الصفحات

الثلاثاء، 6 مارس 2012

صيد الكلب المعلم والصيد بالمعراض وبالسهام


باب الصيد والذبائح (2/11) [صيد الكلب المعلم والصيد بالمعراض وبالسهام]


وعنْ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لي رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ. وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ)). مُتَّفَقٌ عليهِ، وهذا لفظُ مسلمٍ.
وعنْ عَدِيٍّ قالَ: سأَلْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ صَيْدِ الْمِعْراضِ، فقالَ: ((إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ)). رواهُ البخاريُّ.
وعنْ أبي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ)). أَخْرَجَهُ مسلمٌ.



سبل السلام للشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني


2/1254 - وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْباً غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ، فَلا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
(وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْباً غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ، فَلا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ)، هَذَا إشَارَةٌ إلَى آلَةِ الصَّيْدِ الثَّانِيَةِ، أَعْنِي الْمُحَدَّدَ، وَهُوَ قَتْلُهُ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ}، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي السَّهْمِ.
(فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ).
فِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّهُ لا يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ، إلاَّ إذَا أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ، فَلَو اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ مَا يَصِيدُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرْسَلْتَ))، فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ غَيْرَ الْمُرْسَلِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَعَنْ طَائِفَةٍ: الْمُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُعَلَّماً، فَيَحِلُّ صَيْدُهُ وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ صَاحِبُهُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ قَوْلُهُ: ((إِذَا أَرْسَلْتَ)) مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَلا مَفْهُومَ لَهُ.
وَحَقِيقَةُ الْمُعَلَّمِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُغْرَى فَيَقْصِدُ، وَيُزْجَرُ فَيَقْعُدُ. وَقِيلَ: التَّعْلِيمُ قَبُولُ الإِرْسَالِ وَالإِغْرَاءِ، حَتَّى يَمْتَثِلَ للزَّجْرِ فِي الابْتِدَاءِ لا بَعْدَ الْعَدْوِ، وَيَتْرُكُ أَكْلَ مَا أَمْسَكَ، فَالْمُعْتَبَرُ امْتِثَالُهُ لِلزَّجْرِ قَبْلَ الإِرْسَالِ.
وأَمَّا بَعْدَ إرْسَالِهِ عَلَى الصَّيْدِ، فَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ. وَالتَّكْلِيبُ إلْهَامٌ مِن اللَّهِ تَعَالَى، وَمُكْتَسَبٌ بِالْعَقْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}. قَالَ جَارُ اللَّهِ: مِمَّا عَرَّفَكُمْ أَنْ تُعَلِّمُوهُ مِن اتِّبَاعِ الصَّيْدِ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ، وَانْزِجَارِهِ بِزَجْرِهِ، وَانْصِرَافِهِ بِدُعَائِهِ، وَإِمْسَاكِ الصَّيْدِ عَلَيْهِ، وَأَنْ لا يَأْكُلَ مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: ((فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ))، هَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}؛ فَإِنَّ ضَمِيرَ " عَلَيْهِ " يَعُودُ إلَى مَا أَمْسَكْنَ عَلَى مَعْنَى: وَسَمُّوا عَلَيْهِ إذَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ، أَوْ إلَى مَا عَلَّمْتُمْ مِن الْجَوَارِحِ؛ أَيْ: سَمُّوا عَلَيْهِ عِنْدَ إرْسَالِهِ، كَمَا أَفَادَهُ الْكَشَّافُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ((إِنْ رَمَيْتَ بِسَهمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ)) دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ. وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في ذلكَ:
فَذَهَبَت الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الذَّاكِرِ عِنْدَ الإِرْسَالِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضاً عِنْدَ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ، فَلا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَلا صَيْدُهُ إذَا تُرِكَتْ عَمْداً؛ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وَبِالْحَدِيثِ هَذَا. قَالُوا: وَعُفِيَ عَن النَّاسِي بِحَدِيثِ: ((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ))، وَلِمَا يَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: ((فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ، ثُمَّ لِيَأْكُلْ))، سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ؛ مِنْهُم: ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، قَالُوا: فَأَبَاحَ التَّذْكِيَةَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}، وَهُمْ لا يُسَمُّونَ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ الآتِي، وأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَوْماً يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا، أَفَنَأْكُلُ مِنْهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ، وَكُلُوا)).
وَأَجَابُوا عَنْ أَدِلَّةِ الإِيجَابِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: ((وَلا تَأْكُلُوا)) الْمُرَادُ بِهِ مَا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}؛ لأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذُكِرَ؛ جَمْعاً بَيْنَها وَبَيْنَ الآيَاتِ السَّابِقَةِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ.
وَذَهَبَت الظَّاهِرِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ تَارِكُهَا نَاسِياً؛ لِظَاهِرِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَحَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولَمْ يُفَصِّلْ.
قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَوْماً حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ يَأْتُونَ بِلُحْمَانٍ، الْحَدِيثَ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إنَّهُ أَعَلَّهُ الْبَعْضُ بِالإِرْسَالِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ عَلَى أَنَّهُ لا حُجَّةَ فِيهِ؛ لأَنَّهُ أَدَارَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ عَلَى الْمَظِنَّةِ، وَهِيَ كَوْنُ الذَّابِحِ مُسْلِماً، وَإِنَّمَا شَكَّكَ عَلَى السَّائِلِ حَدَاثَةُ إسْلامِ الْقَوْمِ، فَأَلْغَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا بُدَّ مِن التَّسْمِيَةِ، وَإِلاَّ لَبَيَّنَ لَهم صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ عَدَمَ لُزُومِهَا، وَهَذَا وَقْتُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ: ((رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ))، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَقْدِيرِ رَفْعِ الإِثْمِ أَوْ نَحْوِهِ، وَلا دَلِيلَ فِيهِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ، فَهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، فَيَتَحَصَّلُ قُوَّةُ كَلامِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَيَتْرُكُ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَا شَكَّ فِيهِ، وَالذَّابِحُ مُسْلِمٌ، فَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا)).
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: ((فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ))، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَذْكِيَتُهُ إذَا وَجَدَهُ حَيًّا، وَلا يَحِلُّ إلاَّ بِهَا، وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ وبه بَقِيَّةُ حَيَاةٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَطَعَ حُلْقُومَهُ أَوْ مَرِيئَهُ، أَوْ خَرَقَ أَمْعَاءَهُ، أَوْ أَخْرَجَ حَشْوَهُ، فَيَحِلُّ بِلا ذَكَاةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: بِالإِجْمَاعِ، وَقَالَ الْمَهْدِيُّ: لِلْهَادَوِيَّةِ: إنَّهُ إذَا بَقِيَ فِيهِ رَمَقٌ وَجَبَ تَذْكِيَتُهُ، وَالرَّمَقُ: إمْكَانُ التَّذْكِيَةِ لَوْ حَضَرَتْ آلَةٌ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: ((وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ)) أَنَّهُ إذَا أَكَلَ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعَلَّمِ أَنْ لا يَأْكُلَ، فَأَكْلُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ كَامِلِ التَّعْلِيمِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ))، وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}؛ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الإِمْسَاكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَنْ لا يَأْكُلَ مِنْهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((إِذَا أَرْسَلْتَ الْكَلْبَ، فَأَكَلَ الصَّيْدَ، فَلا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَإِذَا أَرْسَلْتَهُ، وَلَمْ يَأْكُلْ، فَكُلْ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ)).
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاعَةٍ مِن الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يَحِلُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي كِلاباً مُكَلَّبَةً، فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا، فَقَالَ: ((كُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ))، قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ؟ قَالَ: ((وَإِنْ أَكَلَ)).
وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: ((كُلْهُ وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إِلاَّ نِصْفَهُ)).
قِيلَ: فَيُحْمَلُ حَدِيثُ عَدِيٍّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي كَلْبٍ قَد اعْتَادَ الأَكْلَ، فَخَرَجَ عَن التَّعْلِيمِ، وَقِيلَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ لِبَيَانِ أَصْلِ الْحِلِّ. وَقَدْ كَانَ عَدِيٌّ مُوسِراً، فَاخْتَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الأَوْلَى، وَكَانَ أَبُو ثَعْلَبَةَ مُعْسِراً، فَأَفْتَاهُ بِأَصْلِ الْحِلِّ.
وَقَالَ الأَوَّلُونَ: الْحَدِيثَانِ قَدْ تَعَارَضَا، وَهَذِهِ الأَجْوِبَةُ لا يَخْفَى ضَعْفُهَا، فَيُرْجَعُ إلَى التَّرْجِيحِ. وَحَدِيثُ عَدِيٍّ أَرْجَحُ؛ لأَنَّهُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَمُتَأَيَّدٌ بِالآيَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَخَافُ أَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُتْرَكُ؛ تَرْجِيحاً لِجَنَبَةِ الْحَظْرِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ: ((وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْباً آخَرَ)) إلَى قَوْلِهِ: ((فَلا تَأْكُلْ))؛ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُ لاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ الْمُرْسَلِ، فَيُتْرَكُ تَرْجِيحاً لِجَنَبَةِ الْحَظْرِ.
وَقَوْلُهُ: ((فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْهُ إِنْ شِئْتَ))، اخْتَلَفَت الأَحَادِيثُ فِي هَذَا؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ، أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ)).
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضاً مِنْ حَدِيثِهِ، أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ مَصْرَعُهُ، فَكُلْ مَا لَمْ يَبِتْ)).
وَلاخْتِلافِهَا اخْتَلَفَت الْعُلَمَاءُ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: إذَا غَابَ مَصْرَعُهُ، ثُمَّ وَجَدْتَ بِهِ أَثَراً مِن الْكَلْبِ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُهُ مَا لَمْ يَبِتْ، فَإِذَا بَاتَ كُرِهَ.
وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، وَالتَّعْلِيلُ بِمَا لَمْ يُنْتِنْ، وَمَا لَمْ يَبِتْ، هُوَ النَّصُّ، وَيُحْمَلُ ذِكْرُ الأَوْقَاتِ عَلَى التَّقْيِيدِ بِهِ، وَتَرْكُ الأَكْلِ لِلاحْتِيَاطِ وَتَرْجِيحِ جَنَبَةِ الْحَظْرِ.
وَقَوْلُهُ: ((وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فَلا تَأْكُلْ))، ظَاهِرُهُ: وَإِنْ وَجَدْتَ بِهِ أَثَرَ السَّهْمِ؛ لأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ مَاتَ بِالْغَرَقِ، لا بالسَّهْمِ.
المسألةُ الرابعةُ: الحديثُ نَصٌّ في صَيْدِ الكَلْبِ، واخْتُلِفَ فيما يُعَلَّمُ مِنْ غَيْرِهِ؛ كالفَهْدِ والنَّمِرِ، ومن الطيورِ؛ كالبَازِيِّ والشَّاهِينِ وغيرِهما.
فذَهَبَ مالكٌ وأصحابُهُ إلى أنَّهُ يَحِلُّ صَيْدُ كُلِّ ما قَبِلَ التعليمَ، حتَّى السِّنَّوْرِ.
وقالَ جماعةٌ؛ مِنهم مُجاهِدٌ: لا يَحِلُّ إلاَّ صَيْدُ الكَلْبِ، وأمَّا ما صَادَهُ غيرُ الكَلْبِ فيُشْتَرَطُ إدراكُ ذَكَاتِهِ.
وقولُهُ تعالى: {مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} دليلٌ للثانِي؛ بِناءً على أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن الكَلْبِ -بِسُكُونِ اللامِ- فلا يَشْمَلُ غيرَهُ من الجوارِحِ، ولكنَّهُ يَحْتَمِلُ أنَّهُ مُشْتَقٌّ مِن الْكَلَبِ -بفَتْحِ اللامِ- وهوَ مَصْدَرٌ بمعنى التَّكْلِيبِ، وهوَ التَّضْرِيَةُ، فيَشْمَلُ الجَوَارِحَ كلَّها. والمرادُ بالجوارِحِ الكَوَاسِبُ على أَهْلِها، وهوَ عامٌّ.
قالَ في الكَشَّافِ: والجوارِحُ الكَوَاسِبُ مِنْ سِباعِ البهائمِ والطيرِ؛ كالفَهْدِ والكَلْبِ والنَّمِرِ والعُقَابِ والبازِيِّ والصَّقْرِ والشاهِينِ.
والمرادُ بالمُكَلِّبِ مُعَلِّمُ الجوارِحِ ومُضَرِّيها بالصيدِ لصَاحِبِها، ورائِضُها لذلكَ، ممَّا عَلِمَ مِن الحِيَلِ وطُرُقِ التَّأْدِيبِ والتَّثْقِيفِ، واشْتِقَاقُهُ مِن الكَلْبِ؛ لأنَّ التأديبَ أكثرُ ما يكونُ في الكِلابِ، فاشْتُقَّ لهُ منهُ؛ لكثرتِهِ في جِنْسِهِ، أوْ لأنَّ السَّبُعَ يُسَمَّى كَلْباً. ومنهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْباً مِنْ كِلابِكَ))، فأَكَلَهُ الأسدُ، أوْ مِن الكَلَبِ الذي هوَ بمعنَى الضَّرَاوَةِ، يُقالُ: هوَ ‍كَلِبٌ بِكَذَا: إذا كانَ ضارِياً بهِ. اهـ.
فدَلَّ كلامُهُ على شُمُولِ الآيَةِ للكلْبِ وغيرِهِ من الجوارِحِ، على تقديرِ الاشتقاقَيْنِ، ولا شَكَّ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ والعربُ تَصِيدُ بالكلابِ والطيورِ وغيرِهما.
وقدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حديثِ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ صَيْدِ البازِيِّ، فقالَ: ((مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ)). وقدْ ضُعِّفَ بمُجَالِدٍ، ولكنْ قدْ أَوْضَحْنا في حواشِي ضَوْءِ النهَارِ أنَّهُ يُعْمَلُ بما رَوَاهُ.


3/1255 - وَعَنْ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: ((إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلا تَأْكُلْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(وَعَنْ عَدِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ): بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ آخِرُهُ مُعْجَمَةٌ، يَأْتِي تَفْسِيرُهُ، (فَقَالَ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ): بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِالْقَافِ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ فَذَالٍ مُعْجَمَةٍ؛ بِزِنَةِ: عَظِيمٍ، يَأْتِي بَيَانُهُ، (فَلا تَأْكُلْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمِعْرَاضِ عَلَى أَقْوَالٍ، أَقْرَبُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ التِّينِ: إنَّهُ عَصاً فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ، يَرْمِي بِهِ الصَّائِدُ، فَمَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَهُوَ ذَكِيٌّ يُؤْكَلُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ؛ أَيْ: مَوْقُوذٌ. وَالْمَوْقُوذُ: مَا رُمِيَ بِعَصاً أَوْ حَجَرٍ، أَوْ مَا لا حَدَّ فِيهِ. وَالْمَوْقُوذَةُ: الْمَضْرُوبَةُ بِخَشَبَةٍ حَتَّى تَمُوتَ؛ مِنْ وَقَذْتُهُ: ضَرَبْتُهُ.
والْحَدِيثُ إشَارَةٌ إلَى آلَةٍ مِنْ آلاتِ الاصْطِيَادِ، وَهِيَ الْمُحَدَّدُ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ إذَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِحَدِّهِ أَكَلَ؛ فَإِنَّهُ مُحَدَّدٌ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلا يَأْكُلُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لا يَحِلُّ صَيْدُ الْمِثْقَلِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ، وَذَهَبَ الأَوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ إلَى أَنَّهُ يَحِلُّ صَيْدُ الْمِعْرَاضِ مُطْلَقاً.
وَسَبَبُ الْخِلافِ مُعَارَضَةُ الأُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، وَمُعَارَضَةُ الأَثَرِ لَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مِن الأُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْوَقِيذَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالإِجْمَاعِ، وَمِنْ أُصُولِهِ أَنَّ الْعَقْرَ ذَكَاةُ الصَّيْدِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ مَا قَتَلَهُ الْمِعْرَاضُ وَقِيذاً مَنَعَهُ عَلَى الإِطْلاقِ، وَمَنْ رَآهُ عَقْراً مُخْتَصًّا بِالصَّيْدِ، وَأَنَّ الْوَقِيذَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ، لَمْ يَمْنَعْهُ عَلَى الإِطْلاقِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا خُزِقَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يُخْزَقْ، نَظَرَ إلَى حَدِيثِ عَدِيٍّ، وهُوَ الصَّوَابُ.
وَقَوْلُهُ: ((فَإِنَّهُ وَقِيذٌ))؛ أَيْ: كَالْوَقِيذِ، وَذَلِكَ لأَنَّ الْوَقِيذَ الْمَضْرُوبُ بِالْعَصَا مِنْ دُونِ حَدٍّ، وَهَذَا قَدْ شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَدٍّ.
4/1256 - وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ، فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
(وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ، فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ). تَقَدَّمَ الْكَلامُ فِيمَا غَابَ عَنْ مَصْرَعِهِ مِن الصَّيْدِ، سَوَاءٌ كَانَ بِسَهْمٍ أَوْ جَارِحٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ مَا أَنْتَنَ مِن اللَّحْمِ، قِيلَ: وَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَضُرُّ الآكِلَ، أَوْ صَارَ مُسْتَخْبَثاً، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الأَطْعِمَةِ الْمُنْتِنَةِ.




توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام


1162- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ،فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْباً غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلاَ تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ، فَلاَ تَأْكُلْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
1163- وَعَنْ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ: ((إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ؛ فَلاَ تَأْكُلْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.


*مُفْرَداتُ الحديثِ:
- المِعْرَاض: بكسرِ الميمِ، وسكونِ العينِ المهملةِ، ثُمَّ ألِفٍ، بعدَها ضادٌ مُعْجَمَةٌ، وهو عَصاً في طَرَفِه حديدةٌ يَرْمِي بها الصائدُ، فما أصابَ بحَدِّه يُؤْكَلُ، وما أصابَ بغيرِ طَرَفِه الحادِّ فهو وَقِيذٌ لا يُؤْكَلُ.
- حَدُّه:حدُّ كلِّ شيءٍ: طَرَفُه الرقيقُ الدقيقُ الحادُّ.
- عَرْضه: العَرْضُ بفتحِ العينِ المهملةِ، وسكونِ الراءِ: جانبُ الشيءِ، وناحيتُه.
- وَقِيذٌ: بفتحِ الواوِ، وكسرِ القافِ المثنَّاةِ، وذالٍ معجمةٍ، بزِنَةِ عَظِيمٍ، والموقوذةُ: هي المضروبةُ بمُثَقَّلٍ مِن عصاً ونحوِه، حتى يَمُوتَ.
- السهمُ:واحدُ النَّبْلِ، وهو نَصْلٌ يُرْمَى به من القوسِ،جَمْعُه أَسْهُمٌ وسِهامٌ.
* * *
1164- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ، فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.


*مُفْرَداتُ الحديثِ:
- مَا لَمْ يُنْتِنْ:بضمِّ الياءِ وفتحِها، وكسرِ التاءِ، مِن أَنْتَنَ الرُّبَاعِيِّ، ومعناه: ما لم تَتَغَيَّرْ رائحتُه وتَخْبُثْ.
*ما يُؤْخَذُ مِن الأحاديثِ الثلاثةِ:
1- إباحةُ صيدِ الكلبِ المعلَّمِ للصيدِ؛ قالَ تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي: وأَحَلَّ اللَّهُ لكم صَيْدَ ما عَلَّمْتُم مِن الجوارِحِ، وهي الكواسِبُ من الكلابِ ونحوِها.
قالَ القُرْطُبِيُّ:إنَّ الكلبَ إذا لم يَأْكُلْ مِن صيدِه الذي صَادَه، وذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عندَ إرسالِه، فإنَّ صيدَه مباحٌ، يُؤْكَلُ بلا خِلافٍ.
2- لا يَحِلُّ صيدُ الكلبِ وغيرِه من الجوارِحِ إلاَّ بعدَ التعليمِ؛ قالَ تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}؛ أي: مُؤَدِّبِينَ لهذه الجوارِحِ، ومُعَلِّمِينَ لهنَّ مِمَّا خَلَقَه اللَّهُ فيكم مِن القتلِ، الذي تَهْتَدُونَ به إلى تَدْرِيبِها وتعليمِها، حتى تَصِيرَ قابلةً لإمساكِ الصيدِ.
3- قالَ في (نَيْلِ المآرِبِ): الثاني من شروطِ حِلِّ الصيدِ: أنْ يكونَ الجارحُ مُعَلَّماً، وتعليمُ الكلبِ ونحوِه من السباعِ يكونُ بثلاثةِ أشياءَ:
(أ) إذا أُرْسِلَ اسْتَرْسَلَ.
(ب) إذَا زُجِرَ انْزَجَرَ.
(ج) إذَا أَمْسَكَ لم يَأْكُلْ.
وقالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السِّعْدِيُّ: قالَ بعضُ الأصحابِ: التعليمُ ما يُعَدُّ بالعُرْفِ تعليماً، وهو أقربُ لظاهرِ الآيةِ، ولسهولةِ الأمرِ.
4- لا يَحِلُّ الصيدُ ما لم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ تعالى عندَ إرسالِ الجارحِ؛ قالَ تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}. وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)). رَوَاه مُسْلِمٌ (1929).
فإنْ تَرَكَ التسمِيَةَ عَمْداً،فمَذْهَبُ جمهورِ العلماءِ، ومِنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ: أبو حَنِيفَةَ،ومالكٌ، وأحمدُ:أنها لا تَحِلُّ.
وذَهَبَ الشافِعِيُّ: إلى أنها سُنَّةٌ، وليسَتْ بواجبةٍ، وهي روايةٌ عن أحمدَ. وإنْ تَرَكَ التسميةَ ناسياً، أُبِيحَ صَيْدُه، وبه قالَ أبو حنيفةَ، ومالكٌ، وأحمدُ، وغيرُهم.
5- قولُه: ((إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ)). مفهومُ الشرطِ أنَّ غيرَ المُرْسَلِ مما يَسْتَرْسِلُ بنفسِه لا يَحِلُّ صيدُه، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ.
ذلكَ أنه صادَ لنفسِه، ولم يَصِدْ لمُقْتَنِيهِ؛ فإنَّ حقيقةَ التعليمِ هو أنْ يكونَ بحيثُ يُرْسَلُ فيَقْصِدُ الصيدَ، ويُزْجَرُ فيَكُفُّ عنه.
6- قولُه: ((فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ)). فهذا دليلٌ على وُجُوبِ تَذْكِيَةِ الصيدِ إذا وُجِدَ حَيًّا؛ فإنَّه لا يَحِلُّ إلاَّ بالتَّذْكِيَةِ، وهذا بإجماعِ العلماءِ.
قالَ النَّوَوِيُّ: وإنْ أَدْرَكَه وفيه بَقِيَّةٌ مِن حياةٍ، فإنْ كانَ قد قَطَعَ حُلْقُومَه أو مَرِيئَه أو جَرَحَ أمعاءَه أو أَخْرَجَ حَشْوَتَه، فيَحِلُّ بلا ذَكاةٍ إجماعاً.
7- قولُه:((وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ فَكُلْهُ)). وأَصْرَحُ من هذه الروايةِ ما جاءَ في (الْبُخَارِيِّ) (5484) و(مُسْلِمٍ) (1929) أيضاًً مِن حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ قولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ)). قُلْتُ: وإِنْ قَتَلْنَ؟ قالَ: ((وَإِنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ مَعَهَا)).
قالَ المَجْدُ: وهو دليلٌ على الإباحةِ، سواءٌ قَتَلَه الكلبُ جَرحاً، أو خَنْقاً.
وما قالَه المَجْدُ رَحِمَه اللَّهُ، رِوَايَةٌ عن الإمامِ أحمدَ، اخْتَارَهَا ابنُ حامدٍ، وابنُ الجَوْزِيِّ، وهي ظاهرُ كلامِ الخَرَقِيِّ، وهو قولٌ للإمامِ الشافعيِّ.
أمَّا المشهورُ مِن المذهَبِ فعبارةُ شرحِ الإقناعِ وغيرِه وهي: (ولابُدَّ أنْ يَجْرَحَ ذو المِخْلَبِ الصيدَ، فإنْ قَتَلَه بصَدْمِه أو خَنْقِه لم يُبَحْ؛ لأنَّه قَتَلَه بغيرِ جَرْحٍ).
8- قولُه: ((فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ)) وجاءَ هذا المعنَى صريحاً بما في الْبُخَارِيِّ (5484) ومُسْلِمٍ (1929) من حديثِ عَدِيٍّ: ((فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)).
وقالَ تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
فهذه تَدُلُّ على أنَّ الجارِحَ إذا أَمْسَكَ لنفسِه لا يَحِلُّ ما صادَ، ما لم يُدْرَكْ وبه حياةٌ مستقِرَّةٌ، فيُذَكَّى ذكاةً شرعيَّةً، ويَدْخُلُ تحتَ قولِه تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}.
قالَ في (شرحِ الإقناعِ): وإنِ اسْتَرْسَلَ الكلبُ أو غيرُه بنفسِه، فقَتَلَ صيداً لم يَحِلَّ؛ لأنَّ إرسالَ الجارحِ جُعِلَ بمنزلةِ الذبْحِ، فالقصدُ في إرسالِ الجارِحِ شرطُ حِلِّ الصيدِ.
9- قولُه: ((وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ)). وجاءَ في إحدَى رواياتِ الْبُخَارِيِّ (5484)، ومُسْلِمٍ (1929): ((إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلاَ تَأْكُلْ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ)).
إِنَّ إرادةَ الجارِحِ الصيدَ لمُقْتَنِيهِ أمرٌ مقصودٌ لحِلِّ صيدِه، ولا يُعْلَمُ عن هذا إلاَّ بدَلالةِ تَصَرُّفِه، فإنْ أَكَلَ منه عَلِمْنا أنه لم يَقْصِدِ الصيدَ لمُرْسِلِه، وإنما صادَ لنفسِه، وإنْلم يَأْكُلْ دَلَّنَا ذلك على أنه قَصَدَ بصيدِه مُقْتَنِيَهُ، فهذا ما تُشِيرُ إليه هذه النصوصُ وغيرُها. وإلى عدمِ حِلِّ ما أَكَلَ منه ذَهَبَ العلماءُ.
قالَ الوزيرُ: واشْتَرَطَ جمهورُ العلماءِ -ومنهم الأَئِمَّةُ الثلاثةُ؛ أبو حَنِيفَةَ والشافعيُّ وأحمدُ- تَرْكَ الأكلِ، ولم يَشْتَرِطْه مالِكٌ.
10- قولُه: ((وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْباً غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلاَ تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ)). الأصلُ في هذا أنه إذا اجْتَمَعَ مُبِيحٌ وحاظِرٌ غُلِّبَ جانبُ الحَظْرِ؛ لأنَّ الأصلَ التحريمُ.
قالَ في (شرحِ الإقناعِ): وإنْ وَجَدَ معَ كلبِه كلباً آخَرَ، ولا يَعْلَمُ أيُّ الكَلْبَيْنِ قَتَلَه، أو عَلِمَ أنهما قَتَلاه معاً، أو عَلِمَ أنَّ الكلبَالمجهولَ هو القاتلُ للصيدِ وحدَه، لم يُبَحِ الصيدُ؛ تغليباً للحَظْرِ؛ لأنَّه الأصلُ.
11- قولُه تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ}. دليلٌ على أنَّ جميعَ الجوارحِ من السِّباعِ والطيورِ كلِّها يُباحُ صَيْدُها، فالكَوَاسِبُ: كالكلبِ، والفَهْدِ، والأسدِ، والنَّمِرِ، والطيرُ: كالصقرِ، والشاهِينِ، والبَازِي، والعُقَابِ، وإنما جاءَ ذِكْرُ الكلبِ في الأحاديثِ؛ لأنَّه الغالِبُ؛ ولأنَّه أسرعُ وأَقْبَلُ مِن غَيْرِهِ للتعليمِ والتأديبِ.
على أنَّ لفظَ الكلبِ لُغَةً يَشْمَلُ جميعَ السِّباعِ قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْباً مِنْ كِلاَبِكَ)). فأَكَلَهُ الأسدُ. رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ في دلائلِ النبوَّةِ (2/338).
قالَ في (شرحِ الإقناعِ): (الجوارِحُ نوعانِ: أحدُها ما يَصِيدُ بنابِه: كالكَلْبِ والفَهْدِ، والثاني مِن الجوارِحِ ذو المِخْلَبِ كالبَازِي والصِّقْرِ).
12- قولُه في الحديثِ رَقْمِ (1163): سَأَلْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صَيْدِ المِعْرَاضِ... إلخ،فهذا يَدُلُّ على أنَّ المِعْرَاضَ هو سهمٌ لا رِيشَ له، ولا نَصْلَ، إنْ قَتَلَ الصيدَ بحَدِّه فهذا قد مَضَى في جِسْمِه وجُرْحِهِ فهو مباحٌ، وأمَّا إنْ قَتَلَ بعَرْضِه فهذا قتلٌ بصَدْمِه وثِقَلِه، فإنَّه لا يَحِلُّ، وهو الوَقِيذَةُ، التي قالَ اللَّهُ تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي المضروبةُ، فلا تَحِلُّ إلاَّ إذَا تُرِكَتْ حَيَّةً، وذُكِّيَتْ ذَكاةًشرعيَّةً.
فقد رَوَى الإمامُ أحمدُ، عن عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا قومٌ نَرْمِي،فما يَحِلُّ لنا؟ قالَ: ((يَحِلُّ لَكُمْ مَا ذَكَرْتُمُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَخَزَفْتُمْ فَكُلُوا مِنْهُ)).
قالَ المَجْدُ في (المُنْتَقَى): وهو دليلٌ على أنَّ ما قَتَلَه السهمُ بثِقَلِهِ لا يَحِلُّ.
قالَ في(شرحِ الإقناعِ): وإنْ صادَ بالمِعْرَاضِ، أَكَلَ ما قَتَلَ بحَدِّه، دونَ عَرْضِه، وكذا سَهْمٌ، ورُمْحٌ، وسيفٌ، وسِكِّينٌ، يَضْرِبُ به صفحاً فيَقْتُلُ، فأَكْلُه حرامٌ؛ لأنَّ القَتْلَ إنما يكونُ بثِقَلِه،لا بحَدِّهِ.
13- تحريمُ صيدِ السهْمِ ونحوِه بعَرْضِه هو مذهبُ جمهورِ العلماءِ، ومنهم الأَئِمَّةُ الأربعةُ.
وذهَبَ بعضُ أهلِ الشامِ، ومنهم مَكْحُولٌ، والأوزاعِيُّ إلى حِلِّه، ووجهُ الاختلافِ اختلافُهم في أصلِ المسألةِ، فالمقتولةُ بعَرْضِ السهمِ ونحوِه وَقِيذَةٌ؛ لأنَّها قُتِلَتْ بثِقَلِ السلاحِ، لا بحَدِّهِ، والكتابُ والسنَّةُ يُحَرِّمَانِ الموقوذةَ، وهما أصلاَ التشريعِ.
أمَّا الأصلُ الذي بَنَى عليه المخالفونَ، فهو أنَّ قَتْلَ الصيدِ بالسهْمِ عَقْرٌ، على أيِّ صِفَةٍ قَتَلَ عليها، والعَقْرُ حلالٌ على أيِّ نوعٍ حَصَلَ به القَتْلُ. والقولُ الأوَّلُ أَوْلَى وأَحْوَطُ.
14- قولُه: ((وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ...)) إلخ،فإذا رَمَى الصيدَ بسهمِه ثمَّ غابَ عنه، ولكنَّه لم يَجِدْ فيه أَثَراً قاتلاً إلا سَهْمَه، فإنَّه يَحِلُّ أكلُه.
ومفهومُه أنه إنْ وَجَدَ أثراً آخَرَ يَصْلُحُ أنْ يكونَ ماتَ منه، فإنَّه لا يَحِلُّ؛ لأنَّه اجْتَمَعَ مُبِيحٌ وحاظِرٌ، فيُغَلَّبُ جانبُ الحَظْرِ.
ومِن ذلك: لو رَمَاهُ فوَجَدَه في الماءِ غَرِيقاً؛ فإنَّه لا يَعْلَمُ هل ماتَ مِن السهْمِ، أو مِنَ الغَرَقِ؟ فيُغَلَّبُ جانِبُ الغَرَقِ، ولا يَحِلُّ. لكن لو رَمَاهُ وسَقَطَ مِن رَمْيَتِه في الماءِ، فأَخَذَه، فإنَّه حلالٌ؛ لأنَّه سَقَطَ في الماءِ مِن رَمْيَتِه، ولا يُوجَدُ وقتٌ يَحْتَمِلُأنه غَرِقَ فيه.
15- قولُه: ((فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ)) المُنْتِنُ: هو ما تَغَيَّرَ طَعْمُه، ولا يكونُإلاَّ بعدَ فسادِه، وإذا فَسَدَ ذَهَبَ نَفْعُه، وصارَ مُضِرًّا، ففيه دليلٌ على كراهةِ أكلِ النَّتِنِ.
قالَ في (شرحِ الإقناعِ): ويُكْرَهُ أكلُ لحمٍ مُنْتِنٍ؛ ذَكَرَه جماعةٌ.
وقد جاءَ في (صحيحِ مُسْلِمٍ) (1931) من حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ، فَكُلْ مَا لَمْ يُنْتِنْ)).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..