الصفحات

الخميس، 29 مارس 2012

الشريعة.. ولعبة "الحامدي" بين فلك "النهضة" ومغناطيس "العريضة"

* اختار الهاشمي الحامدي هذه المرّة (عكس المرّات السابقة التي كان "يستجدي" فيها الحوار والوفاق) المواجهة المباشرة مع النهضة وذلك بالتأليب عليها وخلق هوة بين كوادرها
أثار قرار حركة "النهضة" اقتراح الاكتفاء بالفصل الأول لدستور 1959 جدلا داخل الحركة نفسها وخارجها. ولئن سنترك تفاعلات القرار داخلها وأسبابه وأبعاده إلى مقال منفرد، فإنّ ما شدّ الانتباه هو ردود "العريضة الشعبية" باعتبار ان ردود بقية الأحزاب الأخرى كانت منتظَرة وهي الارتياح الكامل والإشادة بما أقدمت عليه "النهضة" بشجاعة. لكن "الهجوم" الكبير الذي شنّه الدكتور الهاشمي الحامدي عليها يطرح أسئلة لا تعدّ ويؤدّي إلى تأويلات متنافرة في ظاهرها، على أنّها في كل الأحوال تبرز الدهاء السياسي لدى الحامدي، "الابن الضال" لحركة "النهضة". هل حقا كان مدافعا عن الشريعة؟ أم أنه استعملها كذريعة يستشفّ منها موقف "النهضة" النهائي منه ليقرّر من الآن تكتيكاته للمرحلة الانتخابية المقبلة في تحالف أو تضادّ معها؟

 بداية ، لا بد من القول إن "العريضة" دائما ما تستغلّ ابتعاد الأضواء عنها وعن مواقفها لتخطّط جيدا وتقرأ بدقّة تحركات الآخرين وسنكتفي هنا بـ"النهضة". فعودة خاطفة لجلسات التأسيسي تجعلنا نتذكر جيدا أنّ العريضة كانت واضحة ،إذ دعت لجعل الشريعة مصدرا رئيسيا للتشريع ورغم ذلك مرّ موقفها دون أن يُلفِت انتباه أي طرف سياسي بل اتجهت الأنظار كالعادة للكتلة الأكبر"النهضة" في انتظار حسم موقفها. والغريب أنّ المطّلعين على تفاصيل اللقاءات الجانبية في كواليس المجلس التأسيسي لم يدركوا أنّ قرار "النهضة" كان متوقَّعا وشبه جاهز. فقط، الحامدي من خلال كتلته كان يعرف ذلك أو يتوقّعه، لماذا؟، ببساطة لأنّه لو كانت "النهضة" تتجه نحو اقتراح الشريعة لحاولت الدخول في حوار جانبي (بعيدا عن عيون الإعلام والسياسيين) على الأقل مع ممثلي "العريضة" (وهذا ما لم يحصل حسب مصادرنا) حتى يتضح أمامها مشهد التوازنات خاصة وأنّ "العريضة" كانت الوحيدة (داخل المجلس) الداعية للشريعة بوضوح. وقد تكون وقفة نواب "العريضة" التضامنية مع أعوان التلفزة ضد ما أسموه "اعتصاما تقف وراءه جهات مشبوهة"، آخر محاولة من الحامدي لجرّ "النهضة" للتفاوض حتى لا يصبح معارضا "واضحا". ولكنّ النّهضة قابلت "استفزازه" لها ببرود ولامبالاة كدليل على رفضها القاطع محاورته.

ولعلّ إطلالة سريعة على بيان الحامدي يمكن أن نستنتج منها أنه (البيان) بدا وكأنه مكتوب منذ مدّة وذلك لدقة صياغته وعباراته وخاصة لرسائله المشَفَّرة على قصر البيان. فالنص وإنْ كان في ظاهره سياسيا، فإنه في حقيقة الأمر عاطفي شعبويّ موجَّه بالأساس للعامة وأنصار "النهضة" من القواعد تحديدا،إذْ أوْغَل في دغدغة المشاعر الدينية عمدا مع كامل الإضمار و.. "التـ..دَيّن"، رغم أنّ مجاله ليس سياسيا صرفا!، فاللغة كانت تحريضية "بُكائية" بامتياز على "الموقف الذي اتخذته القيادة الحالية لـ"النهضة" والرافض للتنصيص على الشريعة في الدستور" بهذه الجملة، أخذ الحامدي مجال الحوار من السياسي المتحرّك والقابل للاختلاف إلى ميدان المقدَّس الثابت مع ما يعنيه ذلك من حكم تقريري باتّ يُخرج قيادة "النهضة" (لا حركة "النهضة"، لاحظوا التخصيص المتعمّد في كلامه) من فضاء الإسلام لا السياسي فقط بل حتى ربما العقائدي!

بهذا الأسلوب، أراد الحامدي تأكيد عدم خلطه بين "النهضة" كحركة بقوله (التضحيات الجسيمة التي قدّمها الآلاف من أبنائها وبناتها خلال العقود الماضية) وبين قياداتها التي اتخذت قرارا خائنا ـ حسب قوله ـ لهذه التضحيات.الصورة أصبحت واضحة تقريبا: واصل الحامدي اعتماد أسلوب الوضوح (بقطع النظر عن صحّة أو خطأ موقفه) لكسب أصوات إضافية.فبعد أن استعمل خطابا اجتماعيا مُبسَّطا ومباشرا (الصحة المجانية،صندوق البطالة، ديوان المظالم وغيرها)لتحقيق مفاجأة انتخابات التأسيسي، ها هو هذه المرّة أيضا يستعمل خطابا عقائديا مباشرا يجد قبولا شعبيا لدى العامة وخاصة لدى أنصار "النهضة" في معاقلها الرئيسية وهي الأحياء الشعبية .فعدم ذكر كلمة الشريعة لفظا تعني في وجدانهم وجوبا "اللاشريعة" حتى وإنْ احتوى الفصل الأول من دستور 1959 عبارة (والإسلام دينها).

وهو بذلك، يحاول جرّ كتلة شعبية ذات ثقل انتخابي من فلك "النهضة" إلى مغناطيس "العريضة". أمّا الكتلة الأخرى الناشطة حزبيا داخل "النهضة" والتي يبدو خروجها منها نظريا صعبا لقوّة انتمائها التنظيمي، فإنّ مجرّد تحييدها كاف له ولو أننا نعتقد شدّة رغبته في دفع القواعد وحتى القيادات الوسطى للصدام مع القيادة ومساءلتها عن ماهية قرارها حتى يخلق حالة من التصدّع الداخلي التي قد تتمظهر في مؤتمر "النهضة" القادم بما قد يُغيّر موقفها منه في قادم الأيام لو أفرزت صعود قيادات جديدة. ودليل هذه الرغبة في تفتيت الانضباط المعروف لدى مناضليها،هي دعوته نواب "النهضة" في التأسيسي الخروج عن ولائهم لقيادتهم مقابل التحالف مع العريضة!.قد تبدو الدعوة مضحكة أو سريالية، لكنّ هدفها ليس الظاهر في لفظها بل في رجع صداها داخل "النهضة".هو يعرف جيدا أنّ دعوته لن تتحقق لكنها قد تسبّب صراعا وخلافات قد لا تقدر "النهضة" على السيطرة عليها داخل أطرها إلا في بدايتها وإن طالت التجاذبات ، ستخرج للعلن رغم كل الانضباط المعروف لديها.

ومع خروج الخلاف التاريخي بينه وبين القياديين المسيطِرين حاليا في "النهضة" إلى العلن، اختار الحامدي هذه المرّة (عكس المرّات السابقة التي كان "يستجدي" فيها الحوار والوفاق) المواجهة المباشرة معهم.فمجرّد العمل على تأليب قواعدهم عليهم ومحاولة خلق هوّة بينهم وبقية هياكلهم يُثبت أنّ القرار الوحيد الذي اتخذه الحامدي ليس مواجهة الحركة كما قد يُفْهَم خطأ ،بل العمل على تغيير قيادييها و"تعريتهم" أمام أنصارهم لعلّ ذلك يسهم في تغيير موازين القوى داخل أجنحتها ويدفع إلى الواجهة وجوها جديدة قد لا تكون لها نفس المواقف منه. لذلك عمد في نفس الوقت إلى المحافظة على " شعرة معاوية مع الحركة وتأويل ذلك رغم خلافه المعلن مع قيادتها رغبته في عدم فقدان امتلاك خيوط عديدة سيستعمل بعضها لا كلّها حسب تطوّرات الوضع على الأرض وخصوصا داخل "النهضة" ، ولا نعرف هل لهذه الاعتبارات التكتيكية فحسب أم أيضا لأخرى عاطفية مازالت تشدّه إلى مدرسته الأولى؟ إن صحّ التأويل الثاني (وهو ضعيف)، سيخسر الحامدي التمايز الحالي لـ"عريضته" عن "النهضة" والمعارضة الأخرى.

وخلاصة القول ،انطلقنا من سؤال الشريعة لنجد أنفسنا في التكتيكات السياسية والتكتيكات المضادة بين قياديي "النهضة" و"الابن الضال" ويبدو أنّ بيان الحامدي سيكون فاتحة لخلاف معلن ومفتوح بينهما قد يجبرهما على كشف كل ما لديهما من أدلّة تدين أحدهما، و خاصة تركيز الضوء على المرحلة السجنية وأساسا تجاذبات المنفى القسري لأغلب منتسبي الاتجاه الإسلامي سابقا.


جيهان لغماري
1420

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..