقضاءها لآبت القناة إلى مصر دون آصار أو هزائم، أقول هزائم لأن جيشه اندحر فى الواقع قبل أن تتدخل فرنسا وإنجلترا في الحرب، أما إسرائيل فقد كانت مغانمها كثار، بل أثبتت الأيام أنها هى المنتصر الحقيقي، لأنها بالإضافة إلى انتصارها العسكري، لم تنسحب من سيناء إلا بشروط، أولها تحييد سيناء وتجريدها من السلاح، وثانيها إيجاد قوات دولية على حدود مصر تحميها من غارات الفدائيين التي عانت منها قبل الحرب، وثالثها اكتسابها شرعية المرور في ممر شرم الشيخ، فتوسَّعت تجارتها مع آسيا وإفريقيا، ثم لبثت عهداً يضارع أحد عشر عاماً خالية البال تنام ملء جفونها.. تُشيِّد اقتصادها وقوتها العسكرية بحزم وعزم دون أن يكدِّر الصفو أحد، بل إن وثوق إسرائيل بنفسها بعد الحرب تيك، والهدوء الذي ران على حدودها شجَّع هجرات مزيد من اليهود، الأمر الذي جذَّر قواعدها فأمسى وجودها أمراً مقضياً، بل أضحى العرب (فهذا ما أثبتته الأيام) هم المهددون بالطرد وليس هي، لأن حرب يونيو التي أفرختها حرب السويس كانت البرهان على ذلك، وحتى حرب اليمن فقد كانت من حروب المغامرة والفهلوة، فقد كان الباعث لإرسالها ردَّة فعل حاديها العاطفة التي أذكاها ضرام الغِلّ الذي تغشَّى جوانحه بعد انفصال سوريا، فلكي يُشفي غليله ممن ظنَّ (وهو واهم ولا مِرية) أنَّهم وراء انفصال سوريا، أقدم على إرسال قواته (ليحمي ثورة اليمن) بعد أن خال بأنها تدريبات لجيشه هناك، وأن الحرب لن تطول، وأنه إذا ما كسب الجولة (بترسيخ النظام الثوري) سيمتد نفوذه فى ربوع جزيرة العرب كلها ، بل من هناك سيبدأ (تحرير فلسطين)، كل هذه كانت أحلاماً باعثها الخبال والجهل بطبيعة جزيرة العرب وأهلها.. إذ ارتكس جيشه هناك سنين طوال فأنهك بلاده وقسَّم العرب، وياليته وقف هنا، فهو بعد أن أوقع مصر في غيهب تلك الحرب، وألقى بنفسه فى إسار واقع مرّ، رأى مخرجه في مغامرة فهلوية جديدة، أي تلك التي أفضت إلى حرب يونيو.. وكان ما كان ..
جمال عبد الناصر
إنه لمن نكد الدنيا على أمة أن يتولَّى أقدارُها مغامر، لا يرعوي عن اللعب بمصيرها فى لعبة قمار، صحيح أن بعض ما دبَّره غيلةً بليلٍ من تآمر فى أوائل عهد الثورة حققت له ما ابتغى في مصر، وهو الإمساك بزمام أمورها والتفرُّد بالحكم فيها، ولم يكن مرد ذلك عبقرية الدهاء.. بل لأن قبيله فى ذلك الزمان (أي الجنرال نجيب) كان فدماً فى السياسة ومناورات الحكم، كما أن طبيعة أرض الكنانة ومركزية الدولة فيها التي قامت بها منذ قرون تسهل على من كان على رأسها البقاء، لكن اتباع نفس النهج المغامر فى سياساته الخارجية نأى به عن البدائة فى أصولها لأنها فن الممكن [ l›art de possible] لكنه أراد (لأرب فى نفسه) المستحيل، فتبدَّى عبر ذلك مفلساً من الحكمة صفراً من الدهاء، فما أوضحناه فى سالف السطور برهَّن على أنه كان غراً وغارباً عن حقائق القوى التي كانت تُسّير سياسات الدول فى هذه الدنيا، فهذا ما قطعت به الخيبات التي لازمت سياساته تيك، ولعلَّ مرد ذلك ضحالة ثقافته وغربته عن حقائق الأمور.. تلك الغربة التي هام فيها بعد نجاحاته السياسية إبان أزمة السويس، إذ ملأته تيهاً وصلفاً وجعلته يخال نفسه منقذاً للعرب، فأقدم وهو ضال على قراره بالوحدة بين مصر وسوريا في دولة واحدة، والدليل على ضلاله ذاك هو أنَّه جُبِّه بحقائق كانت عنه غائبة، إذ انقلب عليه أهل الشام، وكان هذا إثباتاً لما قاله بن خلدون من أن لكل وطن له عصبياته التي تحميه، وأثبت هذا أيضاً ما يقوله المؤرخون عن استحالة توحُّد بلدين فى دولة واحدة باتفاق، فتوحيد على هذا النحو محال بدون قوة غلَّابة لأحدهما على الآخر تتمثل فى الغزو والفتح، وهو أمر كان أنأى من الثريا في ذلك الزمان، فلا غرابة إذا أن يكون بعثيو العراق وسوريا (شركاؤه فى عقيدة اليسار والقومية) أنكى عليه وأشد ضراوة فى العداء من الدول الأخرى التي لم تشاركه تلك العقيدة، أما في العلاقات الدولية فقد حازب المعسكر الذي أَفَلَتْ شمسُهُ إلى مآبها.. إذ صبّ جام عدائه على الغرب، فها هو يَقلِبُ ظهر المِجنّ لأمريكا التي أنقذته من ورطة السويس، وأمدَّته بمساعدات اقتصادية لا حدَّ لها ، فقد شنَّ حرباً عواناً على مصالحها وحارب نظامها الاقتصادي، فأثبت أنه لم يعِ أن العالم كلَّه غربٌ فى هذه الدنيا، فالحضارة حضارته ومن ثم لا بد وأن يكون الغَلبُ على من ينازله، فهذه روسيا بطولها وعرضها وثرائها وصواريخها لم تقوَ على نزاله .. فماذا نقول عن مصر وحالها الكابية إبان حكمه؟ من المؤكَّد أنه لم يفعل ذلك كلَّه بسبب فلسطين، فهو كان سيخدمها أكثر لو كان حصيفاً ذا نُهى، فهادن وساوم عندما كان كلُّ العرب معه، فهو لو فعل ذلك لاستطاع ولا جرم إنقاذ ما يمكن إنقاذه منها وهو لا شك أضعاف ما يحاوله أهلها الآن، إلا أن اختباله بالأحلام التي جنح بها خياله جعله لا يرعوي عن تقديم أقدار مصر والعرب قربانا لأمجاد يرتجيها، ولا بدع أن شعوباً تتولَّاها زعامة كهذه هى عاثرة الحظوظ لأنها هى التي تغرم الثمن في النهاية، وياله من إصر لا طاقة لها به.

يكتبها: أحمد بن خالد الأحمد السديري

عبدالناصر.. السياسة.. والفهلوة:

نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١١٢) صفحة (١٦) بتاريخ (٢٥-٠٣-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..