الصفحات

الجمعة، 6 يوليو 2012

التحريف الاستشراقي للسنة: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) مثالاً

يعترض بعض أبناء المسلمين على بعض النصوص جهلًا بالمراد منها، أو يفسّرونها بغير معناها. ويشتدّ الأمر سوءًا حين يكون هذا الاعتراض مستندًا إلى عبث بعض المستشرقين ممن اتّبعوا طريقة ماكرة، في شرعنة بعض مبادئهم، من خلال تحريفهم لمعاني نصوص القرآن والسنة؛ لترويجها تلك المبادئ في بلاد الإسلام دون اعتراض.

ومن الأمثلة المشهورة في ذلك: تفسيرهم الباطل لحديث تأبير النخل، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، مع تحريفات في نصّ الحديث عند من يرددونه دون فهم لمعناه.

فقد فسّر بعض المستشرقين كلمة (دنياكم) في هذا الحديث من خلال خلفيتهم الكنسية، وانطلاقًا من الفكرة العلمانية في فصل الدين عن الدنيا والدولة؛ لتتلاءم مع المفهوم الغربي العلماني.. وتبعهم في ذلك تلامذتهم، وبعض متلقفي أقوالهم الباطلة من أبناء المسلمين؛ فزعموا أنَّ الإسلام لا يحكم السياسة! وظهر تبعًا لذلك مصطلح (الإسلام السياسي)! ثمّ رُوِّج في محاولة مكشوفة لإيهامٍ النّاس بأنَّ الإسلام لا يتضمن حكم السياسة، وإنَّما أُدخلت السياسة فيه فيما بعد!

يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "هذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر وصنائعُ أوربَّة فيها، من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلًا يَحجّون به أهل السنّة وأنصارَها، وخدّامَ الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن يَنفوا شيئًا من السنّة، وأن يُنكروا شريعة من شرائع الإسلام، في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها: يزعمون أنَّ هذه من شؤون الدنيا! يتمسّكون برواية أنس: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)؛ والله يعلم أنَّهم لا يؤمنون بأصل هذا الدين.. والحديث واضح صريح، لا يعارض نصًّا، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنّة في كل شأن؛ لأنَّ رسول الله لا ينطق عن الهوى، فكلُّ ما جاء عنه فهو شرع وتشريع: (وإن تطيعوه تهتدوا)؛ وإنَّما كان في قصة تلقيح النخل، أن قال لهم: (ما أظنّ ذلك يغني شيئًا)، فهو لم يأمر ولم ينْه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن في ذلك سنّة، حتى يُتوسّع في هذا المعنى إلى ما يُهدَم به أصلُ التشريع، بل ظنّ، ثم اعتذر عن ظنّه، قال: (فلا تؤاخذوني بالظنّ)؛ فأين هذا مما يرمي إليه أولئك!؟ هدانا الله وإيّاهم سواء السبيل" (شرح المسند:2/364-365).

وقد ردَّ كثير من العلماء المعاصرين -من مختلف أنحاء العالم الإسلامي- على هذا التفسير المنحرف منذ تصدير المستشرقين له إلى عالمنا الإسلامي وإلى اليوم، وأجابوا عنه بأجوبة عامّة وخاصّة، وفنّدوه تفنيدًا؛ فبيّنوا أنَّه معنى باطل، لم يقل به أحدٌ من علماء الإسلام ولا شرّاح الحديث على مرّ تاريخ المسلمين؛ بل هو مناقض لنصوص الكتاب والسنة، التي تُبيّن أحكام الإسلام وقواعده الحاكمة لجميع شؤون الحياة.

ومن المتقرّر في قواعد الشريعة: أنَّ النص الشرعي لا يجوز تفسيره بمعزل عن بقية النصوص، ولا بمعزل عن القاعدة الكلية العظيمة: أنَّ كلّ ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو تشريع، إلا ما استثناه الدليل. وبيّنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرّح في هذا الحديث بأنَّ نهيه عن التأبير هنا إنَّما كان ظنًا ولم يكن تشريعًا.

كما بيّنوا أنَّ حديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم): إنَّما جاء فيما يتعلق بفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، وما في معنى ذلك من الصنائع والأمور المادية المتعلقة بالكون ونواميسه وسننه، التي تكشفها التجارب العملية والمختبرات العلمية؛ وأنَّها متروكة لأهل الاختصاص والعلم التجريبي فيما يتعلق بطبيعتها وكيفية الإفادة منها. وأنَّها مع ذلك خاضعة في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها، للقاعدة الشرعية الشهيرة: "الأصل في المنافع الإباحة، حتى يثبت النهي".

فجزى الله علماء الإسلام العاملين المتقين عنّا خيرًا، فقد كانوا حماة للعقيدة، حراسًا للشريعة؛ فما يظهر باطل إلا ويتهافت بين يدي علمهم.. فبقيت أحكام الإسلام ظاهرة نقيّة، متوقِّدة، تنير السبيل، وتهدي الحيارى.
د. سعد بن مطر العتيبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..